مبانی تحریر الوسیله للامام الخمینی قدس سره: القضاآ و الشهادت

اشارة

نام كتاب: مباني تحرير الوسيلة- القضاء و الشهادات

سرشناسه : مومن قمی، محمد، 1317 - ، شارح

عنوان و نام پديدآور : مبانی تحریر الوسیله للامام الخمینی قدس سره: القضاآ و الشهادت/ تالیف محمد المومن القمی؛ تحقیق و نشر موسسه تنظیم و نشر آثار الامام الخمینی قدس سره

مشخصات نشر : تهران: موسسه تنظیم و نشر آثار الامام الخمینی(س)، 1422ق. = 1380.

مشخصات ظاهری : ص 750

شابک : 19000ریال

يادداشت : عربی

یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس

عنوان دیگر : تحریر الوسیله. برگزیده. شرح

موضوع : خمینی، روح الله، رهبر انقلاب و بنیانگذار جمهوری اسلامی ایران، 1368 - 1279. تحریر الوسیله -- نقد و تفسیر

موضوع : فقه جعفری -- رساله عملیه

موضوع : قضاوت (فقه)

موضوع : گواهی و گواهان (فقه)

شناسه افزوده : خمینی، روح الله، رهبر انقلاب و بنیانگذار جمهوری اسلامی ایران، 1368 - 1279. تحریر الوسیله. برگزیده. شرح

شناسه افزوده : موسسه تنظیم و نشر آثار امام خمینی(س)

رده بندی کنگره : BP183/9/خ 8ت 302378 1380

رده بندی دیویی : 297/3422

شماره کتابشناسی ملی : م 81-33606

[المقدمات]

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 3

شكر و تقدير

نتقدّم بجزيل الشكر و التقدير إلي الإخوة الأجلّاء الذين ساهموا في إنجاز هذا الأثر:

المساعدون في التحقيق: إبراهيم طاهري كيا، عليرضا نخبة روستا، مرتضي نور الهدي، محمود أيوبي.

المقابلة: حجة اللّٰه أخضري، محمد علي حسن زادة، محمد حسن عباسي، حسن علي منصوري، رضا هوشياري.

وضع علامات الترقيم: رضا حسيني فر.

صف الحروف و الإخراج الفنّي: فلاح المظفر.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 5

مقدّمة التحقيق

اشارة

بسم اللّٰه الرحمن الرحيم إنّ «تحرير الوسيلة» هو خير وسيلة يبتغيها المكلّف في سيره و سلوكه، و هو أوثقها عُري، و أصلحها منهاجاً؛ لِما امتاز به من سداد في تحديد الموقف العمليّ، و إصابة في تشخيص الوظائف المُلقاة علي عاتق المكلّفين، و ذلك علي ضوء الدليلين: الاجتهاديّ و الفقاهتيّ، النابعين من الكتاب و السنّة. ناهيك عن جمعه للمسائل العمليّة، و نأيه عن المسائل ذات الصبغة النظريّة التي لا تمسّ إلي واقعنا المُعاش بصلة.

و لئن كتب الشهيد الأوّل قدّس اللّٰه نفسه الزكيّة كتاب «اللّمعة الدمشقيّة» و هو سجين، فإنّ إمامنا العظيم نوّر اللّٰه ضريحه قد ألّف هذا الكتاب حينما كان منفيّاً في مدينة بورسا التركيّة من قبل الطاغوت الغاشم، و لم يكن بحوزته إلّا «وسيلة النجاة» و «العروة الوثقي» و «وسائل الشيعة».

نعم لم تكن بيده المباركة إلّا هذه الكتب الثلاثة، و لكنّ نفسه العلويّة لو لم تكن خزانة للعلوم الحقّة، و فؤاده مهبطاً للإلهام و التحديث، لامتنع وجود هذا السفر الخالد في تلك الظروف العصيبة.

و نظراً إلي أهمّية هذا الكتاب، و ضرورة نشره علي مختلف المستويات و الأصعدة؛ لذا فقد أخذت مؤسّسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني قدس سره علي عاتقها نشر شروح و تعاليق العلماء المحقّقين علي «تحرير الوسيلة» و من نفقتها الخاصّة.

و

يعدّ الكتاب الذي بين يديك، واحداً من هذه السلسلة الضخمة التي

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 6

تروم مؤسّستنا طبعها، و هو شرح لمباحث القضاء و الشهادات من «التحرير»، تأليف سماحة آية اللّٰه الشيخ محمد المؤمن القمّي دام بقائه. و نرجو اللّٰه تعالي أن يوفّقنا لطبع مباحث الحدود و القصاص و الديات. نسأل اللّٰه تعالي أن يوفّقه و إيّانا و أن يختم لنا جميعاً بالحسني إنّه سميع الدعاء.

منهجنا في تحقيق الكتاب

أمّا منهجنا في تحقيق الكتاب فهو كما يلي:

1 تقويم النص و تقطيعه و تزيينه بعلامات الترقيم المناسبة و لم ندمج متن التحرير مع الشرح رغبةً في تسهيل مراجعة القراء الكرام، بل أثبتنا المتن في صدر الصفحة و ذكرنا شرحها في ذيلها. و قد اقتصرنا في عنونة المطالب علي العناوين الموجودة في تحرير الوسيلة و لم نضف إليها عناوين أخري.

2 تخريج الآيات الكريمة و الأحاديث الشريفة، و قد اكتفينا في تخريج الأحاديث بالوسائل الحديثة لاشتمالها علي الإشارة إلي المنابع الأصلية إلّا في صورة عدم تطابق الرواية المذكورة في المتن مع ما في الوسائل، حيث عزوناها إلي مصادرها الأصلية أو إلي وسائل الشيعة طبع مكتبة الإسلامية.

و في الختام تتقدّم المؤسسة بالشكر الجزيل و الثناء العاطر إلي كلّ الإخوة الفضلاء الذين ساهموا في تحقيق هذا الكتاب راجيةً لهم التسديد و الموفقية في خدمة ديننا الحنيف.

مؤسّسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني قدس سره فرع قم المقدّسة

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 7

مقدّمة المؤلف

بسم اللّٰه الرحمن الرحيم الحمد للّٰه ربّ العالمين، و صلّي اللّٰه علي سيّدنا و نبيّنا محمّد المصطفي و آله الطاهرين، و لعنة اللّٰه علي أعدائهم أجمعين من الآن إلي قيام يوم الدين.

و بعد، فإنّ شرف علم الفقه ممّا لا يكاد يخفي؛ فإنّه علم بالوظائف و التكاليف المقرّرة في الشريعة الإسلامية علي المسلمين من أدلّتها التفصيليّة، فالفقيه بكدّ نفسه و إمداد إلهي يجهد نفسه و يعمل فكره و رويته في آيات الكتاب الكريم و السنن المأثورة عن سيّد المرسلين و عن آله الأئمّة المعصومين صلوات اللّٰه عليهم أجمعين بعد أن دقّق النظر في صفات راوي هذه السنن، و تميّز عنده ثقته و عدالته، أو تبيّن

عنده عمل الأصحاب بروايته و قبولهم لها، فيفكّر بعد ذلك كلّه في تشخيص معناها، و يراجع جميع الروايات الواردة في كلّ مسألة مسألة؛ لكي يظهر له حاصل مقصود النبيّ و الأئمّة عليهم السلام، الذين هم وسائط إلهية لبيان أحكام اللّٰه و معارف الإسلام، و يقايس حاصلها علي ما ربما يدلّ عليه آيات كلام اللّٰه المجيد.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 8

و أهل الفنّ يعلمون أنّه ربّما يحتاج فهم معني الآية أو الرواية إلي دقّة كثيرة، كما أنّه كثيراً ما تكون السنة الأدلّة في مسألة واحدة مختلفة، يحتاج انفهام المراد من مجموعها إلي تفكير كثير دقيق صائب. و إذا وقعت بينها معارضة و اختلاف المداليل فربّما لا يقدر علي رفع التعارض إلّا الأوحدي من العلماء.

كما أنّه إذا لم يكن بينها جمع عقلائي و بقيت المعارضة علي حالها فيحتاج في الأخذ بالأرجح إلي إعمال الدقّة في مفاد أخبار علاج التعارضات، و هو أيضاً باب واسع الذيل، محتاج إلي دقّة خاصّة لانفهام واقع المراد منها.

فالفقيه بعد إعمال هذه التفكيرات و الدقّة اللازمة في جميع هذه المراحل يوفّق لاستنباط حكم اللّٰه تعالي المقرّر للمكلّفين.

أضف إليها: أنّه يحتاج استنباطه كثيراً ما إلي ملاحظة أقوال سائر الفقهاء حتّي يعثر علي القول المشهور أو المُجمع عليه؛ فإنّ الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم عليه السلام حجّة تامّة معتبرة، كما أنّ الشهرة لها دورها الأساسي في ترجيح ما عليه المشهور من الخبرين المتعارضين، بل و في سقوط خبر الثقة عن الاعتبار إذا أعرض عنه المشهور، كما أنّه للإجماع أيضاً ربّما يكون هذا الدوران.

و أضف إليها: أنّ حكم العقل القطعي أيضاً يكون من الأدلّة المعتبرة، و لا بدّ للفقيه من الالتفات إليه في

كلّ مسألة أيضاً؛ لكي يكون استنباطه تامّاً بلا قصور.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 9

و من الواضح: أنّ علم الأُصول و قواعده السديدة يبتني عليه استنباط الأحكام، و هو أُصول الفقه، عليها يتفرّع حجّية أخبار الآحاد، و حجّية ظواهر الكتاب و السنّة و كلمات أصحابنا الأخيار، و عليه يتوقّف القواعد المعتبرة التي بها الجمع بين العمومات و مخصّصاتها و الإطلاقات و مقيّداتها. إليٰ غير ذلك من العلوم التي يتوقّف عليها فهم مرادات الكتاب و السنّة و ثبوت حجّية ما به يستدلّ علي الأحكام.

فالفقيه المتضلّع لا محيص له من أن يكون مضطلعاً بهذه الأركان حتّي يتمكّن من التفقّه و استنباط أحكام اللّٰه تعالي في الشريعة الإسلاميّة و المذهب الحقّ الإماميّ الجعفري.

و بعد ما استنبط الحكم الإلهي فقد وجد سبيل الصعود إلي قرب اللّٰه تعالي، و حصل له و لمقلّديه طريق النيل إلي مرضاته، و إلي السعادة العالية الإنسانية، كما عثروا كلّهم بما يوجب الهبوط إلي الجحيم، حتّي يجتنبوه و يختاروا سبيل اللّٰه الذي هدي الإنسان إليه؛ فقد قال اللّٰه تعالي إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ السَّبِيلَ إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً.

ثمّ إنّ من أحسن الكتب الفقهية التي أُلّفت أخيراً هو كتاب

تحرير الوسيلة

الذي ألّفه السيّد الأُستاذ الإمام الفقيد آية اللّٰه العظمي الحاج السيّد روح اللّٰه الخميني تغمّده اللّٰه برحمته و رضوانه فإنّه كتاب شريف حاوٍ لجميع الأبواب و الكتب الفقهية؛ من الطهارة إلي آخر الديات، بل و هو حاوٍ لمسائل جديدة مستحدثة، فتح بها باب ورود الفقيه في هذه المسائل المستحدثة، فإنّ فقهنا الإمامي الاثني عشري فقه تامّ عامّ يجيب عن كلّ

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 10

سؤال فقهي في جميع المسائل و الأبواب؛ لاستقائه من

ينابيع كلمات العترة الطاهرة التي تركها الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم لأُمّته، و هي أعظم الثقلين اللذين هما كتاب اللّٰه و عترته، صلوات اللّٰه عليهم أجمعين.

و قد وفّقني اللّٰه تعالي لإلقاء كلمات مختصرة في شرح بعض أبوابه و كتبه عند البحث عنها علي جمع من الفضلاء الذين حضروا في قسم القضاء من المدرسة العالية التربوية و القضائية لطلّاب قم، فقد جعل تعلّم كتب المعاملات و القضاء و الشهادات و الحدود و الديات من واجبي الطلّاب الذين أعدّوا أنفسهم للحضور في القسم القضائي من هذه المدرسة العالية.

فقد وفّقت بحمد اللّٰه تعالي لإلقاء هذه الدروس العالية الاجتهادية في كتاب القضاء و الشهادات، و في معظم مباحث الحدود و التعزيرات، كما وفّقني اللّٰه تعالي لقيد خلاصتها بالكتابة، و صار بحمد اللّٰه تعالي و منّه زهاء ألف صفحة، بل و أكثر، و أسأل اللّٰه تعالي أن يوفقني لتحرير بقيّة مباحث الحدود و جميع مباحث القصاص و الديات.

و حيث إنّ بعض الأخلّاء الروحانيين طلبوا منّي، بل أمروني بطبعه، و كان هذه المكتوبات قد كتبت لأجل طلّاب هذه المدرسة العالية؛ فرأيت نشرها حقّا للمدرسة المذكورة التي صارت اليوم بصورة جامعة رسمية يعبّر عنها بجامعة قم و هي و إن تصدّت لنضد حروفها و طبعها و نشرها لكن حيث كانت شرحاً لكتاب الإمام الخميني قدس سره رأت أن يفوّض أمرها إلي مؤسسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني قدس سره فقبلت و قامت بتحقيقها

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 11

و طبعها و نشرها، و أسأل اللّٰه تعالي توفيقها لمشاريع مباركة طيّبة.

و في الختام: أسأل اللّٰه الكريم أن يجعل هذا العمل القليل وسيلة للقرب منه تعالي، و

أن ينفع به المحصّلين المحقّقين، و أن يوفّقنا لما يوجب الزلفي إليه، و أن يغفر لنا و لأساتذتنا و لوالدينا، إنّه سميع الدعاء قريب مجيب.

و الحمد للّٰه ربّ العالمين، و صلّي اللّٰه علي محمّد و آله الطاهرين.

اللّهمّ كن لوليك الحجّة بن الحسن صلواتك عليه و علي آبائه في هذه الساعة و في كلّ ساعة وليّاً و حافظاً و قائداً و ناصراً و دليلًا و عيناً، حتّي تسكنه أرضك طوعاً و تمتّعه فيها طويلًا.

قم المشرّفة/ الأربعاء 26/ شعبان المعظّم 1419 ه. ق 25/ 9/ 1377 ه. ش محمّد المؤمن القمي

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 13

الحمد للّٰه ربّ العالمين، و أفضل صلواته عليٰ سيّدنا محمّد و آله الطاهرين، و لعنته الدائمة علي أعدائهم إلي يوم الدين. و بعد: فهذا ما وفّقني اللّٰه تعالي لتحريره عند البحث عن كتاب القضاء، كتبته تعليقاً علي «تحرير الوسيلة»، و منه التوفيق.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 15

[كتاب القضاء]

اشارة

كتاب القضاء

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 17

كتاب القضاء و هو الحكم بين النّاس لرفع التّنازع بينهم (1) بالشرائط الآتية،

______________________________

(1) قد فسّر «القضاء» بالحكم، و بفصل الأمر، و بغيره. و أيّا ما كان فهو متضمّن في مفهومه الحتم و القطع و صيرورة الأمر ذا جهة واحدة لا يحتمل فيه سواها؛ فيعبّر النبي يوسف عن حتمية تأويل ما رآه صاحبا السجن بقوله عليه السلام قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيٰانِ «1»، كما يعبّر الروح المرسل إلي مريم عن حتمية حمل و وضع مريم لغلام زكيّ بقوله وَ كٰانَ أَمْراً مَقْضِيًّا «2»، كما عبّر تعالي عن تمام الأمر و وقوعه بعد ما أراده اللّٰه في قضية نوح بقوله تعالي وَ

قُضِيَ الْأَمْرُ «3»؛ و لذلك كان قضاؤه تعالي يستتبع وقوع المقضي؛ قال تعالي وَ إِذٰا قَضيٰ أَمْراً فَإِنَّمٰا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «4»؛ فإنّه يدلّ علي أنّ قضاء أمر من اللّٰه ملازم لوجوده و كونه؛ و لذلك يقال: قضي وطره إذا استوفي ما أراد، و يستعمل الانقضاء فيما لا طريق إلي الشي ء و مضي.

______________________________

(1) يوسف (12): 41.

(2) مريم (19): 21.

(3) هود (11): 44.

(4) البقرة (2): 117.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 18

و منصب القضاء من المناصب الجليلة الثابتة من قبل اللّٰه تعالي للنبي صلي الله عليه و آله و سلم (2)،

______________________________

و بالجملة: فالقضاء متضمّن للحتم؛ فالقاضي يقال له القاضي لأنّه بقضائه يخرج المورد المقضي فيه عن كونه ذا وجهين و احتمالين، و يجعله ذا جهة واحدة؛ هي ما قضي بها.

و الفرق بين القضاء و الإفتاء: أنّ الإفتاء إنّما هو في الأحكام و القوانين أو الموضوعات الكلّية، و أمّا القضاء فهو في الموارد الشخصية الجزئية. فالمفتي يفتي بأنّه لا يجوز لك التصرّف في مال الغير، و القاضي يقضي بأنّ هذا مال الغير، و كذلك المفتي يفتي بأنّ يوم الفطر يحرم صيامه، و القاضي يقضي بأنّ غداً أو اليوم يوم الفطر، و هكذا.

و الظاهر عدم اعتبار التنازع و التشاجر في صدق القضاء، بل يكفي في صدقه وجود احتمالين متخالفين و إن لم يكن في البين مدّع لأحدهما؛ فإذا حكم القاضي بأنّ الغد يوم الفطر يصدق عليه القضاء، و إن كان الناس لا يدّعون شيئاً إثباتاً أو نفياً و لم يقع بينهم تنازع و لا تشاجر.

و كيف كان: فقد جعل الشارع تبارك و تعالي نظر القاضي و حكمه في الموضوعات الشخصية لازم الاتّباع علي غيره، و

هي خصيصة القضاء، بل عرفت أنّ الحتمية مقوّم صدق القضاء، و هذا النفوذ و لزوم الاتباع حكم شرعي علي خلاف مقتضي القواعد و الأُصول الأوّلية، كما هو واضح.

(2) قد عرفت: أنّ قوام القضاء بلزوم اتّباع نظر و حكم القاضي علي كلّ أحد؛ فيستتبع كلّ قضاء تكليفاً و التزاماً عملياً علي الناس كلّهم.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 19

______________________________

و التكليف و الإلزام لا يكون بحكم العقل إلّا حقّا للّٰه تعالي؛ فإنّه خالق كلّ شي ء و ربّه و مالكه و له الخلق و الأمر، و عصيانه و مخالفة أوامره و نواهيه يوجب عقلًا استحقاق العقاب، فإذا حكم اللّٰه تعالي علي موضوع أو قضية بحكم فيلزمه ترتّب آثاره.

و أمّا حكم غيره تعالي فلا يلزم العقل بلزوم اتباعه و وجوب ترتيب الآثار عليه، إلّا إذا جعله اللّٰه تعالي كذلك و حكم عليه بهذا الحكم.

و قد حكم هذا الحكم علي ما يقضي به الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم بقوله تعالي وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَي اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلٰالًا مُبِيناً «1».

فأوجب علي المؤمنين التسليم عند ما قضي رسول اللّٰه أمراً و سلب عنهم الاختيار، و عدّ عصيان أمره ضلالًا مبيناً، و في كلّ ذلك قارن قضاءه صلي الله عليه و آله و سلم مع قضاء اللّٰه و عصيانه مع عصيانه؛ تعظيماً و تبجيلًا له، و تنبيهاً علي عظم رعاية قضائه و إطاعته.

بل يستفاد من الإتيان بفعل واحد «قضي» و مفعول واحد «أمراً» و جعل «اللّٰه و رسوله» فاعلًا له: أنّ كلّ ما يقضي به الرسول

فقد قضي به اللّٰه تعالي؛ فقضاء النبي قضاء اللّٰه، و كذلك كان عصيانه عصيان اللّٰه تعالي؛ وَ مَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلٰالًا مُبِيناً.

ففي هذه الآية و هذا البيان تكريم عظيم له صلي الله عليه و آله و سلم في عين الدلالة علي أنّ له صلي الله عليه و آله و سلم أن يقضي في كلّ ما أراد؛ فهو لا يقضي إلّا بقضاء اللّٰه، و لا يري

______________________________

(1) الأحزاب (33): 36.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 20

و من قبله للأئمّة المعصومين عليهم السلام (3)،

______________________________

إلّا ما رآه اللّٰه؛ فيجب اتّباع قضائه و إطاعة أمره كما يجب في اللّٰه، بل هو هو بعينه.

(3) لا ريب في ثبوت هذا المنصب للأئمّة عليهم السلام، إلّا أنّ ظاهر العبارة أنّ ثبوته لهم بجعل النبي صلي الله عليه و آله و سلم إيّاهم حكّاماً من قِبله، كالقاضي المنصوب من قِبل وليّ الأمر.

و قد يشكل: بأنّهم أُولوا الأمر بعد الرسول، يجب اتباعهم و ينفذ قضاؤهم و أوامرهم بجعل من اللّٰه تعالي لهم و لو بعد موت الرسول لا بجعل و نصب من الرسول.

لكنّ الحقّ: أنّ ثبوت هذا المنصب لهم إنّما هو بما إنّهم أوصياء النبي، يعملون بوصاياه و يجرون أوامره و طلباته؛ ففي صحيح سليمان بن خالد

اتّقوا الحكومة؛ فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين، لنبي (كنبي خ. ل) أو وصي نبي «1»

؛ فإنّه يدلّ علي أنّ الحكومة و القضاء إذا ثبت لغير النبي فإنّما هو بما أنّه وصي نبي و إدامة لوجود النبي، لا بما أنّ الإمام غير النبي مستقلّ في هذا المنصب و لو بعده. و إلي هذا المعني يشير قوله عليه السلام لشريح

يا

شريح قد جلستَ مجلساً لا يجلسه إلّا نبي أو وصي نبي أو شقي «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة 27: 17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 21

و من قبلهم للفقيه (4) الجامع للشرائط الآتية، و لا يخفي أنّ خطره عظيم، و قد ورد «أنّ القاضي علي شفير جهنّم» و عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه إلّا نبي أو وصي نبي أو شقي» و عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام: «اتّقوا الحكومة فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبي أو وصيّ نبيّ». و في رواية: «من حكم في درهمين بغير ما أنزل اللّٰه عزّ و جلّ فقد كفر» و في اخري: «لسان القاضي بين جمرتين من نار حتّي يقضي بين الناس، فإمّا في الجنّة و إمّا في النار». و عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «القضاة أربعة: ثلاثة في النار و واحد في الجنّة، رجل قضيٰ بجور و هو يعلم فهو في النار، و رجل قضيٰ بجور و هو لا يعلم فهو في النار، و رجل قضي بالحقّ و هو لا يعلم فهو في النار، و رجل قضيٰ بالحقّ و هو يعلم فهو في الجنّة». و لو كان موقوفاً علي الفتوي يلحقه خطر الفتوي أيضاً، ففي الصحيح قال أبو جعفر عليه السلام: «من أفتي الناس بغير علم و لا هدي من اللّٰه لعنه ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب و لحقه وزر من عمل بفتياه».

______________________________

فيدلّ الخبران علي قوله مدّ ظلّه: «و من قِبلهم

للفقيه الجامع للشرائط»؛ و ذلك لما عرفت أنّ ثبوته لغير النبي لا يكون من اللّٰه ابتداءً و بلا وساطة النبي، بل منصب القضاء لا يكون لمن يكون إلّا بما أنّه وصي نبي و قائم مقامه يفعل وصاياه و يعمل ما أمره، و لو كان القاضي إماماً من الأئمّة المعصومين، صلوات اللّٰه عليهم أجمعين.

(4) قد عرفت: أنّ هذا المنصب لا يكون بعد النبي إلّا لأوصيائه،

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 22

[مسائل عامة]

[مسألة 1 يحرم القضاء بين الناس و لو في الأشياء الحقيرة إذا لم يكن من أهله]

مسألة 1 يحرم القضاء بين الناس و لو في الأشياء الحقيرة إذا لم يكن من أهله، فلو لم يرَ نفسه مجتهداً عادلًا جامعاً لشرائط الفتيا و الحكم حرم عليه تصدّيه (5) و إن اعتقد الناس أهليّته،

______________________________

و أوصياؤه هم الأئمّة المعصومون عليهم السلام؛ فلا يمكن أن يكون لغيرهم إلّا بنصبهم و من قِبلهم.

و قد جعلوا منصب القضاء للفقهاء بقولهم في معتبر أبي خديجة

انظروا إلي رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا، فاجعلوه بينكم؛ فإنّي قد جعلتُه قاضياً، فتحاكموا إليه «1».

و قولهم في مقبولة عمر بن حنظلة

ينظران من كان منكم ممّن قد روي حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً؛ فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً «2».

فتحصّل: أنّ ثبوت منصب القضاء إنّما هو في طول ثبوته للأئمّة عليهم السلام، كما أنّ ثبوته للأئمّة في طول ثبوته للنبي صلي الله عليه و آله و سلم.

(5) ظاهر العبارة: حرمة القضاء تكليفاً علي من لم يكن جامعاً لشرائطه؛ سواء كان المتصدّي للقضاء حينئذٍ منصوباً من ناحية غير المعصوم، أم لا.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 13، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 5.

(2) وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11،

الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 23

______________________________

و تحقيق المطلب: أنّ مقتضي القواعد في قضاء غير الأهل عدم النفوذ؛ بمعني أنّه لا يحكم عليه بلزوم ترتّب الآثار علي ما يحكم به، فإذا حكم بين المتخاصمين في مال: أنّ هذا المال لزيد مثلًا فلا يترتّب شرعاً علي هذا المال أحكام مال زيد، لكي يجوز التصرّف فيه بإذن زيد، و لا يجوز بغير إذنه.

و الوجه فيه: أنّه بعد عدم الدليل علي نفوذ قضائه فمقتضي اليد مثلًا لو كانت يد أنّه ملك ذي اليد، و يترتّب عليه آثار ملكه و إن قضي غير الأهل بخلافه. و مع عدم اليد فلو كان استصحاب حكم بمقتضاه، و هكذا لو كان أصل آخر؛ إذ لا دليل علي نفوذ القضاء، و أدلّة الأُصول و القواعد الأُخر محكّمة.

و أمّا حرمة القضاء تكليفاً، فمقتضي أصل البراءة عدمها، و القول بها محتاج إلي دليل خاصّ. و لا ريب في حرمته إذا كان القاضي منصوباً من قِبل السلطان الجائر؛ إذ قد وردت أخبار مستفيضة بأنّ الرجوع إلي مثله رجوع إلي الطاغوت «1»، فلا محالة يكون القاضي طاغوتاً، و كونه طاغوتاً إنّما يكون بتصدّيه للقضاء من ناحية الجائر. فقضاؤه طغيان عظيم منه علي اللّٰه تعالي؛ حتّي صار به طاغوتاً، فهو معصية كبيرة؛ ففي مقبولة عمر بن حنظلة

من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلي الطاغوت «2».

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة 27: 11، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 2 و 3 و 4.

(2) وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 24

______________________________

و أمّا إذا لم يكن منصوباً من ناحية السلطان

الجائر، و إنّما تصدّي للقضاء لمراجعة المتخاصمين بأنفسهما إليه، و هو ليس واجداً لشرائط القضاء، فهو و إن لم يكن مشمولًا للمستفيضة إلّا أنّه ليس مشمولًا لأدلّة النصب العامّ أيضاً؛ إذ المفروض عدم اجتماعه للشرائط.

و حينئذٍ: فيمكن الاستدلال للحرمة التكليفية بقوله عليه السلام في صحيح سليمان بن خالد الماضي: «اتّقوا الحكومة.» «3» إلي آخره؛ فإنّ ظاهر الأمر باتّقاء الحكومة: أنّ اتّقاءها واجب، و تصدّيها ترك للواجب و معصية. و كلمة «الحكومة» بنفسها ظاهرة في القضاء؛ إذ هي مصدر أو اسم مصدر لماضي «حَكَمَ»، و هذه المادّة ظاهرة في القضاء لا الزعامة و الولاية. مضافاً إلي أنّ قوله عليه السلام في ذيله

فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء.

إلي آخره حيث وصف الإمام بكونه عالماً بالقضاء، و هو مناسب لمقام تصدّي القضاء.

و كيف كان ففقه الحديث: أنّه يجب اتّقاء الحكومة و القضاء علي الناس؛ فإنّ الحكومة حقّ الإمام العالم العادل، و حكومة غيره تصرّف فيما هو حقّ له، و هو ظلم حرام.

فمقتضي الصحيح: حرمة القضاء علي غير الإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين؛ حتّي و إن كان فقيهاً جامعاً للشرائط. لكنّ الإمام نفسه إذا نصب أحداً للقضاء و أذن له فيه فقد أعمل هو عليه السلام حقّه؛ و تصدّي الغير

______________________________

(3) وسائل الشيعة 27: 17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 25

و يجب كفاية علي أهله (6). و قد يتعيّن إذا لم يكن في البلد أو ما يقرب منه ممّا لا يتعسّر الرفع إليه من به الكفاية.

______________________________

حينئذٍ ليس ظلماً و لا تصرّفاً فيما هو حقّ له عليه السلام. فقوله عليه السلام في مثل معتبر أبي خديجة

فإنّي قد جعلته.

«1»

لا يكون منافياً لمضمون هذه الصحيحة، بل مؤكّداً له، هذا.

و التحقيق أن يقال: إنّ مثل معتبر أبي خديجة و مقبولة عمر بن حنظلة إنّما وردا في زمن كان أساس الحكومة بين المسلمين بيد الظلَمة و غاصبي الحكومة؛ و لذلك كان التصدّي للقضاء من ناحية هؤلاء الظلمة كما عرفت من المعاصي الكبيرة، و الإذن منه عليه السلام إذن ممّن له الولاية الإسلامية حقّا. و أمّا إذا تأسّست حكومة إسلامية بيد مَن له حقّ تأسيسها كالفقهاء العدول فلا محالة يكون هؤلاء الفقهاء المتصدّون لأمر الولاية بمنزلة الإمام المعصوم عليه السلام، و يكون أمر القضاء بيد ولي الأمر الفقيه. و ليس لأحد حتّي المجتهدين الجامعين للشرائط تصدّي القضاء إلّا بإذنه أو أمره. و تمام الكلام في مبحث الحكومة الإسلامية.

و ما أفاده الماتن قدس سره إنّما يكون مع قطع النظر عن تحقّق هذه الولاية خارجاً، كما لا يخفي.

(6) و الدليل عليه وجوب حفظ النظام، و هو متوقّف علي القضاء بين

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 13، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 5.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 26

[مسألة 2 لا يتعيّن القضاء علي الفقيه إذا كان من به الكفاية]

مسألة 2 لا يتعيّن القضاء علي الفقيه إذا كان من به الكفاية و لو اختاره المترافعان أو الناس (7).

[مسألة 3 يستحب تصدّي القضاء لمن يثق بنفسه القيام بوظائفه]

مسألة 3 يستحب تصدّي القضاء (8) لمن يثق بنفسه القيام بوظائفه،

______________________________

المتخاصمين من الناس و فصل خصومتهم، كما لا يخفي. و تعيّنه علي أهله إذا لم يكن في البلد غيره و ما يقرب منه ممّا يمكن الرفع إليه، واضح.

و أمّا إذا كان القاضي في بلد بعيد يتعسّر الرفع إليه، فوجه الوجوب علي الأهل المقيم في البلد: أنّه بعد ما كان المفروض تعسّر الرفع فلا يتحمّل غالب الناس هذا الرفع العسير، فيبقي تخاصمهم و تشاجرهم و يختلّ النظام، فدليل وجوب حفظ النظام يقتضي وجوب تصدّيه هاهنا أيضاً.

(7) لعدم الدليل علي وجوبه العيني؛ حتّي مع اختياره من ناحية المترافعين أو الناس، و الأصل عدم الوجوب.

(8) يعني: أنّ القضاء واجب كفائي مستحبّ عيني.

الدليل علي استحبابه العيني مضافاً إلي أدلّة الحثّ علي المبادرة إلي الخيرات، كقوله تعالي فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرٰاتِ* «1»، و قوله تعالي سٰابِقُوا إِليٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ «2» موثّق السكوني عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

قال

______________________________

(1) البقرة (2): 148.

(2) الحديد (57): 21.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 27

و الأولي تركه (9) مع وجود من به الكفاية، لما فيه من الخطر و التهمة.

______________________________

أمير المؤمنين عليه السلام: يد اللّٰه فوق رأس الحاكم ترفرف بالرحمة «1»

؛ فإنّ بسط يد اللّٰه بالرحمة فوق رأس الحاكم من كمال عناية اللّٰه إليه بالرحمة؛ فالحكومة العادلة مطلوبة له تعالي جدّاً. و ذكر هذه الفضيلة لها في كلامه عليه السلام ترغيب لكلّ أحد إلي القضاء، فيدلّ علي استحبابه عيناً. و مثله ما في خبر سلمة بن كهيل من إيجاب الأجر و الذخر لمن قضي بالحقّ

«2»، فراجع.

(9) هذه الأولوية احتياط استحبابي؛ لئلّا يقع في مفسدة الحكم بغير ما أنزل اللّٰه تعالي و لو خطأً، كما يدلّ علي إرادة هذا المعني قوله مدّ ظلّه في الاستدلال عليها: «لما فيه من الخطر و التهمة»، فلا تنافي استحبابه العيني، فهو بنفسه مندوب إليه و موجب للتظلّل برحمة اللّٰه، لكن حيث إنّه غير واجب، و يحتمل فيه العدول عن الحقّ، فالعقل يحكم بأنّ الأولي و الأحسن عدم التعرّض له؛ مخافة الوقوع في مفسدة الحكم بغير ما أنزل اللّٰه.

و مع ذلك: فالرجل كلّ الرجل من عاني تعب القضاء و فصل خصومات الناس، و أقام بقضائه حدود اللّٰه تعالي، و لم يصغ إلي وساوس الشيطان، و لم يستند إلي الكسل، و لم يطلب راحة الدنيا، كلّ ذلك للّٰه تعالي

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 224، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 9، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 211، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 1، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 28

[مسألة 4 يحرم الترافع إلي قضاة الجور]

مسألة 4 يحرم الترافع إلي قضاة الجور (10): أي من لم يجتمع فيهم شرائط القضاء،

______________________________

و طلباً لمرضاته و إخلاصاً له تعالي.

(10) مفاد هذه الفقرة حرمة الترافع إليهم تكليفاً.

و يدلّ عليها في القضاة المنصوبين من ناحية السلطان الجائر أخبار مستفيضة «1»: منها قول الصادق عليه السلام في مقبولة عمر بن حنظلة عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلي السلطان و إلي القضاة، أ يحلّ ذلك؟ قال

من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلي الطاغوت.

الحديث. و إذا كان التحاكم إليهم تحاكماً إلي الطاغوت، كان حراماً؛ لأنّه خلاف ما أمر اللّٰه به؛ قال تعالي يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَي الطّٰاغُوتِ

وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ «2».

لكن هذه الأخبار مختصّة بالمنصوبين من ناحية سلطان الجور.

و أمّا الترافع إلي من لم يكن واجداً لبعض الشرائط المعتبرة شرعاً في القاضي كأن لم يكن مجتهداً أو عادلًا و هو غير منصوب من ناحية الجائر، فمقتضي أصل البراءة جواز الترافع.

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة 27: 11، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 2 5.

(2) النساء (4): 60.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 29

فلو ترافع إليهم كان عاصياً، و ما أخذ بحكمهم حرام إذا كان ديناً (11)،

______________________________

و لا دليل علي حرمته سوي ما في مقبولة عمر بن حنظلة؛ من قوله عليه السلام في جواب سؤال الراوي: فكيف يصنعان؟ قال

ينظران من كان منكم ممّن قد روي حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً؛ فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً «1».

بتقريب: أنّه عليه السلام حيث حكم بحرمة الترافع إلي قضاة سلطان الجور، و سأله السائل بقوله: كيف يصنعان؟ فلو كان للمترافعين طريق سوي ما ذكره عليه السلام لذكره، فالاقتصار علي من تضمّنه الجواب دليل علي اختصاص جواز الترافع إليه به.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ سؤال السائل إنّما هو عن طريق و قاضٍ يكون حكمه و قضاؤه نافذاً لكي يفصل به اختصامهم، و لا منافاة بين اختصاص النفوذ و ترتّب الأثر بقضاء خصوص من تضمّنه الجواب، و بين جواز الترافع إلي غيره تكليفاً.

(11) إذ في الدَّين يكون حقّ الدائن أمراً كلّياً في ذمّة المديون، و أمر تعيين الكلّي في فرد خاصّ بيد المديون و منوط برضاه، و إذا حكم الحاكم بوجوب أدائه فأدّاه و عيّنه في فرد استناداً إلي حكمه فحكم الحاكم يقوم

______________________________

(1) وسائل الشيعة

27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 30

و في العين إشكال (12)، إلّا إذا توقّف استيفاء حقّه علي الترافع إليهم،

______________________________

شرعاً مقام رضاه الطبعي، و هو إنّما يصحّ فيما حكم الشارع بلزوم اتّباع حكم الحاكم. و أمّا مع عدم حكمه كما هو المفروض فيما لم يكن نافذاً فأداؤه و تعيينه فاقد لشرط الرضا، و لا يتعيّن حقّه فيما أدّي، فيكون التصرّف فيه تصرّفاً في مال الغير، و يكون حراماً من دون إذن منه.

(12) و ذلك: أنّ العين لمّا كانت ملكاً للمحكوم له بزعمه، و ملكيته غير موقوفة علي تسليم خصمه، فمقتضي القاعدة جواز تصرّفه في ملكه.

لكن قد وردت مقبولة ابن حنظلة في التحاكم إلي الطاغوت بقوله عليه السلام

و ما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً و إن كان حقّا ثابتاً له؛ لأنّه أخذه بحكم الطاغوت «1»

، و «السحت» قد فسّر بالمال الحرام. و إطلاق مورد الحديث يعمّ ما إذا كان مورد النزاع عيناً ميراثاً، فيدلّ علي أنّ المأخوذ حرام و إن كان عيناً شخصية، و كانت هذه العين حقّا ثابتاً له. فأخذها بحكم الطاغوت أوجب حرمة ماله الشخصي.

اللهمّ إلّا أن يدّعي انصراف هذا الإطلاق الحاكم بالحرمة عن العين الشخصية التي تكون بحسب الواقع ملكاً له، و هو مشكل.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 31

فلا يبعد جوازه (13)، سيّما إذا كان في تركه حرج عليه (14)،

______________________________

(13) فإنّ المقبولة بقرينة السؤال و الجواب بقوله: فكيف يصنعان. إلي آخره واردة في مورد يمكن للمتخاصمين الترافع إلي رجل من أهل الحقّ واجد لشرائط القضاء، و

هو و إن لم يناف عقلًا لشمول إطلاق حرمة الترافع المذكورة في الصدر لما لا محيص له سوي الرجوع إلي الطاغوت، إلّا أنّه يوجب عرفاً الانصراف عنه إلي خصوص مورد التمكّن من استيفاء حقّه بطريق جائز شرعي.

مضافاً إلي دلالة حديث «لا ضرر» «1» علي ارتفاع الحرمة؛ فإنّ حرمة الترافع حينئذٍ يلزم منها ضرر ذهاب حقّه، فهي منفية بإطلاق «لا ضرر» الدالّ علي نفي الضرر في الإسلام، و نفيه في حدود القوانين إنّما يكون بانتفاء الأحكام المستلزمة للضرر. مضافاً إلي دلالة بعض الأخبار الواردة في باب الشهادات عليه، فراجع «2».

(14) وجه الخصوصية: أنّه مع لزوم الحرج فمضافاً إلي ما مرّ يدلّ إطلاق قوله تعالي وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «3» أيضاً علي عدم جعل الحرج علي المسلمين؛ فكلّ حكم يوجب حرجاً فهو غير مجعول؛

______________________________

(1) وسائل الشيعة 25: 428، كتاب إحياء الموات، الباب 12، الحديث 3.

(2) راجع وسائل الشيعة 27: 316، كتاب الشهادات، الباب 4، الحديث 2 و 3.

(3) الحج (22): 78.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 32

و كذا لو توقّف ذلك علي الحلف كاذباً جاز (15).

[مسألة 5 يجوز لمن لم يتعيّن عليه القضاء الارتزاق من بيت المال]

مسألة 5 يجوز لمن لم يتعيّن عليه القضاء الارتزاق من بيت المال (16) و لو كان غنيّاً،

______________________________

لأنّ جعله يستلزم جعل الحرج، و قد قال تعالي وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ؛ فيكون حرمة الترافع حينئذٍ مرفوعة غير مجعولة.

و هذا بخلاف مورد الضرر الغير الملازم للحرج؛ فإنّه لا دليل فيه سوي الانصراف و قاعدة «لا ضرر». و قاعدة «لا ضرر» مفادها عند الماتن دام ظلّه إعمال الولاية. و الانصراف قد يمكن دعوي منعه، و إن كان الأظهر خلافه، كما عرفت.

(15) لقول أبي الحسن الرضا

عليه السلام في صحيح إسماعيل بن سعد عن رجل يخاف علي ماله من السلطان فيحلف لينجو به منه؟ قال

لا جناح عليه «1»

؛ فإنّه و إن لم يصرّح في السؤال بالحلف كاذباً إلّا أنّ إطلاقه شامل له أيضاً، و هو المناسب لأن يسأل عن جوازه. و الإطلاق شامل أيضاً لمجلس القضاء، و هذا الإطلاق أقوي ظهوراً من إطلاق أدلّة حرمة الكذب أو اليمين الكاذبة، كما لا يخفي.

(16) الارتزاق من بيت المال هو إمرار المعاش منه؛ سواء كان بأداء مقدار معيّن عليه في كلّ شهر مثلًا كما هو المتعارف اليوم، أو بأن يؤذن

______________________________

(1) وسائل الشيعة 23: 224، كتاب الأيمان، الباب 12، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 33

______________________________

له في أن يأخذ من بيت المال أيّ مقدار شاء.

و الدليل علي الجواز مطلقاً: أنّ بيت المال معدّ لمصالح الأُمّة، يصرف في كلّ مورد كان مصلحة لهم؛ و منها إعطاء ما يرتزق به لمن حاول القضاء بين المتخاصمين منهم.

و قد قال أبو الحسن الكاظم عليه السلام في بيان مصرف عوائد أراضي المسلمين أنّه

يكون بعد ذلك أرزاق أعوانه (يعني الوالي) علي دين اللّٰه و في مصلحة ما ينوبه؛ من تقوية الإسلام و تقوية الدين في وجوه الجهاد، و غير ذلك ممّا فيه مصلحة العامّة «1».

و مع غضّ النظر عن الحديث: فلا ريب في أنّ بيت مال كلّ امّة معدّ لأن يصرف فيما هو من مصالحهم و في من يعمل ما هو مصلحة لهم، فالأصل جواز الأخذ للقاضي، من غير فرق في ذلك كلّه بين من تعيّن عليه القضاء و غيره، و لا بين من له حاجة و غيره.

و قد ورد في عهد أمير المؤمنين عليه السلام إلي مالك

الأشتر في مورد القاضي-

و أكثر تعاهد قضائه و افسح له في البذل ما يزيح علّته و تقلّ معه حاجته إلي الناس. «2»

، و دلالته علي المطلب كإطلاقه لصورة التعيّن و عدمه واضحة.

و قد يستدلّ لحرمة الارتزاق و غيره مطلقاً بصحيح عمّار بن مروان،

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 221، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة 27: 223، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، الحديث 9.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 34

______________________________

قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام

السحت أنواع كثيرة: منها ما أُصيب من أعمال الولاة الظلمة، و منها أُجور القضاة و أُجور الفواجر و ثمن الخمر و النبيذ المسكر. «1».

بدعوي: أنّ أُجور القضاة عدّت من السحت، الذي هو المال الحرام عداد سائر الأموال المحرّمة.

و تماميتها موقوفة علي رجوع ضمير «منها» إلي الأنواع، و علي عدم الانصراف إلي قضاة الجور، و كلاهما محلّ كلام؛ إذ يحتمل كما أفاد السيّد الخوئي، دام بقاؤه رجوع الضمير إلي لفظة «ما» في قوله

ما أُصيب من أعمال الولاة الظلمة

؛ تنبيهاً علي فرد خفي ممّا يصاب من أعمالهم؛ فإنّ القاضي إذا كان منصوباً من قبلهم فقداسة شأن القضاء و عِظم قدر رفع التخاصم عن المسلمين لا يوجب حلّية ما يصاب من أعمالهم.

و يؤيّد هذا الاحتمال: أنّه لو كان مرجع الضمير «الأنواع» لناسب تكرار قوله «منها» في كلّ واحد من الأنواع الأُخر التالية.

كما أنّ دعوي انصراف لفظة «القضاة» إلي من يتعاهد منهم خارجاً أعني المنصوبين من ناحية السلطان الجائر ليست بذلك البعد.

و قد يتوهّم دلالة صحيح عبد اللّٰه بن سنان قال: سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام عن قاض بين قريتين يأخذ من السلطان علي القضاء الرزق؟ فقال

ذلك

السحت «2»

، بتوهّم: أنّ سرّ الحرمة كونه رزقاً علي القضاء. لكنّك تعلم:

______________________________

(1) وسائل الشيعة 17: 95، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 12.

(2) وسائل الشيعة 27: 221، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 35

و إن كان الأولي الترك مع الغني (17)، و يجوز مع تعيّنه عليه (18) إذا كان محتاجاً، و مع كونه غنيّاً لا يخلو من إشكال؛ و إن كان الأقوي جوازه. و أمّا أخذ الجعل من المتخاصمين أو أحدهما فالأحوط الترك (19) حتّي مع عدم التعين عليه، و لو كان محتاجاً يأخذ الجعل أو الأجر علي بعض المقدّمات.

______________________________

أنّ موضوعه كون الرزق علي القضاء من السلطان فحكم بحرمته، و لعلّ منشأ الحرمة كونه من السلطان، فلا يدلّ علي حرمة أعمّ منه.

(17) لأنّ في الترك توفيراً لبيت المال، فترك ما يعطي لبيت المال إعانة له و ازدياد للأموال المصروفة في مصالح الأُمّة. و لأنّ في الترك أيضاً رعاية جانب الاحتياط، و جانب احتمال الحرمة المحتمل إرادتها من صحيح عمّار بن مروان.

نعم مع احتياجه ربّما يؤدّي الترك إلي إهمال القضاء؛ للاشتغال بتحصيل النفقة اللازمة.

(18) و ذلك: أنّ الوجوب علي المكلّف و لا سيّما إذا كان كفائياً تعيّن عليه لا يقتضي بنفسه حرمة أخذ الأُجرة، إلّا إذا دلّ دليل الوجوب علي اعتبار المجّانية، و إلّا فالوجوب يجتمع مع أخذ الأجر؛ فلا دليل علي الحرمة؛ حتّي مع الغني، و إن كان أخذه معه محلّ إشكال؛ لكونه القدر المتيقّن من معقد الإجماع المدّعي علي الحرمة، لكن الإجماع لا قيمة له في ما كان للعقل أو النقل إليه سبيل.

(19) أخذ الجعل من المتخاصمين تارةً يكون بصورة العقد

مع الآخذ

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 36

[مسألة 6 أخذ الرشوة و إعطاؤها حرام]

مسألة 6 أخذ الرشوة و إعطاؤها حرام (20)،

______________________________

بخصوصه، فيكون من قبيل مال الإجارة، و تارةً يكون بصورة جعلٍ جعل من المتخاصمين لكلّ من قضي بينهما، فيقضي لهما هذا القاضي، فيكون من قبيل مال الجعالة.

و الظاهر: أنّ وجه الاحتياط احتمال صدق الرشوة عليه، كما هو لازم تفسيرها بمطلق الجعل علي ما عن «القاموس».

و ربّما يستظهر ممّا في خبر يوسف بن جابر عن الباقر عليه السلام حيث عدّ ممّن لعنه رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم

رجلًا احتاج الناس إليه لتفقّهه فسألهم الرشوة «1»

، بدعوي ظهوره في أنّ الرشوة إنّما يعطي لبذل الفقه و إعمال التفقّه، و هي حينئذٍ عين مورد البحث.

لكنّها قد فسّرت بما يعطي لإبطال حقّ أو إحقاق باطل، و بما يعطي للحكم له مطلقاً. و كلا التفسيرين لا يعمّان الجعل المذكور. و خبر ابن جابر مضافاً إلي عدم اعتبار سنده يراد منه أنّه يسأل الرشوة ليحكم بنفع الراشي؛ و عليه فليس أدلّة حرمة الرشوة حجّة علي حرمة أخذ جعل المتخاصمين، فالأظهر جواز أخذه.

(20) أمّا حرمة الأخذ فلأخبار كثيرة عدّت الرشوة من السحت، كما

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 223، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، الحديث 5.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 37

______________________________

في موثّق السكوني و يزيد بن فرقد «1» و غيرهما. و «السحت» هو المال الحرام، و أخذ المال الحرام تصرّف فيه، و حرمة المال الحرام بمعني حرمة التصرّف فيه.

و في خبر الأصبغ

و إن أخذ الرشوة فهو مشرك «2»

، و في الخبر المستفيض المروي بإسناد معتبرة

أنّ الرشا في الحكم كفر باللّٰه «3»

، و «الرشا» جمع الرشوة، و تنزيلها منزلة الكفر

بيان لشدّة حرمتها. و حرمة المال كما مرّ عبارة أُخري عن حرمة جميع التصرّفات المتعلّقة به.

و أمّا حرمة الإعطاء فيمكن الاستدلال لها بأنّ «الرشا» في المستفيضة مصدر باب المفاعلة، كما يناسبه الإشارة إليه ب «ذلك» في صحيح عمّار

فأمّا الرشا في الحكم فإنّ ذلك الكفر باللّٰه العظيم جلّ اسمه و برسوله «4».

و إرجاع الضمير المذكّر إليه في خبر سماعة

و أمّا الرشا في الحكم

______________________________

(1) وسائل الشيعة 17: 93، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 5 و 4.

(2) وسائل الشيعة 17: 94، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 10.

(3) راجع وسائل الشيعة 17: 92، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، و 27: 223، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، الحديث 8.

(4) وسائل الشيعة 17: 92، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 1 و 12.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 38

______________________________

فهو الكفر باللّٰه العظيم «1»

، و لو كان جمعاً ل «الرشوة» لناسب رجوع الضمير المؤنّث. و يناسبه أيضاً تنزيله منزلة الكفر؛ فإنّ الكفر من أعمال العبد، فينبغي أن يكون ما يدّعي أنّه كفر أيضاً من أعماله، لا من قبيل الأموال.

و عليه: فالرشاء إنّما يكون بمعني إعطاء الرشوة مع تبانٍ بينهما و إقدام المرتشي علي أخذه، فيدلّ المستفيضة علي حرمة الإعطاء و الأخذ كليهما.

اللهمّ إلّا أن يقال بعدم ثبوت استعمال الرشاء مصدراً لباب المفاعلة، و كون الرشوة كفراً تنزيلياً إنّما هو بداعي أن لا يقربها أحد كما لا يقرب الكفر. و رجوع الإشارة أو الضمير المذكّر أيضاً إليه سهل بعد كونه في معني الجمع.

و بالجملة: فلا حجّة في المستفيضة إلّا علي حرمة المتيقّن من الاحتمالين و

هو حرمة الأخذ فإنّها تدلّ علي حرمته علي أيّ حال، كما هو واضح.

و يمكن الاستدلال له بالأولوية القطعية المستفادة من صحيح عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

أيّما مؤمن قدّم مؤمناً في خصومة إلي قاضٍ أو سلطان جائر فقضي عليه بغير حكم اللّٰه فقد شركه في الإثم «2»

ببيان: أنّ شركة المؤمن المفروض في الحديث إنّما هي في حدّ الإتيان بخصمه

______________________________

(1) وسائل الشيعة 17: 92، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة 27: 11، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 39

إن توصل بها إلي الحكم له بالباطل (21)، نعم لو توقّف التوصّل إلي حقّه عليها جاز للدافع (22)،

______________________________

إلي القاضي الجائر، من دون دخالة له في كيفية حكمه، و مع ذلك فقد عدّ شريكاً له في الإثم. فإذا كان الشركة بإعطاء الرشوة و حمله علي القضاء بغير حكم اللّٰه فهي شركة أقوي؛ فيكون حراماً قطعاً بطريق أولي.

و يمكن الاستدلال له أيضاً بقوله صلي الله عليه و آله و سلم في خبر «عوالي اللآلي»

لعن اللّٰه الراشي و المرتشي و من بينهما يمشي «1»

، و ظاهر اللعن منه تعالي حرمة العمل.

كما يمكن الاستدلال له بقوله تعالي وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ «2»؛ فإنّ إعطاء الرشوة بداعي الحكم بغير ما أنزل اللّٰه الذي هو بمنزلة الكفر فيه إعانة قوية علي وقوع هذه المعصية الكبيرة.

(21) فإنّه المصداق المقطوع من الرشوة.

(22) فإنّ حرمة الإعطاء حتّي في هذا الفرض تستلزم الضرر، فتنتفي بقاعدة «لا ضرر». و قد يلزمه الحرج، فيرفعها أدلّة نفي الحرج أيضاً. مضافاً إلي إمكان دعوي انصراف أدلّة حرمة الإعطاء

عن مثل هذه الصورة.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 17: 355، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، الحديث 8.

(2) المائدة (5): 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 40

و إن حرم علي الآخذ (23). و هل يجوز الدفع إذا كان محقّاً و لم يتوقّف التوصّل إليه عليها؟ قيل: نعم، و الأحوط الترك. بل لا يخلو من قوّة (24).

______________________________

(23) قد يستشكل بأنّ المفروض في هذه الصورة أنّ المال مثلًا قد اعطي بداعي أن يحكم له بالحقّ، و قد فسّر الرشوة بما يعطي للحكم بالباطل، فلا يصدق عليه الرشوة حتّي يعمّه أدلّة الحرمة أخذاً و إعطاءً. غاية الأمر: أنّ امتناع القاضي عن الحكم بالحقّ بنفسه معصية. و أمّا المال فليس رشوة حتّي يكون حراماً من هذا الباب.

و احتمال صحّة تفسير المذكور كافٍ في عدم حجّية عموم أدلّة الرشوة؛ إذ صدقه حينئذٍ مشكوك، و التمسّك به من قبيل التمسّك بالعامّ في الشبهة المفهومية.

و الجواب: أنّ الرشوة و إن فسّرت بخصوص ما يعطي للحكم بالباطل، إلّا أنّه لا يبعد إلغاء الخصوصية عرفاً عن موردها إلي كلّ ما يعطي لأن يحكم بمقتضي إرادة المعطي، فيفهم العرف أنّ الشارع في تحريمه الرشوة إنّما هو بصدد إخراج الحكم عن الإناطة بما يعطي حتّي يتّبع القاضي الحقّ الصراح، لا مراد الراشي. و هذا كافٍ في سراية حكم الحرمة. و يطلق في العرف و إن لم يثبت كونه علي الحقيقة الرشوة علي مثله أيضاً. مضافاً إلي دلالة المرسل الآتي عن «الدعائم» أيضاً.

(24) وجه الجواز: أنّ القاضي في المفروض يحكم بالحقّ لو خلّي و طبعه، فلا يعمّه عنوان الرشوة؛ لا بنفسها و لا بإلغاء الخصوصية.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 41

و يجب علي المرتشي

إعادتها إلي صاحبها (25)؛ من غير فرق (26) في جميع ذلك بين أن يكون الرُّشي بعنوانه أو بعنوان الهبة أو الهدية أو البيع المحاباتي و نحو ذلك.

______________________________

و وجه الحرمة: إنّ إلغاء الخصوصية لا يختصّ بما إذا كان الإعطاء مؤثّراً بالفعل في القضاء، بل يعمّه و ما إذا كان له شأنية التأثير. و هذا قويّ. مضافاً إلي مرسل «دعائم الإسلام» عن الصادق عليه السلام

من أكل السحت، الرشوة في الحكم

، قيل: يا بن رسول اللّٰه: و إن حكم بالحقّ؟ قال عليه السلام

و إن حكم بالحقّ «1».

(25) فإنّ الرشوة إذا كانت محرّمة لم يملكها الآخذ و كان تصرّفه فيها حراماً، و قد كانت ملك المعطي و هي باقية علي ملكه و لو بحكم الاستصحاب، فلا ينجو الآخذ من معصية التصرّف إلّا بإعادتها إلي صاحبها.

(26) لفهم العرف و لو بإلغاء الخصوصية القطعية عموم الحرمة لكلّ ما كان بمنزلة إعطاء المال حاملًا للقاضي علي القضاء علي ما أراده الراشي.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 17: 353، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 42

[مسألة 7 قيل: من لا يقبل شهادته لشخص أو عليه لا ينفذ حكمه كذلك]

مسألة 7 قيل: من لا يقبل شهادته لشخص أو عليه لا ينفذ حكمه كذلك (27) كشهادة الولد علي والده (28) و الخصم علي خصمه (29). و الأقوي نفوذه (30) و إن قلنا بعدم قبول شهادته.

______________________________

(27) القائل هو المحقّق في «الشرائع»، فراجع كتاب القضاء المسألة الحادية عشرة من مسائل صفات القاضي.

(28) علي ما في مرسل الصدوق

لا تقبل شهادة الولد علي والده «1».

لكن الخبر لا حجّة فيه بعد إرساله، و لا سيّما أنّ الصدوق أيضاً عبّر عنه بقوله: «و في خبر آخر»، و لم يسنده إلي المعصوم جزماً و لم يستند إليه

في الفتوي.

(29) كما يدلّ عليه صحيحة الحلبي قال: سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام عمّا يردّ من الشهود؟ فقال

الظنين و المتّهم و الخصم «2».

و نحوها غيرها.

(30) فإنّه بعد ما كان واجداً لسائر الشرائط، يعمّه إطلاق مثل قوله عليه السلام في مقبولة عمر بن حنظلة

ينظران من كان منكم ممّن قد روي حديثنا. «3».

و لا دليل علي تقييد هذا الإطلاق؛ فإنّ عدم قبول الشهادة

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 369، كتاب الشهادات، الباب 26، الحديث 6.

(2) وسائل الشيعة 27: 374، كتاب الشهادات، الباب 30، الحديث 5.

(3) وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 43

[مسألة 8 لو رفع المتداعيان اختصامهما إلي فقيه جامع للشرائط]

مسألة 8 لو رفع المتداعيان اختصامهما إلي فقيه جامع للشرائط فنظر في الواقعة و حكم علي موازين القضاء لا يجوز لهما الرفع إلي حاكم آخر (31)،

______________________________

لا يلزمه عقلًا عدم نفوذ القضاء.

(31) عدم جواز الرفع إلي حاكم آخر قد يراد به عدم الجواز الوضعي؛ بمعني عدم ترتّب أثر علي الرفع إلي حاكم آخر، و قد يراد به حرمة الرفع إليه تكليفاً، و كلاهما صحيح في المقام.

و يدلّ عليهما قوله عليه السلام في مقبولة عمر بن حنظلة

ينظران من كان منكم ممّن قد روي حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً؛ فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّٰه و علينا ردّ، و الرادّ علينا الرادّ علي اللّٰه، و هو علي حدّ الشرك باللّٰه.

فإنّه عليه السلام قد جعل الراوي العارف بالأحكام حاكماً و قاضياً. ثمّ إذا قضي بحكمهم فأوجب قبوله.

و ظاهر: أنّ المراد من الحكم بحكمهم هو الفحص و الدقّة الكاملة عن

الموضوع و حكمه في الشريعة، ثمّ القضاء و إنشاء الحكم الشرعي بمقتضي دقّته و نظره عليه. و هذا هو الذي عبّر عنه سيّدنا الأُستاذ دام ظلّه في المتن بقوله: «فنظر في الواقعة و حكم علي موازين القضاء».

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 44

______________________________

فهذا النظر و الحكم علي الموازين هو الحكم بحكمهم؛ بمعني كونه طريقاً عقلائياً و حجّة شرعية علي حكمهم. فإذا حكم بحكمهم وجب علي كلّ أحد قبوله، و عدم قبوله و ردّه و الاستخفاف به استخفاف بحكم اللّٰه و بمنزلة الردّ علي اللّٰه و في حدّ الشرك باللّٰه، و هذا معني نفوذه.

و إطلاق هذا النفوذ لما إذا رفعوا إلي حاكم آخر بعد ما حكم القاضي الأوّل، هو معني عدم نفوذ الرفع إلي الثاني وضعاً. كما أنّ الرفع إلي الثاني لمّا كان استخفافاً و عدم قبول عملياً لحكم الأوّل كان حراماً و في حدّ الشرك باللّٰه.

كما يدلّ علي عدم ترتّب الأثر للرفع إلي الثاني إطلاق الأدلّة الواردة في كيفية القضاء، حيث يفهم منها قطعاً: أنّه إذا وقع القضاء علي موازينه فمقتضاه ثابت إلي الأبد و للتالي، و هو لا يكون إلّا بعدم ترتّب الأثر علي الرفع إلي القضاة بعده.

و هذا الإطلاق موجود في جميع هذه الأدلّة، و هي كثيرة نذكر شطراً منها:

ففي صحيح محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام: في الرجل يدّعي و لا بيّنة له؟ قال

يستحلفه، فإن ردّ اليمين علي صاحب الحقّ فلم يحلف فلا حقّ له «1»

؛ فإنّ المفهوم منه: أنّه إذا لم يحلف المدّعي بعد ردّ اليمين

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 241، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 45

و ليس

للحاكم الثاني النظر فيه و نقضه (32)،

______________________________

عليه من المدّعيٰ عليه، حكم القاضي بأنّه لا حقّ له، و مفاده: أنّه لا حقّ له أبداً و إن رفع إلي القاضي الآخر، بل و إن رضي بعداً بأن يحلف، بل و إن أقام بيّنة علي حقّه.

فيعلم منه و من أمثاله: أنّ وضع القضاء في الشريعة علي فصل الخصومة و قطع النزاع به، و ليس للمتخاصمين و لا لأحدهما جرّ النزاع و رفعه من مجلس إلي مجلس آخر، و من عند قاضٍ إلي قاضٍ آخر.

ثمّ إنّ الظاهر من المقبولة و من هذه الأخبار أيضاً: أنّ ما تضمّنته من الحكم الوضعي و التكليفي حكم للقضاء الإسلامي و الحكومة الشرعية، فلو خصّصنا بعض الشرائط كالاجتهاد و العدالة المطلقين بزمن الإمكان، و قلنا بعدم اعتبارهما في القاضي عند الضرورة، فإذا قضي القاضي المنصوب للقضاء غير المجتهد علي موازين القضاء وجب قبوله بحكم المقبولة و سائر الأدلّة؛ فإنّها و لا سيّما غير المقبولة وردت في بيان كيفية القضاء و لازم الحكومة في الشرع الإسلامي.

(32) فلا يجوز له نقض حكم الأوّل تكليفاً، و لا أثر لنقضه وضعاً لو نقضه لجهله بالواقعة. و الدليل عليه أيضاً هو ما مرّ من إطلاق المقبولة و سائر الأدلّة؛ فإنّ وجوب القبول و نفوذ القضاء عامّ بالنسبة إلي جميع الناس. مضافاً إلي أنّ أدلّة نفوذ القضاء لا تشمل قضاء القاضي الثاني من

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 46

بل لو تراضي الخصمان علي ذلك فالمتّجه عدم الجواز (33). نعم لو ادّعي أحد الخصمين: بأنّ الحاكم الأوّل لم يكن جامعاً للشرائط كأن ادّعي عدم اجتهاده أو عدالته حال القضاء كانت مسموعة (34) يجوز للحاكم الثاني النظر فيها،

______________________________

وجه آخر، و

هو: أنّ ظاهر الأدلّة الحاكمة بنفوذ القضاء أنّها واردة في المخاصمات التي حدثت بين المتخاصمين و لم تعالج بعد بشي ء، و هي منصرفة قطعاً عن التخاصم الذي عولج بعلاج شرعي.

(33) للإطلاقات المتقدّمة.

(34) قد استثني دام ظلّه عن قطعية حكم القاضي الأوّل موردين، هذا أوّلهما.

و الوجه فيه: أنّ الخصم إذا ادّعي عدم اجتماع شرائط القضاء في قاضيه الأوّل، فهذه الدعوي لمّا كان في ثبوتها نفع له، و كانت إذا ثبتت و ظهر صدقه فيها انكشف أنّ حكم القاضي الأوّل لم يؤثّر من أوّل الأمر شيئاً إذ لم يكن داخلًا في عموم أدلّة نفوذ الحكم؛ لفرض ظهور أنّه لم يكن واجداً لجميع الشرائط المعتبرة، فهذه الدعوي المطروحة لدي الحاكم مسموعة، ينظر القاضي الثاني الواجد لشرائط القضاء فيها، فإذا تبيّن له صحّتها يحكم ببطلان و لا مؤثّرية حكم الأوّل، و بعد ذلك ينظر في مورد نزاعه مع خصمه و يحكم علي موازين القضاء.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 47

فإذا ثبت عدم صلوحه للقضاء نقض حكمه، كما يجوز النقض لو كان مخالفاً لضروري الفقه (35)؛ بحيث لو تنبّه الأوّل يرجع بمجرّده لظهور غفلته، و أمّا النقض فيما يكون نظرياً اجتهادياً فلا يجوز، و لا تسمع دعوي المدّعي و لو ادّعي خطأه في اجتهاده.

______________________________

(35) هذا هو المورد الثاني؛ و ذلك أنّ قضاء القاضي و إن كان كما عرفت محكوماً عليه بوجوب القبول و حرمة الردّ و النقض و بالنفوذ علي كلّ أحد، لكن مع ذلك فهو طريق و حجّة شرعية إلي الواقع المحكوم به، فهو جزء الموضوع، و جزؤه الآخر نفس الواقع.

و يدلّ عليه مضافاً إلي ارتكاز العرف عليه قوله تعالي وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ

فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ «1»؛ فإنّه يدلّ علي أنّ قيمة الحكم إنّما هي بأن يكون حكماً بما أنزل اللّٰه و طبقاً للواقع الذي حكم اللّٰه به، فكما أنّ اللّٰه تعالي حكم بأنّ ما ورّثه مورّث زيد فهو ملك له، و كذا ما اشتراه بالشراء الصحيح، كذلك يجب أن يكون القاضي حاكماً بذلك، فلو تخلّف عنه فقد حكم بغير ما أنزل اللّٰه، فليس نافذاً.

فالجمع عرفاً بين نفوذ حكم القاضي، و بين كون المدار علي الواقع إنّما هو بطريقية حكم القاضي إلي الواقع.

و يدلّ عليه أيضاً صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم: إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان، و بعضكم ألحن

______________________________

(1) المائدة (5): 44.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 48

______________________________

بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار «1».

فإنّه صلي الله عليه و آله و سلم صرّح بأنّ قضاءه إذا خالف الواقع لم ينقلب الواقع عمّا هو عليه، و إذا قطع بقضائه بمقتضي موازين القضاء من مال رجل شيئاً و حكم به لغيره، فهو لا يصير ملكاً لهذا الغير، و لا حلالًا له، بل يكون حراماً كما كان و يكون قطعة من النار. فالصحيحة شاهد قوي علي ما قلنا من كون القضاء جزءً للموضوع لا تمامه.

إلّا أنّه مع ذلك فلا ريب في وجوب ترتيب آثار الواقع عليه، فهو حجّة علي الواقع و طريق إليه بالنسبة إلي كلّ أحد ما لم يعلم خلافه، فإذا علم خلافه بالضرورة الواضحة لكلّ عالم بالقضاء و موازينه حتّي أنّه لا يري وجه لقضاء القاضي الأوّل إلّا غفلته، بحيث

لو تنبّه لرجع عن قضائه و رفع اليد عنه فليس حجّة و طريقاً هنا، و لا قيمة له شرعاً، و يجوز نقضه، بل هو غير مبرم بنفسه.

و ممّا ذكرنا تعرف: أنّه لا فرق في وضوح هذا الخلاف بين أن يكون خلافاً في كيفية القضاء، و أن يكون في ما حكم به. فكما يجوز النقض في ما حكم بمساواة الابن و البنت في الميراث من الأب، كذلك يجوز فيما حكم بيمين المدّعي ابتداءً و لم يلتفت إلي أنّ اليمين علي من أنكر.

نعم، إذا لم يعلم كونه خلافاً علماً ضرورياً لكلّ أحد، بل علم بأنّه خلاف بمقتضي اجتهاد من القاضي الثاني موضوعاً أو حكماً علي خلاف

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 232، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 2، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 49

______________________________

اجتهاد الأوّل، فلا يجوز حينئذٍ نقضه؛ إذ حكم القاضي الأوّل و الثاني عند غير القاضي الثاني سيّان في تطرّق احتمال خلاف الواقع في كلّ منهما. و حكم الأوّل لمّا كان في تخاصم بدوي فهو مشمول لأدلّة النفوذ و وجوب الاتّباع، بخلاف حكم الثاني. و هذا لا ينافي طريقية الحكم إلي الواقع؛ فإنّ تلك الطريقية إنّما هي للحكم المشروع، و هاهنا حكم الثاني لا مشروعية له كما عرفت بخلاف حكم القاضي الأوّل.

نعم، من يعلم بكون الحكم خلاف الواقع لا يجوز له ترتيب الواقع عليه، كما هو كذلك في كلّ طريق. و يدلّ عليه مضافاً إليه صحيحة هشام بن الحكم الماضية؛ فإنّ المحكوم له نفسه يعلم بأنّ حكمه صلي الله عليه و آله و سلم مبنيّ علي الظاهر دون الواقع، و إلّا فالناس غير عالمين به، بل هم يرتّبون علي قضائه صلي الله

عليه و آله و سلم هذا أثراً يرتّبونه علي سائر قضاياه، و مع ذلك فالعالم بالخلاف لا يجب، بل لا يجوز له ترتيب الأثر، و يكون ما قطع له من مال أخيه قطعة من النار له.

و ممّا ذكرنا تعرف: أنّ القاضي إذا تبيّن له خطأ نفسه في قضائه السابق، يجوز بل يجب له نقض حكمه السابق؛ إذ بعد ما علم نفسه بأنّ قضاءه كان قضاءً بغير ما أنزل اللّٰه، فلا محالة لا يمكن له أن يقضي القضاء السابق و يعتقد ببقائه، فلا يمكن أن يحكم بوجوده في عالم الاعتبار بعد ما كان المفروض أنّه خلاف ما أنزل اللّٰه.

و لا ريب في أنّ ترتّب الأثر علي قضائه إنّما هو إذا كان قضاؤه موجوداً في عالم الاعتبار حتّي يكون مشمولًا لأدلّة النفوذ، و يكون طريقاً فعلياً للناس إلي ما حكم به، فهو نفسه يعلم أن لا حكم و لا قضاء شرعياً

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 50

[مسألة 9 لو افتقر الحاكم إلي مترجم لسماع الدعوي]

مسألة 9 لو افتقر الحاكم إلي مترجم لسماع الدعوي أو جواب المدّعي عليه أو الشهادة، يعتبر أن يكون شاهدين عدلين (36).

______________________________

يستند إليه المحكوم له، و إن كان المحكوم له يتخيّل وجوده.

فكلّ عمل يقع منه خلاف الشرع فهو مستند إلي حكم القاضي، و هو مسؤوله، فيجب عليه نقضه؛ دفعاً لوقوع الخلاف و المعصية.

و بعبارة اخري: بعد ما عرفت أنّ القضاء طريق معتبر شرعي إلي المقضي به، فيكون حال القاضي العالم بخطإ نفسه في قضائه السابق، حال المخبر الذي ينكشف له كذبه في خبره الذي أخبر به سابقاً؛ فإنّ خبره لمّا كان طريقاً محضاً لكلّ ما يقع من خلاف الشرع مستنداً إلي خبره الكذب، يكون هو مسؤولًا عنه و معاقباً

عليه إذا علم بكذب خبره؛ إذ الواقع لم ينقلب بقيام الطريق عمّا هو عليه، و هو السبب في وقوع هذا الخلاف و المعصية، و يمكنه دفعه في الآتي، فلا نجاة له من تبعات خبره المكذوب إلّا إذا أعلم الناس بكذب خبره، فكذلك القاضي حرفاً بحرف.

(36) أقول: مقتضي أدلّة حجّية خبر الثقة، و لا سيّما بناء العقلاء الذي هو عمدتها الاكتفاء بخبر الواحد الثقة، لعدم الفرق في بنائهم بين الأحكام و الموضوعات، و لا بين ما يتعلّق تعلّقاً ما بباب القضاء و غيره.

و لا دليل علي تقييد أو تخصيصها في الموضوعات حتّي لا يكتفي فيها إلّا بالبيّنة سوي وجوه:

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 51

______________________________

منها: موثّقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام

كلّ شي ء هو لك حلال حتّي تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قِبل نفسك.

إلي أن قال

و الأشياء كلّها علي هذا حتّي يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة «1»

ببيان: أنّ المراد بأنّ

الأشياء كلّها علي هذا

أنّ جميع الأشياء ثابت علي مقتضي القاعدة و الأصل الجاري موردها، إلّا إذا استبان بالعلم خلافه أو قامت البيّنة علي خلافه. فتدلّ الموثّقة علي عدم ثبوت أيّ موضوع كان، إلّا بالعلم أو بالبيّنة.

ففي موضوع البحث: كما أنّه قبل الترجمة لم يقم الشاهدان عند الحاكم، فكان يحكم لو كان يتصدّي للقضاء قبلها علي الموازين المرعية في موارد عدم قيام البيّنة، فهكذا لو ترجمه عدل واحد أو ثقتان غير عدلين، أو عدل و ثقة؛ إذ في جميع الصور مشترك في صدق عنوان عدم قيام البيّنة، هذا.

و لكن ليس ببعيد أن يقال: إنّ صدر الحديث وارد في بيان أصالة الحلّ، و بعد ذكر أمثلة لها كرّر ذلك الأصل

المذكور أوّلًا بصورته الكلّية، و أنّه لا يختصّ قاعدة الحلّ بخصوص الأمثلة المذكورة، بل تجري في جميع الأشياء، و زاد علي الصدر بأن أوضح المراد بالغاية و أنّه يعمّ العلم و البيّنة كليهما.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 4، الحديث 4.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 52

______________________________

فحاصل الموثّقة: أنّه لا يثبت حرمة موضوع جزئي خارجي إلّا بالعلم أو البيّنة، فلا يكفي خبر الثقة أو الثقتين أو الأكثر في إثبات حرمته ما لم يكونا عدلين، و لا ملازمة بين توقّف ثبوت الموضوعات الجزئية المحكومة بالحرمة علي البيّنة، و توقّف ثبوت أيّ موضوع خارجي عليها. فلعلّ الشارع تسهيلًا علي الأُمّة حكم بتوقّف ثبوت خصوص الحرمة في الموضوعات الجزئية علي البيّنة، دون الحلّية و سائر الأحكام و الموضوعات.

و منه تعرف الكلام في قوله عليه السلام

كلّ شي ء لك حلال حتّي يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه الميتة «1»

بياناً و جواباً. مضافاً إلي أنّ قوله في الذيل

يشهدان أنّ فيه الميتة

قرينة علي أنّ المراد بعموم الصدر خاصّ بمثل الجبن و نحوه ممّا يجعل فيه الميتة.

و منها: ما عن الرضا عليه السلام في حديث علل الفضل في بيان علّة الأذان

أصل الإيمان إنّما هو الشهادتان؛ فجعل الأذان شهادتين شهادتين، كما جعل في سائر الحقوق شاهدان «2»

ببيان: أنّ قوله عليه السلام

كما جعل في سائر الحقوق شاهدان

يدلّ علي مفروغية أنّ ثبوت كلّ حقّ لا يكون إلّا بشاهدين، فلو اعتمدنا في الترجمة المتوقّف عليها القضاء بشاهد واحد مثلًا لكنّا أثبتنا هذا الحقّ بغير شاهدين، و هو خلاف المفروغية المذكورة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 25: 118، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، الباب 61، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة 27: 237، كتاب

القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 5، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 53

______________________________

و فيه: أنّه لا يبعد استظهار أن يكون قوله عليه السلام هذا إشارة إلي ما هو المفروغ؛ من توقّف ثبوت كلّ حقّ وقع محلّا للنزاع علي قيام البيّنة عليه، فلا يجوز القضاء بثبوت مورد النزاع إلّا بالبيّنة علي ثبوته، و هو لا يلازم توقّف القضاء علي أن يثبت جميع الموضوعات الدخيلة في القضاء أيضاً بالبيّنة.

و نحوه استدلالًا و استشكالًا قوله عليه السلام فيما كتب في جواب مسائل محمّد بن سنان

و العلّة في شهادة أربعة في الزنا و اثنتين في سائر الحقوق لشدّة حدّ المحصن؛ لأنّ فيه القتل، فجعل فيه الشهادة مضاعفة مغلّظة لما فيه من قتل نفسه و ذهاب نسب ولده لفساد الميراث «1».

بل الاكتفاء قطعاً بالبيّنة في ثبوت سائر ما يتوقّف القضاء عليه في الزنا و عدم اعتبار شهادة الأربعة في جميع ما يتوقّف عليه، شاهد علي ما استظهرناه.

و منه تعرف الكلام في قوله صلي الله عليه و آله و سلم

إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان «2»

استدلالًا و جواباً.

و منها: أن يقال: إنّ توقّف ثبوت الموضوعات المتنازع فيها في باب القضاء علي البيّنة يوجب انصراف أدلّة حجّية خبر الثقة الواحد إلي غير باب القضاء.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 238، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 5، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة 27: 232، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 2، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 54

______________________________

لكن فيه: أنّه لو سلّم الانصراف فإنّما هو في الأدلّة اللفظية. و أمّا البناء العملي للعقلاء الذي هو عمدة أدلّة الحجّية فليس له لفظ حتّي يدّعي انصرافه. و لا شكّ في ثبوت

بنائهم علي الحجّية في موارد يتوقّف عليه القضاء أيضاً.

فممّا ذكرنا تعرف: أنّه لا وجه لاعتبار الشاهدين العدلين في الترجمة و نحوها من الموضوعات التي لها مدخلية في حكم القضاء، إلّا دعوي استفادة قاعدة اصطيادية من الأخبار، هي: «توقّف ثبوت مورد القضاء و سائر الموضوعات المربوطة به علي قيام البيّنة»، و هي مشكلة، بل ممنوعة.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 55

[القول في صفات القاضي و ما يناسب ذلك]

اشارة

القول في صفات القاضي (1) و ما يناسب ذلك

______________________________

(1) قد عرفت ذيل المسألة الاولي من مسائل الكتاب: أنّ مقتضي الأُصول و القواعد عدم نفوذ قضاء أحد وضعاً و حرمته تكليفاً ما لم يثبت جوازه بإذن أو نصب منهم عليهم السلام عامّ أو خاصّ، فتذكّر، فكلّ من الشروط المذكورة الذي لم نجد دليلًا علي عدم اعتباره في القاضي و احتملنا اعتباره فيه، كان مقتضي القاعدة اعتباره.

و الأدلّة المجوّزة للقضاء لغير المعصومين عليهم السلام التي يمكن دعوي استفادة قاعدة ثانوية منها هي أخبار ثلاثة أو أربعة:

منها: معتبرة أبي خديجة قال: قال الصادق عليه السلام

إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلي أهل الجور، و لكن انظروا إلي رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا، فاجعلوه بينكم؛ فإنّي قد جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 13، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 5.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 56

______________________________

و منها: معتبره الآخر قال: بعثني أبو عبد اللّٰه عليه السلام إلي أصحابنا، فقال

قل لهم: إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداري في شي ء من الأخذ و العطاء، أن تحاكموا إلي أحد من هؤلاء الفسّاق، اجعلوا بينكم رجلًا قد عرف حلالنا و حرامنا؛ فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً، و إيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلي

السلطان الجائر «1».

و منها: ما في مقبولة عمر بن حنظلة عن الصادق عليه السلام فإنّه عليه السلام بعد ما حرّم الترافع إلي حكّام الجور سأله الراوي: فكيف يصنعان؟ قال

ينظران من كان منكم ممّن قد روي حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً؛ فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً «2».

و هذه الرواية أيضاً معتبرة بمقبوليتها بين الأصحاب.

فالأحاديث الثلاثة كما تري بعد المنع عن الترافع إلي حكّام الجور بتعابير مختلفة، في مقام ذكر بيان طريق كلّي و قاعدة كلّية لشيعتهم في أمر مرافعاتهم، فلا بدّ و أن يكون مفادها مدار الجواز في قضائهم.

و أمّا التوقيع الشريف المروي في جواب مسائل إسحاق بن يعقوب عن خطّ مولانا صاحب الزمان عجّل اللّٰه تعالي فرجه الشريف من قوله عليه السلام

و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلي رواة حديثنا؛ فإنّهم

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 139، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6.

(2) وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 57

______________________________

حجّتي عليكم و أنا حجّة اللّٰه (عليهم خ) «1».

فيشكل استفادة قاعدة كلّية منه في باب القضاء؛ فإنّ تقريب دلالته: أنّ «الحوادث» جمع الحادثة، و هي كلّ أمر جديد يحتاج بيان الحال فيه إلي مرجع؛ سواء كانت قضية كلّية لم يعلم حكمها بعد كالعقود الحادثة في زماننا مثل التأمين و السرقفلية و نحوها أم كانت قضية جزئية و اختصاماً جزئياً بين متخاصمين لم يقض فيه بعد، فكلتا القضيتين من الحوادث الواقعة يجب الرجوع فيهما إلي رواة الحديث، و قولهم رواية أو قضاءً حجّة علينا.

لكن فيه: أنّ التعبير عن هذا المرجع بقوله عليه السلام

رواة حديثنا

قرينة

علي أنّ المراد ب «الحوادث» هي الأُمور الكلّية الحادثة التي لم يعرف حكمها بعد، فإنّ راوي الحديث بما أنّه راوي الحديث إنّما ينقل و يحكي الحديث، فلا محالة تكون الحادثة أمراً يتّضح حالها بمجرّد النقل و الحكاية، و هي لا تكون إلّا الحوادث الكلّية، لا المنازعات الجزئية التي لا يتمّ أمرها إلّا بقضاء القاضي فيها علاوةً علي بيان حكمها الكلّي.

إن قلت: نعم، لكن قوله في مقام بيان سرّ اعتبار روايتهم

فإنّهم حجّتي

دليل علي التعميم، لا سيّما مع تعقيبه بقوله عليه السلام

و أنا حجّة اللّٰه

؛ و ذلك أنّ مقتضي كون الرواة حجّته، أن يكون قضاؤهم كقولهم حجّة، و كما أنّ كونه عليه السلام حجّة اللّٰه علي الناس لا يختصّ بنقله بل هو حجّة اللّٰه في نقله

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 140، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 58

______________________________

و قضائه فكذلك رواة حديثهم حجّة في نقلهم و قضائهم.

قلت: بعد ظهور الصدر كما عرفت في الحوادث الكلّية التي يحتاج إلي معرفة حكمها الكلّي، و في حجّية قول الرواة في نقل حكمها عنهم، فلا محالة لا إطلاق لقوله عليه السلام

فإنّهم حجّتي

، بل يكون ظاهراً في أنّهم حجّته في هذا النقل و الرواية، لا و في القضاء و فصل الخصومة.

و بالجملة: فاستفادة قاعدة كلّية في باب القضاء من التوقيع مشكل جدّاً، بل ممنوع.

و مثله صحيحة الحلبي قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: ربّما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشي ء، فيتراضيان برجل منّا؟ فقال

ليس هو ذاك، إنّما هو الذي يجبر الناس علي حكمه بالسيف و السوط «1»

؛ فإنّه يتوهّم دلالتها علي جواز الترافع إلي كلّ رجل من شيعتهم، فتدلّ علي

قاعدة كلّية.

لكنّه مندفع بأنّه لم يعلم كونه عليه السلام في مقام إعطاء ضابطة كلّية، بل كان في ذهن السائل عدم جواز الرجوع إلّا إلي قاضٍ خاصّ، فلعلّه سمع قولهم عليه السلام

اتّقوا الحكومة؛ فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين «2»

، ففهم منه عدم جواز القضاء لغير المعصوم، و أنّ التحاكم إلي غيره يكون من التحاكم إلي الطاغوت، الذي أُمر أن يكفر به،

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 15، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 8.

(2) وسائل الشيعة 27: 17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 59

[مسألة 1- ما يشترط في القاضي]

مسألة 1- يشترط في القاضي: البلوغ (1)،

______________________________

فسأله عن أنّ الترافع إلي الرجل من الأصحاب أيضاً ممنوع؟ فأجاب هو عليه السلام بأنّه

ليس هو ذاك

، بل القاضي الذي منع عن الترافع إليه

إنّما هو الذي يجبر الناس علي حكمه بالسيف و السوط

يعني: يكون منصوباً من ناحية السلطان الجائر.

فحاصل السؤال و الجواب: أنّ الترافع إلي رجال الشيعة ليس محكوماً بالمنع و الحرمة. و أمّا أنّه يجوز الترافع إلي كلّ رجل رجل منهم فليس في مقام البيان سؤالًا و جواباً.

فتلخّص: أنّ المستند في استفادة القاعدة الكلّية هو معتبرا أبي خديجة و مقبولة عمر بن حنظلة.

(1) و ذلك لأخذ عنوان الرجل في معتبري أبي خديجة، و هو لا يصدق علي غير البالغ. و المقبولة و إن لم تأخذ هذا العنوان إلّا أنّه منصرف عن الصبي، و لا سيّما أنّ تحقّق الاجتهاد المطلق الذي تضمّنته المقبولة لا يكون عادة و غالباً في الصبي.

فالحاصل: أنّ الجواز لم يثبت إلّا في الرجل، فقضاء الصبي باقٍ علي مقتضي قاعدة عدم النفوذ.

و أمّا حديث رفع القلم عن

الصبي و عدم جري القلم عليه حتّي يحتلم «1»، فهو إنّما ينفي ما في ثبوته كلفة عليه من التكاليف و الإلزامات.

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة 1: 42، كتاب الطهارة، أبواب العبادات، الباب 4.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 60

و العقل (2)، و الإيمان (3)،

______________________________

و لا ينافي نفوذ قضائه قبل احتلامه، بل يقتضي ارتفاع حرمة القضاء المستفادة من قوله عليه السلام

اتّقوا الحكومة

عنه. فالعمدة ما ذكرناه، و لعلّه الوجه في فتوي الأصحاب باشتراط البلوغ.

(2) لانصراف أدلّة الجواز إلي العاقل حين القضاء بلا إشكال، فيبقي غيره تحت أصالة عدم النفوذ. و أمّا حديث الرفع فلا يقتضي فيه أيضاً شيئاً، كما عرفت.

(3) لتقييد الجواز في معتبر أبي خديجة و مقبولة ابن حنظلة بقوله عليه السلام

منكم

أي: من الشيعة الإمامية و تابعي الأئمّة عليهم السلام. و يساوقه العنوان المأخوذ في المعتبر الآخر لأبي خديجة؛ أعني قوله

رجلًا قد عرف حلالنا و حرامنا

؛ فإنّ من كان لا سيّما في ذلك الزمان قد عرف حلالهم و حرامهم فلا يكون إلّا من أصحابهم، و لا أقلّ من عدم انعقاد الإطلاق في غير شيعتهم، فيبقي غيرهم تحت أصل الحرمة و عدم النفوذ.

نعم، الإنصاف: قوّة احتمال أن يكون التقييد بكونه من الشيعة إنّما هو لمجرّد أن يكون عارفاً بأحكامهم حتّي يقع القضاء أيضاً بأحكامهم، و يكتفي بغير الشيعي العارف بالأحكام، لكنّه مجرّد احتمال لا حجّة فيه قبال إطلاق الحرمة و أصالة عدم النفوذ.

ثمّ إنّ الظاهر من عنوان

منكم

هو من كان تابعاً لمذهب الحقّ، لا من كان معتقداً بإمامة الصادق عليه السلام و إن لم يكن اثني عشرياً؛ فإنّ العنوان

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 61

و العدالة (4)،

______________________________

المذكور إشارة إلي الإمامي الذي تبع الحقّ و لم

ينحرف عنه، فمصداقه في زمانه عليه السلام هو القائل بإمامته و إمامة من سبقه من الأئمّة عليهم السلام، و في زماننا الإمامي الاثنا عشري، كما لا يخفي.

(4) ادّعي علي اعتبارها عدم الخلاف بل الإجماع، و فسّرت بملكة الاجتناب عن الكبائر، التي منها الإصرار علي الصغائر.

و الحقّ: أنّ العدالة في القضاء بمعني رعاية جانب الحقّ بحيث يكون القاضي بصدد إحقاق الحقّ لا ريب في اعتبارها؛ إذ العدالة بهذا المعني و المقدار ممّا يعتبرونه العقلاء في القاضي بينهم، فيكون إطلاق الأدلّة المجوّزة منصرفاً إليه غير شامل لمن يجور في قضائه، فيبقي غير العادل في القضاء تحت قاعدة الحرمة و أصالة عدم النفوذ.

و أمّا العدالة المطلقة المفسّرة بملكة الاجتناب عن الكبائر فليس علي اعتبارها دليل قوي؛ إذ ما يمكن الاستدلال به لاعتبارها وجوه:

منها: قول الصادق عليه السلام في معتبر أبي خديجة الماضي

إيّاكم. أن تحاكموا إلي أحد من هؤلاء الفسّاق «1».

بتقريب: أنّ التحذير و إن وقع عن خصوص المشار إليهم بهؤلاء، إلّا أنّ توصيفهم بالفسق دليل علي أنّ سرّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 139، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 62

______________________________

هذا التحذير و المنع عن الرجوع إليهم إنّما هو صفة الفسق، و الفسق مقابل العدالة و ضدّها؛ فلا بدّ من اعتبارها.

و فيه: أنّ الفسق لغة هو الخروج، كما يقال: فَسَق الرطب، إذا خرج عن قشره. و الفاسق بقول مطلق ظاهر في الخارج عن طاعة اللّٰه؛ إمّا بالكفر و إمّا بعدم المبالاة في الدين.

و لذلك تري إطلاقه في الكتاب العزيز علي الكفّار و من يتلو تلوهم؛ قال تعالي أَ فَمَنْ كٰانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كٰانَ فٰاسِقاً «1»، و قال وَ أَمَّا الَّذِينَ

فَسَقُوا فَمَأْوٰاهُمُ النّٰارُ «2»، و قال تعالي كَذٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَي الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لٰا يُؤْمِنُونَ «3»، إلي غير ذلك من الآيات.

فإطلاق الفسّاق علي المشار إليهم في الحديث لعلّه بعناية كونهم عمدوا إلي أعظم ركن من الإسلام أعني الولاية فتركوه و ظاهروا علي إطفاء نور اللّٰه، و اعتمدوا إلي الولاة الفجرة، و اتّبعوا أهواءهم.

فلا يدلّ علي اعتبار أزيد من العدالة حال القضاء في القاضي الذي لم ينحرف عن طريقتهم و كان من شيعتهم.

و منها: قوله عليه السلام في صحيح سليمان بن خالد

اتّقوا الحكومة؛ فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين «4»

بتقريب:

______________________________

(1) السجدة (32): 18.

(2) السجدة (32): 20.

(3) يونس (10): 33.

(4) وسائل الشيعة 27: 17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 63

______________________________

أنّ توصيف الإمام القاضي بكونه عادلًا، دالّ عرفاً علي سرّ الاختصاص، فيدلّ علي اعتبار العدالة في القاضي و إن كان غير الإمام عليه السلام.

و فيه: أنّ غاية الأمر أنّ الحديث إنّما يدلّ علي اعتبار أن يكون القاضي عادلًا في المسلمين، و هو عبارة أُخري عن العدالة في القضاء لا يظلم و لا يحيف، فالعدالة المذكورة تكون من قبيل العدالة المذكورة في قوله تعالي فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّٰا تَعْدِلُوا فَوٰاحِدَةً «1»، و قوله تعالي وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ «2»؛ فإنّه لا ريب في إرادة العمل بين الزوجين أو الناس، علي السواء في رعاية حقوقهم و عدم إيراد الظلم عليهم.

و منها: أنّ اعتبارها في إمام الجماعة و الشاهد يدلّ علي اعتبارها في القاضي الذي هو أمين اللّٰه علي نفوس الناس و أموالهم و أعراضهم بطريق أولي.

و أنت تعلم بأنّ اعتبار العدالة بمعني الملكة في

إمام الجماعة الذي هو شفيع عند اللّٰه في العبادة علي ما في الأخبار لا دليل فيه علي اعتبارها في القاضي الذي ليس عمله منوطاً بقصد القربة.

نعم، اعتبارها في الشاهد يمكن أن يحصل منه القطع باعتبارها في القاضي؛ لاستبعاد اعتبارها في الشاهد الذي يستند إلي شهادته في القضاء، و عدم اعتبارها في الحاكم الذي هو أعلي مرتبةً من الشاهد، فعهدة القطع به

______________________________

(1) النساء (4): 3.

(2) الشوري (42): 15.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 64

و الاجتهاد المطلق (5)،

______________________________

علي مدّعيه. مع أنّه مبنيّ علي تسلّم اعتبار العدالة بهذا المعني في الشاهد. و التحقيق فيه موكول إلي محلّه.

(5) و الدليل علي اعتباره مقبولة عمر بن حنظلة؛ فإنّ عنوان

من كان منكم ممّن قد روي حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا «1»

لا ينطبق إلّا علي المجتهد المطلق؛ فإنّه اعتبر في القاضي بعد رواية حديثهم النظر في مفاده، و بعد النظر في مفاده عرفان الأحكام المقصودة منها المذكورة فيها، و هو عبارة أُخري عن الاجتهاد، و التعبير ب «حلالنا» و «حرامنا» و «أحكامنا» ظاهر في إرادة جميع حلالهم و حرامهم و أحكامهم، فيكون اجتهاداً مطلقاً.

و بالجملة: فالمقبولة ظاهرها اعتبار الاجتهاد المطلق، و به يقيّد إطلاق معتبر أبي خديجة الثاني

اجعلوا بينكم رجلًا قد عرف حلالنا و حرامنا «2»

؛ فإنّه و إن لم يدلّ بنفسه إلّا علي اعتبار العلم بالأحكام أعمّ من أن يكون بالاجتهاد أو التقليد، إلّا أنّ التقييد في المقبولة بما عرفت يوجب تقييد هذا الإطلاق بخصوص الاجتهاد.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 139، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6.

مباني تحرير الوسيلة

- القضاء و الشهادات، ص: 65

______________________________

و مثله معتبره الأوّل

انظروا إلي رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا، فاجعلوه بينكم «3»

، حيث لم يعتبر فيه سوي العلم بالقضاء، و إن كان بالتقليد. لكنّه يقيّد بالمقبولة بخصوص ما كان عن اجتهاد.

إن قلت: هذا التقييد في هذه المعتبرة غير ممكن؛ لكونها صريحة في عدم اعتبار الاجتهاد المطلق؛ فإنّه قد اعتبر في القاضي أن يعلم شيئاً من قضاياهم لا أن يعلم قضاياهم، فالعلم ببعض قضاياهم كافٍ في جواز تصدّي القضاء، و لا يعتبر العلم بجميع قضاياهم. و معلوم: أنّ العالم ببعض القضايا ليس مجتهداً مطلقاً.

قلت: إنّ القاضي لا بدّ له من العلم بكيفية القضاء مضافاً إلي العلم بالأحكام التي يحكم بها فلا بدّ له أن يعلم مثلًا أنّ في القضاء: البيّنة علي المدّعي و اليمين علي من أنكر، إلّا إذا ردّ اليمين علي مدّعيه، و أن يميّز المدّعي من المدّعيٰ عليه، و هكذا، كما لا بدّ له من العلم بأنّ القاتل عمداً يقتصّ منه بشرائطه، و القاتل شبه عمد يؤدّي الدية، و الدية أحد أُمور ستّة، و المؤدّي مخيّر في اختيار أيّ منها شاء حتّي يحكم بها بعد إعمال موازين القضاء و تميّز القاتل مثلًا، و لا ريب بحسب ارتكاز كلّ أحد: أنّ القاضي لا بدّ له أن يعلم بموازين القضاء و بالأحكام التي يقضي بها.

فالمقبولة و المعتبر الآخر لأبي خديجة يعمّان كلا العلمين؛ فإنّ جميعها من أحكامهم و حلالهم و حرامهم. و أمّا هذه المعتبرة فلم تصرّح باعتبار

______________________________

(3) وسائل الشيعة 27: 13، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 5.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 66

______________________________

العلم بالأحكام المقضيّ بها و لم تتعرّض له، و لعلّه لأوضحية

اعتباره، و إنّما صرّحت باعتبار أن يعلم شيئاً من قضاياهم، و ظاهره: أنّه إشارة إلي العلم بكيفية القضاء المراد منه و اللّٰه العالم أن يعلم موارد من قضائهم و يعرفها بمقدار يتمكّن من القضاء بقضائهم، فالعلم بهذه الموارد طريق و موجب للعلم بكيفية القضاء.

و ليس المراد العلم ببعض منها لا جميعها لكي ينافي الاجتهاد المطلق بل المراد العلم بكيفية قضائهم من طريق العلم بشي ء من قضائهم. و أمّا أنّ هذا العلم بكيفية القضاء حاصل عن اجتهاد أو تقليد، فالمعتبرة ساكتة عن تعيين الخصوصية، بل مطلقة شاملة لكلّ قسمي العلم، قابلة للتقييد بمقيّد، فتقيّد بمثل المقبولة، هذا.

و لقائل أن يقول: إنّ مقبولة عمر بن حنظلة و إن كانت متعرّضة لخصوص المجتهد فإنّه الذي روي حديثهم و نظر في حلالهم و حرامهم و عرف أحكامهم، و لا إطلاق لها يشمل غير المجتهد، إلّا أنّه لا يبعد دعوي أنّ المعيار و الملاك في جواز القضاء هو عرفان أحكامهم، و يكون رواية الحديث و النظر فيه طريقاً إلي حصول هذا العرفان؛ لكي يكون القضاء عن علم بأحكامهم الشاملة للأحكام الواردة في كيفية القضاء، و الأحكام التي يقضي بها علي الموضوعات فلا يعتبر سوي العلم بهذه الأحكام و إن كان عن تقليد، و هذا الاحتمال مطابق لارتكاز العرف في باب القضاء؛ إذ لا حاجة فيه إلي أزيد من العلم بموازين القضاء و الأحكام المقضيّ بها.

نعم، المقبولة و إن احتمل فيه ذلك، إلّا أنّها واردة علي خصوص

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 67

______________________________

المجتهد لا إطلاق لها يعمّ غيره. لكن معتبرا أبي خديجة قد اعتبر فيهما العلم بالحلال و الحرام و بموازين القضاء، و إطلاقهما محكّم. و بعد الاحتمال المذكور

في المقبولة لا ظهور لها في التقييد حتّي يقيّد بها المعتبرتان. و لعلّه الأظهر الأقوي.

و أنت تعلم بأنّه لا قيمة للإجماع المدّعيٰ علي اعتبار الاجتهاد، بعد احتمال ابتنائه علي الوجه الذي ذكرناه و عدم كشفه عن رأي المعصوم، و لا عن حجّة معتبرة قطعاً.

و ربّما يقال بالتفصيل بين القاضي المنصوب ابتداءً، و قاضي التحكيم و هو من يختاره المتدافعان و يرضيان بأن يكون ناظراً في نزاعهما بينهما باعتبار الاجتهاد المطلق في المنصوب، و عدم اعتبار الاجتهاد أصلًا في غيره.

ببيان: أنّ المقبولة و إن دلّت علي اعتبار الاجتهاد المطلق مطلقاً، إلّا أنّ معتبر أبي خديجة وارد في خصوص قاضي التحكيم، و ظاهره عدم اعتبار الاجتهاد فيه. و به يقيّد إطلاق المقبولة؛ و ذلك أنّ قوله عليه السلام في المعتبرة

انظروا إلي رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا، فاجعلوه بينكم؛ فإنّي قد جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه

، بلحاظ تعبير

يعلم شيئاً من قضايانا

و إن كان ظاهراً في عدم اعتبار الاجتهاد، إلّا أنّ قوله عليه السلام

فإنّي قد جعلته قاضياً

متفرّع علي قوله عليه السلام

فاجعلوه بينكم

، و هو القاضي المجعول من قِبل المتخاصمين، فمن جعله المتخاصمان حَكماً هو الذي جعله الإمام عليه السلام

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 68

______________________________

قاضياً؛ فلا دلالة فيها علي نصب القاضي ابتداءً «1»، هذا.

و فيه أوّلًا: أنّك عرفت عدم ظهور خاصّ له في عدم اعتبار الاجتهاد، بل هو أيضاً مطلق مثل معتبره الآخر.

و ثانياً: أنّه أيضاً ظاهر في نصب القاضي ابتداءً. و قوله عليه السلام

فإنّي قد جعلته قاضياً

بمنزلة التعليل للأمر بالرجوع في قوله

فاجعلوه بينكم

، فهو علّة للأمر بجعله بينكم و مذكور بعد الأمر بالجعل، لا أنّه مذكور بعد جعله قاضياً من ناحية المتخاصمين حتّي يتفرّع عليه.

فحاصل المراد:

أنّه يجب عليكم أن تجعلوه بينكم قاضياً؛ لأنّي أعطيته منصب القضاء و نصبتُه في هذا المنصب؛ و لذلك فهو عليه السلام بعد ما قال

فإنّي قد جعلته قاضياً

فرّع عليه قوله عليه السلام

فتحاكموا إليه

يعني: أنّه قاضٍ بنصبي، فعليكم الترافع إليه في الخصومات.

و الظاهر: أنّ صاحب مقالة التفصيل قد غفل عن هذا التفريع الأخير، و إلّا فلا يظنّ به عدم الالتفات إلي ما ذكرناه لو التفت إلي هذا التفريع.

و قد يستدلّ لهذا التفصيل أيضاً بإطلاق صحيحة الحلبي، قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: ربّما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشي ء، فيتراضيان برجل منّا؟ فقال

ليس هو ذاك.

الحديث «2». لكنّك قد عرفت عدم إطلاق لها، و عدم صلوحها للاستناد إليها.

______________________________

(1) مباني تكملة المنهاج 1: 8 9.

(2) وسائل الشيعة 27: 15، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 8.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 69

______________________________

و قد يستدلّ له أيضاً بإطلاق قوله تعالي إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِليٰ أَهْلِهٰا وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ. «1».

و أنت خبير بعدم الإطلاق للآية لكي تدلّ علي جواز تصدّي القضاء لكلّ من أراد، و إنّما الآية و أمثالها وردت في مقام إيجاب رعاية العدل في القضاء علي القاضي، كما لا يخفي.

ثمّ إنّه بناءً علي اعتبار الاجتهاد المطلق، هل يعتبر فعلية هذا الاجتهاد بأن كان المجتهد قد استخرج جميع الأحكام من أدلّتها حتّي يجوز له تصدّي القضاء، أم يكفي في جواز تصدّيه استخراج ما له دخل في قضائه و مورد حاجته فعلًا؟

و هذا البحث يجري بناءً علي الاكتفاء بمجرّد العلم بالأحكام و موازين القضاء و لو عن تقليد أيضاً؛ فهل يعتبر في جواز القضاء العلم و الإحاطة

الفعلية بجميع الأحكام الفرعية، أم يكفي الإحاطة و العلم الفعلي بخصوص الموضوعات التي هي مورد ابتلائه و موضوع المرافعات المطروحة لديه؟

قد يقال: بأنّ أخذ عنوان

عرف أحكامنا

و عنوان

عرف حلالنا و حرامنا

في المقبولة و إحدي المعتبرتين، ظاهر في عرفان جميع الأحكام؛ سواء قلنا باعتبار كونه عن اجتهاد، أم اكتفينا بكونه عن تقليد أيضاً؛ إذ الجمع أو المفرد المضاف إذا لم يرد به شي ء خاصّ يكون ظاهراً في جميع أفراد ذاك الجنس الذي أُضيف إلي هذا المضاف إليه، لكنّ الارتكاز العرفي

______________________________

(1) النساء (4): 58.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 70

و الذكورة (6)،

______________________________

و تناسب الحكم و الموضوع يقتضي اعتبار مجرّد اطلاع القاضي علي الأحكام المحتاج إليها في قضائه.

و لا يبعد أن يقال: إنّ قوله عليه السلام

عرف أحكامنا

و

عرف حلالنا و حرامنا

يراد منه اعتبار أن يكون القاضي عارفاً بأحكامهم لكي يكون قضاؤه في جميع الموارد علي طبق أحكامهم، و لا يفهم منه عرفاً اعتبار الإحاطة الفعلية اجتهاداً أو تقليداً لجميع الأحكام، و إنّما يفهم منه كون القاضي بحيث يقضي بأحكامهم و بحلالهم و حرامهم، فلو لم يعلم فعلًا و بحضور الذهن حتّي بحكم المنازعة المرفوعة و راجع المنابع الاجتهادية أو الفتوائية و علم بحكمها، لكفي في جواز التصدّي للقضاء، فضلًا عمّا إذا علم و أحاط فعلًا بحكم المنازعات، و إن كان غير عالم بحضور ذهنه بالنسبة إلي ما لا ربط له بالمخاصمات.

(6) لأخذ عنوان «الرجل» في المعتبرتين، و انصراف المقبولة عن النساء؛ فلا دليل علي جواز القضاء و نفوذه لهنّ. و قد عرفت: أنّ الأصل عدم نفوذه و حرمة تصدّيه. مضافاً إلي ورود النهي عن توليتهنّ للقضاء و نصبهنّ له في وصية النبي بقوله صلي الله عليه و آله

و سلم

و لا تولّي القضاء «1».

فالنهي عن نصبهنّ بهذا المقام و لا سيّما في صورة الخبر دليل علي عدم نفوذه شرعاً.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 16، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 2، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 71

و طهارة المولد (7)،

______________________________

لكن الرواية ضعيفة السند.

(7) فإنّ المنع عن قبول شهادة ولد الزنا و إمامته في الجماعة كما ورد في أخبار مستفيضة؛ منها: موثّقة زرارة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول

لو أنّ أربعة شهدوا عندي بالزنا علي رجل و فيهم ولد زنا، لحددتهم جميعاً؛ لأنّه لا تجوز شهادته، و لا يؤمّ الناس «1»

يدلّ علي المنع عن تصدّيه لمقام القضاء، و الحكم بين الناس بطريق أولي.

و ذلك أنّ ظاهر أدلّة المنع عن قبول شهادته و جواز إمامته أنّ نقصان ولادته و عدم طهارة مولده أوجب فيه ذلك و أسقطه عن الصلاحية لهما.

و لا ريب في أنّ الحكومة التي ليست أوّلًا و بالذات إلّا للنبي و وصيه كما في صحيحة سليمان بن خالد «2» أعلي رتبةً و أعظم منزلهً في الشريعة من كلّ من الشهادة و الإمامة بالناس، فإذا كان التولّد من الزنا موجباً لعدم صلاحية ولد الزنا لتصدّيهما، فبالأولوية القطعية تمنع عن تصدّي منصب القضاء.

مضافاً إلي إمكان دعوي انصراف إطلاق أدلّة الجواز عن ولد الزنا، و القاعدة مقتضية لعدم النفوذ و الحرمة كما عرفت و لعلّه لذلك كان اعتبار

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 376، كتاب الشهادات، الباب 31، الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة 27: 17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 72

و الأعلمية ممّن في البلد أو ما يقربه علي الأحوط (8)،

______________________________

طهارة مولد القاضي ممّا

لا خلاف فيه.

(8) لا دليل لفظي علي اعتبار الأعلمية. و ما يمكن الاستدلال به علي اعتبارها دعوي أنّ العقلاء يعتبرونها فيه و لا يرجعون إلي من كان أعلم منه موجوداً في البلد و ما يقرب منه ممّا لا يتعسّر الرفع إليه. و أدلّة الجواز منصرفة إلي هذا البناء العقلائي.

و فيه أوّلًا: المنع عن بنائهم قطعاً فيما كان الأعلم و غيره متساويين في الفتوي في المجتهدين أو في العلم بالفتوي في غيرهما في القضية المبتلي بها، بل نمنع بناءهم قطعاً فيما لم يعلم اختلافهم في الفتوي في القضية المبتلي بها.

نعم، في ما علم اختلافهما في الفتوي في خصوص تلك القضية فليس من البعيد دعوي بناء العقلاء علي الرجوع إلي الأعلم.

و ثانياً: أنّ الأعلمية بالأحكام و القوانين الكلّية لا تلازم الأعلمية في تميّز الموضوعات الجزئية المتنازع فيها، فربّما كان غير الأعلم في الفتاوي أعلم و أدقّ في تشخيص الموضوعات، و باب القضاء باب تميّز الموضوعات المتنازع فيها و لا يبعد دعوي أنّ بناء العقلاء هو الرجوع إلي من كان أدقّ في تشخيصها، و لا سيّما إذا تساوي مع الأعلم في الفتوي أو العلم بها.

و ثالثاً: أنّه لا يبعد دعوي دلالة مقبولة عمر بن حنظلة علي جواز الرجوع إلي غير الأعلم بالأحكام فيما لم يعلم اختلافه مع الأعلم؛ و ذلك أنّ

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 73

______________________________

الإمام عليه السلام في مقام الجواب عن سؤال الراوي: فإن كان كلّ واحد اختار رجلًا من أصحابنا، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما، و اختلفا فيما حكما، و كلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال

الحُكم ما حَكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما، و لا يلتفت إلي ما

يحكم به الآخر «1».

و المفهوم منه عرفاً: أنّه أرجع إلي الأفقه عند ما تعارض قوله مع قول غير الأفقه؛ لتعارضهما في الفتوي، و لو لم يكن تعارض لما كان بأس بالرجوع إلي غير الأفقه، كما أنّ هذا المعني هو المفهوم منه في الأعدل و العادل.

فالحاصل: أنّ مورد إمكان دعوي الانصراف إنّما هو ما علم بالاختلاف بينهما في الفتوي في خصوص النزاع المرفوع إليهما، و حينئذٍ: فالدعوي مؤيّدة بالمقبولة. و أمّا غيره فهو مشمول للإطلاق. و لا وجه فيه لدعوي الانصراف، و لا يعتبر فيه الأعلمية.

و قد يتوهّم: أنّ قول الصادق عليه السلام في مرسلة داود بن يزيد (أبي يزيد خ. ل)

إذا كان الحاكم يقول لمن عن يمينه و لمن عن يساره: ما تري؟ ما تقول؟ فعلي ذلك لعنة اللّٰه و الملائكة و الناس أجمعين، إلّا أن يقوم من مجلسه و يجلسهما (يجلسهم خ. ل) مكانه «2»

، يدلّ علي حرمة و بطلان قضاء

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 215، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 4، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 74

و الأحوط أن يكون ضابطاً غير غالب عليه النسيان، بل لو كان نسيانه بحيث سلب منه الاطمئنان فالأقوي عدم جواز قضائه (9).

______________________________

غير الأعلم مع وجود الأعلم.

و فيه: أنّ المحتمل قوياً، بل الظاهر: أنّ المراد بقوله لمن في يمينه و يساره: «ما تري» هو الكناية عن جهله بالقضاء حتّي أنّه محتاج إلي السؤال عن غيره، لا كناية عن أعلمية الغير في الإفتاء؛ فلا حجّة فيها أيضاً علي اعتبار الأعلمية.

(9) لا دليل لفظي علي اعتبار كون القاضي ضابطاً، و إنّما المتّبع في

اعتباره حكم العقلاء به و استلزام القضاء له، فلا ريب في أنّ العقلاء يحكمون بأنّ القاضي حيث إنّه يريد القضاء في المرافعات، فلا بدّ و أن يكون في الضبط بحيث يحفظ جميع الخصوصيات الدخيلة في موضوع النزاع و في كشف الحقّ المتخاصم فيه. فلو غلب عليه النسيان بنحو لا يقدر علي ضبط و حفظها فلا يمكن له القضاء و لا يرونه لائقاً للقضاء، و هذا المقدار من الضبط ممّا لا بدّ له في القضاء بحكم العقلاء، و أدلّة الجواز منصرفة إليه.

فكما أنّه يعتبر في القاضي بحكم العقل و العقلاء العلم بكيفية القضاء و بالأحكام التي يقضي بها، و يكون أدلّة الجواز منصرفة إلي العالم، فهكذا الضبط بهذا المقدار، و يكون أدلّة الجواز منصرفة إليه، فلا دليل علي جواز قضاء غير الضابط. و القاعدة مقتضية لعدم جوازه و نفوذه.

نعم، إذا لم يصل عدم ضبطه و نسيانه إلي هذه المرتبة، و مع ذلك كان

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 75

و أمّا الكتابة ففي اعتبارها نظر (10)، و الأحوط اعتبار البصر؛ و إن كان عدمه لا يخلو من وجه (11).

[مسألة 2 تثبت الصفات المعتبرة في القاضي بالوجدان، و الشياع المفيد للعلم أو الاطمئنان]

مسألة 2 تثبت الصفات المعتبرة في القاضي بالوجدان، و الشياع المفيد للعلم أو الاطمئنان (12)،

______________________________

قد ينسي بعض الخصوصيات، فانصراف أدلّة الجواز عنه ممنوع، بل أصالة الصحّة في قضائه تقضي بصحّة قضائه و رعايته لجميع الجوانب التي يلزم رعايتها فيه.

(10) وجه الاعتبار: أنّ القضاء ربّما كان محتاجاً إلي الكتابة، فيكون أدلّة الجواز منصرفة عمّن لا يعلم بها، و القاعدة الأوّلية مقتضية لعدم الجواز.

لكن الظاهر: أنّه لا وجه لهذا الانصراف بعد ما كان القاضي يضبط خصوصيات الموارد و لو بكاتب عدل فإنّ العقلاء لا يعتبرون سوي ضبط الخصوصيات،

و معه فلا وجه للانصراف. نعم، إذا لم يمكن الضبط إلّا بكتابة نفسه فلا يعمّه عموم أدلّة الجواز؛ لما مرّ في اشتراط الضابطية.

(11) هو ما مرّ في بيان عدم اعتبار الكتابة.

(12) العلم الذي لا يحتمل فيه الخلاف أصلًا هو غاية ما يمكن من انكشاف الشي ء للإنسان، و هو حجّة عند العقلاء بنفسه؛ سواء حصل بالوجدان أو الشياع. و أمّا الاطمئنان و المراد به هنا هو الظنّ القوي الموجب لسكون النفس و طمأنينتها فاحتمال الخلاف فيه موجود، لكنّه

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 76

و البيّنة العادلة (13).

______________________________

ضعيف جدّاً، و لم يصل إلي أعلي مراتب الانكشاف، فالحجّية له ليست ذاتية.

و ما يمكن الاستدلال به لحجّيته أمران:

أحدهما: بناء العقلاء علي الاعتماد و العمل بمطلق الاطمئنان و إن لم يحصل من الطرق المعتبرة عندهم، و هذا بناء عملي منهم مستمرّ إلي زمن المعصومين عليهم السلام، و لم يردعوا عنه؛ فيكون دليلًا علي رضاهم به و حجّيته عندهم.

و ثانيهما: أنّه مصداق للعلم عند العقلاء؛ بمعني أنّ المفهوم عندهم من العلم هو معني عامّ يعمّ القطع و الاطمئنان و الظنون المعتبرة؛ و لذلك نقول بعدم شمول أدلّة النهي عن اتّباع الظنّ، و عن اتّباع ما ليس به علم للظنون الحاصلة من الطرق المعتبرة؛ فإنّها علم عرفاً بلا تأويل، و لذلك أيضاً إذا أخبرنا ثقة بخبر نعبّر بعده بلا تأويل: أنّا نعلم به، و ليس لنا طريق إلّا ذلك الخبر.

و حينئذٍ: فالأدلّة الكثيرة المتواترة الدالّة علي اعتبار العلم و لزوم اتّباعه، تدلّ علي حجّية الاطمئنان أيضاً، هذا.

و يمكن الإشكال علي الوجهين بمنع بناء العقلاء علي العمل به، و منع عدّه علماً عندهم، إلّا إذا حصل من أحد الطرق المعتبرة لديهم،

كالظواهر و أخبار الثقة، فتأمّل.

(13) و ذلك أنّ خبر الثقة حجّة في الأحكام و الموضوعات كلّها عند

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 77

و الشاهد علي الاجتهاد أو الأعلمية لا بدّ و أن يكون من أهل الخبرة (14).

[مسألة 3 لا بدّ من ثبوت شرائط القضاء في القاضي]

مسألة 3 لا بدّ من ثبوت شرائط القضاء في القاضي عند كلّ من المترافعين، و لا يكفي الثبوت عند أحدهما (15).

______________________________

العقلاء، و الشارع منع عن حجّيته في الموضوعات إذا لم تكن بيّنة عادلة، فتكون حجّية البيّنة العادلة علي مقتضي القواعد، بل قد عرفت منّا ذيل المسألة التاسعة أن لا دليل علي منع حجّية خبر الثقة في مطلق الموضوعات، و إنّما قام الدليل علي هذا المنع في موارد خاصّة ليس شرائط القاضي منها.

(14) و ذلك، أنّ الاجتهاد أو الأعلمية من الأُمور الغير المحسوسة، و الخبر عن الأمر الذي ليس بمحسوس ليس حجّة عند العقلاء، إلّا إذا كان المخبر أهلًا للاطّلاع عليه بحدسه من المقدّمات المخصوصة، كأن يكون في المورد ذا حظّ في العلم يقدر معه علي تشخيص اجتهاد الغير و أعلميته بالنظر و التأمّل فيما بيديه من الاستدلال في مقام استنباط أُصول الأحكام و فروعها، و هذا هو المراد من «أهل الخبرة».

(15) و ذلك لما عرفت: أنّ مقتضي الأُصول و القواعد عدم نفوذ القضاء إلّا فيما قام الدليل علي نفوذه فيه. و الدليل علي الكبري الكلّية و هو نفوذ قضاء الواجد للشرائط المقرّرة لا يكون حجّة علي المورد الخاصّ إلّا إذا ثبت الموضوع الجامع للشرائط بحجّة معتبرة، و إلّا فثبوت الحكم مشكوك لا حجّة عليه بمشكوكية موضوعه و عدم الحجّة عليه.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 78

[مسألة 4 يشكل للقاضي القضاء بفتوي المجتهد الآخر]

مسألة 4 يشكل للقاضي القضاء بفتوي المجتهد الآخر، فلا بدّ له من الحكم علي طبق رأيه لا رأي غيره و لو كان أعلم (16).

______________________________

و من الواضح: أنّ ثبوت الموضوع لأحد المتخاصمين لا يكون حجّة علي خصمه، بل الأصل يقتضي عدم نفوذ القضاء له و عليه ما لم

يقم حجّة عنده علي كون القاضي واجداً للشرائط.

(16) فإنّ كلّ مجتهد لمّا استفرغ وسعه في الفحص عن أدلّة الأحكام، فلا محالة يري اجتهاد غيره منحرفاً عن طريق الصواب، و يري الحجّة علي خلاف اجتهاد الغير قائمة، و يري أنّ ما أفتي به غيره خلاف حكم اللّٰه، و إن كان الغير أعلم منه، و معه فالقضاء بفتوي الغير قضاء بغير حكم اللّٰه، و هو حرام وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ «1».

و هذا الوجه جارٍ حتّي فيما اعتمد القاضي في فتواه علي مثل أصالة البراءة؛ إذ هاهنا أيضاً يري أدلّة التكليف غير تامّة الدلالة، و يري استناد الغير إليها غير صحيح. نعم فيما لم يستنبط الحكم من الأدلّة بعد، يمكن أن يقال بجواز القضاء له بفتوي الغير، بناءً علي حجّية فتوي المجتهد للمجتهد الآخر الذي لم يستخرج الحكم من دليله بعد، و هو محلّ كلام عندهم، و إن لا يبعد حجّيته.

هذا كلّه في القاضي المجتهد.

______________________________

(1) المائدة (5): 47.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 79

[مسألة 5 لو اختار كلّ من المدّعي و المنكر حاكماً لرفع الخصومة]

مسألة 5 لو اختار كلّ من المدّعي و المنكر حاكماً لرفع الخصومة، فلا يبعد تقديم اختيار المدّعي (17) لو كان القاضيان متساويين في العلم،

______________________________

و أمّا بناءً علي عدم اعتبار الاجتهاد في القاضي كما عرفت أنّه الأقوي فلا إشكال في جواز استناد القاضي في قضائه إلي فتوي المجتهد الذي يكون فتواه حجّة عليه و طريقاً عنده إلي أحكام اللّٰه، كما لا يخفي.

(17) عن «المستند» ادّعاء الإجماع عليه. و استدلّ عليه في «مباني التكملة» بأنّ المدّعي هو الملزم بإثبات دعواه بأيّ طريق شاء و أراد، و ليس للمدّعيٰ عليه أيّ حقّ في تعيين الطريق له أو منعه عن

إثبات دعواه بطريق خاصّ.

و فيه: أنّ المسلّم أنّ المدّعي، عليه إقامة البيّنة لإثبات دعواه أو تحليف المنكر أو الحلف مثلًا علي دعواه بعد الردّ عليه. و إقامة البيّنة أو الحلف علي ما ادّعاه بعد الردّ عليه هو طريق إثبات الدعوي، و هو مخيّر في إقامة البيّنة التي عليه في اختيار أيّ بيّنة شاء و أراد؛ فإنّ البيّنة علي المدّعي و بيده أمر الإتيان بأيّ مصاديقها شاء.

و أمّا أنّ أمر إقامة الدعوي أيضاً إليه بمعني اختياره في تعيين أيّ حاكم و قاضٍ شاء فهو أوّل الكلام، فلعلّ أمر التعيين إلي المدّعيٰ عليه، أو هو موكول إلي القرعة إذا لم يتراضيا علي واحد. و بالجملة: فما ذكره دليلًا هو عين تكرار المدّعيٰ، و لا دليل فيه.

و حينئذٍ: فإذا لم يرض كلٌّ بما اختاره الآخر، و لا بدّ من رفع التنازع

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 80

______________________________

بينهما، و لم يكن دليل علي تقديم اختيار أحدهما، فقد أشكل الأمر في ما لا محيص من حلّه، و القرعة طريق شرعي إلي حلّ مثله؛ فقد جاء الحديث المعتبر بأنّ القرعة سنّة «1»، و في صحيح منصور بن حازم: أنّ الصادق عليه السلام قال

فأيّ قضية أعدل من القرعة إذا فوّضوا أمرهم إلي اللّٰه عزّ و جلّ أ ليس اللّٰه يقول فَسٰاهَمَ فَكٰانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ «2»

ففيما نحن فيه و إن لم يكن واقع معيّن لكنّه قد وقع فيه النزاع، و كلّ يجرّ النار إلي قرصه، فهو شبيه قصّة يونس، التي لم يكن فيها أيضاً واقع معيّن، فساهموا فكان من المدحضين، فالتقمه الحوت.

إن قلت: إنّ المشهور لم يعملوا بعموم أدلّة القرعة إلّا فيما عمل بها المشهور، فلا يصحّ الاستناد هنا إليها ما

لم يثبت استناد المشهور هنا إليها.

قلت: لفظة «قضية» في صحيح منصور دليل علي أنّ القرعة تكون قضاء، و أنّها أعدل القضايا، فلا محالة تختصّ بما كان في البين تنازع، و قد شرّعت لرفع هذا التنازع؛ سواء كان له واقع معيّن غير معلوم أم لا. كما أنّ لفظة «أعدل» أيضاً شاهد آخر علي أنّها طريق ليس فيه ظلم علي أحد، و هو أيضاً يناسب التنازع و تزاحم الحقوق، و مع تقييد المطلقات بهذا القيد المستفاد من هذه الصحيحة لا بأس بالعمل بها، و لم يعلم أنّ المشهور

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 257، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 13، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة 27: 261، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 13، الحديث 17.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 81

و إلّا فالأحوط (18) اختيار الأعلم، و لو كان كلّ منهما مدّعياً من جهة و منكراً من جهة أُخري (19)، فالظاهر في صورة التساوي الرجوع إلي القرعة (20).

[مسألة 6 إذا كان لأحد من الرعية دعوي علي القاضي فرفع إلي قاضٍ آخر]

مسألة 6 إذا كان لأحد من الرعية دعوي علي القاضي فرفع إلي قاضٍ آخر، تسمع دعواه و أحضره (21) و يجب علي القاضي إجابته، و يعمل معه الحاكم في القضية معاملته مع مدّعيه من التساوي في الآداب الآتية.

______________________________

لم يعملوا بها في موارد التنازع و تزاحم الحقوق. و تفصيل الكلام في محلّه.

(18) هذا الاحتياط هو الاحتياط الماضي في اشتراط الأعلمية، فلا يجب رعايته إذا لم نقل بلزوم رعايته في القاضي.

(19) كما إذا ادّعي كلّ منهما ملكية جميع ما في يد كليهما؛ فإنّه بمقتضي يد كلّ منهما علي جميع المال يكون كلّ منهما منكراً، و بمقتضي أنّه يدّعي ما للآخر يد عليه يكون كلّ منهما مدّعياً.

(20) فإنّه بناءً علي تقديم

اختيار المدّعي فحيث إنّ كلّا منهما هنا مدّعٍ فيتزاحم تقديم اختياره مع تقديم اختيار الآخر، فيكون من موارد القرعة علي ما عرفت.

(21) و ذلك لإطلاق الأدلّة و شمولها لما إذا كان المدّعيٰ عليه قاضياً، و هكذا أدلّة الآداب. و ليس للقاضي الذي هو طرف الدعوي تصدّي القضاء و فصل الخصومة هنا؛ إذ أدلّة جواز القضاء مثل قوله عليه السلام في المقبولة

ينظران من كان منكم ممّن قد روي حديثنا. فليرضوا به حكماً؛ فإنّي

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 82

[مسألة 7 يجوز للحاكم الآخر تنفيذ الحكم الصادر من القاضي]

مسألة 7 يجوز للحاكم الآخر تنفيذ الحكم الصادر من القاضي (22)،

______________________________

قد جعلته عليكم حاكماً «1»

، و قوله عليه السلام في معتبرة أبي خديجة

اجعلوا بينكم رجلًا قد عرف حلالنا و حرامنا؛ فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً «2»

منصرفة إلي أن يكون الرجل الذي يجعل قاضياً، شخصاً ثالثاً غير المتخاصمين، فلا تشمل الأدلّة ما إذا تصدّي القاضي لفصل خصومة بينه نفسه و بين غيره. و الأصل مقتضٍ لعدم الجواز و عدم النفوذ، كما عرفت غير مرّة.

(22) التنفيذ هو الأمر بإجراء الحكم و تعقيب وقوعه إلي أن يقع كما حكم، فإذا حكم القاضي بأنّ هذا المال لزيد فتنفيذه هو تعقيب إجرائه إلي مرحلة أخذه من عمرو و إعطائه لزيد، و إذا حكم بأنّ هذا محكوم بمائة جلدة فتنفيذه هو الأمر بإيقاع الضرب عليه. و القاضي حينئذٍ لا يتصدّي الحكم بأنّ هذا ملك زيد، و إنّما يأمر بإجراء ما حكم به القاضي السابق.

و الوجه في جواز تنفيذه: أنّ المفروض أنّ القاضي الحاكم واجد لشرائط القضاء، و قد حكم بحكم، و من لوازم القضاء الصحيح أنّه يجب

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

(2) وسائل

الشيعة 27: 139، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 83

بل قد يجب (23)، نعم لو شك في اجتهاده أو عدالته أو سائر شرائطه لا يجوز (24) إلّا بعد الإحراز،

______________________________

شرعاً و عرفاً ترتيب الأثر عليه؛ إذ لو لم يجب لكان القضاء لغواً، و لو لم يقبل منه فإنّما بحكم اللّٰه استخفّ، و هو علي حدّ الشرك باللّٰه.

فكما أنّه لو حكم القاضي نفسه يجوز له تصدّي تنفيذه، فهكذا إذا حكم غيره الواجد للشرائط؛ فإنّ حكم الحاكم مثل حكم المتصدّي للتنفيذ حكم يجب إجراؤه بلا فرق بينهما أصلًا.

و لعلّ وجه التعبير بالجواز: أنّه قد يكون المحكوم عليه بنفسه يتصدّي للعمل بحكم القاضي و يخضع له، من غير حاجة إلي تنفيذ و تعقيب، فحينئذٍ: لمّا لم يكن حاجة إلي التنفيذ فلو قام القاضي بصدد الأمر بالإجراء و تنفيذ الحكم كان غير واجب.

(23) و هو فيما لا يخضع المحكوم عليه للحكم و لا يقوم بنفسه في مقام العمل به، و حينئذٍ يكون تنفيذه واجباً كفائياً، و لو لم يقم به غير القاضي لوجب عليه شخصاً من باب تعيّن الواجب الكفائي.

(24) فإنّه مع الشكّ في واجدية القاضي للشرائط لم يعلم أنّه مصداق لحكم القاضي المنصوب منهم عليهم السلام، فهو شبهة مصداقية؛ لعموم

فإنّي قد جعلته حاكماً

، و ليس العامّ حجّة فيها، فلا دليل علي وجوب ترتيب أثر الحكم المعتبر عليه.

و الأُصول و القواعد الأُخر مثل اليد فيما حكم القاضي المشكوك في

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 84

كما لا يجوز نقض حكمه مع الشكّ (25) و احتمال صدور حكمه صحيحاً،

______________________________

اجتماعه للشرائط بأنّها غاصبة، و أصالة الصحّة فيما حكم ببطلان المعاملة جارية

في مورد حكمه و مقتضية لعدم نفوذ حكمه عند الحاكم الآخر الذي لم يحرز شرائط القضاء فيه.

إن قلت: مع الشكّ في اجتماعه للشرائط فأصالة الصحّة الجارية في القضاء تقضي بصحّة قضائه، و معه فلا يجوز مخالفته، و يجب ترتيب آثار القضاء الصحيح عليه.

قلت: إنّ أصالة الصحّة إنّما تجري بعد إحراز أهلية الفاعل فيما لو شكّ في أنّه هل راعي الشرائط أو الأجزاء المعتبرة في صحّة العمل أم لا، و أمّا إذا كان الشكّ من ناحية الأوصاف المعتبرة في الفاعل و أنّ له أهلية الإقدام علي العمل أم لا فلا تجري أصالة الصحّة، و لذا لا ريب بحسب ارتكاز العقلاء في أنّه لو شكّ في بلوغ البائع أو عقله فلا تجري أصالة الصحّة في بيعه.

نعم، لو نفّذه غيره و رتّب عليه الأثر كما إذا أُخذت العين من ذي اليد و ممّن اشتراها بتلك المعاملة في المثالين، و وقعت تحت يد المدّعي فهذه اليد الطارئة حيث لم يعلم بكونها غاصبة، فهي حجّة علي الملكية، كما في سائر الموارد، فالقاضي الغير الحاكم و غيره سيّان في جواز بل وجوب ترتيب الأثر عليه بعد العمل به؛ أخذاً بسائر القواعد.

(25) الظاهر: أنّ المراد منه بقرينة عطف «و احتمال صدور حكمه

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 85

______________________________

صحيحاً» الشكّ في رعايته لقواعد القضاء بعد إحراز واجديته لشرائط القاضي، و معلوم أنّه حينئذٍ يحمله علي الصحّة كسائر الأفعال، كما عرفت، و قد عرفت عدم جواز نقض الحكم الصادر من القاضي الواجد للشرائط، فتذكّر.

و هنا كما لا يجوز نقضه، يجوز أو يجب تنفيذه بعد ما كان صادراً من أهله علي ما هو المفروض محكوماً بالصحّة بمقتضي أصالة الصحّة.

و يحتمل بعيداً أن يراد

به الشكّ في جامعيته لشرائط القضاء، لكي يكون ملخّص مراد العبارة بالنظر إلي صدرها أيضاً: أنّه إذا شكّ في اجتهاده أو عدالته أو سائر الشرائط، فلا يجوز تنفيذه. و مع ذلك لا يجوز نقضه أيضاً.

أمّا وجه عدم جواز تنفيذه فقد عرفته آنفاً.

و أمّا وجه عدم جواز نقضه فلأنّك قد عرفت: أنّ أدلّة النصب ناظرة إلي المرافعات التي لم يحكم فيها بعد حكماً صحيحاً، فإذا احتمل صحّة حكم الأوّل كفي في عدم الجزم بشمول الأدلّة لقضاء الثاني؛ فإنّه من قبيل الرجوع إلي العامّ في شبهته المصداقية، فليس العامّ حجّة، و الأصل يقتضي عدم النفوذ، و هذا معني عدم جواز نقضه، هذا.

لكن هذا الوجه مندفع بأنّه بعد انصراف الأدلّة إلي المرافعات التي لم يحكم فيها حكماً صحيحاً، فلا محالة يكون الموضوع مقيّداً بالقيد المذكور أعني قيد «لم يحكم فيه حكماً صحيحاً» فإذا شكّ في واجدية القاضي لشرائط القضاء فلا محالة يشكّ في أنّه هل حكم فيه حكماً صحيحاً؟

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 86

و مع علمه بعدم أهليّته ينقض حكمه (26).

[مسألة 8 يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه]

مسألة 8 يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه (27) من دون بيّنة أو إقرار أو حلف في حقوق الناس، و كذا في حقوق اللّٰه تعالي،

______________________________

و حينئذٍ يكون مقتضي الاستصحاب: أنّ هذا المورد باقٍ علي ما كان من كونه مرافعة لم يحكم فيها بعد حكماً صحيحاً فيكون مشمولًا للعمومات، و يكون حكم القاضي الثاني نافذاً فيه، و هذا معني جواز نقضه.

(26) إذ هذا الحكم لا قيمة له شرعاً، فهو لا شي ء بنفسه و لم يرتفع به النزاع، فلا بدّ من حكم آخر رافع للنزاع، و هذا عبارة أُخري عن جواز نقض الحكم الأوّل.

و بعبارة واضحة: أنّ

أدلّة النصب كما عرفت منصرفة إلي المرافعات التي لم يحكم فيها بحكم صحيح نافذ، و المورد منها، فيكون مشمولًا للعمومات، فيكون القاضي الواجد منصوباً للقضاء فيه أيضاً، و يكون حكمه نافذاً فيه، و هو معني جواز نقض حكم الأوّل.

(27) و يشهد له عموم قوله تعالي وَ كَتَبْنٰا عَلَيْهِمْ فِيهٰا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ. وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ «1».

فإنّ ذكر حكم القصاص في الموارد المذكورة في صدر الآية و تعقيبه

______________________________

(1) المائدة (5): 45.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 87

______________________________

بقوله تعالي وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ* ظاهر قطعاً في أنّ المراد من بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ* هو ما يحكم به القاضي من القصاص بالمثل مثلًا بعد تبيّن الموضوع، لا ما أنزل اللّٰه تعالي في كيفية ثبوت مورد النزاع، فأوجب اللّٰه تعالي الحكم بين المترافعين بالواقعيات التي أنزلها، فإذا تبيّن للقاضي موضوع المرافعة من طريق علمه كأن علم بأنّ ما يدّعيه زيد من المال الذي في يد عمرو، هو ملك لزيد فهو عالم بأنّ ما أنزل اللّٰه تعالي في هذه الواقعة أنّ هذه العين ملك لزيد، فلو لم يحكم به لكان مشمول عموم قوله تعالي فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ.

و منه يتبيّن المراد و كيفية الاستدلال بقوله تعالي وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ «1»، وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ «2».

فالأحكام الواقعية هي موضوع وجوب القضاء، و لا بدّ مع ذلك من العلم بثبوتها و ثبوت موضوعاتها حتّي يجوز القضاء وضعاً و تكليفاً. و لذلك فقد عدّ من القضاة الذين في النار

رجل قضي بالحقّ و هو لا يعلم «3»

، فهو

و إن قضي بالحقّ لكن لمكان جهله بالحقّ يكون في النار، و لم يجز له القضاء؛ إذ قد عرفت: أنّ جواز القضاء إنّما ثبت لمن عرف حلالهم و حرامهم، كما

______________________________

(1) المائدة (5): 44.

(2) المائدة (5): 47.

(3) وسائل الشيعة 27: 22، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 4، الحديث 6.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 88

______________________________

ورد في المقبولة و المعتبرة، و غيره يبقي تحت عموم حرمة القضاء و أصالة عدم النفوذ.

و يدلّ علي جواز القضاء بالعلم مطلقاً أيضاً قوله تعالي إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِليٰ أَهْلِهٰا وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ «1»؛ فإنّ ظاهر الحكم بينهم بالعدل عرفاً ما يقابل الحكم بالجور، فالمراد به الحكم بحيث يعطي الحقّ إلي ذي الحقّ، و البيّنة حينئذٍ مثل العلم طريق إلي وضوح الحقّ و ثبوته. فإذا علم بأنّ هذه العين لزيد بحسب الواقع فلا ريب أنّ العدل هو إعطاؤها لزيد، و سلب يده عنها جور، و الحكم بالعدل لا يكون إلّا الحكم بإعطائها لزيد.

و منه تعرف كيفية الاستدلال بما ورد في النهي عن الحكم بالجور، مثل ما ورد في موثّق السكوني

يد اللّٰه فوق رأس الحاكم ترفرف بالرحمة، فإذا حاف وكله اللّٰه إلي نفسه «2»

؛ فإنّ الظاهر من «الحيف» هو الظلم بقطع يد صاحب الحقّ عن حقّه، أو بإجراء الحدّ مثلًا علي البري ء، فإذا علم بالواقع و تعيّن عنده الحقّ و علم به لا من ناحية البيّنة مثلًا فلم يحكم به، فقد حاف و يكله اللّٰه إلي نفسه. إلي غير ذلك من الآيات و الأخبار.

______________________________

(1) النساء (4): 58.

(2) وسائل الشيعة 27: 224، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 9، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة

- القضاء و الشهادات، ص: 89

______________________________

فتلخّص: أنّ مقتضي العمومات أن يعتمد القاضي علي علمه بالموضوع أو الحكم، و يكون العلم كالبيّنة ميزاناً للقضاء الشرعي. فإذا حكم القاضي بعلمه فقد حكم علي موازين القضاء، فإذا لم يقبل منه فإنّما بحكم اللّٰه استخفّ، فيكون عدم قبوله و نقضه حراماً، مثل ما إذا كان استند إلي البيّنة. و بالجملة: فجميع ما مرّ في بحث قطعية حكم القاضي و عدم جواز نقضه جارٍ هنا، كما هو واضح.

هذا هو مقتضي عمومات باب القضاء.

و قد ورد هنا أخبار خاصّة ربّما يستدلّ بها علي جواز استناد القاضي إلي العلم، كالخبر المروي في أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا حكم رجل من قريش بين الرسول و الأعرابي حكماً، قال صلي الله عليه و آله و سلم

لأتحاكمنّ مع هذا إلي رجل يحكم بيننا بحكم اللّٰه

، فتصدّي علي عليه السلام للقضاء بين رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم و الأعرابي، فقال علي عليه السلام للأعرابي

ما تدّعي علي رسول اللّٰه؟

قال: سبعين درهماً ثمن ناقة بعتها منه، فقال

ما تقول يا رسول اللّٰه؟

قال

قد أوفيته ثمنها

، فقال

يا أعرابي أصدق رسول اللّٰه فيما قال؟

قال الأعرابي: لا، ما أوفاني شيئاً، فأخرج علي عليه السلام سيفه فضرب عنقه، فقال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم

لِمَ فعلت يا علي ذلك؟

فقال

يا رسول اللّٰه نحن نصدّقك علي أمر اللّٰه و نهيه، و علي أمر الجنّة و النار و الثواب و العقاب و وحي اللّٰه عزّ و جلّ و لا نصدّقك علي ثمن ناقة الأعرابي؟! و إنّي قتلته لأنّه كذّبك لمّا قلت له: أصدق رسول اللّٰه؟ فقال: لا، ما أوفاني شيئاً

، فقال رسول اللّٰه

أصبت يا علي، فلا تعد إلي مثلها.

ثمّ

التفت صلي الله عليه و آله و سلم إلي

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 90

______________________________

القرشي فقال

هذا حكم اللّٰه، لا ما حكمت به «1».

فإنّه صلي الله عليه و آله و سلم حكم بأنّ حكم القرشي ليس بحكم اللّٰه لمّا لم يلتفت إلي علمه بصدق الرسول، و جعل حكم علي أمير المؤمنين عليه السلام حكم اللّٰه تعالي؛ لأنّه اعتمد علي علمه بصدقه، و أنّ أمير المؤمنين عليه السلام استدلّ لحكمه بأنّه صلي الله عليه و آله و سلم صادق في دعواه. فالعلم بالصدق دليل علي القضاء بما قضي به.

فقوله صلي الله عليه و آله و سلم أوّلًا

لأتحاكمنّ مع هذا إلي رجل يحكم بيننا بحكم اللّٰه

، ظاهر في أنّ ترك اعتماد القاضي علي علمه يوجب صيرورة حكمه غير حكم اللّٰه، و قوله آخراً مؤكّد لذلك، و كلاهما شاهدان علي عدم اختصاص جواز الاعتماد بالعلم به عليه السلام، بل القاضي إذا أراد أن يكون حكمه حكم اللّٰه يجب أن يعتمد علي علمه. و هذا ما استظهرناه من سائر العمومات، هذا. إلّا أنّ الرواية ضعيفة السند.

و كصحيح عبد الرحمن بن الحجّاج الوارد في درع طلحة الذي رآه علي عليه السلام بيد رجل، فتحاكم معه إلي شريح، فطلب منه شاهدين عدلين حرّين، فخطّاه عليه السلام ثلاث مرّات ثمّ قال

و يحك أو ويلك إنّ إمام المسلمين يؤمن من أُمورهم علي ما هو أعظم من هذا «2».

ببيان: أنّ المراد من قوله عليه السلام: «يؤمن.» إلي آخره: أنّه إذا كان أمين

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 274، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 18، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 265، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 6.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و

الشهادات، ص: 91

______________________________

المسلمين فلا يكذب، و القاضي يعلم بصدقه؛ فيجب أن يعتمد علي علمه الشخصي.

لكنّ الإنصاف: أنّه يحتمل فيه أن يراد منه: أنّ عدم قبول قول الإمام و ادّعائه يوجب وهن مقام الإمامة، فهنا أمر زائد علي مجرّد العلم بصدقه، هو أنّه لو لم يقبل دعواه لأوجب الوهن علي مقام الإمامة؛ فلا يدلّ علي جواز اعتماد القاضي بعلمه في كلّ الموارد.

و كصحيح سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

في كتاب علي عليه السلام: إنّ نبياً من الأنبياء شكا إلي ربّه، فقال: يا ربّ كيف أقضي فيما لم أرَ و لم أشهد؟ قال: فأوحي اللّٰه إليه: احكم بينهم بكتابي و أضفهم إلي اسمي تحلفهم به «1».

فإنّ قول هذا النبي

كيف أقضي فيما لم أر و لم أشهد

يدلّ بالوضوح علي أنّه لو رآه و شهده لما كان بأس و مانع من القضاء، و إنّما المانع عدم رؤيته و شهوده، و معلوم: أنّ الرؤية طريق العلم العادي؛ فيدلّ علي جواز الاعتماد بالعلم. و نقل أبي عبد اللّٰه عليه السلام لهذا الكلام لم يرد به مجرّد النقل، بل هو محلّ تصديق و تقرير له عليه السلام؛ فيدلّ علي أنّ الحكم في شريعة الإسلام أيضاً كذلك.

نعم، ما ورد في خبر الحسين بن خالد من قول أبي عبد اللّٰه عليه السلام

الواجب علي الإمام إذا نظر إلي رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 229، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 1، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 92

______________________________

الحدّ، و لا يحتاج إلي بيّنة مع نظره؛ لأنّه أمين اللّٰه في خلقه.

الحديث «1».

فدلالته علي جواز استناد الإمام إلي علمه و رؤيته و إن كانت

واضحة، إلّا أنّ التعدّي عنه إلي غير الإمام المعصوم مشكل، لا سيّما و العلّة المنصوصة و هو كونه أمين اللّٰه في خلقه غير جارٍ في غيره؛ فإنّ غاية الأمر: أنّ العلماء أُمناء اللّٰه علي حلاله و حرامه، لا أنّهم أُمناء اللّٰه في خلقه بقول مطلق في أحكام اللّٰه و في التصرّف في نفوس الناس و أموالهم بإرادة اللّٰه تعالي و في غير ذلك.

لكنّه لا حاجة إلي هذا الخبر بعد ما عرفت من دلالة أدلّة أُخري معتبرة علي المطلوب.

و في قبال هذه الأدلّة قد يمكن الاستدلال لعدم جواز الاعتماد علي العلم في مقام القضاء بوجوه:

منها: صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم: إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان، و بعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار «2».

بتقريب: أنّ «إنّما» مفيدة للحصر، فتدلّ الرواية علي أنّه صلي الله عليه و آله و سلم

______________________________

(1) وسائل الشيعة 28: 57، كتاب الحدود و التعزيرات، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 32، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة 27: 232، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 2، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 93

______________________________

لا يقضي إلّا بالبيّنات و الايمان؛ فلا يقضي بعلمه، و لا يجوز لنا التعدّي عن سنّته.

و فيه أوّلًا: أنّ الحقّ كما تقرّر في محلّه عدم دلالة «إنّما» علي الحصر وضعاً، و إنّما يستفاد الحصر في ما يستفاد من سياق الكلام، و السياق هاهنا لا يقتضيه؛ إذ الظاهر أنّ مراده صلي الله عليه و آله و سلم: أنّه و إن كان يعتمد في قضاياه

علي البيّنة و اليمين، إلّا أنّ اعتماده عليهما و قضاه بهما ليس محلّلًا لما حرّمه اللّٰه، بل أيّما رجل قطع له شي ء من مال أخيه فهو قطعة من النار، و لا يحلّ له بسبب أنّ رسول اللّٰه قضي له.

و ليس مراده صلي الله عليه و آله و سلم حصر دليل قضائه في خصوص البيّنة و اليمين؛ بداهة أنّه صلي الله عليه و آله و سلم يقضي بالإقرار أيضاً، و ليس في كلامه هذا بصدد نفيه. بل لا ريب بحسب ذيلها أنّه صلي الله عليه و آله و سلم بصدد نفي تخيّل أنّ قضاءه يوجب حلّية المحكوم به للمحكوم له، و إن كان خلاف الواقع، بل الواقع يكون علي ما هو عليه من الحكم.

و ثانياً: لو أُريد منه الحصر فلا ريب بعد ملاحظة ذيله في أنّ الحصر فيه إضافي في قضاياه المتعارفة، يعني: أنّي لا أقضي في هذه القضايا إلّا بما هو المعهود من البيّنة و اليمين، و لا أتفحّص بعدهما القرائن الأُخر لكي ينكشف الواقع قطعاً و بلا ريبة، و هما بحسب طبعهما قد يخالفان الواقع، و حينئذٍ: فربّما خالف قضائي الواقع، و معه فلا ينقلب الحرام الواقعي حلالًا.

فالحصر فيه إنّما هو بالنسبة إلي تعقيب البيّنة و اليمين بالفحص المؤدّي إلي الواقع، و كما لا يستفاد منه نفي الاستناد إلي الإقرار عرفاً بمعني:

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 94

بل لا يجوز له الحكم بالبيّنة إذا كانت مخالفة لعلمه، أو إحلاف من يكون كاذباً في نظره (28)،

______________________________

أنّ العرف لا يفهم من إطلاقه نفي حجّية الإقرار أو النكول لكي يقيّده بأدلّة جواز القضاء بالإقرار و النكول فهكذا لا يفهم العرف نفي الاستناد إلي العلم العادي،

بل المفهوم من حصره لو كان حصر هو ما ذكرناه من الحصر الإضافي.

و منها: ما رواه أبو ضمرة عن أبيه: أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال

جميع أحكام المسلمين علي ثلاثة: شهادة عادلة، أو يمين قاطعة، أو سنّة جارية مع (ماضية من خ. ل) أئمّة الهدي «1»

، حيث بيّن هو عليه السلام جميع مباني الأحكام، و لم يعدّ منه علم القاضي بالواقع؛ فيدلّ علي عدم جواز الاستناد إليه.

و فيه: أنّ الاستناد إلي العلم يحتمل أن يكون داخلًا في المبني الثالث أعني: «السنّة الجارية» و يشهد له ما مرّ من استناده عليه السلام إلي علمه في قصّة الأعرابي، و ما مرّ من أنّه يجب علي الإمام إجراء الحدّ إذا رأي زنا الزاني و شرب شارب الخمر؛ فلا يمكن الاستدلال به علي نفيه.

(28) لما عرفت من بقاء الواقع علي ما هو عليه، و إنّما شرع اليمين لفصل الخصومة فيما لا طريق إلي كشف الواقع، فإذا كان الواقع معلوماً

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 231، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 1، الحديث 6.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 95

نعم يجوز له عدم التصدّي للقضاء في هذه الصورة مع عدم التعيّن عليه (29).

______________________________

مكشوفاً فلا وجه للاستناد إلي يمين كاذبة و الحكم بغير ما أنزل اللّٰه.

(29) و الوجه في عدم وجوب التصدّي للقضاء هو نفس عدم التعيّن عليه كما هو المفروض و القضاء واجب كفائي.

و يمكن أن يقال بوجوب التصدّي له و إجراء الحدّ علي العاصي في حدود اللّٰه تعالي إذا لم يعلم بالمعصية إلّا هو؛ إذ عموم مثل قوله تعالي الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ «1» يدلّ علي وجوب إجراء هذا الحدّ علي من زني

واقعاً.

غاية الأمر: أنّ إجراءه موكول إلي القضاة، و فعلية التكليف عليهم منوطة بعلمهم، فإذا علم القاضي بالزنا أو شرب الخمر وجب عليه إجراء حدّه بلا حالة منتظرة. فما تضمّنته رواية الحسين بن خالد «2» في مورد الإمام المعصوم يكون مقتضي القواعد أيضاً في القضاة الأُخر. نعم إذا علم غيره أيضاً بالواقعة و قام بصدد إقامة الحدّ، سقط عنه الوجوب الكفائي.

بل يمكن أن يقال بوجوب التصدّي في حقوق الناس أيضاً بعد

______________________________

(1) النور (24): 2.

(2) وسائل الشيعة 28: 57، كتاب الحدود و التعزيرات، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 32، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 96

[مسألة 9 لو ترافعا إليه في واقعة قد حكم فيها سابقاً]

مسألة 9 لو ترافعا إليه في واقعة قد حكم فيها سابقاً، يجوز أن يحكم بها علي طبقه فعلًا إذا تذكّر حكمه و إن لم يتذكّر مستنده (30)، و إن لم يتذكّر الحكم فقامت البيّنة عليه جاز له الحكم، و كذا لو رأي خطّه و خاتمه و حصل منهما القطع أو الاطمئنان به (31)،

______________________________

مراجعة المحقّ، إذا علم القاضي مع علمه بالواقعة أنّ خصمه يتعمّد التعدّي عليه و إبطال حقّه؛ فإنّ إبطال حقّه حرام و منكر يرتكبه الخصم، و التصدّي للقضاء حينئذٍ نهي عملي عن المنكر، فيكون واجباً بعمومات وجوب النهي عن المنكر. نعم النهي عن المنكر أيضاً واجب كفائي، إنّما يتعيّن عليه لو لم يقم به غيره.

(30) و ذلك أنّ تذكّر حكمه تذكّر لما أفتي به سابقاً، و إجراء أصالة الصحّة في فتواه يجعله حجّة فعلية له يصحّ له الاستناد إليها و الحكم بها فعلًا.

(31) لأنّ البيّنة طريق و حجّة يثبت و ينكشف بها فتواه السابقة، و إجراء أصالة الصحّة في الفتوي المكشوفة يجعلها حجّة فعلية يصحّ الاستناد إليها فعلًا.

و مثله حصول القطع بها من الطرق الأُخر. و أمّا الاطمئنان فعلي القول بحجّيته و طريقيته فهو أيضاً كسائر الطرق المعتبرة.

ثمّ إنّ ما ذكرناه مبني علي أن يكون مراده دام ظلّه من قوله: «لو ترافعا إليه في واقعة قد حكم فيها سابقاً» أن يترافعا إليه في واقعة قد حكم

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 97

و لو تبدّل رأيه فعلًا مع رأي سابقه الذي حكم به جاز تنفيذ حكمه إلّا مع العلم بخلافه (32)، بأن يكون حكمه مخالفاً لحكم ضروري أو إجماع قطعي، فيجب عليه نقضه.

______________________________

في نوعها و فرد آخر منها سابقاً، و حينئذٍ: يتمّ ما ذكرناه كما ذكرناه بلا إشكال.

لكن قد يحتمل، بل يستظهر: أنّ المراد منه أنّه قد حكم سابقاً في شخص هذه الواقعة لكي يكون المراد جواز الحكم في شخص هذه الواقعة ثانياً و هو مبنيّ علي مشروعية الحكم فيما حكم فيه قبلًا. و هو محلّ إشكال، بل منع؛ لعدم الجدوي في الحكم الثاني، بل قد عرفت: أنّ ظاهر أدلّة مشروعية القضاء هو المرافعات التي لم يقض فيها و يراد بالقضاء فيها فصل الخصومة. و أمّا ما قضي القاضي فيه فأدلّة جواز القضاء منصرفة عنه. و لذلك فقد يأوّل الحكم فيه ثانياً بتنفيذ الحكم الأوّل، و هو خلاف الظاهر.

(32) الوجه لهذا التفصيل: أنّه مع العلم القطعي بأنّ اجتهاده السابق الذي قضي عليه كان خلاف الواقع، فهو يعلم بأنّ قضاءه السابق كان علي خلاف ما أنزل اللّٰه، و هو داخل في قوله تعالي وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ.* الدالّ قطعاً علي عدم نفوذ القضاء الذي لم يكن بما أنزل اللّٰه، غاية الأمر: أنّه لمّا كان باجتهاده جاهلًا بالواقع فجهله عذر

له في إقدامه علي هذا القضاء الذي يلازم الكفر و الفسق و الظلم.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 98

______________________________

و أمّا إذا كان تبدّل رأيه باجتهاد آخر ظنّي، فهو و إن كان فعلًا معتقداً لبطلان اجتهاده الأوّل، إلّا أنّ كلا الاجتهادين لمّا كان ظنّياً فلا رجحان لأحدهما علي الآخر، و كلاهما مشمولان لأدلّة جواز القضاء بهما.

إلّا أنّه لمّا قضي بمقتضي الاجتهاد الأوّل في واقعة فلا يبقي محلّ للقضاء بمقتضي الاجتهاد الثاني في نفس تلك الواقعة، بل الاجتهاد الثاني يصير ملاك القضاء في الوقائع الآتية.

و بعبارة اخري: الاجتهادان المختلفان من فقيه واحد كالمختلفين من فقيهين كلاهما مشمول أدلّة جواز القضاء، و أيّهما سبق في القضاء به فقد صار بالفعل مصداق أدلّة جواز القضاء، و لم يبق محلّ للقضاء بالآخر، من غير ترجيح لأحدهما علي الآخر.

و يمكن أن يقال: إنّ تبدّل الرأي بالطريق الظنّي و إن لم يوجب علماً بالواقع، لكنّه يوجب علماً ببطلان الاجتهاد الأوّل و أنّ ما استند إليه سابقاً لم يكن قابلًا للاعتماد، و الآن له طريق إلي أنّ ما أفتي به سابقاً كان خلاف الواقع؛ ففي الزمان الثاني يقوم الطريق بلا معارض علي أنّ قضاءه السابق لم يكن حكماً بما أنزل اللّٰه، فلا محالة لم يكن نافذاً. و هذا بخلاف المجتهدين المختلفين؛ فإنّ كلا الرأيين موجودان في زمان واحد مشمولان لأدلّة جواز القضاء، من غير مزية لأحدهما علي الآخر، فلا فرق بين العلم بالخلاف أو الظنّ المعتبر به.

و الحقّ: أنّه و إن لم يكن فرق بين القطع و الظنّ بالخلاف كما عرفت إلّا أنّه لو كان الاجتهاد الأوّل مبنياً علي التمسّك بمثل أصالة الحلّ

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 99

[مسألة 10 يجوز للحاكم تنفيذ حكم من له أهليّة القضاء]

مسألة 10 يجوز للحاكم تنفيذ حكم من له أهليّة القضاء من غير الفحص عن مستنده (33) و لا يجوز له الحكم في الواقعة مع عدم العلم بموافقته لرأيه (34).

______________________________

و الطهارة ممّا يحكي عن جعل الشارع حكماً و لو كان حكماً ظاهرياً فبعد تبدّل الاجتهاد لا ينقلب الحكم الظاهري الذي حكم به الشارع في ظرف الجهل عمّا كان، بل هو باقٍ في ذلك الظرف و لو قام الطريق المعتبر أو انقطع بعداً بخلافه. فالقضاء السابق كان حكماً بما أنزل اللّٰه و إن كان حكماً ظاهرياً، و لا يرتفع هذا الحكم الظاهري عن ظرفه بانكشاف الواقع بعد قطعاً أو ظنّاً؛ فإنّ الحقّ كما عليه سيدنا الأُستاذ، مدّ اللّٰه تعالي ظلّه علي المسلمين هو الإجزاء في مثل أصالة الطهارة و الحلّ.

نعم، فيما كان الاستناد في الاجتهاد الأوّل علي طريق قد انكشف خلافه، فبانكشاف الخلاف قطعاً أو ظنّاً ينكشف أنّ الحكم السابق من أوّل الأمر لم يكن حكماً بما أنزل اللّٰه، فلا محالة لا يكون ممضي و نافذاً من أوّل الأمر، و عليه أن يقضي في الوقائع السابقة أيضاً علي مقتضي الاجتهاد الفعلي، و اللّٰه العالم.

(33) لما عرفت في المسألة السابعة من إجراء أصالة الصحّة في حكم ذلك القاضي.

(34) فإنّ الحكم و الحال هذه من قبيل القضاء بغير علم، و هو محرّم و إن كان موافقاً للواقع؛ فإنّه عدّ من القضاة الذين في النار

رجل قضي

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 100

و هل له الحكم مع العلم به؟ الظاهر أنّه لا أثر لحكمه بعد حكم القاضي الأوّل بحسب الواقعة (35). و إن كان قد يؤثّر في إجراء الحكم كالتنفيذ فإنّه أيضاً غير مؤثِّر في الواقعة و إن يؤثّر

في الإجراء أحياناً،

______________________________

بالحقّ و هو لا يعلم «1».

و لا أقلّ من أنّه لا يشمله أدلّة الجواز؛ فإنّ قولهم عليهم السلام في المقبولة

و عرف أحكامنا «2»

، و في معتبرة أبي خديجة

عرف حلالنا و حرامنا «3»

، يدلّ علي اعتبار علم القاضي بالحكم الشرعي الذي يحكم به كما عرفت، و يكون الأصل عدم نفوذه وضعاً و حرمته تكليفاً كما مرّ.

(35) بل قد عرفت: أنّ ظاهر أدلّة الجواز إنّما هي المرافعات التي لم يفصل الخصومة فيها و لم يحكم قبلًا فيها؛ لكي يكون القضاء فصلًا للخصومة و حلّا للنزاع. فلا تعمّ هذه الأدلّة، الوقائع التي قضي فيها سابقاً، فلا دليل علي نفوذ الحكم الثاني شرعاً، فيكون لغواً قطعاً، بل ربّما يدّعي اقتضاء القواعد حرمته تكليفاً.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 22، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 4، الحديث 6.

(2) وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة 27: 139، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 101

و لا فرق في جواز التنفيذ بين كونه حياً أو ميتاً، و لا بين كونه باقياً علي الأهلية أم لا (36)؛ بشرط أن لا يكون إمضاؤه موجباً لإغراء الغير بأنّه أهل فعلًا (37).

[مسألة 11 لا يجوز إمضاء الحكم الصادر من غير الأهل]

مسألة 11 لا يجوز إمضاء الحكم الصادر من غير الأهل (38)؛ سواء كان غير مجتهد أو غير عادل و نحو ذلك،

______________________________

(36) و ذلك لجريان أصالة الصحّة في القضاء في جميع الصور الأربع.

(37) فإنّه حينئذٍ يكون هو السبب بتنفيذه لقضاء غير الأهل، و دخله في وقوع هذا الحرام أقوي من الإعانة عليه، فيكون حراماً. مضافاً إلي أنّ الإغراء كذب عملي.

(38) و ذلك أنّ المتخاصمين نزاعهما باقٍ

خارجاً و إن سكتا؛ فإنّما هو تسليم لقضاء القاضي، و حيث إنّ القاضي غير أهل و قضاءه بمنزلة العدم فلهما حقّ المرافعة بعد شرعاً، فإمضاء حكم غير الأهل منع لهما عن هذا الحقّ الثابت لهما، و هو ظلم و حرام، بل لهما حقّ المرافعة إلي قاضٍ أهل، و يجب سماع دعواهما و الحكم بينهما بما أنزل اللّٰه. و لو لم يسمع دعواهما كان تركاً للواجب و معصية، هذا.

مضافاً إلي أنّه بعد ما كان حكم غير الأهل بمنزلة العدم فالأُصول الجارية في مورد النزاع باقية كما كانت، فلو كان حكمه علي خلاف هذه الأُصول لكان في إمضاء حكمه مخالفة لها، و تنفيذ قضائه طرح عملي لهذه الأُصول، و هو غير جائز.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 102

و إن علم بكونه موافقاً للقواعد (39)، بل يجب نقضه مع الرفع إليه أو مطلقاً (40).

[مسألة 12 إنّما يجوز إمضاء حكم القاضي الأوّل للثاني إذا علم بصدور الحكم منه]

مسألة 12 إنّما يجوز إمضاء حكم القاضي الأوّل للثاني إذا علم بصدور الحكم منه (41)؛ إمّا بنحو المشافهة، أو التواتر و نحو ذلك، و في جوازه بإقرار المحكوم عليه إشكال، و لا يكفي مشاهدة خطّه و إمضائه، و لا قيام البيّنة علي ذلك، نعم لو قامت علي أنّه حكم بذلك فالظاهر جوازه.

______________________________

(39) إذ ليس لحكمه أثر، و لو حكم علي وفق قواعد القضاء.

(40) إذ في نقضه نهي للمنكر عملًا؛ فإنّه يوجب عدم جسارته علي الحكم بعداً.

(41) بعد ما كان جواز التنفيذ و الإمضاء مترتّباً علي الحكم الصادر من الأهل و إلّا فالمترافعان لهما حقّ الترافع و يسمع دعواهما فلا بدّ من ثبوت صدور الحكم من الأهل بطريق معتبر إمّا بالعلم أو بقيام البيّنة و لا يكفي مشاهدة خطّ القاضي، إلّا إذا علم

بأنّه خطّه، و بأنّه لم يكتبه إلّا مع إنشاء الحكم كما كتب، لا أنّه مشابه لخطّه أو يحتمل كتابته قبل إنشاء الحكم و لم ينشئ بعده.

و إقرار المحكوم عليه و إن كان مسموعاً علي نفسه، إلّا أنّه لا يلازم كونه طريقاً شرعياً إلي صدور الحكم من الأهل؛ فإنّ القدر المسلّم من الأدلّة: أنّ إقرار العقلاء جائز علي أنفسهم و بالنسبة إلي حيثية كونه علي

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 103

______________________________

أنفسهم، و أمّا ما يتوقّف عليه تحقّق المقرّ به خارجاً فلا يكون الإقرار حجّة عليه.

فإذا أقرّ المحكوم عليه بحكم القاضي الأوّل عليه و حكمه محكوم بالصحّة بمقتضي أصالة الصحّة فالنتيجة و هي أنّ هذا المال مثلًا ليس له، بل لخصمه يثبت بإقراره؛ لأنّها عليه. و أمّا ما يتوقّف عليه هذه النتيجة و هو حكم القاضي فلا يثبت بإقراره.

اللهمّ إلّا أن يقال بأنّه إذا لم يكن لما يتوقّف النتيجة عليه حيثية أُخري غير حيثية أنّه عليه فيثبت بإقراره، لكنّه محلّ تأمّل.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 105

[القول في وظائف القاضي]

اشارة

القول في وظائف القاضي و هي أُمور:

[الأوّل: يجب التسوية بين الخصوم]

الأوّل: يجب التسوية بين الخصوم و إن تفاوتا في الشرف و الضعة في السلام و الردّ و الإجلاس و النظر و الكلام و الإنصات و طلاقة الوجه و سائر الآداب و أنواع الإكرام (1)،

______________________________

(1) لما في موثّق السكوني، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

قال أمير المؤمنين عليه السلام: من ابتلي بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة و في النظر و في المجلس «1».

و الأمر بالمواساة ظاهر في وجوبها.

و ذكر الإشارة و النظر و المجلس كناية عرفاً عن أنواع الآداب المعمولة بين الناس عند اللقاء و الاجتماع في مجلس واحد، فيجب أن يري القاضي

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 214، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 3، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 106

و العدل في الحكم (2).

______________________________

المترافعين بنظر واحد، لا يفضّل أحدهما علي الآخر في مجلس القضاء أصلًا و إن تفاوتا في الشرف و الضعة، قضاءً بإطلاق الرواية.

و يؤيّده ما في موثّقة الآخر

إنّ رجلًا نزل بأمير المؤمنين عليه السلام فمكث عنده أيّاماً ثمّ تقدّم إليه في خصومة (حكومة خ. ل) لم يذكرها لأمير المؤمنين عليه السلام فقال له: أخصم أنت؟ قال: نعم، قال: تحوّل عنّا؛ فإنّ رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم نهي أن يضاف الخصم إلّا و معه خصمه «1»

؛ فإنّ نهي الرسول صلي الله عليه و آله و سلم و إن ذكر في كلامه عليه السلام للاستشهاد به علي أمره بتحوّل الضيف عنه و ليس مجرّداً مطلقاً لكي يستدلّ بإطلاقه علي الحرمة إلّا أنّه لا ريب في دلالته إجمالًا علي مبغوضية الفرق بين الخصمين بهذا المقدار، و لا محالة يراد به النهي

التحريمي، و يكون مؤيّداً لسابقه.

(2) لإطلاق الأدلّة الآمرة بالحكم بالعدل، كقوله تعالي إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ. إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ «2».

و إطلاق حرمة عدم الحكم بما أنزل اللّٰه «3»؛ فإنّ الظلم في الحكم و تضييع حقّ الغير عدول عن الحكم بما أنزل اللّٰه معادل للكفر و الفسق في

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 214، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 3، الحديث 2.

(2) النساء (4): 58.

(3) راجع المائدة (5): 44 و 47.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 107

و أمّا التسوية في الميل بالقلب فلا يجب (3).

______________________________

القرآن العظيم.

و إطلاق حرمة الحكم بالجور؛ حتّي أنّه عدّ الحاكم الجائر من امّة النبي فاجراً يقبض روحه بسفود من النار، فيصيح جهنّم «1».

(3) و ذلك لتعسّرها، و لا يريد اللّٰه بنا العسر، و لعدم الدليل علي وجوبها، و الأصل يقتضي عدم الوجوب.

و أمّا صحيحة أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام قال

كان في بني إسرائيل قاضٍ و كان يقضي بالحقّ فيهم، فلمّا حضره الموت قال لامرأته: إذا أنا متّ فاغسليني و كفّنيني و ضعيني علي سريري و غطّي وجهي؛ فإنّك لا ترين سوء، فلمّا مات فعلت ذلك، ثمّ مكث بذلك حيناً، ثمّ إنّها كشفت عن وجهه لتنظر إليه، فإذا هي بدودة تقرض منخره، ففزعت من ذلك، فلمّا كان الليل أتاها في منامها، فقال لها: أفزعك ما رأيت؟ قالت: أجل، فقال لها: أما لئن كنت فزعت ما كان الذي رأيت إلّا في أخيك فلان، أتاني و معه خصم له، فلمّا جلسا إليّ قلت: اللهمّ اجعل الحقّ له و وجّه القضاء علي صاحبه، فلمّا اختصما إليّ كان الحقّ له و رأيت ذلك بيّناً في القضاء، فوجّهت القضاء له علي

صاحبه، فأصابني ما رأيت لموضع

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة 27: 228، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 12، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 108

هذا إذا كانا مسلمين، و أمّا إذا كان أحدهما غير مسلم يجوز تكريم المسلم زائداً علي خصمه، و أمّا العدل في الحكم فيجب علي أيّ حال (4).

______________________________

هواي كان مع موافقة الحقّ «1».

فقد يتوهّم الاستدلال بها علي حرمة الترجيح بينهما في الميل بالقلب، بتقريب: أنّ القصّة و إن وقعت في بني إسرائيل لا في الإسلام، و الرؤيا ليست بحجّة، إلّا أنّ نقل الباقر عليه السلام لها دليل علي حجّية مضمونها و تصديقه و جريانه في أُمّة الإسلام أيضاً، و قد قال القاضي

فأصابني ما رأيت لموضع هواي

، فجعل عذابه متفرّعاً و ناشئاً علي مجرّد كون هواه و ميله القلبي مع أخي زوجته، و إن كان قد قضي فيه بالحقّ.

لكنّه مندفع أوّلًا بأنّ الظاهر من الحديث أنّه تكلّم بعد جلوسهما بقوله

اللهمّ اجعل الحقّ له.

إلي آخره، فقد عاملهما بالاختلاف.

و لا ينافيه قوله

لموضع هواي كان

؛ فإنّ الظاهر: أنّه إشارة إلي الهوي الذي سبق التعبير عنه، و قد كان هوي مظهراً في الكلام.

و ثانياً: أنّ ابتلاءه بدودة تقرض منخره، لعلّه كان للنهي التنزيهي و ارتكابه أمراً مكروهاً لا حراماً؛ فإنّه مثال برزخي لهذا الهوي القلبي الذي لم يصل النهي عنه حدّ الحرمة، و قد ورد أمثاله في المكروهات كثيراً.

(4) في «الجواهر»: بلا خلاف، بل في «الرياض»: أنّه كذلك قولًا واحداً، انتهي.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 225، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 9، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 109

______________________________

و مقتضي عموم موثّق السكوني الماضي وجوب التسوية في أنواع الآداب؛ حتّي في هذه

الصورة، و لم نجد فيما بأيدينا من الأدلّة المعتبرة دليلًا علي تخصيصه.

نعم، في «المستدرك» عن كتاب «الغارات» بإسناده عن الشعبي قال: وجد علي عليه السلام درعاً له عند نصراني، فجاء به إلي شريح يخاصمه إليه، فلمّا نظر إليه شريح ذهب يتنحّي، فقال: مكانك، فجلس إلي جنبه و قال

أمّا لو كان خصمي مسلماً ما جلست إلّا معه، و لكنّه نصراني و قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم: إذا كنتم و إيّاهم في الطريق فالجئوهم إلي مضايقة و صغّروا بهم كما صغّر اللّٰه بهم من غير أن تظلموا «1».

و نحوه ما في «الجواهر» و غيره مرسلًا عنه عليه السلام أنّه جلس بجنب شريح في حكومة له مع يهودي في درع، و قال

لو كان خصمي مسلماً لجلستُ معه بين يديك، و لكن قد سمعتُ رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم يقول: لا تساووهم في المجلس

؛ فإنّه قد يستدلّ بهما علي جواز الفرق و تكريم القاضي للمسلم زائداً علي الكافر.

لكن فيه: أنّ مصبّ الكلام هو وجوب تسوية القاضي بين المترافعين في أنواع الآداب، لا وجوب تسوية المترافعين في معاملة كلّ منهما مع الآخر.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 17: 359، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 11، الحديث 5.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 110

[الثاني: لا يجوز للقاضي أن يلقّن أحد الخصمين شيئاً يستظهر به علي خصمه]

الثاني: لا يجوز للقاضي أن يلقّن أحد الخصمين شيئاً يستظهر به علي خصمه (5)،

______________________________

و الخبران ينفي وجوب الثاني فيما كان أحد الخصمين غير مسلم، و هو عليه السلام علّل معاملة هذه مع خصمه بما سمعه من رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم فهو عليه السلام لأنّه مظهر كامل للآداب الإنسانية لا يفعل شيئاً حتّي مع

خصمه الذي ليس بمسلم، إلّا إذا كان غير مرجوح شرعاً.

فرعاية الأدب الإنساني الإسلامي و التقاء الخصمين معه و إن لم تكن واجبة، إلّا أنّه عليه السلام لا يتركه إلّا إذا سمع الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم يقول

لا تساووهم في المجلس

، فلا دليل فيه علي جواز تفضيل القاضي للمسلم علي الكافر في الإكرام.

مع أنّه قد ورد في بيان وظيفته

من ابتلي بالقضاء فليواس بينهم

بنحو الإطلاق، فلو احتمل استناد الأصحاب الذين لا خلاف بينهم إلي مثل هاتين الروايتين لما كان حينئذٍ «لا خلافهم» حجّة علي التخصيص، و إن كان جابراً لضعف سندهما.

(5) ادّعي الإجماع علي حرمة التلقين. و استدلّ لها بأنّ القاضي نصب لسدّ باب المنازعة، و التلقين يفتح بابها.

و أنت خبير بأنّه نصب لرفع المنازعة بين المترافعين بحكمه الحقّ، و هو لا ينافي تلقين أحدهما الحجّة علي الآخر و هدايته إليها ثمّ يرفع نزاعهما و يفصل بينهما بالحقّ. و الإجماع لو سلّم فلا حجّة فيه بعد احتمال

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 111

كأن يدّعي بنحو الاحتمال فيلقّنه أن يدّعي جزماً حتّي تسمع دعواه، أو يدّعي أداء الأمانة أو الدين فيلقّنه الإنكار، و كذا لا يجوز أن يعلّمه كيفية الاحتجاج و طريق الغلبة، هذا إذا لم يعلم أنّ الحقّ معه و إلّا جاز (6) كما جاز له الحكم بعلمه.

______________________________

استناده إلي الوجه المذكور، هذا.

و التحقيق: أنّ قوله عليه السلام في موثّق السكوني الماضي

من ابتلي بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة و في النظر و في المجلس

ظاهر عرفاً في وجوب التقائه مع الخصمين في مجلس القضاء و في القضية التي رفعوها إليه بنحو سواء، لا يفضّل أحدهما علي الآخر حتّي في النظر إليهما فيدلّ بمفهوم

الموافقة علي حرمة تلقين أحد الخصمين و تعليمه ما يستظهر به علي خصمه و يحتجّ به عليه.

فالموثّق في الدلالة علي حرمة التلقين و التعليم المذكورين، مثل قوله تعالي فَلٰا تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ «1» في الدلالة علي حرمة ضربهما مثلًا.

(6) و ذلك أنّه بعد ما عرفت من وجوب الحكم بعلمه، و أنّ تركه مشمول لقوله تعالي وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ «2»، فلا محالة إذا علم أنّ الحقّ معه يحكم له طبقاً لعلمه، فإذا

______________________________

(1) الإسراء (17): 23.

(2) المائدة (5): 44.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 112

و أمّا غير القاضي فيجوز له ذلك مع علمه بصحّة دعواه (7)، و لا يجوز مع علمه بعدمها (8) و مع جهله فالأحوط الترك (9).

______________________________

جاز، بل وجب عليه أن يحكم له عملًا بعلمه، فأن يجوز له تلقينه طريقاً صحيحاً آخر يغلب به علي خصمه أولي.

(7) لعدم الدليل علي الحرمة بالنسبة إلي غير القاضي، و الجواز مقتضي الأصل. مضافاً إلي أنّ تلقينه الحجّة للوصول إلي حقّه إعانة له في قضاء حاجته و من مصاديق السعي في قضائها، الذي ورد فيه

من سعي في حاجة أخيه المسلم طلب وجه اللّٰه، كتب اللّٰه عزّ و جلّ له ألف ألف حسنة يغفر فيها لأقاربه و معارفه و جيرانه و إخوانه «1».

(8) فإنّ التلقين و التعليم حينئذٍ مصداق للإعانة علي الإثم و العدوان، و حرمة التعاون يلزمها حرمة الإعانة؛ إذ الظاهر أنّ التعاون هو إعانة كلّ الآخر.

(9) فإنّه مع الجهل يحتمل انطباق كلّ من عنواني «الجائز» و «الحرام»، و أصالة البراءة و الحلّ و إن كانت مقتضية للجواز إلّا أنّ اهتمام الشارع بحقوق الناس ربّما يمنع عن جواز التهجّم عليها،

إلّا إذا ثبت جوازه، فتأمّل.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 16: 367، كتاب الأمر و النهي، أبواب فعل المعروف، الباب 27، الحديث 6.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 113

[الثالث: لو ورد الخصوم مترتّبين بدأ الحاكم في سماع الدعوي بالأوّل فالأوّل]

الثالث: لو ورد الخصوم مترتّبين بدأ الحاكم في سماع الدعوي بالأوّل فالأوّل (10) إلّا إذا رضي المتقدّم تأخيره، من غير فرق بين الشريف و الوضيع و الذكر و الأُنثي.

______________________________

(10) ادّعي عليه الإجماع، و يدلّ عليه: أنّ كلّ محلّ و مورد أُعدّ لمراجعة الناس لتحصيل مصلحة من مصالحهم فازدحم عليه أكثر من واحد مترتّباً، فالعقلاء يحكمون قطعاً بأنّ للمتقدّم حقّ الانتفاع بهذا المحلّ و المورد قبل المتأخّر، و أنّه لو انتفع المتأخّر قبله فقد تعدّي عليه و ظلمه.

فكما أنّهم يرون لمن تصدّي لإحياء أرض ميتة فحجّرها و اشتغل بمقدّمات إحيائها حقّ التقدّم له علي غيره بحيث لو منعه الغير عن إحيائها و زاحمه فقد ظلمه و تعدّي عليه فهكذا يرون لمن راجع دكّة قضاء القاضي لبيان دعواه و لحقه غيره يرون له حقّ التقدّم علي غيره، بحيث لو منعه الغير و زاحمه و تقدّم عليه فقد تعدّي عليه. كما أنّه لو قدّم القاضي ذلك الغير و أصغي إلي دعواه قبل المتقدّم فقد تعدّي القاضي عليه و ظلمه.

و بالجملة: يحكم العقلاء قطعاً بأنّ للمتقدّم حقّ بيان الدعوي قبل كلّ أحد، و بأنّ منعه عن حقّه من غير رضاه ظلم عليه، و الظلم قبيح من كلّ أحد عقلًا و حرام شرعاً. فالعقلاء يرون المورد من مصاديق حقّ المراجع، و لم يدلّ دليل علي تخطئتهم؛ فأدلّة حرمة الظلم تدلّ علي حرمة منعه و عدم رعاية حقّه.

فالحاصل: أنّ العقلاء كما يرون بعض الأُمور كالحيازة للمباحات-

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص:

114

و إن وردوا معاً أو لم يعلم كيفية ورودهم و لم يكن طريق لإثباته يقرع بينهم مع التشاحّ (11).

______________________________

سبباً لحصول الملك، فإذا حاز شيئاً منها فهذا الشي ء ملك و مال له عندهم يشمله عموم

لا يحلّ دم امرئ مسلم و لا ماله إلّا بطيبة نفسه «1»

، فكذلك يرون بعض الأُمور سبب حدوث الحقّ، و يكون عدم رعايته ظلماً عليه و مشمولًا لعموم أدلّة حرمة الظلم.

(11) فإنّ القرعة سنّة في موارد تزاحم الحقوق؛ سواء كان له واقع معيّن لا نعرفه، أم كان مشكلًا لا واقع معيّن له.

فالأوّل كما في صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام

إذا وقع الحرّ و العبد و المشرك علي امرأة في طهر واحد و ادّعوا الولد أُقرع بينهم، و كان الولد للّذي يقرع «2».

و الثاني كما في معتبر إبراهيم بن عمر عنه عليه السلام في رجل قال: أوّل مملوك أملكه فهو حرّ، فورث ثلاثة؟ قال

يقرع بينهم؛ فمن أصابه القرعة أعتق

، قال

و القرعة سنّة «3»

؛ ففيما اشتبه المتقدّم و المتأخّر يكون من قبيل

______________________________

(1) وسائل الشيعة 29: 10، كتاب القصاص، أبواب القصاص في النفس، الباب 1، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة 27: 257، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 13، الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة 27: 257، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 13، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 115

[الرابع: لو قطع المدّعي عليه دعوي المدّعي بدعوي، لم يسمعها حتّي يجيب عن دعوي صاحبه و تنتهي الحكومة]

الرابع: لو قطع المدّعي عليه دعوي المدّعي بدعوي، لم يسمعها حتّي يجيب عن دعوي صاحبه و تنتهي الحكومة، ثمّ يستأنف هو دعواه إلّا مع رضا المدّعي الأوّل بالتقديم (12).

[الخامس: إذا بدر أحد الخصمين بالدعوي فهو أولي]

الخامس: إذا بدر أحد الخصمين بالدعوي فهو أولي (13)، و لو ابتدرا معاً يسمع من الذي علي يمين صاحبه (14).

______________________________

مورد صحيح الحلبي، و ما إذا ورد الخصوم دفعة يكون من قبيل مورد معتبر إبراهيم بن عمر، و القرعة سنّة في كليهما.

(12) و ذلك لعين ما عرفت في لزوم رعاية الترتيب في سماع المرافعات المختلفة؛ فإنّ العقلاء هنا أيضاً يرون للمدّعي حقّ تعقيب دعواه حتّي يصل إلي الحكم. و سماع دعوي أُخري مطروحة أثناء دعواه تعدّ عليه بعدم رعاية حقّه، و هو ظلم حرام. نعم مع رضاه بذلك فلا بأس به؛ فإنّ الحقّ له و أمره إليه.

(13) فإنّه و إن كان في الدعوي الواحدة لكلّ من الخصمين حقّ طرح الدعوي، لكنّهما إذا كانا ساكتين فبدر أحدهما بالدعوي قبل صاحبه فهذا يوجب له عند العقلاء حقّ تعقيب دعواه و بيانها، و منعه عن حقّه هذا ظلم و حرام. فسبق أحدهما علي الآخر هنا يشبه سبق أحد علي الآخر في تحجير أرض ميتة؛ فإنّ سبقه في التحجير عند العقلاء حقّ سبق، و منعه عن حقّه هذا ظلم و حرام.

(14) مقتضي القواعد هو الرجوع إلي القرعة؛ لأنّه من قبيل تزاحم

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 116

______________________________

الحقوق فيما لا واقع له معيّناً، كما يرجع إليها فيما ورد الخصوم معاً في تعيين أولي الدعاوي التي ينبغي أن تطرح و تسمع، فالقول بسماع دعوي الخصم الذي هو علي يمين صاحبه أمر تعبّدي.

قيل: إنّه المعروف بين الأصحاب، بل ادّعي الإجماع عليه السيّد

المرتضي و شيخ الطائفة 0.

فقال السيّد في «الانتصار» في مسائل القضاء: و ممّا انفردت به الإمامية القول بأنّ الخصمين إذا ابتدرا الدعوي بين يدي الحاكم و تشاحّا في الابتداء بها، وجب علي الحاكم أن يسمع من الذي عن يمين خصمه، ثمّ ينظر في دعوي الآخر، و خالف باقي الفقهاء في ذلك و لم يذهبوا إلي مثل ما حكيناه. دليلنا علي صحّة ذلك: إطباق الطائفة عليه، انتهي.

و قال شيخ الطائفة في (المسألة 32) من كتاب آداب القضاء من «الخلاف»: إذا حضر اثنان عند الحاكم معاً في حالة واحدة، و ادّعيا معاً في حالة واحدة كلّ واحد منهما علي صاحبه، من غير أن يسبق أحدهما بها، روي أصحابنا أنّه يقدّم من هو علي يمين صاحبه. إلي أن قال: دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم، و لو قلنا بالقرعة كما ذهب إليه أصحاب الشافعي كان قوياً؛ لأنّه مذهبنا في كلّ أمر مجهول، انتهي.

و لعلّ المراد من الرواية المشار إليها في كلامه، ما رواه الصدوق بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال

قضي رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم أن يقدّم صاحب اليمين في المجلس بالكلام «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 218، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 5، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 117

______________________________

و ذلك أنّ السيّد في «الانتصار» بعد ذكر أنّ ابن الجنيد فسّر اليمين في الحديث بالقسم و الحلف قال: و هذا تخليط من ابن الجنيد؛ لأنّ التأويلات إنّما تدخل حيث يشكل الأُمور، و لا خلاف بين القوم أنّه إنّما أراد يمين الخصم دون اليمين التي هي القسم، انتهي.

فتراه قدس سره قد فسّر اليمين بيمين الخصم، و جعله

ممّا لا إشكال فيه و لا خلاف.

و حينئذٍ: فإن جعلنا فهم الأصحاب قرينة علي إرادة ما فهموه من الحديث منه بملاحظة قربهم من المعصومين عليهم السلام و تناولهم للأحاديث من المشايخ يداً بيد و صدراً عن الصدر فلا ينبغي الإشكال في وجوب تقديم مَن علي يمين خصمه؛ فإنّ حكاية أبي جعفر الباقر عليه السلام لقضائه صلي الله عليه و آله و سلم بذلك إنّما هي لأن يكون قضاؤه بيان الطريقة اللازمة الاتّباع في باب القضاء.

و الظاهر: أنّه الوجه في فتوي الأُستاذ دام ظلّه في المتن بهذا التقديم.

نعم، مع قطع النظر عن فهم الأصحاب فلا دليل في الحديث علي إرادة يمين الخصم، فلعلّ المراد يمين القاضي أو الوالي أو كلّ من يراد بيان الحال لديه، و مع الإجمال فيه فالمرجع هو عمومات القرعة.

و أمّا صحيح عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام

إذا تقدّمت مع خصم إلي والٍ أو إلي قاضٍ فكن عن يمينه

؛ يعني: عن يمين الخصم «1»،

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 218، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 5، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 118

و لو اتّفق مسافر و حاضر فهما سواء ما لم يستضرّ أحدهما بالتأخير، فيقدّم دفعاً للضرر (15). و فيه تردّد (16).

______________________________

فلو سلّم إرادة يمين الخصم من قوله

عن يمينه

و قطع النظر عن استظهار رجوع الضمير إلي الأقرب أعني الوالي أو القاضي فلا شاهد في الصحيح علي تقدّم مَن علي يمينه في الكلام؛ إذ لم يبيّن فيه ذلك، فلعلّ في الكون علي يمينه تفؤّلًا بالخير، أو لعلّه لكون الكون علي اليمين أولي منه علي اليسار و أشرف.

و منه تعرف عدم إمكان الاستدلال به و إن عقّب بجملة

«فإنّ الفائدة في ذلك» كما في «جامع المدارك»؛ فإنّ هذه الفائدة لم تبيّن، مع أنّ كتب الحديث فيما رأيناه خالية عن هذه الجملة.

(15) الظاهر: أنّ المسألة مفروضة فيما كان هناك دعويان مستقلّتان، و إلّا فعلي كلّ من المدّعي و المنكر أن يحضر مجلس القضاء حتّي يجيب عن صاحبه. اللهمّ إلّا أن يكون من قبيل الحكم علي الغائب.

و كيف كان: فالدليل علي أنّ المسافر و الحاضر سواء فيما مضي من الأحكام، هو إطلاق أدلّتها. و الوجه لتقديم من يستضرّ بالتأخير: أنّ تقديمه ليس فيه ضرر علي صاحبه، و تقديم غيره عليه علي ما هو مقتضي الأدلّة فيه ضرر عليه؛ فعموم لا ضرر ينفي هذا الحكم الذي يقتضيه الإطلاقات، كما في الموارد الأُخر.

(16) وجه التردّد و احتمال عدم تقديم المستضرّ أمران:

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 119

______________________________

الأوّل: ما عليه الأُستاذ دام ظلّه العالي من أنّ مفاد حديث لا ضرر أمر حكومي استند صلي الله عليه و آله و سلم في إعمال الولاية في أمره سمرة بن جندب بقطع نخلته و رميها إليه، و ليس مفاده قاعدة كلّية فقهية أو أُصولية. و تمام الكلام في محلّه.

الثاني: أنّه كما أنّ هذا الآخر يستضرّ بالتأخير و يقتضي عموم لا ضرر نفي إطلاقات تقديم صاحبه، فكذلك لمّا كان مفاد الإطلاقات ثبوت حقّ للمتقدّم فمنعه عن حقّه أيضاً ضرر عليه، فيتعارض الضرران و لا ترجيح لأحدهما علي الآخر، فيؤخذ بمقتضي الإطلاقات المثبتة للحقّ للمتقدّم، إذ لم يثبت هنا عموم حاكم عليها يقيّدها.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 121

[القول في شروط سماع الدعوي]

اشارة

القول في شروط سماع الدعوي و ليعلم أنّ تشخيص المدّعي و المنكر (1) عرفي كسائر الموضوعات العرفية و ليس للشارع

الأقدس اصطلاح خاصّ فيهما.

______________________________

(1) قد ورد في أخبار كثيرة: أنّ البيّنة علي من ادّعي و اليمين علي من أنكر، أو من ادّعي عليه. و لنذكر منها أُنموذجاً:

ففي صحيح جميل و هشام عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم: البيّنة علي من ادّعي و اليمين علي من ادّعي عليه «1».

و في صحيح عثمان بن عيسي و حمّاد بن عثمان في حديث فدك في احتجاج أمير المؤمنين صلوات اللّٰه عليه علي أبي بكر

و قد قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم: البيّنة علي من ادّعي و اليمين علي من أنكر «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 233، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 3، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 293، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 25، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 122

و قد عرّف بتعاريف متقاربة، و التعاريف جلّها مربوطة بتشخيص المورد (2) كقولهم: إنّه من لو ترك ترك، أو يدّعي خلاف الأصل، أو من يكون في مقام إثبات أمر علي غيره. و الأولي الإيكال إلي العرف.

______________________________

و بالجملة: فقد ذكر المنكر و من أنكر، و المدّعيٰ عليه و من ادّعي عليه في أخبارهم عليهم السلام في قبال المدّعي و من ادّعي، و هما كسائر الألفاظ الملقاة إلي العرف يراد منهما معانيهما العرفية؛ فإنّهما بلسان العرف القيا إليه، فلا بدّ أن يؤخذ بمعناهما العرفي.

و المدّعي عرفاً هو الذي يدّعي أمراً؛ عيناً كان أم ديناً أم حقّا علي الآخر، أو يدّعيه الآخر. و هذا الآخر هو المدّعيٰ عليه، بلحاظ أنّ الادّعاء يكون عليه و لو بعناية أنّ هذا يدّعي ما يدّعيه ذاك الآخر؛ و

هو المنكر، بلحاظ أنّه ينكر ادّعاءه و ينفيه فيقع بينهما نزاع و خصومة يرجعان لفصله إلي القاضي.

(2) يعني أنّها ذكرت بلحاظ خصوصية المورد لتشخيص المدّعي و المنكر فيه، و إلّا فقد لا يكون جامعاً و مانعاً؛ فإنّ تعريف المدّعي بقولهم: «من لو تَرك تُرك» لا يصدق علي كلّ من المتداعيين؛ فإنّ كلّا منهما إذا ادّعي ملكية جميع ما في أيدي كليهما لا يُترك في شخص هذا النزاع و إن تَرك دعواه.

و تعريفه ب «من يدّعي خلاف الأصل» لا يصدق علي من يدّعي ملكية ما في يد الآخر مع العلم بأنّه كان للمدّعي قبلًا؛ فإنّ الأصل بقاء

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 123

و قد يختلف المدّعي و المنكر عرفاً بحسب طرح الدعوي و مصبّها (3)، و قد يكون من قبيل التداعي (4) بحسب المصبّ.

[مسألة 1 يشترط في سماع دعوي المدّعي أُمور]

اشارة

مسألة 1 يشترط في سماع دعوي المدّعي أُمور: بعضها مربوط بالمدّعي و بعضها بالدعوي و بعضها بالمدّعي عليه و بعضها بالمدّعي به:

[الأوّل: البلوغ]

الأوّل: البلوغ (5)، فلا تسمع من الطفل و لو كان مراهقاً.

______________________________

الملكية، لكنّ اليد أمارة علي أنّ ما في يد ذي اليد ملك له، و من لا يد له عليه مدّعٍ عرفاً و ذو اليد منكر.

كما أنّ تعريفه ب «من كان في مقام إثبات أمر علي غيره» لا يعمّ ما إذا كان مورد النزاع ملكية عين؛ إذ التعريف ظاهر في كونه بصدد إثبات دين أو حقّ علي الغير، كما لا يعمّ ما إذا كان مورد النزاع خارجاً عن يد كليهما. و لذلك كلّه فالأولي الإيكال إلي العرف.

(3) فإنّ في مثال دعوي ملكية ما في يد الغير إذا طرحوا دعواهم علي مجرّد الملكية بحيث لم يذكروا و لم ينظروا إلي سبب حصولها كان ذو اليد منكراً و غيره مدّعياً، و إذا طرحوا دعواهم علي انتقال ما في يده من الغير إليه و عدم انتقاله فيدّعي ذو اليد اشتراءه مثلًا و ينكره الغير، فذو اليد مدّعٍ و غيره منكر.

(4) كما لو ادّعي كلّ منهما ملكية جميع ما في يد كليهما أو ملكية ما هو خارج عن تحت أيديهما.

(5) و الدليل علي اعتباره صحيحة «الخصال» عن عبد اللّٰه بن سنان

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 124

______________________________

عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سأله أبي و أنا حاضر عن اليتيم متي يجوز أمره؟ قال

حتّي يبلغ أشدّه

، قال: و ما أشدّه؟ قال

احتلامه

، قال: قلت: قد يكون الغلام ابن ثمان عشرة سنة أو أقلّ أو أكثر و لم يحتلم؟ قال

إذا بلغ و كتب عليه الشي ء جاز عليه أمره،

إلّا أن يكون سفيهاً أو ضعيفاً «1».

بتقريب: أنّ السائل قد سأل عن زمان جواز أمر اليتيم و صيرورته مستقلا في معيشته ماضياً أمره، فأجاب بأنّه زمان احتلامه. ثمّ أفاد: أنّ الملاك هو بلوغه إلي حدّ التكليف، و إلي حدّ أن يكتب عليه الشي ء من التكاليف الإلزامية أو مجازاتها، فلا يجوز و لا يمضي أمره إذا لم يصل حدّ التكليف، فلو سمعت دعواه قبل هذا الحدّ لجعل مستقلا ماضي الأمر و جائزه، و قد دلّ الصحيحة علي أنّه لا يجوز أمره إذا لم يبلغ.

و جواز أمره هذا لا وجه لتخصيص إطلاقه بخصوص التصرّفات المالية و تمليك ماله و تملّك عوضه؛ فإنّه خلاف الإطلاق الذي هو حجّة ما لم يقم حجّة علي خلافه.

ثمّ إنّ الظاهر: أنّ الحكم لا يختصّ بالذكر، بل يعمّ الأُنثي و الصبية؛ فإنّ العرف يفهم منها أنّها بصدد ذكر البلوغ غاية لارتفاع حجر الصبي، بل الصحيحة ذكرت توضيحاً و تعميماً لقوله تعالي وَ ابْتَلُوا الْيَتٰاميٰ حَتّٰي إِذٰا بَلَغُوا النِّكٰاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ «2»، فبيّن عليه السلام

______________________________

(1) وسائل الشيعة 18: 412، كتاب الحجر، الباب 2، الحديث 5.

(2) النساء (4): 7.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 125

نعم لو رفع الطفل المميّز ظلامته إلي القاضي فإن كان له ولي أحضره (6) لطرح الدعوي،

______________________________

أنّ انقطاع يتم اليتيم و صيرورته جائز الأمر مستقلا في إرادته إنّما هو ببلوغه حدّ التكليف.

و هنا أخبار أُخر يمكن الاستدلال بها علي المطلوب قريب المضمون من الصحيحة، فراجع «الوسائل» كتاب الحجر، و الوصايا، و أبواب عقد البيع.

بل يمكن الاستدلال بالآية المباركة علي عدم سماع دعاويه المتعلّقة بأمواله قبل بلوغه؛ إذ الظاهر المفهوم من المنع عن دفع أمواله إليه

قبل البلوغ إنّما هو عدم استقلاله في الأُمور المتعلّقة بأمواله؛ سواء كانت من قبيل النقل و الانتقال، أم من قبيل الدعاوي المتعلّقة بالأموال.

و أمّا حديث رفع القلم عن الصبي حتّي يحتلم «1» فظاهره رفع ما فيه كلفة عليه. و القلم إمّا قلم التكليف أو المؤاخذة؛ فإنّ في وضع كليهما عليه كلفة. فالحديث إنّما ينفي عنه التكاليف الإلزامية أو المؤاخذة عليها، و هو لا ينافي استقلاله في أُموره المتعلّقة بأمواله أو في أُموره مطلقاً، كما لا يخفي.

(6) و ذلك كلّه لأنّ إحقاق حقّ الصبي و رفع الظلم عنه واجب من باب الحسبة، فيقوم بصدده القاضي العادل المعدّ شرعاً لأمثال هذه الأُمور،

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة 1: 42، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 4.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 126

و إلّا فأحضر المدّعي عليه ولاية أو نصب قيّماً له أو وكّل وكيلًا في الدعوي أو تكفّل بنفسه و أحلف المنكر لو لم تكن بيّنة، و لو ردّ الحلف فلا أثر لحلف الصغير، و لو علم الوكيل أو الولي صحّة دعواه جاز لهما الحلف.

[الثاني: العقل]

الثاني: العقل (7) فلا تسمع من المجنون و لو كان أدوارياً إذا رفع حال جنونه.

[الثالث: عدم الحجر لسفه]

الثالث: عدم الحجر لسفه إذا استلزم منها التصرّف المالي (8) و أمّا السفيه قبل الحجر فتسمع دعواه مطلقاً.

______________________________

و ما ذكره مدّ ظلّه بعداً طريق لإحقاق حقّه. و عدم الأثر لحلف الصبي مقتضي عدم استقلاله في أُموره.

(7) اعتبار العقل في المدّعي بحكم العقلاء؛ فإنّ المجنون لا اعتبار بدعاويه و سائر أعماله و أقواله عندهم، فهو كالطفل غير المميّز عندهم، و أدلّة اعتبار الدعاوي منصرفة عنه قطعاً.

(8) لما مرّ من استثناء السفيه عمّن يجوز أمره في صحيحة عبد اللّٰه بن سنان بقوله عليه السلام

إذا بلغ و كتب عليه الشي ء جاز أمره، إلّا أن يكون سفيهاً أو ضعيفاً «1».

و قضية الاستثناء عدم جواز أمره؛ أي عدم استقلاله في أُموره التي منها تصدّي المرافعة عند الحاكم و حيث إنّ مقتضي الأدلّة جواز أمره في

______________________________

(1) وسائل الشيعة 18: 412، كتاب الحجر، الباب 2، الحديث 5.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 127

[الرابع: أن لا يكون أجنبيّا عن الدعوي]

الرابع: أن لا يكون أجنبيّا عن الدعوي (9) فلو ادّعي بدين شخص أجنبي علي الآخر لم تسمع، فلا بدّ فيه من نحو تعلّق به كالولاية و الوكالة، أو كان المورد متعلّق حقّ له.

[الخامس: أن يكون للدعوي أثر]

الخامس: أن يكون للدعوي أثر (10) لو حكم علي طبقها، فلو ادّعي أنّ الأرض متحرّكة و أنكرها الآخر لم تسمع.

______________________________

غير الأُمور المالية فيتبعه إقامة دعاويه في غيرها.

كما أنّه لو قلنا بأنّ السفيه المسبوق بالرشد يتوقّف حجره علي حكم الحاكم، و إلّا فما لم يحكم عليه بالحجر يجوز أمره، فلا محالة يجوز له تصدّي المرافعات المالية أيضاً.

و بالجملة: و إن لا يبعد دعوي استفادة عدم جواز الأمر في السفيه مطلقاً مثل غير البالغ من قوله عليه السلام

إلّا أن يكون سفيهاً

، لكن بعد فرض اختصاص عدم الجواز بخصوص الأُمور المالية و اختصاصه أيضاً في المسبوق بالرشد بما بعد حكم الحاكم بحجره بمقتضي أدلّة أُخري، فلازمها عرفاً استقلاله في المرافعة في الأُمور غير المالية و فيما لم يحكم عليه بالحجر إذا سبقه الرشد، كما لا يخفي، و تمام الكلام موكول إلي كتاب الحجر.

(9) لانصراف أدلّة القضاء بالمنازعات المتعارفة ممّا كان للنزاع نحو ارتباط بالمتنازعين، و عدم شمولها لما كان المدّعي أجنبياً عنه بالمرّة. نعم هذا الارتباط يعمّ ما إذا كان مورد النزاع متعلّق حقّ له؛ كأن ادّعي علي أحد غصب عين كانت عارية أو رهناً، بل وديعة عنده.

(10) فإنّ قوله عليه السلام

ينظران من كان منكم. عرف أحكامنا

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 128

و من هذا الباب ما لو ادّعي الوقف عليه أو الهبة مع التسالم علي عدم القبض، أو الاختلاف في البيع و عدمه مع التسالم علي بطلانه علي فرض الوقوع. كمن ادّعي

أنّه باع ربويا و أنكر الآخر أصل الوقوع، و من ذلك ما لو ادّعي أمراً محالًا، أو ادّعي أنّ هذا العنب الذي عند فلان من بستاني، و ليس لي إلّا هذه الدعوي لم تسمع، لأنّه بعد ثبوته بالبيّنة لا يؤخذ من الغير لعدم ثبوت كونه له. و من هذا الباب لو ادّعي ما لا يصحّ تملّكه، كما لو ادّعي أنّ هذا الخنزير أو الخمر لي، فإنّه بعد الثبوت لا يحكم بردّه إليه إلّا فيما يكون له الأولوية فيه، و من ذلك الدعوي علي غير محصور، كمن ادّعي أنّ لي علي واحد من أهل هذا البلد ديناً.

______________________________

فليرضوا به حكماً؛ فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً «1»

، و قوله عليه السلام

اجعلوا بينكم رجلًا قد عرف حلالنا و حرامنا؛ فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً «2»

، ظاهران في أنّ القاضي و الحاكم إنّما يجعل قاضياً و حاكماً لكي يقضي و يفصل الخصومة و يحكم بحلالهم و حرامهم و بأحكامهم، فلا محالة يختصّ جعله قاضياً بما إذا كان للمدّعي به أثر خاصّ موقوف علي ثبوته.

بل إنّ سائر أدلّة القضاء أيضاً منصرفة إلي ما إذا كان للدعوي أثر

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 139، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 129

[السادس: أن يكون المدّعي به معلوماً بوجه]

السادس: أن يكون المدّعي به معلوماً بوجه، فلا تسمع دعوي المجهول المطلق، كأن ادّعي أنّ لي عنده شيئاً، للتردّد بين كونه ممّا تسمع فيه الدعوي أم لا (11).

______________________________

شرعي يترتّب عليها بحكم الحاكم.

فلو لم يكن للمدّعي به أثر شرعي كدعوي أنّ الأرض متحرّكة، أو أنّ منارة المسجد كذا متراً أو لم

يكن الأثر مختصّاً بخصوصه كما إذا قلنا بصحّة العقد الفارسي و العربي، و اختلفا في عربيته و فارسيته، و كما لو اختلفا في عدم وقوع البيع و وقوعه ربويا، إلي غير ذلك كانت أدلّة القضاء منصرفة عنه، و أدلّة جعل الرجل قاضياً غير شاملة له، فليست هذه الدعاوي مسموعة.

(11) أنّ المجهول إذا احتمل فيه بحسب ادّعاء المدّعي أن يكون مثل الخمر و الخنزير و نحوهما ممّا لا يحكم شرعاً بوجوب ردّه إلي مالكه، و ممّا ليست دعواه مسموعة، فحيث يحتمل فيه ذلك فهو من قبيل شبهة مصداقية لأدلّة جعل القاضي قاضياً، و لأدلّة وجوب سماع الدعاوي، و ليست تلك الأدلّة حجّة فيها.

كما أنّه لو أقام المدّعي عليه بيّنة أو أقرّ المدّعي عليه أو أحلف، فالمورد من قبيل الشبهة المصداقية لأدلّة حجّية البيّنة و الإقرار، و لأدلّة مشروعية الحلف لفصل الخصومة؛ لاختصاص حجّيتها بما إذا ترتّبت عليها آثار شرعية، و الحاكم و القاضي الذي عليه أن يحكم بحكمهم و بحلالهم

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 130

و أمّا لو قال: «إنّ لي عنده فرساً أو دابّة أو ثوباً» فالظاهر أنّه تسمع (12) فبعد الحكم بثبوتها يطالب المدّعي عليه بالتفسير، فإن فسّر و لم يصدّقه المدّعي فهو دعوي اخري.

______________________________

و حرامهم لم يعلم حجّية و اعتبار لحكمه إذا احتمل أنّ هذا المجهول ممّا لا قيمة و اعتبار له شرعاً، و كيف يحكم بكونه علي المدّعي عليه مع احتمال أن يكون خمراً أو خنزيراً؟! فهذا الاحتمال يجعل جميع مراحل القضاء مشكوكاً لا حجّة عليها أصلًا و لا يكون مثلها مسموعاً.

(12) لكونه علي جميع الاحتمالات ذا أثر شرعي. و عدم معلوميته بنوعه لا يضرّ بعد ما كان مثل هذا

النزاع قد يقع بين العقلاء، و يمكن بعد ثبوته تعيينه أو الحكم فيه بما هو مقتضي الأدلّة الشرعية.

و قد يكون للمدّعي بيّنة أو بيّنته حاضرة علي المردّد، و لا بيّنة أو لا بيّنة حاضرة علي المعيّن؛ فلذلك يقيم الدعوي علي المردّد. و بعد إثباته يرجع إلي القواعد الأُخر لتعيينه، كما أفاده دام ظلّه.

و بالجملة: فبعد إمكان وقوع مثل هذا النزاع فأدلّة القضاء و جعل العارف بالأحكام قاضياً و حاكماً، لا تقصر عن شمول مثله، فيكون دعواه مسموعة و القضاء فيها صحيحاً. فبعد الحكم بثبوت المردّد فإن فسّره المحكوم عليه بما يقبله المدّعي أو رجع أمرهما إلي المصالحة فلا كلام، و إن فسّره و وقع بينهما النزاع في تعيينه بأن فسّر كلّ منهما بما لا يقبله الآخر فهي دعوي أُخري مسموعة، و يحكم فيها بمقتضي قواعد القضاء.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 131

و إن لم يفسّر لجهالته مثلًا (13) فإن كان المدّعي به بين أشياء محدودة يقرع علي الأقوي (14).

______________________________

(13) هذا فيما لم يدّع المدّعي في مقام التفسير شيئاً خاصّاً، و إلّا كانت دعواه مسموعة، ربّما يقيم لصحّتها بيّنة لم تكن حاضرة فيحكم القاضي علي طبقها، و ربّما يردّ المنكر الحلف عليه فيحلف و يثبت دعواه.

(14) بناءً علي حجّية عموم أدلّة القرعة و عدم توقّف الرجوع إليها علي عمل الأصحاب بها في مورد الاحتجاج، كما عليه السيّد الأُستاذ الماتن دام ظلّه و علاه.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ غاية المستفاد من أدلّة القرعة أنّها سنّة فيما إذا كان تنازع و تزاحم فيه الحقوق، و لم يكن هنا واقع، أو لم يكن طريق إلي إثباته و الكشف عنه. و لذلك كان من الدائر علي لسان

الأُستاذ علت كلمته أنّها حجّة في موارد تزاحم الحقوق.

و تزاحم الحقّين أو الحقوق إنّما يتصوّر فيما لو ادّعي كلّ من الطرفين شيئاً و تعلّق دعوي كليهما به، كما ادّعوا الولد كلّ من الحرّ و العبد و المشرك الذين وقعوا علي امرأة في طهر واحد، أو فيما لو كان حقّ البقاء أو العتق مثلًا متساوي النسبة إلي جميعهم، فيجرّ كلّ هذا الحقّ إلي نفسه، و حينئذٍ إذا فوّضوا أمرهم إلي اللّٰه و أقرعوا خرج سهم المحقّ «1». و أمّا إذا كان

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة 27: 257، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 13، الحديث 1 5.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 132

و إن أقرّ بالتلف و لم ينازعه الطرف (15) فإن اتّفقا في القيمة و إلّا ففي الزيادة دعوي أُخري (16) مسموعة.

[السابع: أن يكون للمدّعي طرف يدّعي عليه]

السابع: أن يكون للمدّعي طرف يدّعي عليه (17)، فلو ادّعي أمراً من دون أن تكون علي شخص ينازعه فعلًا لم تسمع،

______________________________

متعلّق الحقّ مردّداً بين أشياء متعدّدة فلم يعهد من الأخبار تعيينه بالقرعة.

و بالجملة: فالقرعة لتشخيص المحقّ و تعيينه، و إذا أُقرع يخرج سهم من كان محقّاً، و ليست لتعيين و تشخيص حقّ المحقّ. و عليه فلا بدّ في المقام من أمرهم بالمصالحة.

(15) و إن نازعه فالنزاع في التلف و عدمه أيضاً دعوي مسموعة.

(16) يكون فيها مدّعي الزيادة مدّعياً و الآخر منكراً.

(17) فإنّه إذا لم يكن للمدّعي طرف فلا نزاع و لا خصومة. و أدلّة نفوذ الحكم و القضاء كلّها واردة فيما إذا كان تدارؤا و خصومة بالفعل و يكون حكم الحاكم فصلًا لهذه الخصومة، و لا دليل علي تأثير الحكم السابق علي وقوع النزاع في فصله و قطعه إذا وقع، و قد

عرفت سابقاً: أنّ الأصل عدم النفوذ.

و حينئذٍ: فإذا حكم حكماً قبل وقوع النزاع فإن كان كلّياً فهو من قبيل الفتاوي الكلّية، و إن كان في مورد جزئي فهو من قبيل الشهادة و إظهار العلم. و لا أثر لشي ء منهما في قطع المنازعة اللاحقة، بل الثاني

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 133

كما لو أراد إصدار حكم من فقيه يكون قاطعاً للدعوي المحتملة، فإنّ هذه الدعوي غير مسموعة. و لو حكم الحاكم بعد سماعها؛ فإن كان حكمه من قبيل الفتوي كأن حكم بصحّة الوقف الكذائي أو البيع الكذائي فلا أثر له في قطع المنازعة لو فرض وقوعها، و إن كان من قبيل أنّ لفلان علي فلان ديناً بعد عدم النزاع بينهما فهذا ليس حكماً يترتّب عليه الفصل و حرمة النقض، بل من قبيل الشهادة، فإن رفع الأمر إلي قاضٍ آخر يسمع دعواه؛ و يكون ذلك الحاكم من قبيل أحد الشهود، و لو رفع الأمر إليه و بقي علي علمه بالواقعة، له الحكم علي طبق علمه.

[الثامن: الجزم في الدعوي في الجملة]

الثامن: الجزم في الدعوي في الجملة، و التفصيل: أنّه لا إشكال في سماع الدعوي إذا أوردها جزماً، و أمّا لو ادّعي ظنّاً أو احتمالًا ففي سماعها مطلقاً أو عدمه مطلقاً أو التفصيل بين موارد التهمة و عدمها؛ بالسماع في الأوّل، أو التفصيل بين ما يتعسّر الاطّلاع عليه كالسرقة و غيره، فتسمع في الأوّل، أو التفصيل بين ما يتعارف الخصومة به كما لو وجد الوصيّ أو الوارث سنداً أو دفتراً فيه ذلك، أو شهد به من لا يوثق به و بين غيره فتسمع في الأوّل، أو التفصيل بين موارد التهمة و ما يتعارف الخصومة به و بين غيرهما، فتسمع فيهما، وجوه،

الأوجه الأخير (18).

______________________________

كما أفاده دام ظلّه إذا بقي إلي زمان وقوع النزاع فالحاكم أحد الشهود إذا ترافعا إلي غيره، و يجوز له الحكم استناداً إلي علمه إذا ترافعا إليه.

(18) و ذلك أنّ أدلّة جعل العارف بأحكامهم قاضياً و حاكماً كالأدلّة

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 134

فحينئذٍ لو أقرّ المدّعي عليه أو قامت البيّنة فهو، و إن حلف المدّعي عليه سقطت الدعوي، و لو ردّ اليمين لا يجوز للمدّعي الحلف (19) فتتوقّف الدعوي، فلو ادّعي بعده جزماً أو عثر علي بيّنة و رجع إلي الدّعوي تسمع منه.

______________________________

الواردة في بيان كيفية الحكم و فصل الخصومة ناظرة و منصرفة إلي جعل هذا المنصب و فصل الخصومة فيما تعارف فيه الرجوع إلي الحكّام و تعاهد فيه الترافع إلي القضاة، و هو إنّما يكون إذا كان النزاع عن جزم بالمدّعي أو كان المدّعي عليه متّهماً أو قام عليه أمارة ظنّية غير معتبرة.

و قد يستدلّ لجواز المرافعة في موارد التهمة بما دلّ من ضمان الصنّاع إذا لم يكن مأموناً و لم يقم البيّنة علي براءته، كما في صحيحة الحلبي عن الصادق عليه السلام قال

كان أمير المؤمنين عليه السلام يضمن القصّار و الصائغ احتياطاً للناس، و كان أبي يتطوّل عليه إذا كان مأموناً «1».

و فيه: أنّ مفاده ضمان مثل القصّار أو الصائغ إذا لم يكن مأموناً و إن لم يكن نزاع و ترافع إلي الحكّام، و لم يرد الصحيحة في موضوع المرافعة إليه، نعم لازمها جواز المرافعة إليه إذا امتنع الصائغ مثلًا من أداء الغرامة. و أمّا أنّ كلّ متّهم و إن لم يكن صانعاً و عاملًا فيجوز التظلّم منه عند الحاكم، فلا تدلّ مثل الصحيحة عليه.

(19) فإنّ الحلف الذي

يعتمد عليه القاضي و يحكم علي طبقه ما كان

______________________________

(1) وسائل الشيعة 19: 142، كتاب الإجارة، الباب 29، الحديث 4.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 135

______________________________

واقعاً علي طبع الحلف، و هو أن يؤتي به تأكيداً لما يخبر به جزماً أو يدّعيه قطعاً، فإذا كان المفروض أنّه يبرز الترديد في دعواه و يكون غير جازم بمدّعاه فلا يكون حلفه و الحال هذه معتمداً في القضاء، بل لا يمكن الإقدام علي هذا الحلف إلّا عمّن لا يبالي بالكذب و لا باليمين الكاذبة. و كيف كان: فلا شكّ في أنّه لا أثر لمثل هذه اليمين في باب الحكم و القضاء.

مضافاً إلي أخبار معتبرة مستفيضة نهت عن الحلف بغير علم؛ ففي صحيح هشام بن سالم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام

لا يحلف الرجل إلّا علي علمه «1».

و في صحيح أبي بصير عنه عليه السلام

لا يستحلف الرجل إلّا علي علمه «2».

فقد نهي صحيح هشام عن حلف الرجل إلّا إذا كان عن علم بما يحلف عليه. فالحلف علي غير علم حرام تكليفاً، و لا يترتّب عليه الأثر في باب القضاء وضعاً.

كما منع صحيح أبي بصير عن أن يطلب من الرجل أن يحلف إلّا حلفاً مبنياً علي علمه، فيدلّ علي عدم ترتّب الأثر المطلوب من الحلف علي ما لم يكن مبنياً علي العلم.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 23: 246، كتاب الأيمان، الباب 22، الحديث 1 و 3.

(2) وسائل الشيعة 23: 247، كتاب الأيمان، الباب 22، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 136

[التاسع: تعيين المدّعي عليه]

التاسع: تعيين المدّعي عليه، فلو ادّعي علي أحد الشخصين أو الأشخاص المحصورين لم تسمع علي قول، و الظاهر سماعها (20) لعدم خلوّها عن الفائدة، لإمكان إقرار أحدهما لدي

المخاصمة. بل لو أُقيمت البيّنة علي كون أحدهما مديوناً مثلًا فحكم الحاكم بأنّ الدين علي أحدهما، فثبت بعد براءة أحدهما، يحكم بمديونيّة الآخر (21). بل لا يبعد بعد الحكم الرجوع إلي القرعة (22) فيفرّق بين ما علما أو علم أحدهما باشتغال ذمّة أحدهما فلا تأثير فيه، و بين حكم الحاكم لفصل الخصومة، فيقال بالاقتراع.

______________________________

(20) فإنّ مورد أدلّة جعل العارف بالأحكام قاضياً و حاكماً هو ما إذا كان للخصومة و التدارؤ حكم شرعي يعرفه القاضي و يرتّبه علي مورد النزاع بعد تشخيصه علي موازين القضاء. فإذا كان للدعوي أثر شرعي علي أيّ حال و الدعوي من الدعاوي المتعارفة التي قد تتّفق بين العقلاء، فلا محالة تكون مشمولة لإطلاق تلك الأدلّة، و بالحكم بترتّبه يفصل الخصومة، و هذا هو معني قوله دام ظلّه-: «لعدم خلوّها عن الفائدة».

(21) فإنّ حكم الحاكم و إن لم نقل بكونه طريقاً إلي الواقع في جميع الموارد، إلّا أنّه لا يبعد طريقيته إذا استند إلي البيّنة، و لا أقلّ من كون مستنده أعني البيّنة طريقاً إلي الواقع فيكون حجّة في لوازمه، فإذا قامت البيّنة علي مديونية أحدهما و ثبت بعدُ، براءة أحدهما، كان لازمها مديونية الآخر، و هي حجّة في هذا اللازم.

(22) فإنّ نفس علم المدّعي عليهما أو قيام الحجّة عندهما علي

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 137

______________________________

اشتغال ذمّة أحدهما و إن لم يؤثّر في وجوب القيام بأداء ما في الذمّة إذ توجّه التكليف بالأداء بكلّ واحد منهما بالخصوص مشكوك بالشبهة الابتدائية، و أصالة البراءة قاضية بعدم المؤاخذة علي المخالفة لكنّه لمّا كان المدّعي معتقداً بأنّ له ديناً علي ذمّة أحدهما فله حقّ مطالبة ماله، و المفروض أنّه قد ثبت صدق

دعواه بقيام البيّنة مثلًا فلا محالة لا يرفع اليد عن مطالبة حقّه.

و القاضي إنّما جعل قاضياً لكي يفصل الخصومة و التدارؤ، و قد قامت البيّنة علي أنّ حقّه لا يتجاوزهما، و هو ثابت علي ذمّة أحدهما؛ فلذلك لا طريق للقاضي إلي فصل هذه الخصومة إلّا أن يحكم عليهما بالقيام بأداء الدين الثابت في ذمّة أحدهما؛ لكي يصل المدّعي إلي حقّه و ينحسم مادّة النزاع.

فلا بدّ و أن يؤدّي هذا الدين أحدهما، و لا محالة يمتنع كلٌّ منهما عن الأداء، مع أنّه لا محيص من أن يؤدّيه أحدهما؛ فيقع بينهما تزاحم في الامتناع، و القرعة سنّة في مقام تزاحم الحقوق؛ سواء كان التزاحم في جلب نفع أو دفع ضرر، و ما نحن فيه من قبيل الثاني.

فما نحن فيه نظير لمورد المساهمة في أمر النبي يونس عليه السلام حيث إنّه كان لا بدّ من إيقاع أحد في البحر، و كلٌّ يدفع هذا الضرر عن نفسه فَسٰاهَمَ فَكٰانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ «1».

______________________________

(1) الصافات (37): 141.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 138

[مسألة 2 لا يشترط في سماع الدعوي ذكر سبب استحقاقه]

مسألة 2 لا يشترط في سماع الدعوي ذكر سبب استحقاقه (23)، فتكفي الدعوي بنحو الإطلاق من غير ذكر السبب، سواء كان المدّعي به عيناً أو ديناً أو عقداً من العقود. نعم في دعوي القتل اشترط بعض لزوم بيان أنّه عن عمد أو خطأ، بمباشرة أو تسبيب، كان هو قاتلًا أو مع الشركة.

______________________________

اللهمّ إلّا أن يقال: إذا لم يكن دليل علي اشتغال أحدهما بالخصوص، و كان مقتضي الأصل براءة ذمّة كلّ منهما، فليس للحاكم إلزامهما بالأداء حتّي يعيّن المؤدّي بالقرعة، و حقّ المدّعي و إن كان لا يعدّوهما إلّا أنّه بعد إنكار كلّ منهما و موافقة الأصل

لإنكارهما لا يمكن إلزامهما و لا إلزام واحد منهما، بل لو وجب و الحال هذه رعاية حقّ المدّعي لوجب أداؤه من بيت المال المعدّ لمصالح المسلمين، فكما يؤدّي دية المقتول الذي لا يدري مَن قتله من بيت المال لئلّا يبطل دم امرئ مسلم «1» فكذلك يؤدّي حقّ المدّعي أيضاً من بيت المال لئلّا يبطل مال المؤمن الذي ورد أنّ حرمته كحرمة دمه «2» فتأمّل.

(23) لما عرفت من أنّ كلّ مورد كان علي فرض ثبوته له حكم شرعي يصحّ المرافعة فيه، فإذا كان المدّعيٰ به علي فرض ثبوته ذا أثر

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة 29: 145، كتاب القصاص، أبواب دعوي القتل و ما يثبت به، الباب 6، الحديث 1.

(2) راجع وسائل الشيعة 12: 297، كتاب الحج، أبواب أحكام العشرة، الباب 158، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 139

[مسألة 3 لو لم يكن جازماً فأراد الدعوي علي الغير]

مسألة 3 لو لم يكن جازماً فأراد الدعوي علي الغير لا بدّ أن يبرزها بنحو ما يكون من الظنّ أو الاحتمال، و لا يجوز إبرازها بنحو الجزم (24) ليقبل دعواه بناءً علي عدم السماع من غير الجازم.

______________________________

شرعي و إن لم يعلم سببه الخاصّ صحّ المرافعة فيه، و إطلاقات جعل العارف بالأحكام قاضياً تشملها، فكانت هذه الدعوي مسموعة. بل إذا كان أثره الشرعي مردّداً بين أُمور مختلفة أيضاً فلا بأس بالمرافعة فيه.

نعم، إنّ العقلاء لا يرافعون بصورة الإطلاق إلّا إذا كان لهم في المرافعة بهذه الصورة غرض عقلائي، كأن لا يكون لهم بيّنة إلّا علي الكلّي المردّد بين أفراد مختلفة الحكم. و هذا من غير فرق بين ما كان المدّعيٰ به قتلًا أو غيره.

فالحاصل: أنّ الإطلاقات شاملة للرفع إلي الحاكم بهذه الكيفية أيضاً، و لا دليل علي

تقييدها؛ فتكون المرافعة بهذا النحو أيضاً مسموعة.

ثمّ بعد ثبوت هذا الأمر المطلق أو المردّد، يحكم القاضي لا محالة بثبوته و يفصل هذه الخصومة. و بعده فإن كان أثره الشرعي واحداً علي أيّ حال فلا محالة يترتّب عليه أثره و لا يبقي بعده خصومة، و إن كان أثره الشرعي مردّداً بين أُمور مختلفة فإن وقع بين المتخاصمين تصالح فلا نزاع، و إلّا حكم القاضي في هذا النزاع أيضاً بمقتضي قواعد القضاء.

(24) يعني يحرم عليه تكليفاً إبرازها بصورة الجزم.

و ذلك لا لأنّ دعواه الجزمية إخبار عن تحقّق المدّعيٰ به خارجاً، و هو

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 140

[مسألة 4 لو ادّعي اثنان مثلًا بأنّ لأحدهما علي أحد]

مسألة 4 لو ادّعي اثنان مثلًا بأنّ لأحدهما علي أحد كذا تسمع (25) و بعد الإثبات علي وجه الترديد يقرع بينهما.

______________________________

كذب مع احتمال عدم تحقّقه عنده؛ إذ الإخبار عن تحقّقه إنّما يكون مصداقاً للكذب لو لم يكن له تحقّق واقعاً، و مع احتمال تحقّقه يكون الإخبار به شبهة مصداقية لعنوان الكذب، و يشكّ في حرمته، و الأصل يقتضي البراءة و حلّيته ظاهراً.

بل لأنّ كلّ خبر كما يحكي بالمطابقة عن مضمون نفسه، فهكذا يحكي بالالتزام عن أنّ المخبر جازم بهذا المضمون؛ لا سيّما في مورد الكلام الذي غيّر كيفية إبرازه و أبرزه بصورة الجزم لكي تكون دعواه مسموعة فهو قد التفت و عمد إلي الإخبار عن جزمه، و هذا الخبر الالتزامي لا يطابق الواقع، و هو خبر كاذب، و الكذب حرام و إن كان مدلولًا التزامياً.

(25) طرح الدعوي بهذه الصورة قد يكون لأجل أنّه ليس لهما حجّة علي إثبات مدّعاهما إلّا بهذا النحو الإجمالي، و إلّا فهما عالمان بالواقع تفصيلًا، و لا خلاف بينهما فيه. فلهما مثلًا بيّنة

علي هذا الإجمال، أو القاضي عالم به إجمالًا، فيحكم القاضي بثبوت حقّ من أحدهما علي المدّعي عليه. و حيث إنّه لا اختلاف بينهما فيؤدّي المدّعي عليه دينه مثلًا و يقبضانه و يؤدّيانه إلي مالكه الواقعي.

و قد يكون لنفس الجهة المذكورة، إلّا أنّ بينهما نزاعاً في المالك الأصلي، فيقضي القاضي بثبوت مدّعاهما و يفصل هذه الخصومة. ثمّ إنّهما

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 141

[مسألة 5 لا يشترط في سماع الدعوي حضور المدّعي عليه]

مسألة 5 لا يشترط في سماع الدعوي حضور المدّعي عليه (26) في بلد الدعوي،

______________________________

يطرحان عند القاضي دعوي أُخري مسموعة يحكم فيها علي موازين القضاء.

و هاتان الصورتان ليستا مراد الماتن دام عزّه و علت كلمته بقرينة حكمه بإيجاب الاقتراع بينهما.

بل مراده مدّ ظلّه صورة ثالثة، هي: أنّهما لا يعلمان أزيد من أنّ لأحدهما علي المدّعي عليه ديناً، أو لأحدهما عنده عيناً، بلا ادّعاء لهما أزيد، و لا اختلاف بينهما أصلًا. و حينئذٍ: بعد قيام الحجّة علي ثبوت مدّعاهما يحكم القاضي بثبوته و يفصل الخصومة بمجرّد هذا الحكم.

ثمّ إنّه حيث إنّ نسبة هذا الدين أو العين إليهما علي السواء يكون بينهما تزاحم، فيتوصّل إلي القرعة لتعيين المحقّ منهما.

و كيف كان: فجميع الصور الثلاث مشمولة لإطلاق أدلّة القضاء؛ فإنّها من صور الخصومات و التدارءات الواقعة بين الناس و لو أحياناً، و لها حكم شرعي يعرفه العارف بأحكامهم، و لا دليل علي تقييد هذه الإطلاقات بغيرها؛ فيؤخذ بها و تكون الدعوي فيها مسموعة.

(26) قد مرّ أوائل الكتاب: أنّ الأصل العملي عدم نفوذ القضاء فيما لم يقم دليل علي نفوذه. و قد يستدلّ بأخبار خاصّة علي أنّ مقتضي القواعد أيضاً عدم جواز القضاء علي الغائب:

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 142

______________________________

ففي خبر محمّد

بن مسلم عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال

قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم: إذا تقاضي إليك رجلان فلا تقض للأوّل حتّي تسمع من الآخر؛ فإنّك إذا فعلت ذلك تبيّن لك القضاء «1».

و في خبر عبد اللّٰه بن محمّد الرازي عن الرضا عن آبائه عن علي عليهم السلام قال

قال النبي صلي الله عليه و آله و سلم لمّا وجّهني إلي اليمن-: إذا تحوكم إليك فلا تحكم لأحد الخصمين دون أن تسأل من الآخر

، قال

فما شككت في قضاء بعد ذلك «2».

بتقريب: أنّه صلي الله عليه و آله و سلم قد نهي فيهما عن القضاء قبل أن يسمع مقالة الخصم الآخر، فإذا كان أحدهما غائباً فلا محالة لم تسمع مقالته، فلا يجوز القضاء عليه؛ لا سيّما مع جريان علّة اعتبار سماع مقالته أعني قوله

فإنّك إذا فعلت ذلك تبيّن لك القضاء

في صورة الغيبة أيضاً، هذا.

لكن فيه مضافاً إلي ضعف سند هذه الأخبار أنّه لا يبعد أن يكون وجه الأمر بالسؤال عن الآخر أن يتّضح الواقع للقاضي و لا يغترّ بمجرّد إظهارات أحد الخصمين و لا يتّكل عليه، كما يشير إليه التعليل في خبر محمّد بن مسلم و قوله عليه السلام

فما شككت في قضاء بعد ذلك

في الخبر الثاني، فهي تعليم و إرشاد لكيفية القضاء و لزوم الفحص بمقدار يتبيّن الموضوع، كما عليه

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 216، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 4، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة 27: 217، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 4، الحديث 6.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 143

______________________________

في نفس الأمر، لا أنّ للسماع من كلا الخصمين موضوعية. فإذا راعي القاضي جميع الجهات و تبيّن له مورد النزاع

إمّا بالعلم و إمّا بالبيّنة و لم يبق إلّا أنّ المحكوم عليه غائب عن مجلس القضاء، فلا دليل في هذه الأخبار علي المنع عن القضاء بعد ما كان المفروض تبيّن القضاء للقاضي.

نعم، في خبر «قرب الإسناد» عن علي عليه السلام أنّه قال

لا يقضي علي غائب «1»

، و دلالته و إطلاقه تامّ، إلّا أنّ سنده غير تمام؛ لعدم ثبوت اعتبار «قرب الإسناد»، و لوقوع أبي البختري الذي لا ريب في ضعفه في سند هذا الخبر، فراجع.

و بالجملة: فهذه الأخبار لا يمكن الاستناد إليه في المنع عن القضاء علي الغائب، لكن مقتضي الأصل عدم النفوذ.

و الأخبار الواردة في جعل منصب القضاء للعارف بأحكامهم كمقبولة عمر بن حنظلة «2» و معتبرتي أبي خديجة «3» و إن كانت مطلقة من حيث الأشخاص و المنازعات كما عرفته أثناء المباحث الماضية إلّا أنّها لا إطلاق لها من حيث كيفية القضاء و أنّه هل يجوز القضاء علي الغائب أم

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 296، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 26، الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة 27: 13، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 5، و الباب 11، الحديث 6.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 144

______________________________

لا يجوز؟ فهذه الأخبار لا يمكن أن تكون مستند رفع اليد عن مقتضي الأصل.

إلّا أنّ هنا أخباراً خاصّة تدلّ علي جواز الحكم علي الغائب:

ففي صحيحة جميل عن جماعة من أصحابنا عن الباقر و الصادق عليهما السلام أنّهما قالا

الغائب يقضي عليه إذا قامت عليه البيّنة، و يباع ماله و يقضي عنه دَينه و هو غائب، و يكون الغائب علي حجّته إذا قدم

، قال

و

لا يدفع المال إلي الذي أقام البيّنة إلّا بكفلاء «1».

و في خبر محمّد بن مسلم المروي في أبواب الديون من «التهذيب» و «الكافي» عن أبي جعفر عليه السلام

الغائب يقضي عنه إذا قامت البيّنة عليه، و يباع ماله و يقضي عنه و هو غائب، و يكون الغائب علي حجّته إذا قدم، و لا يدفع المال إلي الذي أقام البيّنة إلّا بكفلاء إذا لم يكن مليّاً «2».

و دلالة الخبر الأوّل علي المطلوب واضحة؛ لظهور قوله

يقضي عليه

في الحكم عليه من القاضي، و موضوعه «مَن كان غائباً»، و لا ريب في شموله لمن لم يكن في بلد القضاء؛ سواء كان مسافراً أم من أهل بلد آخر.

و أمّا الخبر الثاني فقوله

يقضي عنه إذا قامت البيّنة عليه

و إن لم يكن له ظهور ابتداءً إلّا في أداء دينه و هو غائب، إلّا أنّ كون هذا الأداء عقيب قيام البيّنة علي دينه و تذييله بقوله عليه السلام

و يكون الغائب علي حجّته

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 294، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 26، الحديث 1.

(2) تهذيب الأحكام 6: 191/ 413، الكافي 5: 102/ 2، وسائل الشيعة 27: 294، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 26، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 145

فلو ادّعي علي الغائب من البلد؛ سواء كان مسافراً أو كان من بلد آخر قريباً كان أو بعيداً تسمع، فإذا أقام البيّنة حكم القاضي علي الغائب، و يردّ عليه ما ادّعي إذا كان عيناً (27)، و يباع من مال الغائب (28) و يؤدّي دينه إذا كان ديناً. و لا يدفع إليه إلّا مع الأمن من تضرّر المدّعي عليه لو حضر و قضي له (29) بأن يكون المدّعي مليّاً أو كان

له كفيل،

______________________________

إذا قدم

إنّما يناسبان أن يكون قيام هذه البيّنة عند القاضي حتّي يكون هو المتصدّي لأداء دينه، كما يكون هو المرجع لاستماع حجّة الغائب إذا قدم.

مضافاً إلي احتمال وحدة التعبير في الخبرين، و أن يكون محمّد بن مسلم واحداً من الجماعة التي روي جميل عنهم.

(27) القدر المتيقّن من مورد الصحيحة و إن كان ما إذا كان علي الغائب دين، إلّا أنّ إطلاق قوله

يقضي عليه

شامل لما كان المدّعي عيناً، بل لا ريب في إلغاء الخصوصية عرفاً فيه و في الخبر الثاني إلي كلّ دعوي متعلّقة بالأموال؛ عيناً كانت أو ديناً.

(28) للتصريح به و بأداء دينه بعد بيع ماله في الخبرين.

(29) فإنّ المفهوم العرفي من قوله عليه السلام في ذيل صحيحة جميل

و لا يدفع المال إلي الذي أقام البيّنة إلّا بكفلاء

هو ذلك؛ و لذلك قيّد لزوم أخذ الكفيل في خبر ابن مسلم بقوله

إذا لم يكن مليّاً

؛ فالمفهوم منهما هو ما أفاده في المتن بقوله دام ظلّه-: «و لا يدفع إليه إلّا مع الأمن من تضرّر المدّعي عليه لو حضر و قضي له».

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 146

و هل يجوز الحكم لو كان غائباً و أمكن إحضاره بسهولة (30)، أو كان في البلد و تعذّر حضوره بدون إعلامه؟ (31) فيه تأمّل،

______________________________

(30) مفروض هذا الفرع كون الغائب غائباً عن البلد، لكنّه يمكن إحضاره بسهولة، كأن أُخبر في زماننا هذا بمثل التليفون و يحضر هو مع السيّارة في ظرف ساعتين أو ساعة أو أقلّ. و لا شكّ في انطباق العناوين المأخوذة في الخبرين في مثله.

و حينئذٍ: فوجه التأمّل قوّة احتمال انصراف الغائب في الحديث إلي المتعارف في زمن صدور الرواية ممّن لا يمكن إحضارهم بسهولة؛ لعدم وجود

مثل هذه الوسائل الحديثة في زماننا، و كون الغائب في فرض الحديث من يباع ماله و يقضي عنه دينه و هو غائب، و لا يكون هذا إلّا فيمن لا يمكن إحضاره بسهولة، و إلّا لكان يخبر بما قصد له و يحضر لبيع ماله و أداء دينه.

(31) يعني أنّه لعدم إعلامه و اطّلاعه يتعذّر عليه الحضور، و إلّا فلو اطّلع لكان حاضراً في مجلس القضاء.

و وجه التأمّل هاهنا مضافاً إلي ما مرّ في سابقه أنّ توصيف الغائب المذكور في الرواية بقوله

قدم

الذي يراد به القدوم من السفر إلي البلد، قرينة علي كون المراد هو الغائب عن البلد، لا الغائب عن مجلس القضاء، فلا يعمّ الحاضر في البلد الغائب عن مجلس القضاء، إلّا بإلغاء الخصوصية العرفي، و هو إنّما يتمّ فيمن شارك الغائب عن البلد في تعذّر أو تعسّر

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 147

و لا فرق في سماع الدعوي علي الغائب بين أن يدّعي المدّعي جحود المدّعي عليه و عدمه. نعم لو قال: «إنّه مقرّ و لا مخاصمة بيننا» فالظاهر عدم سماع دعواه (32) و عدم الحكم. و الأحوط عدم الحكم علي الغائب إلّا بضمّ اليمين (33).

______________________________

حضوره حتّي بعد الإعلام لابتلائه بالمرض أو الحبس مثلًا لا فيمن لا مقدّمة لحضوره إلّا إعلامه و اطّلاعه.

(32) إذ الظاهر من موارد جعل منصب القضاء هو أنّ القاضي إنّما جعل قاضياً لفصل الخصومات، و مع اعتراف المدّعي بإقرار الغائب و عدم الخصومة بينهما فليس المورد من موارد القضاء حتّي يسمع دعواه و يحكم فيه، مضافاً إلي عدم تعارف رفع النزاع إلي الحاكم في مثله، فينصرف الإطلاقات لو كان إطلاق عنه. نعم يتعارف رفع النزاع إلي الحاكم و طرح الدعوي

في غيره حتّي في مورد لم يعلم بجواب المدّعي عليه و احتمل إقراره، فهو أيضاً مشمول الإطلاقات.

(33) الاحتياط لكونه مسبوقاً بالفتوي في قوله دام ظلّه: «فإذا أقام البيّنة حكم القاضي علي الغائب» استحبابي.

و الوجه فيه مضافاً إلي رعاية احتمال العمل بالوظيفة إذا حضر و جرح البيّنة و ردّ اليمين علي المدّعي ما ورد في الدعوي علي الميّت:

ففي خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه عن الكاظم عليه السلام

و إن كان المطلوب بالحقّ قد مات فأُقيمت عليه البيّنة فعلي المدّعي اليمين باللّٰه الذي

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 148

ثمّ إنّ الغائب عليٰ حجّته (34) فإذا حضر و أراد جرح الشهود أو إقامة بيّنة معارضة يقبل منه لو قلنا بسماع بيّنته.

______________________________

لا إله إلّا هو لقد مات فلان، و أنّ حقّه لعليه، فإن حلف و إلّا فلا حقّ له؛ لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه ببيّنة لا نعلم موضعها أو غير بيّنة قبل الموت، فمن ثمّ صارت عليه اليمين مع البيّنة «1»

؛ فإنّ تعليل توجّه اليمين علي المدّعي مع البيّنة بقوله عليه السلام

لأنّا لا ندري.

إلي آخره، عامّ يجري في الغائب، فعلي المدّعي هنا أيضاً بعد البيّنة اليمين.

لكنّ الأقوي مع ذلك عدم وجوبها؛ فإنّ قوله عليه السلام في صحيح جميل

الغائب يقضي عليه إذا قامت عليه البيّنة «2»

يدلّ دلالةً واضحة علي القضاء بمجرّد قيام البيّنة و إن لم تكن معها يمين؛ فلذا كان الاحتياط بضمّ اليمين استحبابياً؛ لا سيّما و قد روعي جانب احتمال مفاد التعليل هنا بقوله

و يكون الغائب علي حجّته إذا قدم.

(34) لقوله عليه السلام في الخبرين

و يكون الغائب علي حجّته إذا قدم

، فتسمع حجّته أيّاً ما كانت، و ينقض الحكم لو اقتضت حجّته ذلك؛ ففي

هذا المورد يكون القضاء غير قطعي قابلًا لتجديد النظر، و إن كان يعمل علي مقتضي الحكم قبل أن يقدم، كما صرّح عليه السلام به. و لا يجوز توقيف الحكم

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 236، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 4، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 294، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 26، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 149

[مسألة 6 الظاهر اختصاص جواز الحكم علي الغائب]

مسألة 6 الظاهر اختصاص جواز الحكم علي الغائب بحقوق الناس، فلا يجوز الحكم عليه في حقوق اللّٰه تعالي (35) مثل الزنا، و لو كان في جناية حقوق الناس و حقوق اللّٰه كما في السرقة فإنّ فيها القطع و هو من حقوق اللّٰه و أخذ المال و ردّه إلي صاحبه و هو من حقوق الناس، جاز الحكم في حقوق الناس دون حقوق اللّٰه، فلو أقام المدّعي البيّنة حكم الحاكم، و يؤخذ المال علي ما تقدّم.

______________________________

و عدم العمل بمقتضاه؛ استناداً إلي أنّ المدّعي عليه غائب و الحكم يجدّد فيه النظر.

(35) و ذلك لما عرفت: أنّ مقتضي القاعدة عدم نفوذ الحكم علي الغائب، و قد خرجنا بمقتضي أخبار خاصّة، عمدتها خبرا جميل و محمّد بن مسلم الماضيان.

و عنوان

الغائب يقضي عليه

في الصدر و إن كان بإطلاقه يشمل الحكم عليه في حقوق اللّٰه تعالي أيضاً، إلّا أنّ تذييله بقوله عليه السلام

و يباع ماله و يقضي عنه دينه و هو غائب. و لا يدفع ماله إلي الذي أقام البيّنة، إلّا بكفلاء

قرينة علي أنّ محلّ الكلام و مصبّه في القضاء علي الغائب هو الأُمور المالية و أمثال أداء الدين من حقوق الناس، و البيّنة المذكورة في الصدر هي البيّنة التي أقامها المدّعي الذي لا يدفع إليه المال إلّا بكفلاء.

فبالجملة:

فالذيل يمنع عن انعقاد الإطلاق لصدره حتّي يعمّ القضاء علي الغائب مطلقاً و لو في حقوق اللّٰه تعالي.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 150

______________________________

و يمكن أن يقال: إنّ كلّا من الجمل المذكورة في الصحيحة يؤخذ بمالها من المفاد، و لا تعارض و لا تضادّ لكلّ منهما مع الأُخري حتّي يجعل إحداها مقيّدة للأُخري.

فجملة

الغائب يقضي عليه إذا قامت عليه البيّنة

مطلقة شاملة لجميع موارد حقوق اللّٰه و الناس، فيؤخذ به.

و جملة

و يباع ماله و يقضي عنه دينه و هو غائب

ظاهرة في خصوص ما إذا ثبت عليه دين و أُريد أداءه ببيع ماله، و أنّه يجوز بيع ماله في أداء دينه و هو غائب و يؤخذ بها.

و جملة

و الغائب يكون علي حجّته إذا قدم

عامّة لكلا موردي حقوق اللّٰه و حقوق الناس، و يؤخذ بعمومها.

و جملة

و لا يدفع ماله إلي الذي أقام البيّنة، إلّا بكفلاء

ناظرة بما إذا كان الدعوي مالية، فيؤخذ بها أيضاً.

و لا مانع من الأخذ بإطلاق الصدر بمجرّد كون مفاد بعض هذه الجمل مختصّة بخصوص حقوق الناس، كيف و إلّا كان اللازم الاقتصار علي ما إذا كان الدعوي المطروحة في حقوق الناس متعلّقة بكون دين علي ذمّة الغائب؛ لمكان اختصاص هذه الجمل به؟! فكما لا يقال باختصاصه بخصوصها، فكذلك ينبغي أن لا يقال باختصاصه بحقوق الناس.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ العرف ينتقل من هذه الجمل و لا سيّما من قوله

و لا يدفع ماله إلي الذي أقام البيّنة

إلي أنّه يجوز القضاء عليه في حقوق الناس، و لا يري لخصوص دعوي الدين خصوصية، فلا يجزم

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 151

[مسألة 7 لو تمّت الدعوي من المدّعي]

مسألة 7 لو تمّت الدعوي من المدّعي، فإن التمس من الحاكم إحضار المدّعي عليه

أحضره (36) و لا يجوز التأخير غير المتعارف (37) و مع عدم التماسه و عدم قرينة علي إرادته فالظاهر توقّفها إلي أن يطلبه (38).

______________________________

بإلغاء الخصوصية في حقوق اللّٰه، فيعمل فيه علي طبق أصالة عدم النفوذ.

أو يقال: إنّ الظاهر وحدة صحيحة جميل و خبر محمّد بن مسلم؛ فإنّ في خبر محمّد بن مسلم يكون الراوي عنه جميلًا، الذي روي في صحيحته عن جماعة لا محالة يكون ابن مسلم داخلًا فيهم؛ فالخبران واحد. و إذا كان خبر محمّد بن مسلم منقولًا بتعبير

الغائب يقضي عنه إذا قامت البيّنة عليه

فيحدس قوياً أنّ واحداً من التعبيرين هو الصادر، و حيث لا حجّة علي التعبير المنقول في صحيحة جميل فلا محالة يؤخذ بأخصّهما مضموناً؛ و هو التعبير الواقع في خبر ابن مسلم؛ فإنّه يختصّ من أوّل الأمر بقضاء الدين عن الغائب، و هو من قبيل حقوق الناس، فتدبّر.

(36) و ذلك فيما إذا توقّف الحكم علي حضوره، و حينئذٍ فالوجه لوجوب إحضاره هو توقّف الحكم الواجب عليه، فهو مقدّمة الواجب.

(37) فإنّ المستفاد من أدلّة القضاء وجوب تصدّي الحكم بينهما فوراً إذا رافعا إليه، و إنّما يجوز التأخير بمقدار ما تعارف منه، و لا ينافي الفورية العرفية، و هو يختلف باختلاف الموارد، و أمّا الزائد عليه فهو خلاف وظيفة الفورية المستفادة.

(38) و ذلك أنّ إحضار المدّعي عليه كما عرفت مقدّمة الحكم،

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 152

______________________________

و الحكم من مقدّمات تحصيل حقّه، و قد وردت الأخبار المعتبرة بأنّه لا يجب تحصيل حقوق الناس إلّا إذا راجع ذو الحقّ و طالبه.

فمع عدم رجوعه أو عدم مطالبته فلا يجب علي القاضي استيفاؤه؛ ففي صحيحة الفضيل بن يسار قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام

و

من أقرّ علي نفسه عند الإمام بحقّ حدّ من حدود اللّٰه في حقوق المسلمين فليس علي الإمام أن يقيم عليه الحدّ الذي أقرّ به عنده حتّي يحضر صاحب الحقّ أو وليه فيطالبه بحقّه.

إلي أن قال

و أمّا حقوق المسلمين فإذا أقرّ علي نفسه عند الإمام بفرية لم يحدّه حتّي يحضر صاحب الفرية أو وليه، و إذا أقرّ بقتل رجل لم يقتله حتّي يحضر أولياء المقتول فيطالبوا بدم صاحبهم «1».

فإنّ دلالتها علي توقّف وجوب الأخذ بحقوق الناس علي مراجعة ذي الحقّ إلي الإمام و مطالبته استيفاء حقّه واضحة، فإذا لم يلتمس إحضار المدّعي عليه يعلم أنّه ليس في مقام مطالبة حقّه بحدّ إحضار المدّعي عليه، فليس علي الحاكم إحضاره من قبل نفسه، بل ربّما لا يجوز.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 28: 56، كتاب الحدود، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 32، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 153

[فصل في جواب المدّعي عليه]

اشارة

فصل في جواب المدّعي عليه المدّعي عليه: إمّا أن يسكت عن الجواب أو يقرّ أو ينكر أو يقول: «لا أدري» أو يقول «أدّيت» و نحو ذلك ممّا هو تكذيب للمدّعي.

[القول في الجواب بالإقرار]

اشارة

القول في الجواب بالإقرار

[مسألة 1 إذا أقرّ المدّعي عليه بالحقّ عيناً أو ديناً]

مسألة 1 إذا أقرّ المدّعي عليه بالحقّ عيناً أو ديناً- و كان جامعاً لشرائط الإقرار و حكم الحاكم (1) ألزمه به، و انفصلت الخصومة، و يترتّب عليه لوازم الحكم كعدم جواز نقضه و عدم جواز رفعه إلي حاكم آخر و عدم جواز سماع الحاكم دعواه، و غير ذلك.

______________________________

(1) قد يقال بأنّه لا موقع لحكم الحاكم بعد الإقرار؛ إذ الحاكم إنّما يحكم لفصل الخصومة، و إذا كان المدّعي عليه مقرّاً فلا خصومة حتّي يفصلها الحاكم بحكمه. و بعبارة اخري: لا يعمّ أدلّة نفوذ الحكم مورد الكلام، و الأصل عدم النفوذ.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 154

______________________________

لكنّ الحقّ: أنّ موضوع أدلّة القضاء هو وجود النزاع و الخصومة، مع قطع النظر عن الرجوع إلي الحاكم، فإذا كان بينهما منازعة كما في مقبولة عمر بن حنظلة «1» و خصومة و تدارؤ في شي ء من الأخذ و العطاء كما في معتبر أبي خديجة «2» فقد جعل العارف بأحكامهم قاضياً لهما، فعليهما أن يترافعا إليه، و عليه أن يحكم بينهما بحكمهم عليهم السلام.

و بالجملة: فلا ينبغي الإشكال في شمول العمومات لمثل مورد الكلام، كما أنّه لا ريب في تصوّر أن يكون بينهما منازعة و كان المدّعي عليه منكراً في خارج مجلس القضاء ثمّ تفكّر في نفسه و أقرّ بالدعوي في حضور القاضي بنفسه أو عقيب أن ينصحه القاضي.

فلا مجال لتوهّم: أنّه لا يتصوّر الإقرار في مجلس القضاء إذا كان بينهما نزاع.

ثمّ إنّ الدليل علي جواز اعتماد القاضي في قضائه علي إقرار المدّعي عليه، هو أنّه لا ينبغي الريب في جواز اعتماد القاضي في استنباط الموضوعات و تشخيصها علي كلّ ما هو حجّة فيها ما لم

يقم دليل علي عدم الجواز؛ إذ بعد قيام الحجّة و إحراز الموضوع بها يعمّه أدلّة الأحكام الشرعية المترتّبة علي هذا الموضوع، فيحرز حكمه الشرعي و ما أنزل اللّٰه تعالي فيه،

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 139، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 155

و لو أقرّ و لم يحكم فهو مأخوذ بإقراره، فلا يجوز لأحد التصرّف فيما عنده إذا أقرّ به إلّا بإذن المقرّ له، و جاز لغيره إلزامه، بل وجب من باب الأمر بالمعروف، و كذا الحال لو قامت البيّنة علي حقّه من جواز ترتيب الأثر علي البيّنة، و عدم جواز التصرّف إلّا بإذن من قامت علي حقّه.

______________________________

فيجب علي القاضي الحكم بتحقّق الموضوع حتّي يترتّب عليه حكمه، و إلّا لكان داخلًا في عموم قوله تعالي وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ.* «1».

و الإقرار ممّا يكون حجّة عند العقلاء علي المقرّ، يثبت بإقراره ما أقرّ به و لو علي نفسه، و هذا بناء عامّ قطعي من العقلاء لم يردع الشارع عنه، بل أمضاه بمثل قول الصادق عليه السلام في رجل حُرٌّ أقرّ أنّه عبد

يؤخذ بما أقرّ به «2»

؛ فإنّ تذييل الحكم بأخذه بقوله

بما أقرّ به

يدلّ علي بيان العلّة للحكم بأخذه بإقراره.

و بمثل قول أمير المؤمنين عليه السلام

الناس كلّهم أحرار، إلّا من أقرّ علي نفسه بالعبودية و هو مدرك؛ من عبد أو أمة، و من شهد عليه بالرقّ؛ صغيراً كان أو كبيراً «3»

، فهو عليه السلام قد حكم بثبوت عبودية كلّ مكلّف أقرّ علي نفسه بها، و عدّ الإقرار عداد الشهادة. و مثل هذا الكلام

إذا القي إلي

______________________________

(1) المائدة (5): 47.

(2) وسائل الشيعة 23: 54، كتاب العتق، الباب 29، الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة 23: 54، كتاب العتق، الباب 29، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 156

نعم في جواز إلزامه أو وجوبه مع قيام البيّنة من باب الأمر بالمعروف إشكال، لاحتمال أن لا يكون الحقّ عنده ثابتاً و لم تكن البيّنة عنده عادلة، و معه لا يجوز أمره و نهيه، بخلاف الثبوت بالإقرار (2).

[مسألة 2 بعد إقرار المدّعي عليه ليس للحاكم علي الظاهر الحكم]

مسألة 2 بعد إقرار المدّعي عليه ليس للحاكم (3) علي الظاهر الحكم

______________________________

العرف الذي بناؤه علي حجّية الإقرار يفهم منه بلا إشكال: أنّ الشارع قد أمضي بناءهم في باب الرقّ و غيره. فإذا كان الإقرار حجّة عند العقلاء و أمضاه الشارع جاز للقاضي الاعتماد عليه.

مضافاً إلي ما ورد في أبواب الحدود من جواز الاعتماد عليه في الحكم بإجراء الحدّ عليه، و إن اشترط في بعض موارده تعدّد الإقرار.

لكن مقتضي القواعد جواز الاعتماد مرّة واحدة ما لم يقم علي اعتبار التعدّد دليل، كما هو كذلك في حجّية خبر الثقة و غيره.

(2) فإنّ الإقرار بالموضوع يلزمه الاعتراف بأحكامه الشرعية الثابتة عليه، فالتخلّف عن شي ء منها غير جائز له، و يؤخذ بجميعها.

و هذا بخلاف البيّنة؛ فإنّه ربّما يعتقد في نفسها كذبها، و معه فلا حجّة عليه فيها، كما في جميع الطرق؛ فإنّها إنّما تكون حجّة إذا لم يعلم بخلافها. و ربّما لا يعتقد ثقة الشاهد، فلا حجّة عليه في شهادته، فلا يمكن إلزامه بها.

(3) لا بدّ و أن يراد به أنّه ليس له أن يحكم الحكم الواجب الاتّباع جزماً، لكي يجتمع مع التردّد المذكور ذيل المسألة.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 157

إلّا بعد طلب المدّعي (4).

فإذا طلب منه يجب عليه الحكم فيما يتوقّف استيفاء حقه عليه علي الأقوي (5)،

______________________________

(4) و الدليل عليه: أنّ الحكم مقدّمة لتحصيل حقّ ذي الحقّ، و من المعلوم أنّه لا يجب تعقيب الأمر في حقوق الناس إلّا بعد مراجعة ذي الحقّ و طلبه؛ ففي صحيح الفضيل: إنّ أبا عبد اللّٰه عليه السلام قال

و من أقرّ علي نفسه عند الإمام بحقّ حدّ من حدود اللّٰه في حقوق المسلمين فليس علي الإمام أن يقيم عليه الحدّ الذي أقرّ به عنده حتّي يحضر صاحب الحقّ أو وليه فيطالبه بحقّه.

إلي أن قال

و أمّا حقوق المسلمين فإذا أقرّ علي نفسه عند الإمام بفرية لم يحدّه حتّي يحضر صاحب الفرية أو وليه، و إذا أقرّ بقتل رجل لم يقتله حتّي يحضر أولياء المقتول فيطالبوا بدم صاحبهم «1».

فتري أنّه عليه السلام نفي في الفقرة الأُولي وجوب إقامة الحدّ في حقوق المسلمين علي الإمام إلّا إذا حضر صاحب الحقّ و طالبه، فلا يجب أخذ حقّ الناس إلّا بعد مراجعته و طلبه، فإذا كان منزلة حقّ الناس هذه المنزلة و لا ريب أنّ إنشاء الحكم مقدّمة لأخذه فلا محالة لا يجب إلّا بعد طلبه.

(5) فإنّه القدر المتيقّن من مورد وجوب القضاء؛ فإنّ القضاء وجب لفصل الخصومة و لنيل ذوي الحقوق حقوقهم و إقامة العدل بذلك، و المتيقّن

______________________________

(1) وسائل الشيعة 28: 56، كتاب الحدود، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 32، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 158

و مع عدم التوقّف علي الأحوط، بل لا يخلو من وجه (6) و إذا لم يطلب منه الحكم أو طلب عدمه فحكم الحاكم، ففي فصل الخصومة به تردّد (7).

______________________________

منه هو ما إذا طلبه ذو الحقّ و توقّف استيفاء

حقّه عليه. مضافاً إلي أنّه بعد ثبوت حقّه عند الحاكم و مطالبته لإنشاء الحكم و توقّف استيفاء حقّه عليه، فلو لم ينشئ الحاكم حكمه لورد الظلم عليه و بطل حقّه؛ فدفعاً لهذا الظلم و نهياً عن هذا المنكر يجب عليه إنشاء الحكم.

(6) هو وجوب القضاء شرعاً في المرافعات؛ فإنّ لمنصب القضاء عند العقلاء وظيفة الحكم بين الناس، و القاضي إذا رافع إليه أحد في خصومة فليس له الامتناع عن الحكم، و يعدّ متخلّفاً عن وظيفته، و الشارع الأقدس لم يعلم منه ردع هذا الأمر العقلائي، بل إنّما جعل منصب القضاء لمن روي حديثهم و نظر في حلالهم و حرامهم و عرف أحكامهم، و إذا القي هذه العبارة إلي العقلاء الذين يرون للقاضي وظيفة القضاء و إنشاء الحكم يفهمون منه إمضاء ما عليه العقلاء و أنّ الشارع أيضاً يري ما يراه العقلاء من وظيفة إنشاء الحكم علي القاضي.

(7) وجه فصل الخصومة: ما مرّ آنفاً من أنّ للقاضي إذا رافع إليه أحد في خصومة أن يحكم فيها حكمه، غاية الأمر: أنّ الدليل مثل صحيح الفضيل دلّ علي عدم الوجوب ما لم يطلبه صاحب الحقّ، و أمّا عدم نفوذه إذا قضي القاضي فلا دليل علي خلافه.

و وجه العدم: دعوي أنّ الفقرة الأخيرة من الصحيحة و قوله عليه السلام:

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 159

[مسألة 3 الحكم إنشاء ثبوت شي ء]

مسألة 3 الحكم إنشاء ثبوت شي ء (8) أو ثبوت شي ء علي ذمة شخص أو الإلزام بشي ء و نحو ذلك. و لا يعتبر فيه لفظ خاصّ. بل اللازم الإنشاء بكلّ ما دلّ علي المقصود كأن يقول: «قضيت» أو «حكمت» أو «ألزمت» أو «عليك دين فلان» أو «هذا الشي ء لفلان» و أمثال ذلك من

كلّ لغة كان إذا أُريد الإنشاء و دلّ اللفظ بظاهره عليه و لو مع القرينة.

______________________________

لم يحدّه و لم يقتله

تدلّ علي عدم جواز إجراء هذا الحدّ للإمام ما لم يطالب صاحبه، فتدلّ علي أنّ إجراء الحدّ و أخذ حقوق الناس بمقدّماته التي منها الحكم ليس يجوز له إلّا بعد مطالبة صاحب الحقّ، و لعلّه الأظهر.

(8) ما أفاده دام ظلّه هو المعني العرفي للحكم و يساوقه القضاء، و الحكم أو القضاء هو وظيفة القاضي الحاكم، و إنّما يطلق القاضي و الحاكم عليه عرفاً بلحاظ أنّه يحكم و يقضي، و قد قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم

إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان «1»

، و قال الصادق عليه السلام في مقبولة عمر بن حنظلة

فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّٰه و علينا ردّ «2».

و بالجملة: فوظيفة القاضي و الحاكم و ما يتصدّاه و به صار قاضياً

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 232، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 2، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 160

[مسألة 4 لو التمس المدّعي أن يكتب له صورة الحكم أو إقرار المقرّ]

مسألة 4 لو التمس المدّعي أن يكتب له صورة الحكم أو إقرار المقرّ فالظاهر عدم وجوبه (9) إلّا إذا توقّف عليه استنقاذ حقّه (10)، و حينئذٍ هل يجوز له مطالبة الأجر أم لا؟ الأحوط ذلك و إن لا يبعد الجواز (11). كما لا إشكال في جواز مطالبة قيمة القرطاس و المداد، و أمّا مع عدم التوقّف فلا شبهة في شي ء منها.

______________________________

و حاكماً، هو الحكم و القضاء، و هو الموضوع لوجوب الاتّباع و القبول و حرمة الاستخفاف و

الردّ.

و حقيقته أمر إنشائي ينشئه الحاكم بعد ثبوت الأمر لديه، فمجرّد الثبوت ليس حكماً و لا يترتّب عليه آثار الحكم. نعم لا يبعد الاكتفاء في مقام إنشاء الحكم بقوله: قد ثبت عندي كذا، إذا أراد به إنشاءه، بناءً علي ما أفاده من عدم اعتبار صيغة خاصّة في الإنشاء.

أقول: لا يبعد أن يقال: إنّ الحكم هو الإعلام بما ثبت لديه، و الإعلام حقيقته الحكاية و الإخبار. نعم لا يعتبر فيه أيضاً صيغة خاصّة.

(9) لعدم الدليل عليه، بعد عدم دخول الكتابة في حقيقة الحكم و عدم كونها من مقدّماته كما هو واضح و أصالة البراءة تقتضي عدم الوجوب.

(10) فإنّه من أدلّة النهي عن المنكر يفهم وجوب دفع المنكر الذي يقع لو لم يدفع، و مع فرض توقّف دفع الظلم عليه و دفع بطلان حقّه علي الكتابة تجب بمقتضي أدلّة وجوب النهي عن المنكر.

(11) لما مرّ من عدم دليل علي أنّ الوجوب بما أنّه وجوب مانع عن

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 161

ثمّ إنّه لم يكتب حتّي يعلم اسم المحكوم عليه و نسبه علي وجه يخرج عن الاشتراك و الإبهام (12). و لو لم يعلم لم يكتب إلّا مع قيام شهادة عدلين بذلك، و يكتب مع المشخّصات النافية للإيهام و التدليس، و لو لم يحتج إلي ذكر النسب و كفي ذكر مشخّصاته اكتفي به.

[مسألة 5 لو كان المقرّ واجداً الزم بالتأدية]

مسألة 5 لو كان المقرّ واجداً الزم بالتأدية (13) و لو امتنع أجبره الحاكم (14)

______________________________

أخذ الأُجرة، و أصالة البراءة تقتضي الجواز.

(12) يعني أنّه لا بدّ و أن يعرف أوّلًا المحكوم عليه بوجه مشخّص عمّن سواه حتّي لا يقع من كتابته ضرر علي غير المحكوم عليه بتدليس و نحوه.

(13) أي يحكم عليه بوجوب

الأداء؛ فإنّ أداء مال الغير إليه واجب، عيناً كان أم ديناً. ففي صحيحة زيد الشحّام

إنّ الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم قال: من كانت عنده أمانة فليؤدّها إلي من ائتمنه عليها؛ فإنّه لا يحلّ دم امرئ مسلم و لا ماله إلّا بطيبة نفسه «1».

فسواء كان التصرّف فيه بغير إذن المالك حراماً أم أداؤه واجباً فلا ريب في لزوم الأداء؛ حذراً عن معصية اللّٰه.

(14) هذا و ما بعده من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، الذي

______________________________

(1) وسائل الشيعة 29: 10، كتاب القصاص، أبواب القصاص في النفس، الباب 1، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 162

و إن ماطل و أصرّ علي المماطلة، جازت عقوبته بالتغليظ بالقول حسب مراتب الأمر بالمعروف، بل مثل ذلك جائز لسائر الناس، و لو ماطل حبسه الحاكم حتّي يؤدّي ما عليه (15). و له أن يبيع ماله إن لم يمكن إلزامه ببيعه،

______________________________

أدني الإنكار المأمور به أن نلقي أصحاب المعاصي بوجوه مكفهرّة «1»، و ورد فيه كما في خبر الحارث بن المغيرة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام

ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل منكم ما تكرهون و ما يدخل علينا به الأذي أن تأتوه، فتؤنّبوه و تعذّلوه و تقولوا له قولًا بليغاً؟ «2».

و بالجملة: فالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر واجبان، لهما مراتب لا تصل نوبة الأشدّ إلّا إذا لم يفد الأخفّ. و تمام الكلام موكول إلي بابه.

(15) و الدليل عليه موثّقة عمّار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

كان أمير المؤمنين عليه السلام يحبس الرجل إذا التوي علي غرمائه، ثمّ يأمر فيقسّم ماله بينهم بالحصص، فإن أبي باعه فيقسّمه بينهم؛ يعني ماله «3».

فإنّ نقل فعله عليه

السلام بل استمراره المستفاد من قوله: «كان.» إلي آخره دليل علي جواز حبس الدائن إذا التوي أي: ماطل علي

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة 16: 143، كتاب الأمر و النهي، أبواب الأمر و النهي، الباب 6، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 16: 145، كتاب الأمر و النهي، أبواب الأمر و النهي، الباب 7، الحديث 3.

(3) الكافي 5: 102/ 1، وسائل الشيعة 18: 416، كتاب الحجر، الباب 6، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 163

و لو كان المقرّ به عيناً يأخذها الحاكم بل و غيره من باب الأمر بالمعروف، و لو كان ديناً أخذ الحاكم مثله في المثليات و قيمته في القيميات (16) بعد مراعاة مستثنيات الدين، و لا فرق بين الرجل و المرأة فيما ذكر.

______________________________

غرمائه. و بعد أن يحبس ففي المرتبة الأُولي يجبر بأن يتصدّي بنفسه و يباشر الأداء؛ حتّي لا يفوت من شرائط الأداء إلّا طيب نفس المؤدّي، فإذا أبي عن مباشرة الأداء فالحاكم يباشر أداء دينه، فيبيع الحاكم ماله و يؤدّي عنه دينه.

و دلالة الموثّقة علي هذا الترتيب واضحة، و نحوها خبر الأصبغ بن نباتة «1»، فراجع.

(16) فإنّ تعيين كلّي ما في الذمّة و إن كان بيد المالك و لا يتعيّن إلّا بتعيينه و ليس للدائن أن يأخذ ابتداءً من مال المديون ما عليه، إلّا أنّ كلّ ذلك إذا كان يقوم بنفسه بصدد التعيين و الأداء، و إلّا فكما عرفت من الموثّقة يؤمر و يجبر علي الأداء بنفسه، ثمّ يتصدّي الحاكم الأداء عنه. و ظاهر أنّ ما في الموثّقة من الرجوع إلي البيع بعد امتناع الدائن من مباشرة الأداء إنّما هو في ما لم يكن في أمواله ما علي ذمّته، و إلّا فلا

حاجة إلي بيع ماله، بل يؤخذ من ماله و يؤدّي به دينه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 247، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 11، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 164

[مسألة 6 لو ادّعي المقرّ الإعسار و أنكره المدّعي]

مسألة 6 لو ادّعي المقرّ الإعسار و أنكره المدّعي (17) فإن كان مسبوقاً باليسار فادّعي عروض الإعسار فالقول قول منكر العسر (18) و إن كان مسبوقاً بالعسر فالقول قوله، فإن جهل الأمران ففي كونه من التداعي أو تقديم قول مدّعي العسر تردّد (19) و إن لا يبعد تقديم قوله.

[مسألة 7 لو ثبت عسره]

مسألة 7 لو ثبت عسره، فإن لم يكن له صنعة أو قوّة علي العمل فلا إشكال في إنظاره إلي يساره (20)،

______________________________

(17) و هذه الدعوي مسموعة؛ لترتّب الأثر عليها؛ و هو حبس الموسر كما مرّ في المسألة السابقة إذا ثبت يساره، كما أنّه يعمل معه ما يأتي في المسألة اللاحقة إذا ثبت إعساره.

(18) لمطابقة اليسر لاستصحاب بقائه، و لأنّ العرف أيضاً يري مدّعي الإعسار مدّعياً و مدّعي اليسر منكراً لادّعائه. و هكذا الأمر في الفرض التالي؛ فإنّ الإعسار هناك مقتضي الاستصحاب، و مدّعي اليسر فيه مدّعٍ عرفاً.

(19) وجه كونه من التداعي: أنّ كلّا من الإعسار و الإيسار صفتان وجوديتان عرفاً، و مدّعي كلّ منهما مدّعٍ و منكرها منكر.

و وجه تقدّم قول مدّعي الإعسار لعلّه هو أنّ طبع الأمر في كلّ أحد عرفاً أن لا يكون له شي ء، و الإعسار كأنّه حالة لا تزيد علي طبعه، بخلاف اليسر الذي لا يحصل إلّا بعد جهد و تعب، فمدّعي اليسر يدّعي أمراً حادثاً علي خلاف مقتضي الطبع، فهو مدّعٍ و مَن يقابله منكر عرفاً.

(20) و ذلك أنّ إيجاب تحصيل المال عليه لأداء الدين بتجارة أو عمل

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 165

و إن كان له نحو ذلك، فهل يسلّمه الحاكم إلي غريمه ليستعمله أو يؤاجره أو أنظره أو ألزمه بالكسب لتأدية ما عليه، و يجب عليه الكسب لذلك

أو أنظره و لم يلزمه بالكسب، و لم يجب عليه الكسب لذلك، بل لو حصل له مال يجب أداء ما عليه؟ وجوه، لعلّ الأوجه أوسطها (21). نعم لو توقّف إلزامه بالكسب علي تسليمه إلي غريمه يسلّمه إليه ليستعمله.

______________________________

منفي بالتعذّر أو التعسّر، و الإطلاقات محكومة بمثل أدلّة نفي العسر و الحرج، و قوله صلي الله عليه و آله و سلم

رفع عن أُمّتي. ما لا يطيقون «1».

(21) تحقيق المقام: أنّ مقتضي قاعدة وجوب أداء مال الغير إليه عند المطالبة، و أنّه لا يحلّ مال المسلم إلّا بطيبة نفسه، هو وجوب الكسب بأيّ وجه غير عسري و لا حرجي؛ فإنّ القدرة علي تحصيل المال و أداء الدين في المستقبل كافية في تعلّق تكليف الأداء عليه في الزمان الآتي.

و ليس العجز عن الأداء في الزمن الآتي بترك الكسب فيما يسبقه من الزمان عذراً عقلًا و لا عرفاً، بل و لا شرعاً في مخالفة تكليف وجوب الأداء؛ فمن يطالبه غريمه فعلًا و يقدر علي تحصيل المال لأدائه في اليوم فإذا ترك طلب المال و كان علي يسر من تحصيله فلا يعدّ معذوراً بعجزه في الليل الناشئ عن ترك الطلب.

و بالجملة: فلا ينبغي الريب في أنّ مقتضي القاعدة وجوب الطلب.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 166

______________________________

و أمّا توهّم أنّ قوله تعالي وَ إِنْ كٰانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِليٰ مَيْسَرَةٍ «1» يدلّ علي أنّه مهما انطبق عليه عنوان «ذو عسرة» كان له نظرة إلي ميسرة، و ترك الطلب و إن كان عمداً يوجب انطباق هذا العنوان عليه، فيعمّه حكم الإنظار إلي اليسار، و لا يجب عليه إخراج

نفسه عن هذا العنوان حتّي لا يشمله حكمه، بل ما دام ينطبق عليه الموضوع يكون محكوماً بحكمه، كما في سائر الموضوعات و الأحكام، و هذا هو دليل الوجه الأخير.

فمدفوع بأنّ المفهوم عرفاً من الآية ليس له إطلاق يعمّ ترك الطلب تساهلًا و التواء و مماطلة، فلا يفهم أحد من الآية: أنّ الشارع المقدّس في مقام إراءة الطريق لعدم أداء مال الناس و أكله، بل إنّما يفهم الكلّ منها: أنّه تعالي بصدد بيان إرفاق بالمديون و أنّه لا يجوز إيقاعه في العسر و الحرج و التضييق عليه في المعيشة، بل يجب أن يمهل و ينظر؛ لكي يرتفع بعمله و تجارته و سائر الأسباب إعساره و يحصل له اليسار؛ فيؤدّي ما عليه من الدين، فمقتضي القاعدة هو الوجه الوسط.

و يمكن الاستدلال له أيضاً بموثّقة غياث بن إبراهيم عن الصادق عليه السلام

إنّ أمير المؤمنين عليه السلام: كان يحبس في الدين، فإذا تبيّن له حاجة و إفلاس خلّي سبيله حتّي يستفيد مالًا «2».

ببيان: أنّ الظاهر أنّ قوله

حتّي.

إلي آخره علّة غائية لتخلية

______________________________

(1) البقرة (2): 280.

(2) وسائل الشيعة 18: 418، كتاب الحجر، الباب 7، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 167

______________________________

السبيل، فيخلّي سبيله بغرض أن يستفيد مالًا و لكي يستفيده، يعني: أنّ تحصيل المال لأداء الدين لمّا كان واجباً شرعاً و عرفاً فهو عليه السلام يخلّيه و يطلقه عن الحبس لكي يستفيد مالًا و يؤدّي ما عليه من الدين؛ فيدلّ علي وجوب الطلب؛ لكونه مقدّمة للحصول علي المال الذي يقضي به الدين.

و ليس المراد: أنّه كان يخلّي سبيله و يستمرّ هذه التخلية إلي أن يستفيد مالًا، ثمّ يلزمه بأداء دينه حتّي لا يكون الطلب واجباً، بل لو استفاد

مالًا الزم حينئذٍ بأداء دينه، و إلّا فهو مخلّي السبيل إلي هذا الزمان لكي ينطبق علي الوجه الأخير، و يكون دليلًا عليه، و لا أقلّ من أن لا يدلّ علي وجوب الطلب، هذا. و في القواعد كفاية.

و كيف كان: فلا ينبغي الإشكال في دلالة الموثّقة بكلا احتماليها بمقتضي قوله عليه السلام

خلّي سبيله

علي أنّه مخلّي السبيل ليستفيد مالًا، لا أنّه ينقل من حبسه و سجنه عليه السلام إلي سجن آخر؛ هو سجن الغرماء. فيدلّ علي أنّه لا يجب و لا يسلّم إلي الغرماء لكي يراقبوه و يصنعوا به ما شاؤوا.

لكن في قبال هذه الموثّقة، موثّقة أُخري رواها السكوني عن أبي عبد اللّٰه عن أبيه عليهما السلام

إنّ عليّاً عليه السلام كان يحبس في الدين ثمّ ينظر؛ فإن كان له مال أعطي الغرماء، و إن لم يكن له مال دفعه إلي الغرماء فيقول لهم: اصنعوا به ما شئتم؛ إن شئتم أجّروه و إن شئتم استعملوه «1».

و دلالتها علي جواز دفعه إلي الغرماء واضحة، و هو منافٍ لظاهر الموثّقة السابقة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 18: 418، كتاب الحجر، الباب 7، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 168

______________________________

و الظاهر: أنّه لا جمع عرفاً بينهما.

و الترجيح للموثّقة الأُولي؛ لكونها أشهر عملًا و أوثق سنداً؛ إذ ليس فيها من يتأمّل في وثاقته، و إن قيل: إنّ غياث بن إبراهيم بتري، لكنّه علي أيّ حال ثقة.

و هذا بخلاف الثانية المشتملة علي النوفلي، الذي وثاقته محلّ كلام، قال في «الجواهر» مزجاً ب «الشرائع»: و في تسليمه إلي الغرماء ليستعملوه أو يؤاجروه يعني: أو إنظاره روايتان؛ أشهرهما عملًا و أصحّهما سنداً و أكثرهما عدداً و أوفقهما بالأصل و الكتاب روايةً، الإنظار، انتهي.

نعم، إذا كان

المديون ممّن يستنكف عن طلب المال بالتجارة و العمل و يسامح و يماطل في أداء الدين، فالظاهر: أنّ مثله خارج عن موثّقة غياث؛ فإنّ الموثّقة إنّما تدلّ علي إيقاع تخلية السبيل علي من يستفيد مالًا، و هو الذي يكون استفادة المال غاية و غرضاً من تخلية سبيله.

و أمّا من يستنكف عن الطلب و يفرّ من السجن إلي الكسل فلا يشمله الموثّقة، و يكون القاعدة المقتضية لوجوب تحصيل المال بأيّ جهة ممكنة غير عسرة مقتضية لأن يدفع مثله إلي الغرماء لكي يستعملوه أو يؤاجروه. و هذا هو الوجه لما أفاده دام ظلّه في المتن بقوله: «نعم لو توقّف.» إلي آخره، فتدبّر.

إن قلت: فلِمَ لا يجمع بين الموثّقتين جمعاً عرفياً؛ بحمل خبر السكوني علي مورد امتناعه؛ لا سيّما و النسبة عموم و خصوص مطلق؛ لما مرّ من عدم شمول موثّق غياث لمورد الاستنكاف و الامتناع؟

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 169

[مسألة 8 إذا شك في إعساره و إيساره و طلب المدّعي حبسه إلي أن يتبيّن الحال]

مسألة 8 إذا شك في إعساره و إيساره و طلب المدّعي حبسه إلي أن يتبيّن الحال حبسه الحاكم (22) و إذا تبيّن إعساره خلّي سبيله و عمل معه كما تقدّم،

______________________________

قلت: هذا فرد نادر، و حمل إطلاق قوله

و إن لم يكن مال دفعه إلي الغرماء

عليه لا يصحّ عرفاً، فلا بدّ من الترجيح و الرجوع إلي أخبار العلاج، كما عرفت.

(22) الدليل علي أصل جواز الحبس، بل وجوبه، موثّقة غياث بن إبراهيم الماضية في المسألة السابقة؛ فإنّ كون الحبس مغيّا بتبيّن إفلاسه دليل علي أنّه واقع في زمن الشكّ في إعساره و إيساره، و فعله عليه السلام لمّا كان في مقام المرافعة و فصل الخصومة كان دليلًا علي جوازه للحاكم، بل الغرض من نقله هو تعليم كيفية

الحكومة و القضاء الإسلامي، فهو دليل وجوبه علي القاضي.

و أمّا الدليل علي تقييده بطلب ذي الحقّ: فلما عرفت في المسألة الثانية من أنّ تعقيب الأمر في حقوق الناس موقوف علي طلب ذي الحقّ، فإذا لم يطلب ذو الحقّ و لم يرض بحبسه فلا محالة يرجع عدم طلبه لحبسه مع توقّف إحياء و أخذ حقّه علي الحبس إلي عدم مطالبته لحقّه إذا كانت مستلزمة لهذا اللازم، فليس علي الحاكم أخذ حقّه حتّي يجوز له حبسه مقدّمةً لأخذ حقّه.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 170

و لا فرق في ذلك بين الرجل و المرأة (23) فالمرأة المماطلة يعمل معها نحو الرجل المماطل و يحبسها الحاكم كما يحبس الرجل إلي تبيّن الحال.

[مسألة 9 لو كان المديون مريضاً يضرّه الحبس]

مسألة 9 لو كان المديون مريضاً يضرّه الحبس أو كان أجيراً للغير قبل حكم الحبس عليه فالظاهر عدم جواز حبسه (24).

______________________________

(23) لإطلاق الموثّقة. و التعبير بالضمير المذكّر لا بدّ منه فيما يراد الأعمّ من الرجل و المرأة. مضافاً إلي أنّه لو صرّح بالرجل لألغي الخصوصية عنه عرفاً إلي المرأة؛ فإنّ المفهوم عرفاً أنّ هذا حكم المديون مطلقاً.

(24) فإنّ الحبس مستلزم للضرر البدني علي المحبوس في الصورة الأُولي و الضرر المالي علي المستأجر في الصورة الثانية، فتجويزه أو إيجابه يلزم منه الضرر، و عموم قوله

لا ضرر «1»

ينفي الضرر عن محيط التشريعات الإسلامية؛ فلا بدّ و أن ينتفي الوجوب أو الجواز هنا كي لا يتحقّق الضرر في حمي القوانين الإسلامية.

و لا يمكن أن يعارض ضررهما بالضرر الوارد علي ذي الحقّ من ترك حبسه؛ و ذلك أنّ لزوم الضرر من ترك الحبس غير معلوم؛ إذ المفروض احتمال أن يكون المديون معسراً. و حينئذٍ: ليس في ترك حبسه ضرر

علي الدائن، بل هو لو تضرّر فإنّما يتضرّر بكونه معسراً لا بترك حبسه،

______________________________

(1) وسائل الشيعة 25: 428، كتاب إحياء الموات، الباب 12، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 171

[مسألة 10 ما قلنا من إلزام المعسر بالكسب مع قدرته عليه]

مسألة 10 ما قلنا من إلزام المعسر بالكسب مع قدرته عليه إنّما هو فيما إذا لم يكن الكسب بنفسه حرجاً عليه أو منافياً لشأنه أو الكسب الذي أمكنة لا يليق بشأنه بحيث كان تحمله حرجاً عليه (25).

[مسألة 11 لا يجب علي المرأة التزوّج لأخذ المهر و أداء دينها]

مسألة 11 لا يجب علي المرأة التزوّج لأخذ المهر (26) و أداء دينها، و لا علي الرجل طلاق زوجته (27) لدفع نفقتها لأداء الدين،

______________________________

فمعارضة ضرر المديون و المستأجر بضرر الدائن إنّما يصحّ لو جاز التمسّك بالعامّ في شبهته المصداقية، و من المعلوم عدم حجّيته فيها.

(25) فإنّ قوله تعالي وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «1» ينفي كلّ حكم يوجب الحرج علي المكلّفين، و يكون حاكماً علي إطلاق أدلّة الأحكام. فإطلاق جواز أو وجوب الحبس المستفاد من الموثّقة في موارد الحرج محكوم الآية و مختصّ بغير موارد لزوم الحرج، كما لا يخفي.

(26) فإنّ إيجابه علي النساء لذلك حرج عليهنّ، فهو منفي بعموم نفي الحرج.

(27) لقاعدة الحرج، مضافاً إلي دلالة التعليل الوارد في صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

لا تباع الدار و لا الجارية في الدين؛ ذلك أنّه لا بدّ للرجل من ظلّ يسكنه و خادم يخدمه «2»

؛ فإنّه عليه السلام حكم بعدم

______________________________

(1) الحج (22): 78.

(2) وسائل الشيعة 18: 339، كتاب التجارة، أبواب الدين، الباب 11، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 172

و لو وهبه و لم يكن في قبولها مهانة و حرج عليه يجب القبول (28) لأداء دينه.

______________________________

وجوب بيع الجارية في أداء الدين، و علّله بأنّه لا بدّ للرجل من خادم يخدمه.

و بملاحظة أنّ الصحيحة مطلقة، تشمل الموارد الغالبة من الاحتياج إلي الجارية و الخادم، و هي التي يكون الجارية لا

تؤثّر إلّا سعة في العيش، فلا محالة يراد باللابدّية التي جعلها عليه السلام علّة لنفي الوجوب، اللابدّية في إيجاد السعة المذكورة؛ فتدلّ علي أنّ كلّ ما يوجب عدمه انتفاء مثل هذه السعة فما فوقها، فبيعه و صرفه في أداء الدين غير واجب.

و من الواضح: أنّ الضيق اللازم من طلاق الزوجة لصرف نفقتها في أداء الدين أكثر و أشدّ بمراتب ممّا يلزم من بيع الجارية و صرف ثمنها فيه؛ فتدلّ العلّة المذكورة دلالة واضحة علي عدم وجوب طلاقها.

(28) لما عرفت في المسألة السابقة من وجوب طلب المال و تحصيله عليه مقدّمةً لأداء ما عليه من أموال الغير، التي قام بصدد مطالبتها. و هذا الوجوب عامّ لجميع الطرق المتصوّرة التي ليس فيها حرج عليه و مهانة.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 173

[القول في الجواب بالإنكار]

اشارة

القول في الجواب بالإنكار

[مسألة 1 لو أجاب المدّعي عليه بالإنكار]

مسألة 1 لو أجاب المدّعي عليه بالإنكار، فأنكر ما ادّعي المدّعي، فإن لم يعلم أنّ عليه البيّنة (1)،

______________________________

(1) يعني: أنّ علي المدّعي إذا أنكر المدّعيٰ عليه إقامة البيّنة أوّلًا، ثمّ إذا لم تكن بيّنة تصل النوبة إلي إحلاف المنكر.

و يدلّ علي ذلك أخبار كثيرة:

منها: صحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

في كتاب علي عليه السلام: إنّ نبياً من الأنبياء شكا إلي ربّه، فقال: يا ربّ كيف أقضي فيما لم أر و لم أشهد؟ قال: فأوحي اللّٰه إليه: احكم بينهم بكتابي و أضفهم إلي اسمي فحلّفهم (تحلّفهم خ. ل) به، و قال: هذا لمن لم تقم له البيّنة «1».

فإنّ قوله عليه السلام في ذيل الحديث

هذا لمن لم تقم له البيّنة

كالصريح في أنّه إذا قامت البيّنة فليس المورد من موارد الإحلاف باسم اللّٰه تعالي، فقوله صلي الله عليه و آله و سلم

البيّنة علي من ادّعي و اليمين علي من ادّعي عليه «1»

، أو

اليمين علي من أنكر «2»

يراد به أنّه إنّما يتوجّه اليمين علي المدّعي عليه

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 229، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 1، الحديث 1.

(1) وسائل الشيعة 27: 233، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 3، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 293، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 25، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 174

أو علم و ظنّ أن لا تجوز إقامتها إلّا مع مطالبة الحاكم، وجب علي الحاكم أن يعرّفه ذلك (2) بأن يقول: أ لك بيّنة؟ فإن لم تكن له بيّنة و لم يعلم أنّ له حقّ إحلاف المنكر، يجب علي الحاكم إعلامه بذلك.

[مسألة 2 ليس للحاكم إحلاف المنكر إلّا بالتماس المدّعي]

مسألة 2 ليس للحاكم إحلاف المنكر إلّا بالتماس المدّعي، و

ليس للمنكر التبرّع بالحلف قبل التماسه، فلو تبرّع هو أو الحاكم لم يعتدّ بتلك اليمين (3)،

______________________________

و المنكر إذا لم تقم بيّنة، و إلّا فلا مجال لليمين.

(2) يعني أنّ إعلام المدّعي الجاهل بوظيفته من وظائف الحاكم المتصدّي لمقام القضاء، و يكون تركه تركاً لوظيفة القاضي في مقام القضاء.

و الوجه فيه: أنّه لا شكّ في أنّ وظيفة القاضي هو فصل الخصومة بالطريق المقرّر الشرعي، و طريقه المقرّر هو إمّا إقامة البيّنة، أو إحلاف المنكر من ناحية المدّعي، أو ردّ الحلف علي المدّعي من ناحية المنكر.

فإذا كان هذه طريقته و قد جاء المدّعي للقضاء بينه و بين خصمه بوجه شرعي و لا يدري هذا الوجه، فلا محالة يتوقّف القضاء علي تعليمه؛ فيجب علي من يجب عليه القضاء أن يعلّمه وظيفته حتّي يقضي بينهما كما أمر اللّٰه. و هكذا الأمر في ناحية المنكر الذي استحلف و لا يدري أنّ وظيفته الحلف أو الردّ أو شي ء آخر؛ فإنّه يجب إعلامه بوظيفته لكي يقضي بينه و بين المدّعي بما أمر اللّٰه.

(3) حاصل هذه المسألة: أنّ الاعتداد بيمين المنكر مشروط بأمرين:

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 175

______________________________

أحدهما طلب المدّعي و التماسه لها، و الثاني إذن الحاكم.

و الدليل علي اعتبار التماس المدّعي أخبار:

منها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام في الرجل يدّعي و لا بيّنة له؟ قال

يستحلفه.

الحديث «1»؛ فإنّه عليه السلام في مقام تعليم كيفية القضاء و فصل الخصومة بيّن أنّه إذا لم تكن بيّنة فيستحلف المدّعي المدّعي عليه، فتصل النوبة إلي الاستحلاف، و الاستحلاف هو التماس الحلف و طلبه؛ فوظيفة القضاء لا تتأتّي إلّا بأن يستحلف المدّعي المدّعي عليه، فلو حلف المدّعي عليه من غير استحلاف المدّعي فلا

أثر له؛ سواء تبرّع به المدّعي عليه أو أحلفه الحاكم.

و بمثله يقيّد الأخبار التي يتوهّم لها إطلاق، نحو ما مرّ آنفاً في صحيحة سليمان بن خالد خطاباً إلي القاضي

و أضفهم إلي اسمي، فحلّفهم به.

فالقاضي بعد استحلاف المدّعي و التماسه يأمر المدّعي عليه بأن يحلف.

و منها: خبر خضر النخعي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في الرجل يكون له علي الرجل المال فيجحده؟ قال

إن استحلفه فليس له أن يأخذ شيئاً، و إن تركه و لم يستحلفه فهو علي حقّه «2»

؛ فإنّه عليه السلام أفاد: أنّ المدّعي إن لم يستحلف المدّعي عليه فهو علي حقّه، فملاك بقائه علي حقّه أن لا يستحلف

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 241، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 246، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 10، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 176

و لا بدّ من الإعادة بعد السؤال، و كذا ليس للمدّعي إحلافه بدون إذن الحاكم (4) فلو أحلفه لم يعتدّ به.

[مسألة 3 لو لم يكن للمدّعي بيّنة و استحلف المنكر فحلف]

مسألة 3 لو لم يكن للمدّعي بيّنة و استحلف المنكر فحلف، سقطت دعوي المدّعي في ظاهر الشرع، فليس له بعد الحلف مطالبة حقّه، و لا مقاصّته، و لا رفع الدعوي إلي الحاكم، و لا تسمع دعواه (5).

______________________________

المدّعي عليه، فإذا لم يستحلفه؛ فسواء أحلفه الحاكم أو حلف من عند نفسه و تبرّعاً ثمّ وقع بعد حلفه حكم أم لا، أم لم يحلف أصلًا؛ ففي جميع هذه الصور يكون المدّعي علي حقّه، و هو عبارة أُخري عن اعتبار التماس المدّعي في الاعتداد بحلف المنكر.

(4) هذا هو الشرط الثاني، و الدليل عليه: أنّ القاضي هو المتصدّي للقضاء، و هو المدير لمجلس القضاء، و من

لوازم تصدّيه أن يكون حلف المنكر بإذن منه، و بعد ذلك فالعمدة في الاستدلال عليه هو ما مرّ في صحيح سليمان بن خالد

أضفهم إلي اسمي فحلّفهم (تحلّفهم خ. ل) به

حيث جعل الإحلاف باسمه تعالي من وظائف القاضي، فلا يعتدّ بحلف لا يكون بإذن من القاضي و إحلافه.

(5) يعني: أنّ في ظاهر الشريعة و مقام عمل المسلمين لحكم القاضي و قضائه المبتني علي حلف المنكر أثرين:

أحدهما: سقوط دعوي المدّعي بحيث لا يصغي إليها أصلًا؛ حتّي عند قاضٍ آخر جاهل بالواقعة، أو عند هذا القاضي نفسه إذا نسي و غفل عمّا

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 177

______________________________

قدّمت يداه، فإذا سمعوها و حكموا ثانياً بالوفاق أو الخلاف فلا يعتدّ بحكمهم الثاني أصلًا.

ثانيهما: أنّه يجب علي المدّعي كسائر المسلمين ترتيب الأثر علي حكم القاضي و عدّ العين التي بيد المنكر مثلًا ملكاً له لا يتصرّفون فيها إلّا بإذنه.

و الدليل عليهما أخبار كثيرة:

منها: صحيحة ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه فحلف أن لا حقّ له قبله ذهبت اليمين بحقّ المدّعي فلا دعوي له

، قلت له: و إن كانت عليه بيّنة عادلة؟ قال

نعم، و إن أقام بعد ما استحلفه باللّٰه خمسين قسامة ما كان له و كانت اليمين قد أبطلت كلّ ما ادّعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه «1».

فقوله عليه السلام

فلا دعوي له

دليل علي الأثر الأوّل، و إطلاقه شامل لجميع الصور المذكورة. و إذا لم يكن له دعوي و ذهبت اليمين بحقّه فلو غفل أو جهل الحاكم بالواقعة فحكم فلا يعتدّ بحكمه الثاني؛ فإنّ الصحيحة قد صرّحت بأنّه إن أقام خمسين قسامة بعد ما استحلف المنكر ما كان

له و قد أبطل اليمين دعواه.

كما أنّ قوله عليه السلام

ذهبت اليمين بحقّ المدّعي

و قوله عليه السلام

و كانت اليمين قد أبطلت كلّ ما ادّعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه

يدلّ علي الأثر

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 244، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 9، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 178

نعم لا تبرأ ذمّة المدّعي عليه، و لا تصير العين الخارجية بالحلف خارجاً عن ملك مالكها (6) فيجب عليه ردّها و إفراغ ذمّته؛

______________________________

الثاني؛ فإنّه إذا كانت اليمين ذهبت بحقّه و أبطلت ما ادّعاه عنده فلا حقّ له عنده كي يتصرّف فيه أو يقاصّه أو يبيعه و يهبه.

و منها: قوله عليه السلام في مقبولة عمر بن حنظلة

فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّٰه و علينا ردّ، و الرادّ علينا الرادّ علي اللّٰه، و هو علي حدّ الشرك باللّٰه «1».

فإنّ الظاهر: أنّ المراد من الحكم بحكمهم هو القضاء بما يقضون به، و لا ريب في أنّهم عليهم السلام أيضاً يقضون بمقتضي حلف المنكر و مطابقاً له، فالقضاء بمقتضي حلف المنكر يكون من مصاديق الحكم بحكمهم، فلا يجوز الاستخفاف به و لا ردّه.

و معلوم: أنّ طرح الدعوي ثانياً عند هذا القاضي أو قاضٍ آخر استخفاف به. كما أنّ عدم المشي علي طبقه و عدم ترتيب الأثر عليه و لو في مورد واحد من ناحية المدّعي أو غيره استخفاف به، و هو حرام و معصية كبيرة علي حدّ الشرك باللّٰه. فالمقبولة أيضاً دليل علي ترتّب كلا الأثرين.

(6) يعني: أنّه و إن وجب ترتيب الآثار علي حكم الحاكم في ظاهر

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء

و الشهادات، ص: 179

و إن لم يجز للمالك أخذها و لا التقاص منه، و لا يجوز بيعها و هبتها و سائر التصرّفات فيها. نعم يجوز إبراء المديون من دينه علي تأمّل فيه (7).

______________________________

الشريعة، إلّا أنّ الواقع لا ينقلب عمّا هو عليه، فلا تبرأ ذمّته و لا يصير العين الخارجية التي هي ملك المدّعي ملكاً له.

و الدليل عليه: أنّه و إن كان ربّما يتوهّم دلالة قوله عليه السلام في صحيحة ابن أبي يعفور الماضية

ذهبت اليمين بحقّ المدّعي

علي ذهاب حقّه بحسب الواقع حتّي يبرأ ذمّة المنكر و يصير العين ملكاً له بيمينه الكاذبة، إلّا أنّ قوله صلي الله عليه و آله و سلم في صحيحة هشام بن الحكم

إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان و بعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار «1»

، صريحة في أنّ قضاء القاضي الواجد لأعلي الشرائط إذا تخلّف عن الواقع فلا يوجب تغيّر الواقع و انقلابه عمّا هو عليه، و لا يصير ملك الغير ملكاً لغيره بمقتضي بيّنة أو يمين كاذبة، فهي دليل علي أنّ ذهاب حقّ المدّعي بيمين المنكر إنّما هو في مرحلة الظاهر و مقام العمل، و إلّا فالواقع ثابت علي ما كان عليه.

(7) ينشأ من أنّ الإبراء ليس عملًا خارجياً لكي يكون ارتكابه استخفافاً عملياً بحكم القاضي، فيكون في حدّ الشرك باللّٰه تعالي، و من أنّه عمل اعتباري عقلائي، له أثر معتبر عقلائي و هو براءة ذمّة المشغول الذمّة

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 232، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 2، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 180

فلو أقام المدّعي البيّنة بعد حلف المنكر لم

تسمع، و لو غفل الحاكم أو رفع الأمر إلي حاكم آخر فحكم ببيّنة المدّعي لم يعتدّ بحكمه (8).

[مسألة 4 لو تبيّن للحاكم بعد حكمه كون الحلف كذباً]

مسألة 4 لو تبيّن للحاكم بعد حكمه كون الحلف كذباً يجوز بل يجب عليه نقض حكمه (9) فحينئذٍ يجوز للمدّعي المطالبة و المقاصّة و سائر ما هو آثار كونه محقّاً.

______________________________

واقعاً فارتكابه استخفاف بحكمهم و حرام. فإبراء الذمّة مثل هبة العين الخارجية عمل علي خلاف حكم الحاكم، و إن كان أحدهما إيقاعاً و الآخر عقداً، و لعلّه الأظهر.

ثمّ إنّ الظاهر: أنّ ترتيب الأثر علي حكم القاضي في مقام العمل و ظاهر الشرع واجب حتّي علي المنكر الحالف كاذباً فإنّ إطلاق الأدلّة يشمله. و حينئذٍ فلا محيص له عن المعصية التي أوقع نفسه فيها إلّا بهبة العين الخارجية التي هي ملك المدّعي للمدّعي، في دعوي الأعيان، و إشغال ذمّة المدّعي بمثل ما عليه ثمّ إبراؤها في مقام الظاهر في دعوي الذمم؛ فإنّ الذمّتين بحسب الواقع قد برئتا بالتهاتر القهري.

(8) إذ الحكم بعدم سماع دعواه حكم علي الواقع، و إن لم يلتفت إليه الحاكم أو المدّعي أو المنكر.

(9) فإنّ القاضي حينئذٍ يعلم أنّ حكمه كان حكماً بغير ما أنزل اللّٰه، و لا يعتدّ بالحكم الذي ليس بما أنزل اللّٰه، و قد قال تعالي:

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 181

و لو أقرّ المدّعي عليه بأنّ المال للمدّعي جاز له التصرّف و المقاصّة و نحوهما (10) سواء تاب و أقرّ أم لا.

______________________________

وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ «1».

و قبل علمه بكذب الحالف و إن كان حكمه بحسب الواقع حكماً بغير ما أنزل اللّٰه، لكنّه لمّا كان علي طبق قواعد القضاء الإسلامي فحكمه هذا مشمول لعموم المقبولة،

و عمومها حجّة علي كلّ أحد، و لا يجوز ردّه و لا الاستخفاف به ما دام هو باقياً علي حكمه السابق.

و أمّا إذا علم هو نفسه بأنّ حكمه لم يكن بما أنزل اللّٰه فلا يجوز و لا يمكن له البقاء عليه، فينقضه لا محالة، و بعد ما نقضه فلا حكم بنفع المنكر حتّي يكون العمل بخلافه حراماً و معصية، بل يحكم بنفع المدّعي إذا رافع إليه ثانياً. و مع عدم المرافعة فللمدّعي المطالبة و التقاصّ إذا امتنع المدّعي عليه عن الأداء، كما أنّ له المرافعة إلي الحاكم.

و قد مرّ ذيل المسألة الثامنة من مسائل أوّل كتاب القضاء ما له نفع في المقام، فراجع.

(10) و الدليل عليه عموم أدلّة حجّية الإقرار، و إذا كان التصرّف أو المقاصّة مستنداً إلي إقراره فليس مصداق الاستخفاف بحكمهم؛ فإنّه إنّما يتصرّف لأنّه أقرّ به علي نفسه، و إلّا فلم يكن يتصرّف فيه، كما لم يتصرّف قبلًا.

______________________________

(1) المائدة (5): 44.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 182

______________________________

و بالجملة: فالتصرّف أو المقاصّة إذا استند إلي إقراره فلا يكون استخفافاً بحكم الحاكم، و لا دليل علي حرمته، و يكون جوازه مطابقاً للقواعد؛ سواء تاب بعد الإقرار أو قبله، أم لم يتب، بل كان مصرّاً علي التصرّف في العين المغصوبة و علي عدم أداء ما في ذمّته.

نعم، في خبر مسمع أبي سيّار قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: إنّي كنت استودعت رجلًا مالًا فجحدنيه فحلف لي عليه، ثمّ إنّه جاءني بعد ذلك بسنين بالمال الذي استودعته إيّاه، فقال: هذا مالك فخذه و هذه أربعة آلاف درهم ربحتها في مالك فهي لك مع مالك و اجعلني في حلّ، فأخذت المال منه و أبيت أن

آخذ الربح و أوقفت المال الذي كنت استودعته و أتيت حتّي أستطلع رأيك، فما تري؟ فقال

خذ الربح و أعطه النصف و أحلّه، إنّ هذا رجل تائب، و اللّٰه يحبّ التوّابين «1».

فمورد هذا الخبر هو الذي تاب عن معصية التصرّف في مال الغير و جحوده، و بناءً علي أن يراد من الحلف الواقع فيه الحلف عند القاضي، يكون من مصاديق محلّ الكلام. لكنّه علي أيّ حال: لا مفهوم له يدلّ علي نفي الجواز عن غير مورد التوبة. و حيث إنّ مقتضي القواعد هو جواز التصرّف و المقاصّة مطلقاً و لا معارض له، فيؤخذ به بلا إشكال.

ثمّ إنّ هذا كلّه بالنسبة إلي عمل المدّعي.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 19: 89، كتاب الوديعة، الباب 10، الحديث 1، و 23: 286، كتاب الأيمان، الباب 48، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 183

[مسألة 5 هل الحلف بمجرّده موجب لسقوط حقّ المدّعي مطلقاً]

مسألة 5 هل الحلف بمجرّده موجب لسقوط حقّ المدّعي مطلقاً أو بعد إذن الحاكم أو إذا تعقّبه حكم الحاكم، أو حكمه موجب له إذا استند إلي الحلف؟ الظاهر أنّ الحلف بنفسه لا يوجبه و لو كان بإذن الحاكم، بل بعد حكم الحاكم يسقط الحقّ، بمعني أنّ الحلف بشرط حصول الحكم موجب للسقوط بنحو الشرط المقارن (11).

______________________________

و أمّا القاضي إذا أقرّ عنده المنكر بحقّ المدّعي بعد ما حلف و حكم القاضي بمقتضي حلفه، فالظاهر أنّه لا يجوز نقض حكمه السابق بمجرّد إقراره، إلّا إذا علم بصدقه في إقراره، و أنّ حلفه السابق كان كاذباً؛ و ذلك أنّ حكمه وقع علي طبق ضوابط القضاء، و لم يعلم بعد أنّه من قبيل الحكم بغير ما أنزل اللّٰه، فما لم يعلم الخلاف فهو مشمول المقبولة يجب قبوله و يحرم الاستخفاف

به من كلّ أحد، فلا يجوز نقضه.

(11) وجه الاكتفاء في سقوط دعوي المدّعي بمجرّد يمين المنكر بلا انتظار إذن أو حكم الحاكم هو تعليق السقوط و ترتيبه في الأخبار علي مجرّد الحلف، ففي صحيح ابن أبي يعفور عن الصادق عليه السلام

إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه فحلف أن لا حقّ له قبله ذهبت اليمين بحقّ المدّعي فلا دعوي له «1»

، حيث حكم عليه السلام بأنّ اليمين هي التي ذهبت بحقّ المدّعي، و بما أنّه ذهب حقّه فلا دعوي له، و هو مطلق يشمل

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 244، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 9، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 184

______________________________

صورة تعقّبها بإذن الحاكم أو حكمه و عدمه.

و وجه اشتراط حكم الحاكم: أنّ الصحيحة و نحوها وردت في مقام بيان و تعليم كيفية الحكم و القضاء في الإسلام، فلا إطلاق لها لصورة عدم حكم الحاكم، بل هي في الواقع تعلّم الحاكم كيفية القضاء و أنّه إذا قضي باليمين فهو نافذ و إن أُقيمت البيّنة بعداً علي خلافه.

و يشهد لذلك قوله صلي الله عليه و آله و سلم

إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان. «1»

إلي آخره، حيث أسند إلي نفسه أنّه يقضي باليمين، و هو لا يكون إلّا إذا كان لقضائه أثر، فلو كان تمام الأثر مرتّباً علي مجرّد اليمين لكان القضاء معها لغواً. فالجمع بين ترتيب الأثر علي اليمين و كونها السبب في ذهاب حقّ المدّعي و سقوط دعواه و بين عدم لغوية القضاء، هو أنّ اليمين سبب سقوط الحقّ و الدعوي بشرط قضاء الحاكم.

بل يمكن القول بأنّ حكم الحاكم و قضاءه هو الذي حكم عليه في مقبولة عمر بن حنظلة

بوجوب قبوله و حرمة ردّه، فقال عليه السلام

فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّٰه و علينا ردّ، و الرادّ علينا الرادّ علي اللّٰه، و هو علي حدّ الشرك باللّٰه «2»

، و قبوله هو الأخذ بمقتضاه لكي يثبت حقّ المدّعي أو يسقط؛ فحكم الحاكم هو المقتضي لسقوط حقّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 232، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 2، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 185

[مسألة 6 للمنكر أن يردّ اليمين علي المدّعي]

مسألة 6 للمنكر أن يردّ اليمين علي المدّعي، فإن حلف ثبت دعواه و إلّا سقطت (12).

______________________________

المدّعي و سقوط دعواه في مورد الكلام.

نعم، لا ريب في أنّه لا بدّ و أن يكون حكم الحاكم طبقاً ليمين المنكر حتّي يكون قد قضي باليمين و حكم بحكمهم.

و بالجملة: فلا معني لوجوب قبول حكمه إلّا وجوب الأخذ بمقتضاه، و هو عبارة أُخري عن كونه سبباً لتحقّق مفاده في الشريعة، و مفاده: أنّ المدّعي لا حقّ له قبل المنكر، فإذا حكم القاضي به فالشارع يحكم بوجوب قبوله و ثبوت مفاده و مضمونه. و حينئذٍ: فوجه التعبير الواقع في صحيحة ابن أبي يعفور أنّ اليمين حيث كانت هي سبب حكم الحاكم بأن لا حقّ له عند المنكر؛ فلذا أسند هو عليه السلام ذهاب حقّ المدّعي و سقوط دعواه بها و جعلها سبباً لهما.

و كيف كان: فلا ريب في عدم ترتّب ثمرة عملية و عدم اختلاف عملي بين القول بأنّ حكم الحاكم سبب السقوط، و القول بأنّ اليمين سببه بشرط حكم الحاكم، كما لا يخفي، و إن كان الأظهر هو سببية الحكم علي ما عرفت.

(12) ادّعي عليٰ ما

تضمّنته العبارة الإجماع.

و يدلّ عليه أخبار كثيرة:

منها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام في الرجل يدّعي و لا بيّنة له؟ قال

يستحلفه، فإن ردّ اليمين علي صاحب الحقّ فلم يحلف

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 186

و الكلام في السقوط بمجرّد عدم الحلف و النكول أو بحكم الحاكم كالمسألة السابقة (13). و بعد سقوط دعواه ليس له طرح الدعوي و لو في مجلس آخر؛ كانت له بيّنة أو لا (14). و لو ادّعي بعد الردّ عليه: بأنّ لي بيّنة يسمع منه الحاكم (15)،

______________________________

فلا حقّ له «1»

، و هي تدلّ علي أنّ للمنكر ردّ اليمين علي المدّعي دلالةً واضحةً التزاميةً. و كذلك علي أنّ المدّعي إذا حلف اليمين المردودة يثبت حقّه. و تدلّ بالمطابقة علي أنّه إذا امتنع عن الحلف و أبي فلم يحلف يحكم عليه بمجرّد عدم الحلف و النكول بأنّه لا حقّ له.

(13) إذ مثل الصحيحة المذكورة قد رتّب انتفاء و سقوط حقّ المدّعي علي مجرّد عدم الحلف، كما رتّب ذهاب حقّه في صحيحة ابن أبي يعفور علي مجرّد يمين المنكر، فالكلام هنا هو الكلام هناك بعينه.

(14) و ذلك للأخذ بإطلاق قوله عليه السلام

فلا حقّ له

؛ فإنّه يدلّ علي سقوط حقّه و إن أراد بعداً إثباته بإقامة البيّنة أو الحلف؛ سواء كان في ذلك المجلس أو مجلس آخر.

(15) إذ ليس هذه الصورة داخلة في إطلاق قوله عليه السلام

فلم يحلف

؛ إذ الظاهر منه أن يمتنع عن الحلف و يأبي و يعرض عمّا ردّ عليه، لا أن يقبل إلي طريق آخر لإثبات دعواه قد جعله الشارع له.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 241، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء

و الشهادات، ص: 187

و كذا لو استمهل في الحلف لم يسقط حقّه (16) و ليس للمدّعي بعد الردّ عليه أن يردّ علي المنكر (17) بل عليه إمّا الحلف أو النكول، و للمنكر أن يرجع عن ردّه قبل أن يحلف المدّعي (18). و كذا للمدّعي أن يرجع عنه لو طلبه من المنكر قبل حلفه (19).

______________________________

(16) لما عرفت من أنّ المراد بعدم الحلف هو الإباء عنه، و ليس منه الاستمهال.

(17) لدلالة الصحيحة و أمثالها علي أنّه بعد ما ردّت عليه اليمين إن حلف به ثبت حقّه، و إن لم يحلف فلا حقّ له، و الردّ علي المنكر داخل في إطلاق قوله عليه السلام

فلم يحلف، فأبي

، فهو من مصاديق النكول، يحكم عليه معه بأن لا حقّ له.

(18) و ذلك أنّ المفهوم من الصحيحة المذكورة هو ترتّب الأثر علي حلف المدّعي في خصوص ما إذا حلف عقيب ردّ المنكر و في زمن بقائه علي الردّ، و لا تشمل ما إذا رجع عن ردّه.

و من ناحية أُخري يدلّ إطلاق قولهم عليهم السلام

اليمين علي المدّعي عليه

، علي توجّه اليمين علي المنكر و كونها وظيفة له، خرج من إطلاقه ما إذا ردّه علي المدّعي، و بقي علي هذا الردّ. و أمّا إذا رجع عن ردّه فهو داخل في الإطلاق، بناءً علي ما هو الحقّ من الرجوع هنا إلي إطلاق العامّ، لا استصحاب حكم المخصّص؛ فإنّ المورد ممّا يرجع إلي إطلاق العامّ بلا كلام، و إن لم نقل به في بعض الموارد الأُخر، و تمام الكلام في محلّه.

(19) و ذلك لما عرفت من أنّ الاعتداد بحلف المنكر إنّما يكون فيما إذا

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 188

[مسألة 7 لو نكل المنكر فلم يحلف و لم يردّ]

مسألة 7 لو نكل

المنكر فلم يحلف و لم يردّ، فهل يحكم عليه بمجرّد النكول، أو يردّ الحاكم اليمين علي المدّعي؛ فإن حلف ثبت دعواه و إلّا سقطت؟ قولان، و الأشبه الثاني (20).

______________________________

استحلفه المدّعي، و الظاهر من قوله عليه السلام في مثل صحيحة المذكورة في الرجل يدّعي و لا بيّنة له

يستحلفه

أنّه يعتدّ بحلفه إذا حلف المنكر عقيب استحلافه و عملًا بالاستحلاف؛ بأن يكون المدّعي باقياً علي التماس اليمين منه، فلا يعمّ اليمين التي اتي بها بعد ما رجع المدّعي عن طلبه.

فإذا رجع عن طلبه فهو مشمول إطلاق قولهم عليهم السلام

البيّنة علي من ادّعي

؛ إذ الخارج منه خصوص مورد الاستحلاف الذي يبقي عليه، و إذا رجع عن الاستحلاف فهو داخل تحت الإطلاق. و تمام الكلام يأتي إن شاء اللّٰه تعالي في المسألة الحادية عشر.

(20) و هو الذي نسب إلي المشهور، بل ربّما ادّعي عليه الإجماع. كما أنّ القضاء علي المنكر بمجرّد نكوله عن الحلف و عن الردّ ممّا ذهب إليه جمع من الأصحاب.

و يمكن الاستدلال للحكم بالنكول بخبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه البصري قال: قلت للشيخ عليه السلام: خبّرني عن الرجل يدّعي قبل الرجل الحقّ، فلم تكن له بيّنة بما له، قال

فيمين المدّعي عليه، فإن حلف فلا حقّ له، و إن لم يحلف فعليه (و إن ردّ اليمين علي المدّعي فلم يحلف فلا حقّ له خ. فقيه) و إن كان المطلوب بالحقّ قد مات. فإن ادّعي بلا بيّنة فلا حقّ له؛

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 189

______________________________

لأنّ المدّعي عليه ليس بحيّ، و لو كان حيّاً لأُلزم اليمين أو الحقّ أو يردّ اليمين عليه، فمن ثمّ لم يثبت الحقّ «1».

وجه الدلالة: أنّ صدر الخبر بناءً علي نسخة

«الكافي» و «التهذيب» يدلّ دلالة واضحة علي أنّه إن لم يحلف المنكر فعليه الحقّ، و هو عبارة أُخري عن الحكم بمجرّد النكول. نعم بناءً علي نسخة «الفقيه» فلا تعرّض فيه لفرض النكول، و إنّما تعرّض لفرض ردّ اليمين علي المدّعي، كما كانت نسختا «التهذيب» و «الكافي» علي العكس، و يتعارض النسختان، و لا حجّة في إحداهما بخصوصها.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّهما خبران اثنان، و يكون كلّ واحد منهما حجّة في جميع مفاده، و ليسا نسختي خبر واحد.

و هو مشكل جدّاً؛ لاتّحاد النسخ الثلاث في جميع المتن إلّا فيما ذكر؛ فإنّه في مثل المورد يري العرف أنّ جميع النسخ نقلت خبراً واحداً اختلفت في جملة منه واحدة، و تعارضت، و تسقط عن الحجّية.

إلّا أنّ ذيل الخبر كافٍ للاستدلال به؛ فإنّ قوله عليه السلام

و لو كان حيّاً لأُلزم اليمين أو الحقّ أو يردّ اليمين عليه

يدلّ بوضوح علي أنّ أمر المنكر مردّد بين ثلاثة، و هو ملزم بأحدها: إمّا اليمين، و إمّا ردّ اليمين علي المدّعي، و إمّا الحقّ، و حيث إنّه امتنع عن الأوّلين فلا محالة يلزمه الثالث.

و دلالته واضحة، لكن سنده ضعيف بجهالة ياسين الضرير. اللهمّ إلّا

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 236، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 4، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 190

______________________________

أن يدّعي انجباره بعمل الأصحاب به؛ فإنّ دليل إلزام المدّعي علي الميّت بضمّ اليمين إلي بيّنته منحصر بهذا الخبر، و قد أفتي الأصحاب به.

و يمكن الاستدلال له أيضاً بصحيح محمّد بن مسلم الوارد في كيفية حلف الأخرس، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الأخرس كيف يحلف إذا ادّعي عليه دين و أنكر و لم يكن للمدّعي بيّنة؟

فقال

إنّ أمير المؤمنين عليه السلام اتي بأخرس فادّعي عليه دين و لم يكن للمدّعي بيّنة، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: الحمد للّٰه الذي لم يخرجني من الدنيا حتّي بيّنت للأُمّة جميع ما تحتاج إليه، ثمّ قال: ايتوني بمصحف، فاتي به، فقال للأخرس: ما هذا؟ فرفع رأسه إلي السماء و أشار: أنّه كتاب اللّٰه عزّ و جلّ ثمّ قال: ايتوني بوليّه، فأُتي بأخٍ له، فأقعده إلي جنبه ثمّ قال: يا قنبر عليَّ بدواة و صحيفة، فأتاه بهما، ثمّ قال لأخي الأخرس: قُل لأخيك هذا بينك و بينه، إنّه علي، فتقدّم إليه بذلك، ثمّ كتب أمير المؤمنين عليه السلام: و اللّٰه الذي لا إله إلّا هو عالم الغيب و الشهادة، الرحمن الرحيم، الطالب الغالب، الضارّ النافع، المهلك المدرك، الذي يعلم السرّ و العلانية، إنّ فلان بن فلان المدّعي ليس له قبل فلان بن فلان أعني الأخرس حقّ و لا طلبة بوجه من الوجوه و لا بسبب من الأسباب، ثمّ غسله و أمر الأخرس أن يشربه فامتنع، فألزمه الدين «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 302، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 33، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 191

______________________________

بيان الدلالة: أنّ أبا عبد اللّٰه عليه السلام لم ينقل فعل أمير المؤمنين عليه السلام بعنوان نقل قصّة و لا حكاية قضية في واقعة، بل إنّما حكاه في جواب سؤال محمّد بن مسلم عن الأخرس كيف يحلف؟ فغرضه عليه السلام من نقل فعله عليه السلام أن يستدلّ به.

و قوله عليه السلام في ذيله

فامتنع، فألزمه الدين

يدلّ بوضوح علي أنّ إلزام الأخرس بالدين متفرّع علي امتناعه من شرب الماء المغسول به الكتابة، و شربه حلف الأخرس؛ فقد حكم عليه بلزوم

الدين لمكان امتناعه عن اليمين. فلو كان الحكم هو ردّ اليمين علي المدّعي لما كان يحكم عليه بامتناعه من اليمين، بل كان يردّ علي المدّعي اليمين ثمّ يحكم له أو عليه. فتفريع إلزام المنكر بالدين علي امتناعه عن اليمين دليل واضح علي أنّه يحكم علي المنكر بنكوله و لا يردّ الحاكم يمينه علي مدّعيه.

غاية الأمر: أنّ إطلاق الحكم بالامتناع الشامل لما ردّ المنكر نفسه اليمين علي مدّعيه يقيّد بما إذا امتنع عن اليمين و لم يردّ إلي المدّعي.

و بالجملة: فدلالة الرواية واضحة، كما أنّ سندها صحيحة.

و أمّا ما في «مباني تكملة المنهاج» من الاستدلال له بصحيح عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في الرجل يدّعي عليه الحقّ و لا بيّنة للمدّعي؟ قال

يستحلف أو يردّ اليمين علي صاحب الحقّ، فإن لم يفعل فلا حقّ له «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 241، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 192

______________________________

فدلالته مبنية علي أن يراد من قوله

فإن لم يفعل فلا حقّ له

أنّ المدّعي عليه إن لم يفعل الحلف و لا ردّ اليمين علي المدّعي فليس له حقّ، و لا يحكم ببراءته.

و ليس ببعيد أن يراد منه: أنّ المدّعي الذي ردّت عليه اليمين إن لم يفعل الحلف أي إن لم يحلف اليمين المردودة فليس له حقّه الذي يدّعيه.

و وجه الاستظهار: أنّ الحقّ المذكور في الصحيحة هو ما يدّعيه المدّعي، و لو ثبت فهو إنّما يكون له. فقوله

فلا حقّ له

يراد به: لا حقّ للمدّعي، فهذا الضمير المجرور البارز كالمستتر في قوله

إن لم يفعل

يراد به المدّعي، و لا محالة يكون المراد من الجملة ما ذكرناه، و لا ربط لها بمحلّ

الكلام.

و بالجملة: فالصحيحة و إن لم تدلّ علي أنّ القضاء بالنكول، إلّا أنّ دلالة معتبر عبد الرحمن و صحيحة محمّد بن مسلم كما عرفت تامّة، و فيهما كفاية.

و في قبالهما قد يستدلّ بمرسل يونس المضمر قال

استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل و امرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجل و يمين المدّعي، فإن لم يكن شاهد فاليمين علي المدّعي عليه، فإن لم يحلف و ردّ اليمين علي المدّعي فهي واجبة عليه أن يحلف و يأخذ حقّه، فإن أبي أن يحلف فلا حقّ له «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 241، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 4.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 193

______________________________

فإنّ جعل استخراج الحقوق بأربعة وجوه هي شهادة رجلين، ثمّ شهادة رجل و امرأتين، ثمّ شهادة رجل و يمين المدّعي، ثمّ اليمين المردودة يدلّ بمفهوم العدد علي أن لا وجه خامس لاستخراج الحقّ، فلو أمكن استخراجه بنكول المنكر لكان وجهاً خامساً، و قد نفاه المرسل المذكور.

و فيه بعد الغضّ عن ضعف سنده أنّ الاستخراج هو التماس الخروج و تعقيبه، و هو من أفعال المدّعي ذي الحقّ، فالمرسل إنّما يدلّ علي انحصار الأسباب التي تتحقّق من ناحية المدّعي و بفعله في أربعة وجوه، و لا ينافي أن يكون هناك وجه خامس أو سادس ليس من فعله، و معلوم أنّ إقامة الشاهد و يمين المدّعي و إن كانت من فعله إلّا أنّ نكول المنكر ليس من أفعال المدّعي، بل هو فعل للمنكر.

و استدلّ أيضاً كما في «مباني التكملة» بإطلاق صحيحة هشام عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

تردّ اليمين علي المدّعي «1»

، بدعوي: أنّها تقتضي لزوم ردّ اليمين

علي المدّعي، و لو لم يكن الرادّ هو المدّعي عليه.

و فيه: أنّه لم يعلم أنّه بصدد بيان مواضع ردّ اليمين حتّي يستدلّ بإطلاقه، و إنّما غاية المستفاد منه أنّه قد يردّ اليمين علي المدّعي، و أمّا أنّ الرادّ من هو؟ فليس في مقام بيانه. فكما أنّه لا يدلّ علي جواز ردّ اليمين علي المدّعي من ناحية القاضي إذا لم يعلم نكول المنكر أو إذا استمهل المنكر لا أنّه يدلّ علي الجواز و يقيّد بدليل عدم الجواز فهكذا لا يدلّ علي جواز ردّ اليمين من ناحية القاضي مطلقاً، بل هي إنّما تدلّ علي جواز ردّها بنحو

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 241، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 194

______________________________

الإجمال، و الأخبار التي مرّ بعضها تدلّ علي أنّ حقّ الردّ ثابت للمنكر.

و استدلّ أيضاً في «مباني التكملة» بقوله: علي أنّ الأصل يقتضي عدم جواز الحكم بمجرّد النكول.

و فيه أوّلًا: أنّ الأصل إنّما يرجع إليه فيما ليس دليل، و قد عرفت دلالة معتبر عبد الرحمن و صحيح محمّد بن مسلم علي جواز الحكم بمجرّد النكول.

و ثانياً: أنّ المدّعيٰ هو ردّ اليمين علي المدّعي لكي يحكم بحلفه إذا حلف، و بنكوله إذا نكل، و الأصل إنّما يقتضي عدم جواز الحكم علي المنكر بمجرّد نكوله، و إذا ردّت اليمين علي المدّعي فحلف. فالحكم له علي المنكر و إن كان صحيحاً من باب أنّه المتيقّن، إلّا أنّه إذا نكل المدّعي و أُريد الحكم عليه بأن لا حقّ له و بسقوط دعواه فالأصل هنا أيضاً يقتضي عدم جواز الحكم علي المدّعي بنكوله. فالحاصل: أنّ الأصل لا يثبت كلا جزئي الدعوي.

و يمكن أن يستدلّ علي

جواز الردّ من ناحية القاضي بأنّه لا ريب في أنّ للمنكر أن يردّ اليمين علي المدّعي، و القاضي يتولّي أمر الردّ مكانه بمقتضي ولايته علي مَن تخلّف عن العمل بوظيفته.

و فيه: أنّه لو سلّم فإنّما هو فيما وجب علي المنكر ردّ اليمين فيتولّاه الحاكم مكانه مع امتناعه، كما يتولّيٰ بيع مال المديون و أداءه إلي الغرماء إذا أبي بنفسه.

و فيما نحن فيه لا دليل علي وجوب الردّ عليه، و لا علي جواز أن يتولّي القاضي كلّ ما كان أمره بيد المتخاصمين، بل قد عرفت: أنّ الأدلّة

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 195

[مسألة 8 لو رجع المنكر الناكل عن نكوله]

مسألة 8 لو رجع المنكر الناكل عن نكوله، فإن كان بعد حكم الحاكم عليه أو بعد حلف المدّعي المردود عليه الحلف لا يلتفت إليه (21) و يثبت الحقّ عليه في الفرض الأوّل، و لزم الحكم عليه في الثاني، من غير فرق بين علمه بحكم النكول أو لا.

______________________________

تدلّ علي أنّ القاضي يحكم علي المنكر بمجرّد نكوله.

فممّا ذكرنا تعرف: أنّ مقتضي الأدلّة هو الحكم بمجرّد نكول المنكر عليه.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ استنباط جواز الحكم بالنكول علي ما عرفت من الأخبار في كمال الوضوح، و مع ذلك فالمشهور بل ربّما ادّعي الإجماع علي عدم جواز الحكم به، و أنّه يردّ القاضي اليمين علي المدّعي، و هو لا يكون إلّا إذا كان بأيديهم دليل معتبر أوجب العدول عن مقتضي ما مرّ من الأخبار.

و بالجملة: فقول المشهور دليل الإعراض عن مقتضي الأخبار، كما أنّه كاشف عن أنّه كان عندهم دليل علي ما أفتوا به.

لكنّك خبير بأنّ دلالة الأخبار علي جواز الحكم بالنكول ليست بهذه المثابة من الوضوح، كيف و صاحب «مباني التكملة» من المعاصرين يري

أنّ مقتضي الأدلّة خلاف ذلك؟! فليس في قول المشهور حجّة الإعراض لكي يسقط به حجّية ما استفدناه من الأخبار.

(21) فإنّ حكم الحاكم إذا حكم علي المنكر بمجرّد نكوله علي القول بجوازه قد وقع في محلّه، و هو مشمول عموم قوله عليه السلام

فإذا حكم

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 196

[مسألة 9 لو استمهل المنكر في الحلف و الردّ ليلاحظ ما فيه صلاحه]

مسألة 9 لو استمهل المنكر في الحلف و الردّ ليلاحظ ما فيه صلاحه جاز إمهاله (22)،

______________________________

بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّٰه «1».

كما أنّه علي القول بوجوب أن يردّ الحاكم اليمين عليه إذا حلف المدّعي فهو مشمول المفهوم المستفاد من مثل صحيح محمّد بن مسلم الماضي

فإن ردّ اليمين علي صاحب الحقّ فلم يحلف فلا حقّ له «2»

؛ فإنّه يدلّ دلالة واضحة التزامية علي أنّه إذا حلف اليمين المردودة يثبت حقّه. غاية الأمر: أن يراد به أنّ طريق القضاء الشرعي أن يحكم القاضي له بعد حلفه، لا أنّه يثبت حقّه بمجرّد حلفه، علي ما عرفت في المسألة السادسة.

و كيف كان: فإطلاقه أنّ مدار حكم القاضي هو حلف المدّعي؛ سواء رجع المنكر من نكوله أو ردّه قبل الحكم أو بعده أم لا يرجع أصلًا، و سواء كان عالماً بحكم الردّ أو النكول أم لا. كما أنّ دليل جواز ردّ اليمين علي المنكر من ناحية القاضي أيضاً مطلق من هذه الجهة، فتذكّر.

(22) يعني لا يترتّب علي الاستمهال بالمقدار المذكور حكم النكول ليحكم به علي المنكر أو يردّ القاضي اليمين علي المدّعي علي القولين في

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 241، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات،

ص: 197

بمقدار لا يضرّ بالمدّعي (23) و لا يوجب تعطيل الحقّ (24) و التأخير الفاحش (25).

______________________________

النكول فإنّ دليل جواز الحكم علي المنكر هنا موضوعه الامتناع من الحلف و الردّ كما في صحيح الوارد في حلف الأخرس «1» و هو لا يصدق مع الاستمهال المذكور، أو هو يلزم بأحد الأُمور الثلاثة كما في معتبر عبد الرحمن «1» و الإلزام لا يقتضي أزيد من اختيار اليمين أو الردّ في زمن متعارف؛ فلا ينافي الاستمهال و الإمهال المذكورين، كما أنّه لا ينبغي الريب في أنّ القاضي إنّما يقوم مقام المنكر في ردّ اليمين علي المدّعي إذا امتنع المنكر نفسه من العمل بوظيفته، لا إذا استمهل مقداراً متعارفاً لانتخاب الأصلح.

(23) فإنّ الإضرار به حرام، فالجمع بين حقّه و حقّ المنكر أن يمهل بما لا يضرّ بالمدّعي.

(24) فإنّ التأخير بهذا المقدار خلاف الغرض من الرجوع إلي القاضي؛ فإنّه لإحياء حقّه لا تعطيله.

(25) فإنّ علي القاضي أن يقضي قضاءً متعارفاً، و يجب عليه الإقدام به و عدم تأخير القضاء إلّا بما تعارف، و التأخير الفاحش خلاف وظيفة

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 302، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 33، الحديث 1.

(1) وسائل الشيعة 27: 236، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 4، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 198

نعم لو أجاز المدّعي جاز مطلقاً (26) بمقدار إجازته.

[مسألة 10 لو قال المدّعي: «لي بيّنة» لا يجوز للحاكم إلزامه بإحضارها]

مسألة 10 لو قال المدّعي: «لي بيّنة» لا يجوز للحاكم إلزامه بإحضارها (27) فله أن يحضرها أو مطالبة اليمين أو ترك الدعوي. نعم يجوز له إرشاده بذلك أو بيان الحكم، من غير فرق في الموضعين بين علمه و جهله.

______________________________

الإقدام علي القضاء المأمور به.

(26) فإنّ أصل وجوب القضاء و تعقيب الأمر في حقوق

الناس كما عرفت متفرّع علي حضور صاحب الحقّ و طلبه، فإجازته للتأخير ترجع إلي عدم طلبه في زمن الإجازة، فلا يجب التعقيب في هذا الزمان.

(27) الإلزام بالإحضار إن كان في مقابل ترك الدعوي فعدم جوازه واضح؛ لما مرّ غير مرّة أنّ تعقيب حقوق الناس موقوف علي طلبهم.

فلو تركوا الطلب و الدعوي رأساً فليس علي القاضي تصدّي القضاء حتّي تصل نوبة إلزام المدّعي بإحضار بيّنته.

و أمّا إن كان في مقابل إحلاف المنكر بأن كان في مقام طلب حقّه و له بيّنة أيضاً إلّا أنّه لا يقوم بإحضارها، بل يريد إحلاف المدّعي عليه فوجه عدم جواز إلزامه بإحضارها أمران:

أحدهما: الأخبار التي أثبت حقّ الاستحلاف لمن لم يكن له بيّنة، باستظهار أنّه لا يكون له بيّنة في مجلس القضاء أعمّ من أن لا يكون له بيّنة أصلًا أو كانت و لم يحضرها، فبمجرّد أن لا يكون له بيّنة في مجلس القضاء

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 199

______________________________

كان له إحلاف المنكر.

و هذه الأخبار كثيرة؛ منها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام في الرجل يدّعي و لا بيّنة له؟ قال

يستحلفه.

الحديث «1».

الوجه الثاني: الأخبار التي جعلت موضوع اليمين و الاستحلاف ما إذا لم يقم بيّنة، فإنّ قيام البيّنة عبارة عن حضورها و أداء الشهادة.

و هذه الأخبار تدلّ علي أنّه إذا لم تقم بيّنة يعني لم تؤدّ شهادتها؛ سواء لم يكن للمدّعي بيّنة أصلًا، أو كانت و لم تحضر عند القاضي، أو حضرت و لم تشهد عنده فللمدّعي في جميع هذه الصور التي هي داخلة في إطلاق عنوان «عدم قيام البيّنة» حقّ إحلاف المنكر، فلا يمكن للقاضي إلزامه بخصوص إقامة البيّنة مع أنّ الشارع جعله في فسحة منها.

و

هذه الأخبار منها: صحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

في كتاب علي عليه السلام: إنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلي ربّه، فقال: يا ربّ كيف أقضي فيما لم أر و لم أشهد؟ قال: فأوحي اللّٰه إليه: احكم بينهم بكتابي و أضفهم إلي اسمي فحلّفهم (تحلّفهم خ. ل) به، و قال: هذا لمن لم تقم له بيّنة «2».

فقوله عليه السلام بعد ذكر أنّ للقاضي أن يحلف المتخاصمين و يقضي بالإحلاف

هذا لمن لم تقم له بيّنة

تدلّ بوضوح علي أنّ موضوع اليمين

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 241، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 229، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 1، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 200

______________________________

و موردها عدم قيام البيّنة، و إطلاقها شامل للصور الثلاث كلّها.

و من الواضح: أنّ حكايته عليه السلام لما في كتاب علي عليه السلام ليست بداعي نقل قصّة، بل هي بداعي بيان كيفية القضاء في التشريع الإلهي.

و منها: صحيح جميل عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

إذا أقام المدّعي البيّنة فليس عليه يمين، و إن لم يقم البيّنة فردّ عليه الذي ادّعي عليه اليمين فأبي فلا حقّ له «1»

؛ فإنّ الفقرة الثانية تدلّ علي أنّه إذا لم يقم البيّنة فهاهنا، إن ردّ عليه اليمين فعليه أن يحلف، و إلّا فلا حقّ له، و هي و إن كانت بمنطوقها بصدد بيان حكم الإباء عن اليمين المردودة إلّا أنّها تدلّ دلالة التزامية واضحة علي أنّ مورد الاستحلاف و ردّ اليمين و سائر الأُمور المتفرّعة، هو عدم إقامة البيّنة، و أنّه بمجرّد عدم إقامة البيّنة يمكن للمدّعي أن يستحلف المنكر، فهو في سعة

منه و من إقامة البيّنة، و لا يمكن إلزامه علي خصوص أحدهما، و مثله خبر أبي العبّاس، فراجع «2»، هذا.

و في قبال الوجهين قد يتوهّم دلالة خبر منصور علي أنّ للقاضي أن يلزم المدّعي بإقامة البيّنة و يطلبها منه، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: رجل في يده شاة، فجاء رجل فادّعاها، فأقام البيّنة العدول أنّها ولدت عنده و لم يهب و لم يبع، و جاء الذي في يده بالبيّنة مثلهم عدول أنّها ولدت عنده لم يبع و لم يهب؟ فقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام

حقّها للمدّعي، و لا اقبل من الذي في يده

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 242، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 6.

(2) وسائل الشيعة 27: 243، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 8، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 201

[مسألة 11 مع وجود البيّنة للمدّعي يجوز له عدم إقامتها]

مسألة 11 مع وجود البيّنة للمدّعي يجوز له عدم إقامتها و لو كانت حاضرة و إحلاف المنكر، فلا يتعيّن عليه إقامتها و لو علم أنّها مقبولة عند الحاكم فهو مخيّر بين إقامتها و إحلاف المنكر (28)،

______________________________

بيّنة؛ لأنّ اللّٰه عزّ و جلّ إنّما أمر أن تطلب البيّنة من المدّعي، فإن كانت له بيّنة، و إلّا فيمين الذي هو في يده، هكذا أمر اللّٰه عزّ و جلّ «1».

وجه توهّم الدلالة: أنّ قوله عليه السلام في ذيل الحديث

لأنّ اللّٰه عزّ و جلّ إنّما أمر أن تطلب البيّنة من المدّعي.

إلي آخره، يدلّ علي أنّ علي القاضي أن يطلب البيّنة من المدّعي، و طلبها منه عبارة أُخري عن إلزامه بإحضارها و إقامتها.

لكنّه مندفع بعد الغضّ عن ضعف سند الحديث بأنّ التعليل المذكور إنّما ورد في كلامه عليه السلام في مقام تقديم

بيّنة المدّعي علي بيّنة المدّعي عليه، و أنّ وجه تقديم بيّنته: إنّ إقامتها من وظائفه، فلا بدّ و أن تقبل منه إذا أقامها.

و أمّا أنّ هذه الوظيفة وظيفة له تعييناً أو يتخيّر بين إقامة البيّنة و استحلاف المنكر، فليس الحديث بصدده، و لا ينافي أيّاً من الاحتمالين.

(28) قد مرّ وجهه في المسألة السابقة آنفاً، فتذكّر.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 255، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12، الحديث 14.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 202

و يستمرّ التخيير إلي يمين المنكر، فيسقط حينئذٍ حقّ إقامة البيّنة (29) و لو لم يحكم الحاكم. و لو أقام البيّنة المعتبرة و قبل الحاكم، فهل يسقط التخيير أو يجوز العدول إلي الحلف؟ وجهان، أوجههما سقوطه (30).

______________________________

(29) فإنّ المورد حينئذٍ يدخل في إطلاق مثل قوله عليه السلام في صحيحة ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام

إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه فحلف أن لا حقّ له قبله ذهبت اليمين بحقّ المدّعي، فلا دعوي له «1»

؛ فإنّه قد علّق سقوط دعوي المدّعي علي صدور الحلف من المنكر، و هو مطلق من حيث رجوع المدّعي عن استحلافه بعد أن حلف و عدم رجوعه. و علي الأوّل مطلق من حيث زمن رجوعه أيضاً، غاية الأمر: أن يشترط ذهاب حقّه و سقوط دعواه بأن يتعقّبه حكم الحاكم كما عرفت و إلّا فهو مطلق من الجهات المذكورة.

(30) و لعلّ وجه عدم السقوط هو استصحاب بقاء حقّ الاستحلاف، لكنّه إنّما يرجع إليه إذا لم يكن دليل.

و ما مرّ في المسألة السابقة من قوله عليه السلام في ذيل صحيحة سليمان بن خالد

هذا لمن لم تقم له بيّنة

يدلّ علي اختصاص القضاء باليمين بما إذا

لم تقم بيّنة، فإذا قامت البيّنة فلا يجوز الاستناد في القضاء علي اليمين؛ فللمدّعي أن يترك دعواه حتّي لا يقضي له أصلًا، و إلّا فمع التماس الحكم

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 244، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 9، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 203

[مسألة 12 لو أحضر البيّنة]

مسألة 12 لو أحضر البيّنة، فإن علم أو شهدت القرائن بأنّ المدّعي بعد حضورها لم يرد إقامتها فليس للحاكم أن يسألها (31)، و إن علم أو شهدت الأحوال بإرادة إقامتها فله أن يسألها (32) و لو لم يعلم الحال و شك في ذلك فليس للحاكم سؤال الشهود (33)، نعم له السؤال من المدّعي بأنّه أراد الإقامة أو لا.

[مسألة 13 إذا شهدت البيّنة فإن عرفهما الحاكم بالفسق طرح شهادتهما]

مسألة 13 إذا شهدت البيّنة فإن عرفهما الحاكم بالفسق طرح شهادتهما و كذا لو عرف بفقدهما بعض شرائط الشهادة، و لو عرفهما بالعدالة و جامعيتهما للشرائط قبل شهادتهما (34).

______________________________

فلا يجوز القضاء بعد إقامة البيّنة إلّا بمقتضي البيّنة.

(31) أي: أن يسأل البيّنة؛ فإنّ أمر إقامة البيّنة أو الرجوع إلي الاستحلاف إلي المدّعي، و مع عدم إرادته لإقامتها فتوصّل الحاكم إلي سؤالها عدول عن كيفية القضاء المقرّر شرعاً اللازمة الاتّباع للحاكم.

(32) إذ هو الموظّف بفصل الخصومة، و بعد أن أراد المدّعي إقامة البيّنة فالسؤال طريق إلي فصل الخصومة.

(33) يعني لا يعتني بسؤالها؛ لاحتمال عدم إرادة المدّعي لإقامتها، المستلزم لعدم الاعتناء بها، و مع هذا الاحتمال فالأصل عدم نفوذ القضاء؛ اتّكالًا عليها، فافهم. نعم سؤاله من المدّعي بغرض تبيّن الحال و اتّضاح وظيفته لا بأس به.

(34) لفرض حجّية شهادتهما، كما كان المفروض عدم حجّيتها بفقد

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 204

و إن جهل حالهما توقّف (35) و استكشف من حالهما (36) و عمل بما يقتضيه.

[مسألة 14 إذا عرفهما بالفسق أو عدم جامعيتهما للشرائط]

مسألة 14 إذا عرفهما بالفسق أو عدم جامعيتهما للشرائط طرحهما من غير انتظار التزكية (37).

______________________________

شرط العدالة أو سائر الشرائط اللازمة؛ فلا بدّ من طرحها، و لا يجوز الاعتماد عليها.

(35) فإنّه مع احتمال فقدان بعض الشرائط كما هو مقتضي الجهل ليس حجّة شرعية حتّي يعتمد في حكمه عليها.

(36) و لو بأن يقول للمدّعي: أنا لا أعرف شهودك باجتماع الشرائط، و ليس له أن يردّ شهادتهما بمحض الجهل بحالهما قبل الاستكشاف المذكور؛ و ذلك أنّ لازم تصدّي القضاء عرفاً رعاية أُمور لم يردع الشارع عنها و العقلاء يرونها لازم الرعاية لمن يتصدّاه، و يفهمون من الأدلّة الشرعية أنّها ناظرة إلي رعاية تلك الكيفية

العرفية و إمضاء لها، و الاستكشاف من حال الشهود أمر يلزم عرفاً علي القاضي. و ليس عند العرف للقاضي طرح الشهادة استناداً إلي جهله بحالهم إلّا بعد أن يبيّن للمدّعي جهله بالحال، و لم يقم أو لم يتيسّر للمدّعي إثبات جامعيتهم للشرائط، فكذلك الأمر شرعاً أيضاً.

(37) فإنّ عرفانه لهما بعدم جامعية الشرائط حجّة شرعية عنده علي عدم قبول قولهما من غير حالة منتظرة، كما أنّ إحرازه لجامعيتهما للشرائط أيضاً حجّة يصحّ له الاتّكال عليها.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 205

لكن لو ادّعي المدّعي خطأ الحاكم في اعتقاده تسمع منه (38)، فإن أثبت دعواه و إلّا فعلي الحاكم طرح شهادتهما، و كذا لو ثبت عدالتهما و جامعيتهما للشرائط لم يحتج إلي التزكية و يعمل بعلمه، و لو ادّعي المنكر جرحهما أو جرح أحدهما تقبل، فإن أثبت دعواه أسقطهما و إلّا حكم. و يجوز للحاكم التعويل علي الاستصحاب (39) في العدالة و الفسق.

[مسألة 15 إذا جهل الحاكم حالهما]

مسألة 15 إذا جهل الحاكم حالهما، وجب عليه أن يبيّن للمدّعي أنّ له تزكيتهما بالشهود مع جهله به (40) فإن زكّاهما بالبيّنة المقبولة وجب أن يبيّن للمدّعي عليه أنّ له الجرح إن كان جاهلًا به، فإن اعترف بعدم الجارح حكم عليه،

______________________________

(38) فإنّ سماعها من كمال رعاية العدل في الحكم، و العقلاء يرون هذا الحقّ لمدّعي خطإ القاضي، و قد عرفت أنّ الشارع أمضي الطريقة العقلائية؛ فيجب سماعها شرعاً أيضاً.

و هكذا الأمر في ناحية إحراز العدالة، و في دعوي المنكر عدم جامعيتهما للشرائط.

(39) فإنّ الاستصحاب حجّة علي البقاء، و دليله عامّ للخصوصيات المتوقّف عليها القضاء.

(40) و الدليل علي وجوب بيان هذا الحكم للمدّعي و وجوب بيان أنّ للمنكر الجرح، هو ما عرفت من

حكم العقلاء بلزومه في مقام القضاء، و الشارع قد أمضي طريقتهم؛ فيجب شرعاً أيضاً.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 206

و إن أقام البيّنة المقبولة علي الجرح سقطت بيّنة المدّعي (41).

[مسألة 16 في صورة جهل الحاكم و طلبه التزكية من المدّعي]

مسألة 16 في صورة جهل الحاكم و طلبه التزكية من المدّعي لو قال: «لا طريق لي» أو قال: «لا أفعل» أو «يعسر عليّ» و طلب من الحاكم الفحص لا يجب عليه ذلك (42) و إن كان له ذلك، بل هو راجح.

______________________________

(41) و ذلك أنّ كلّا من بيّنتي الجرح و العديل طريق إلي مفادها، و قد تعارضتا، و الأصل في تعارض الطريقين هو التساقط؛ بمعني عدم حجّية شي ء منهما في خصوص مفاده، فلا حجّة علي جامعية بيّنة المدّعي لشرائط قبول الشهادة، فلا حجّة قائمة يثبت بها المدّعيٰ. و هذا هو معني سقوط بيّنة المدّعي.

مضافاً إلي أنّه إن ذكرت بيّنة التعديل سببه و أنّه الاتّكال علي حسن الظاهر مثلًا الكاشف شرعاً عن العدالة، و ذكرت بيّنة الجرح أنّها رأت منه ارتكاب الكبيرة، مع تسلّم أنّه علي الظاهر الحسن، فلا تعارض بينهما، بل يقدّم بيّنة الجرح و يثبت جرح الشهود، و هكذا يسقط بيّنة التعديل.

(42) و ذلك لعدم الدليل عليه؛ حتّي أنّ العرف كما عرفت إنّما يري لزوم أن يبيّن الأمر للمدّعي ثمّ ينتظر جوابه. نعم لا بأس عليه بالفحص؛ و لا سيّما إذا طلب منه المدّعي، بل هو مطلوب و راجح؛ لأنّه قضاء حاجة المؤمن، و لأنّ فيه تطلّب الطريق إلي الواقع لكي يكون حكمه طبقاً له، و يحترز عن الحكم بغير الواقع، الذي هو حكم بغير ما أنزل اللّٰه، فهو احتياط حسن.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 207

و لو طلب الجرح في

البيّنة المقبولة من المدّعي عليه و لم يفعل و قال: «لا طريق لي» أو «يعسر عليّ» لا يجب عليه الفحص (43)، و يحكم علي طبق البيّنة، و لو استمهله لإحضار الجارح فهل يجب الإمهال ثلاثة أيّام أو بمقدار مدّة أمكنه فيها ذلك أو لا يجب و له الحكم أو وجب عليه الحكم فإن أتي بالجارح ينقضه؟ وجوه، لا يبعد وجوب الإمهال بالمقدار المتعارف (44) و لو ادّعي الإحضار في مدّة طويلة يحكم علي طبق البيّنة.

______________________________

مضافاً إلي أنّه قد ورد في بعض الأخبار الضعاف: أنّه صلي الله عليه و آله و سلم كان إذا لا يعرف الشهود بخير و لا شرّ يبعث إلي قبائلهم و من يعرفهم، فيفحص عن جامعية و عدم جامعيتهم للشرائط، فراجع «الوسائل» الباب 6 من أبواب كيفية الحكم «1».

(43) لعين ما مرّ في الفحص عن بيّنة المدّعي. ثمّ إنّ هاهنا أن يحكم علي طبق البيّنة؛ لفرض قيام الحجّة علي أنّها واجدة لشرائط قبول الشهادة، فهي حجّة و طريق عنده، فله الحكم علي طبقها.

(44) لما عرفت من أنّ الشارع قد أمضي الطريقة العقلائية فيما يلتزمون به في كيفية القضاء، و لا ريب في أنّهم يرون حقّ الإمهال للمنكر إذا استمهل مقداراً متعارفاً لإحضار الجارح.

و وجه التقييد بالثلاثة وقوعها في كلام جمع بدعوي كشفه عن ورود

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 239، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 6.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 208

______________________________

نصّ بذلك، لكنّها ممنوعة؛ لاحتمال استنادهم إلي أنّها المتعارف.

كما أنّ وجه عدم التقييد بزمان محدود بل يمهل بمقدار أمكنه إحضار الجارح و إن زاد علي المتعارف الاستناد في أصل وجوب الإمهال إلي ما ذكرناه. و في مقداره إلي أنّه ممّا

لا بدّ منه علي الفرض في إمكان إحضاره. لكنّك تعلم أنّه كما يستند في أصل الوجوب إلي حكم العرف و العقلاء به في كيفية القضاء، فلا بدّ و أن يستند في مقداره أيضاً إليه؛ لعدم فرق بينهما أصلًا.

كما أنّ القائل بوجوب الحكم و عدم جواز الإمهال ينظر إلي أنّ البيّنة حجّة فعلية عند الحاكم، و إذا انضمّ إلي أنّ نظر الشارع المستفاد من فحوي أدلّة القضاء أن يفصل الخصومة سريعاً مهما أمكن، فيجب علي القاضي أن يبادر إلي إنشاء الحكم.

ثمّ القائل بعدم جواز النقض يستند إلي مثل قوله عليه السلام في مقبولة عمر بن حنظلة

فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّٰه «1»

و نحوه ممّا دلّ علي عدم جواز نقض الحكم.

و القائل بجواز النقض يقول: إنّه إذا أقام المنكر بعد ذلك حجّة شرعية علي أنّ الشهود ليس فيهم شرائط قبول الشهادة، ينكشف للقاضي أنّ حكمه السابق المستند إلي شهادتهم كان حكماً لا علي ما أنزل اللّٰه؛ لكونه مستنداً إلي ما لا يجوز في الشرع الاستناد إليه، هذا.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 209

[مسألة 17 لو أقام البيّنة علي حقّه و لم يعرفهما الحاكم بالعدالة]

مسألة 17 لو أقام البيّنة علي حقّه و لم يعرفهما الحاكم بالعدالة، فالتمس المدّعي أن يحبس المدّعي عليه حتّي يثبت عدالتهما، قيل: يجوز حبسه، و الأقوي عدم الجواز (45) بل لا يجوز مطالبة الكفيل منه و لا تأمين المدّعي به أو الرهن في مقابل المدّعي به.

______________________________

و لكن فيهما أيضاً: أنّه بعد ما كانت الطريقة العقلائية في باب القضاء لزوم إمهال المنكر المدّعي لجرح البيّنة بمقدار متعارف، و لم يرد من الشارع خلاف ذلك، فإطلاقات كيفية

القضاء منصرفة إلي هذه الطريقة المألوفة، و العقلاء يفهمون منها أنّ الشارع أيضاً قد أمضي طريقتهم، فبعد فهم الإمضاء كيف يجوز المبادرة إلي إنشاء الحكم بمجرّد أنّ القاضي أحرز جامعية البيّنة لشرائط القبول؟! أم كيف يمكن دعوي استفادة أنّ مطلوب الشارع المبادرة إلي إنشاء الحكم؛ حتّي في مثل المورد؟! و بالجملة فالأظهر: وجوب الإمهال بالمقدار المتعارف، و الزائد عنه غير جائز؛ لوجوب المبادرة حينئذٍ عرفاً و شرعاً.

(45) فإنّ حبسه إيذاء له، و هو ظلم غير جائز.

و ما قيل من أنّ مقتضي عموم لا ضرر جوازه؛ لأنّ حرمة الحبس هنا يؤدّي إلي وقوع الضرر المالي علي المدّعي. ففيه: أنّ وقوع الضرر علي المدّعي فرع ثبوت حقّ له علي المنكر، و هو بعد غير معلوم، فكون المورد من مصاديق عموم لا ضرر غير معلوم، و لا يجوز التمسّك بالعموم في شبهته المصداقية.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 210

[مسألة 18 لو تبيّن فسق الشاهدين أو أحدهما حال الشهادة]

مسألة 18 لو تبيّن فسق الشاهدين أو أحدهما حال الشهادة انتقض الحكم (46).

______________________________

مضافاً إلي أنّه لو سلّم فإنّما يكون فيما كان في البين خوف فرار المنكر و كان ممّن لا مال له، و إلّا فلا يرد ضرر علي المدّعي من عدم حبسه أصلًا.

و منه تعرف الوجه في عدم جواز إلزامه بالإتيان بكفيل أو بتأمين المدّعي به أو بأداء رهن و نحوها؛ إذ إلزامه بكلّ منها خلاف ما هو المسلّم من مالكية كلّ أحد لنفسه و لمعاملاته و معاهداته و سلطته علي نفسه و أعماله و أمواله، فلا يجوز إلزامه بشي ء ما لم يدلّ عليه دليل، و قد عرفت عدمه.

(46) لأنّ صحّة الحكم منوطة بأن لا يكون الشاهد فاسقاً؛ لما دلّ علي عدم قبول شهادة الفاسق من الأخبار

الصحيحة.

ففي صحيح عبد اللّٰه بن سنان قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: ما يردّ من الشهود؟ قال: فقال

الظنين و المتّهم

، قال: قلت: فالفاسق و الخائن؟ قال

ذلك يدخل في الظنين «1».

و في خبر جرّاح المدائني عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام أنّه قال

لا أقبل شهادة فاسق إلّا علي نفسه «2»

، فالشاهد الفاسق مردود غير مقبول لا يقبل شهادته إلّا علي نفسه. و الظاهر منه هو الفاسق حين الشهادة. و معلوم: أنّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 373، كتاب الشهادات، الباب 30، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 373، كتاب الشهادات، الباب 30، الحديث 4.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 211

و إن كان طارئاً بعد الحكم لم ينتقض (47) و كذا لو تبيّن فسقهما بعد الشهادة و قبل الحكم علي الأشبه.

______________________________

الألفاظ وضعت للمعاني الواقعية لا المعلومة أو المتخيّلة، فالفاسق الواقعي لا تقبل شهادته و لا يعتني به شرعاً؛ فإذا استند إليه في حكم بخيال أنّه عادل ثمّ تبيّن الخلاف يعلم أنّ الاستناد كان واقعاً في غير محلّه، و أنّ الحكم المستند إليه كان غير واجد لشرطه شرعاً؛ فلذا كان باطلًا في نفس الأمر. فإذا تبيّن فسقه تبيّن أنّ الحكم كان باطلًا من أوّل الأمر.

(47) لما عرفت من أنّ ظاهر الأدلّة هو مانعية الفسق في حال الشهادة أو اشتراط العدالة في حالها، فإذا كان الشاهد عادلًا غير فاسق حين شهادته ثمّ طرأ عليه الفسق بعد ما شهد فلا يضرّ طروّ الفسق بقبول شهادته؛ سواء كان طروّه بعد أن حكم الحاكم علي طبق شهادته، أم طرأ عليه الفسق بعد الشهادة و قبل الحكم.

و توهّم أنّه يلزم في الصورة الأخيرة أن يعتمد الحاكم عليه في حال فسقه؛ إذ قد أنشأ

الحكم في زمانٍ كان الشاهد فاسقاً، مدفوع بأنّ الظاهر أنّ شهادة من اتّصف بالفسق في حال الشهادة مردودة غير مقبولة، و لا دليل علي أنّ شهادة من اتّصف بالفسق في حال حكم الحاكم مردودة، و هكذا شهادة العادل حين الشهادة مقبولة مطلقاً و إن صار فاسقاً حين حكم الحاكم.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 212

[مسألة 19 الظاهر كفاية الإطلاق في الجرح و التعديل]

مسألة 19 الظاهر كفاية الإطلاق (48) في الجرح و التعديل، و لا يعتبر ذكر السبب فيهما مع العلم بالأسباب و موافقة مذهبه لمذهب الحاكم، بل لا يبعد الكفاية (49) إلّا مع العلم باختلاف مذهبهما (50) و يكفي فيهما كلّ لفظ دالّ علي الشهادة بهما، و لا يشترط ضمّ مثل: أنّه مقبول الشهادة أو مقبولها لي و عليّ، و نحو ذلك في التعديل و لا مقابلاته في الجرح.

______________________________

(48) بأن شهد بأنّه عادل أو فاسق، من دون بيان منشأ العدالة و الفسق. و الوجه في قبول الشهادة عليهما و لو مطلقة: أنّ الشهادة إخبار عن تحقّق ما يشهد به و طريق إليه و إن لم يذكر سببه فهي حجّة عليه كسائر الطرق القائمة علي أُمور أُخري.

(49) فإنّ لفظ «الفسق» و «العدالة» يراد منهما و يكون طريقاً إلي معناهما الواقعي، و مذهب الحاكم و المشهود عنده طريق إلي هذا الواقع؛ فقول الشاهد: «هو فاسق» يفهم منه أنّه مرتكب للكبيرة إذا كان معني الفسق عنده ارتكاب الكبيرة فيكون طريقاً و حجّة عليه، و هكذا ما لم يعلم الاختلاف.

(50) إذ حينئذٍ يكون لا محالة معني الفسق و العدالة الواقعين في كلام الشاهد، ما يعتقده الشاهد نفسه في معناهما، فإذا شهد علي أنّه عادل و هو يري أنّ العدالة ملكة الاجتناب عن الكبائر فقط

فكأنّه صرّح بأنّه مجتنب عن الكبائر، فشهادته حجّة و طريق إلي أنّه يجتنب الكبائر، و هو لا يكفي في عدالته عند الحاكم الذي يري اعتبار ترك الإصرار علي الصغائر أيضاً.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 213

[مسألة 20 لو تعارضت بيّنة الجرح و التعديل]

مسألة 20 لو تعارضت بيّنة الجرح و التعديل؛ بأن قالت إحداهما: «أنّه عادل» و قالت الأُخري: «أنّه فاسق» أو قالت إحداهما: «كان يوم كذا يشرب الخمر في مكان كذا» و قالت الأُخري: «إنّه كان في يوم كذا في غير هذا المكان» سقطتا (51) فعلي المنكر اليمين.

______________________________

نعم، لو كان مذهب الشاهد اعتبار عدم الإصرار أيضاً في مفهوم العدالة، لكفي شهادته بالعدالة مطلقاً، و لو عند من يخالف مذهبه و لا يعتقد إلّا باعتبار الاجتناب عن الكبائر؛ إذ العادل عند الشاهد حينئذٍ عادل عند الحاكم. و هكذا الأمر في طرف الشهادة بالفسق.

فمنه تعرف: أنّه لا بدّ من تقييد إطلاق عدم القبول و قبول شهادة الشاهد فيما إذا كان الحاكم يري مصداقية كلّ ما يعتقده الشاهد مصداقاً لعنوان المشهود به مصداقاً له، و إن علم باختلافهما في مفهوم العدالة و الفسق.

(51) لما عرفت من أنّ حكم التعارض في الطريقين تساقطهما و عدم حجّية كلّ منهما في خصوص مفاده؛ سواء كان التعارض لتعرّض كلّ منهما خصوصية منافية لخصوصية تعرّضها الآخر، أو كان لتعلّق كلّ بعنوان كلّي يناقض الآخر، أو كان لتعلّق أحدهما بعنوان كلّي و الآخر بخصوصية تنافي ذلك العنوان، كأن شهد فيما نحن فيه أحدهما بالعدالة و الآخر بأنّه شرب الخمر في يومنا هذا؛ ففي جميع الصور يقع التعارض بينهما، و نتيجة التعارض هي التساقط.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 214

نعم، لو كان له حالة سابقة من العدالة

أو الفسق يؤخذ بها (52) فإن كانت عدالة حكم علي طبق الشهادة، و إن كان فسقاً تطرح و علي المنكر اليمين.

[مسألة 21 يعتبر في الشهادة بالعدالة العلم بها]

مسألة 21 يعتبر في الشهادة بالعدالة العلم بها (53) إمّا بالشياع أو بمعاشرة باطنة متقادمة، و لا يكفي في الشهادة حسن الظاهر و لو أفاد الظنّ و لا الاعتماد علي البيّنة أو الاستصحاب، و كذا في الشهادة بالجرح لا بدّ من العلم بفسقه، و لا يجوز الشهادة اعتماداً علي البيّنة أو الاستصحاب.

______________________________

(52) إذ بعد عدم حجّية الطريق فلا حجّة و لا يقين و لو تنزيلياً بارتفاع الحالة السابقة، و لا ببقائها؛ فيكون مورد الاستصحاب، فيثبت بالاستصحاب أنّه عادل أو فاسق، و لا محالة يترتّب عليه أثره الشرعي من قبول شهادته أو ردّها. و يأتي له زيادة توضيح إن شاء اللّٰه تعالي في المسائل التالية.

(53) المراد بالعلم هنا كما يظهر من نفي جواز الاعتماد علي البيّنة و الاستصحاب هو القطع بالعدالة الذي لا يحتمل الخلاف أصلًا، فلا يجوز للشاهد أن يشهد بالعدالة حتّي يعلم بها علماً قطعياً، و حيث لا دليل بالخصوص في باب الشهادة علي العدالة أو الفسق فاعتبار العلم القطعي هنا مبني علي القول باعتباره في باب الشهادة مطلقاً.

و ما يمكن الاستدلال به لاعتبار العلم القطعي في باب الشهادة مطلقاً وجهان:

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 215

______________________________

الأوّل: أنّ اعتباره فيه هو مقتضي مفهوم الشهادة التي اشتقّ منها عنوان «الشاهد»؛ فإنّ «الشهود» بمعني الحضور، و منه «المشاهدة»، و لا يصدق الحضور عند الشي ء إلّا إذا كان هذا الشي ء بيّناً عنده بحيث لا يحتمل الخلاف أصلًا. فأمّا إذا ثبت بأمارة أو أصل غير قطعي فليس الرجل به حاضراً عند ما قامت عليه أمارة

أو أصل.

و فيه: أنّ عنوان «الشهود» ليس عند العقلاء أضيق من عنوان «العلم»؛ فكما أنّ عنوان «العلم» يصدق عرفاً بقيام طريق معتبر فكذلك «الشهود»، هذا.

مضافاً إلي أنّ مقتضي حجّية الطرق عند العقلاء أنّه بها يحرز ما قام عليه الطريق، بحيث يصحّ و يجوز الإخبار عن تحقّقه في متن الواقع.

و حجّيتها عندهم لا تختصّ بما إذا أثبت ذو الطريق بطريق قطعي، بل يعمّه و ما إذا ثبت بطريق معتبر غير قطعي، و لذلك كانت الإخبار مع الواسطة أيضاً حجّة و طريقاً عقلائياً، كالإخبار بلا واسطة. غاية الأمر: أنّ الشارع اعتبر في الموضوعات قيام خبرين عدلين عليها، و لم يكتف بخبر واحد، فهذا القيد لا بدّ و أن يؤخذ به، و لا دليل علي اعتبار أزيد منه.

و إطلاق عنوان الشاهد و الشهادة لم يعلم اختصاصه بما إذا علم بالمشهود به علماً قطعياً، و لذلك قال الصادق عليه السلام في جواب رجل سأله بقوله: إذا رأيت شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ فقال عليه السلام

نعم «1»

، فأُطلق في كلام السائل علي هذا الإخبار المستند إلي اليد،

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 292، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 25، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 216

______________________________

الشهادة. و قرّره عليه بقوله عليه السلام

نعم

، مع أنّ اليد ليست دليلًا قطعياً علي الملكية.

و بالجملة: فلا دليل علي اعتبار صدق عنوان «الشاهد» علي البيّنة أوّلًا، و لا علي اعتبار أزيد من ثبوت المشهود به للشاهد بطريق معتبر في صدقه ثانياً؛ فمقتضي القاعدة عدم اعتبار العلم القطعي.

الوجه الثاني: دعوي دلالة الأخبار الخاصّة علي اعتبار العلم القطعي؛ و هي أخبار:

منها: خبر علي بن غياث أو علي بن غراب عن

أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

لا تشهدنّ بشهادة حتّي تعرفها كما تعرف كفّك «1».

و منها: ما عن «الشرائع» مرسلًا عن النبي صلي الله عليه و آله و سلم و قد سئل عن الشهادة-

هل تري الشمس؟ علي مثلها فاشهد، أو دع «2»

؛ فإنّ اعتبار عرفان المشهود به كعرفان كفّه و وضوحه كالشمس، عبارة أُخري عن حصول العلم به و وضوحه بحيث لا يحتمل فيه الخلاف؛ أيّ احتمال أصلًا. و حملهما علي ثبوته بطريق معتبر عقلائي أو شرعي قبال الاستناد إلي الظنون غير المعتبرة خلاف الظاهر جدّاً، لا يذهب إليه إلّا بقرينة قوية، و إلّا فظاهرهما اعتبار العلم القطعي.

إلّا أنّ سندهما ضعيف بإرسال الثاني و مجهولية علي بن غراب أو

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 341، كتاب الشهادات، الباب 20، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 342، كتاب الشهادات، الباب 20، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 217

______________________________

غياث و غيره الواقع في السند. إلّا أن يعتمد علي كلّ ما رواه الصدوق في «فقيهة» و ثقة الإسلام في «كافيه»؛ لا سيّما و رواه المشايخ الثلاثة.

و منها: خبر السكوني الذي لا يبعد اعتبار سنده عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم: لا تشهد بشهادة لا تذكرها؛ فإنّه من شاء كتب كتاباً و نقش خاتماً «1»

، بتقريب: أنّ النهي عن الشهادة بشهادة لا يذكرها دليل اعتبار ذكره لما يشهد به، و ذكره له عبارة أُخري عن علمه به و وضوحه لديه.

و منها: صحيحة معاوية بن وهب التي لا يضرّها الإضمار قال: قلت له: إنّ ابن أبي ليلي يسألني الشهادة عن هذا الدار مات فلان و تركها ميراثاً، و إنّه ليس له

وارث غير الذي شهدنا له؟ فقال

اشهد بما هو علمك

، قلت: إنّ ابن أبي ليلي يحلفنا الغموس؟ فقال

احلف، إنّما هو علي علمك «2».

ببيان: أنّ قوله في جواب السؤال عن جواز الشهادة بما يطلبه ابن أبي ليلي

اشهد بما هو علمك

ظاهر في اعتبار العلم بالمشهود به في الشهادة عليه مطلقاً، و الأمر في مورد السؤال كذلك؛ لأنّه أحد مصاديق هذا الكلّي.

لكن يمكن أن يقال: إنّ عنوان «الذكر» و «العلم» في الخبرين ليس

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 323، كتاب الشهادات، الباب 8، الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة 27: 336، كتاب الشهادات، الباب 17، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 218

______________________________

بأهمّ من أخذ عنوان «العلم» في أمثال قوله تعالي وَ لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ «1» و قوله عليه السلام

رفع ما لا يعلمون «2»

، فكما أنّه يراد به أعمّ من العلم القطعي و ما قام عليه أمارة عقلائية معتبرة فكذلك هنا.

و كما يقال هناك: إنّ العرف يعتبر بلا تأويل عمّا إذا قام طريق عليه بأنّهم عالمون به، فإذا أخبرهم ثقة بشي ء يعبّرون أنّهم عالمون به، فكذلك هنا بلا تفاوت أصلًا. فليس في هذه الأدلّة أمر زائد حديث.

فليس في هذين الخبرين و أمثالهما منع عن الاعتماد في الشهادة بشي ء علي ثبوته عنده بطريق معتبر، و لا يدلّان علي اعتبار خصوص العلم القطعي.

و منها: صحيحة الصفّار قال: كتبت إلي الفقيه عليه السلام في رجل أراد أن يشهد علي امرأة ليس لها بمحرم، هل يجوز له أن يشهد عليها و هي من وراء الستر و يسمع كلامها إذا شهد رجلان عدلان أنّها فلانة بنت فلان التي تشهدك و هذا كلامها، أو لا تجوز له الشهادة عليها حتّي تبرز و يثبتها

بعينها؟ فوقّع عليه السلام

تتنقّب و تظهر للشهود إن شاء اللّٰه «3».

فإنّه لو جازت شرعاً الشهادة علي شي ء إذا ثبت للشاهد بطريق معتبر شرعي، لجاز الشهادة علي المرأة إذا عرّفها رجلان عدلان بأنّها فلانة

______________________________

(1) الإسراء (17): 36.

(2) وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة 27: 401، كتاب الشهادات، الباب 43، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 219

______________________________

بنت فلان، و قد منع هو عليه السلام عنها حتّي تظهر للشهود و يعرفونها بأنفسهم.

لكن في صحيح علي بن يقطين عن أبي الحسن الأوّل عليه السلام قال

لا بأس بالشهادة علي إقرار المرأة، و ليست بمسفرة إذا عرفت بعينها أو حضر من يعرفها، فأمّا إذا كانت لا تعرف بعينها و لا يحضر من يعرفها فلا يجوز للشهود أن يشهدوا عليها و علي إقرارها، دون أن تسفر و ينظرون إليها «1».

فقد صرّح عليه السلام بجواز الشهادة علي إقرار المرأة و ليست بمسفرة إذا حضر من يعرفها، و هو لا يكون إلّا لجواز الاعتماد في عرفانها و الشهادة عليها علي شهادة من يعرفها، و هو خلاف ما تضمّنتها مكاتبة الصفّار.

و يجمع بينهما عرفاً بحمل المكاتبة علي الاستحباب، قال في «الوسائل» ذيل صحيح ابن يقطين ما لفظه: و قد عمل الشيخ بهذا و حمل ما قبله علي الاستحباب.

و بالجملة: فلو لم تكن لمورد عرفان المرأة للشهادة عليها خصوصية لكان مقتضي الجمع العرفي جواز اعتماد الشاهد علي الطريق المعتبر فيما يشهد عليه، و إن كان الأولي و الأحسن أن يعتمد علي خصوص العلم القطعي الوجداني.

فتلخّص: أنّ مقتضي الأدلّة و القواعد جواز اعتماد الشاهد في الشهادة بشي ء علي ثبوته له بطريق معتبر، و لا حاجة

إلي العلم القطعي، بل يستفاد

______________________________

(1) وسائل الشيعة 18: 297، كتاب الشهادات، الباب 43، الحديث 1 (ط مكتبة الإسلامية).

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 220

______________________________

من الأخبار جواز أن يعتمد الشاهد في شهادته علي مثل اليد و الاستصحاب:

فالأوّل في خبر حفص بن غياث عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: قال له رجل: أ رأيت إذا رأيت شيئاً في يد رجل أ يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال

نعم

، فقال الرجل: أشهد أنّه في يده، و لا أشهد أنّه له فلعلّه لغيره، فقال له أبو عبد اللّٰه عليه السلام

أ فيحلّ الشراء منه؟

قال: نعم، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام

لعلّه لغيره، فمن أين جاز لك أن تشتريه و يصير ملكاً لك، ثمّ تقول بعد الملك: هو لي و تحلف عليه، و لا يجوز أن تنسبه إلي من صار ملكه من قبله إليك

، ثمّ قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام

لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق «1».

فقد دلّ الحديث بصدره علي جواز الاعتماد في الشهادة بالملك علي اليد و هي أمارة شرعية و عقلائية غير موجبة للقطع كما دلّ قوله عليه السلام

أ فيحلّ الشراء منه.

إلي آخره، علي الملازمة بين جواز الشراء و جواز الشهادة علي الملك. فكلّ ما يصحّ الاعتماد عليه في جواز الشراء يصحّ الاعتماد عليه في الكشف عن الملكية؛ لجريان قوله عليه السلام

فمن أين جاز لك أن تشتريه.

إلي آخره في جميع تلك الموارد.

و الثاني في موثّق معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: الرجل يكون في داره ثمّ يغيب عنها ثلاثين سنة و يدع فيها عياله، ثمّ يأتينا

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 292، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 25، الحديث 2.

مباني

تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 221

نعم يكفي الثبوت التعبّدي كالثبوت بالبيّنة أو الاستصحاب أو حسن الظاهر لترتيب الآثار (54) فيجوز للحاكم الحكم اعتماداً علي شهادة من ثبتت عدالته بالاستصحاب أو حسن الظاهر الكاشف تعبّداً أو البيّنة.

______________________________

هلاكه و نحن لا ندري ما أحدث في داره، و لا ندري ما أحدث له من الولد، إلّا أنّا لا نعلم أنّه أحدث في داره شيئاً و لا حدث له ولد، و لا تقسّم هذه الدار علي ورثته الذين ترك في الدار حتّي يشهد شاهدا عدل: أنّ هذه الدار دار فلان بن فلان مات و تركها ميراثاً بين فلان و فلان، أو نشهد علي هذا؟ قال

نعم.

الحديث «1».

فإنّه عليه السلام أجاز الشهادة علي أنّ الدار داره، و علي أنّ ورثته هم الذين تركهم في الدار، مع أنّ دليل الأوّل يد الذين سكنوها بإذنه أو استصحاب بقاء ملكه، و دليل الثاني مجرّد الاستصحاب، و إلّا فقد صرّح السائل بعدم علمه القطعي بالواقع، و أنّه لا يدري ما أحدث في داره، و لا ما أحدث له من الولد.

و بالجملة: فمقتضي القواعد جواز الاعتماد في الشهادة علي الطرق المعتبرة، و الأدلّة الخاصّة تؤيّده. و قال به من القدماء الشيخان و الصدوقان و سلّار و ابنا الجنيد و البرّاج.

(54) فإنّ أدلّة حجّية هذه الطرق و الأُصول عامّة لما إذا أُريد القضاء علي طبق مواردها.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 336، كتاب الشهادات، الباب 17، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 222

[مسألة 22 لو شهد الشاهدان بحسن ظاهره]

مسألة 22 لو شهد الشاهدان بحسن ظاهره فالظاهر جواز الحكم بشهادته (55) بعد كون حسن الظاهر كاشفاً تعبّداً عن العدالة.

[مسألة 23 لا يجوز الشهادة بالجرح بمجرّد مشاهدة ارتكاب كبيرة]

مسألة 23 لا يجوز الشهادة بالجرح بمجرّد مشاهدة ارتكاب كبيرة، ما لم يعلم أنّه علي وجه المعصية و لا يكون له عذر (56) فلو احتمل أنّ ارتكابه لعذر لا يجوز جرحه و لو حصل له ظنّ بذلك بقرائن مفيدة له.

[مسألة 24 لو رضي المدّعي عليه بشهادة الفاسقين أو عدل واحد لا يجوز للحاكم الحكم]

مسألة 24 لو رضي المدّعي عليه بشهادة الفاسقين أو عدل واحد لا يجوز للحاكم الحكم (57) و لو حكم لا يترتّب عليه الأثر.

______________________________

(55) إذ المفروض: أنّ حسن الظاهر معلوم للشاهدين علماً قطعياً، فبشهادتهما يثبت للحاكم شرعاً بطريق معتبر حسن ظاهره، و حسن ظاهره موضوع لحكم الشارع عليه بكونه طريقاً إلي عدالته، فيثبت للحاكم من تطبيق أدلّة طريقية حسن الظاهر علي المورد عدالته، فيرتّب عليها آثارها، فيقبل شهادته.

(56) فإنّه مع احتمال أن يكون له عذر و أن لا يكون صدورها علي وجه المعصية، لم يثبت عنده بوجه معتبر أنّه فاسق، فكيف يشهد عليه؟ و الظنّ المطلق ليس بحجّة و لا يجوز الاعتماد عليه.

(57) فإنّ شهادة الفاسقين أو العدل الواحد ليست حجّة شرعية علي المشهود به؛ رضي بها المدّعي عليه أو لم يرض، و الحاكم لا يجوز له إنشاء أنّ هذا لزيد، و أنّ عمراً مديون و. إلّا إذا ثبت عنده هذه الأُمور، و إلّا فالأُصول الأُخر تقتضي خلافها، و يكون من قبيل الحكم بغير ما أنزل اللّٰه.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 223

[مسألة 25 لا يجوز للحاكم أن يحكم بشهادة شاهدين لم يحرز عدالتهما عنده]

مسألة 25 لا يجوز للحاكم أن يحكم بشهادة شاهدين لم يحرز عدالتهما عنده (58) و لو اعترف المدّعي عليه بعدالتهما لكن أخطأهما في الشهادة.

______________________________

و إن شئت قلت: إنّ مثل صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام في الرجل يدّعي و لا بيّنة له؟ قال

يستحلفه «1»

تدلّ علي أنّه إذا لم يكن للمدّعي بيّنة و هي شهادة عدلين فالقضاء الشرعي إنّما يكون بالاستحلاف، و شهادة العدل الواحد و الفاسقين ليست من البيّنة، فالاعتماد عليها خلاف ميزان القضاء، و إن رضي بها المدّعي عليه.

نعم لو أقرّ المدّعي عليه بالمشهود به جاز الحكم به؛

استناداً إلي الإقرار لا الشهادة، و هو خلاف محلّ الكلام؛ فإنّ مورده ما إذا بقي علي الإنكار، و إنّما رضي بالحكم عليه بمقتضي الشهادة الكذائية.

(58) لما عرفت في المسألة السابقة؛ فإنّه ما لم يحرز عدالتهما لم يقم عنده حجّة شرعية علي المدّعي به، و الأُصول المخالفة جارية، بل استصحاب عدم قيام البيّنة يدرجه في عموم مثل صحيحة ابن مسلم الماضية.

ثمّ إنّ وجه التقييد بقوله دام ظلّه-: «لكن أخطأهما في الشهادة»، أنّه لو لم يخطئهما فهو مقرّ بالمدّعي و يؤخذ بإقراره، و يحكم

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 241، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 224

[مسألة 26 لو تعارض الجارح و المعدّل سقطا]

مسألة 26 لو تعارض الجارح و المعدّل سقطا و إن كان شهود أحدهما اثنين و الآخر أربعة (59) من غير فرق بين أن يشهد اثنان بالجرح و أربعة بالتعديل معاً أو اثنان بالتعديل ثمّ بعد ذلك شهد اثنان آخران به، و من غير فرق بين زيادة شهود الجرح أو التعديل.

[مسألة 27 لا يشترط في قبول شهادة الشاهدين علم الحاكم باسمهما و نسبهما]

مسألة 27 لا يشترط في قبول شهادة الشاهدين علم الحاكم باسمهما و نسبهما بعد إحراز مقبولية شهادتهما (60) كما أنّه لو شهد جماعة يعلم الحاكم أنّ فيهم عدلين كفي في الحكم، و لا يعتبر تشخيصهما بعينهما.

______________________________

عليه القاضي استناداً إلي إقراره.

(59) لأنّ مقتضي القاعدة العقلائية في الطرق المتعارضة تساقطها و عدم حجّية شي ء منها في خصوص مفاده، من دون فرق بين الأقسام، إلّا أن يدلّ دليل علي حجّية بعض منها تعييناً أو تخييراً، كما في الروايات المتعارضة؛ فإنّ الأخبار العلاجية قد دلّت علي حجّية ذات المزية عند الترجيح، و علي التخيير في الأخذ بهما عند التعادل، و هو حكم علي خلاف القاعدة الأوّلية يقتصر فيه علي خصوص مورد الأدلّة؛ و هو الروايات المتعارضة.

(60) فإنّ حجّية قول الثقة عند العقلاء غير متوقّفة علي عرفان شخصه باسمه و نسبه و خصوصياته، بل من عرف أنّه ثقة فقوله حجّة

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 225

[مسألة 28 لا يشترط في الحكم بالبيّنة ضمّ يمين المدّعي]
اشارة

مسألة 28 لا يشترط في الحكم بالبيّنة ضمّ يمين المدّعي (61)،

______________________________

و طريق إلي ما يحكي عنه و يخبر به، و الشارع الأقدس لم يشترط في حجّيته في الموضوعات إلّا أن يكون شاهدين اثنين أو أربعة شهود مثلًا و سمّاهما بالبيّنة. فمع قيامها يكون شهادتها حجّة شرعية يجوز الاعتماد عليها، و إن لم يعرف اسمهم و لا نسبهم و لا خصوصياتهم الأُخر.

(61) بلا خلاف و لا إشكال، و قد ورد به أخبار كثيرة:

منها: معتبر جميل عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

إذا أقام المدّعي البيّنة فليس عليه يمين. «1»

الحديث. و معه يحمل ما في خبر سلمة بن كهيل من قول أمير المؤمنين عليه السلام لشريح

و ردّ اليمين علي المدّعي مع بيّنته؛ فإنّ ذلك

أجلي للعمي و أثبت في القضاء «2»

، علي الاستحباب لكي يكون القضاء أقوم و أثبت.

مضافاً إلي أنّ سنده ضعيف.

و أمّا حمله علي ما إذا كان المدّعي عليه ميّتاً فلا يمكن المصير إليه؛ فإنّه فرد نادر لا يحتمل عرفاً إرادته من هذا الإطلاق المعلّل لكي يحمل عليه بقرينة الأخبار الأُخر.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 242، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 6.

(2) وسائل الشيعة 27: 211، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 1، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 226

نعم يستثني منه الدعوي علي الميّت، فيعتبر قيام البيّنة الشرعية مع اليمين الاستظهاري (62).

______________________________

(62) في «الجواهر»: بلا خلاف أجده بين من تعرّض له، كما اعترف به غير واحد، بل في «الروضة»: هو موضع وفاق، و في «المسالك» تارةً نسبه إلي الشهرة من غير ظهور مخالف، و أُخري إلي الاتّفاق، انتهي.

و الأصل في ذلك من الأخبار خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه البصري قال: قلت للشيخ و في «الفقيه»: يعني موسي بن جعفر عليه السلام-: خبّرني عن الرجل يدّعي قبل الرجل الحقّ، فلم تكن له بيّنة بما له؟ قال

فيمين المدّعي عليه.

إلي أن قال

و إن كان المطلوب بالحقّ قد مات فأُقيمت عليه البيّنة فعلي المدّعي اليمين باللّٰه الذي لا إله إلّا هو لقد مات فلان، و أنّ حقّه لعليه، فإن حلف، و إلّا فلا حقّ له؛ لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه ببيّنة لا نعلم موضعها، أو غير بيّنة قبل الموت، فمن ثمّ صارت عليه اليمين مع البيّنة، فإن ادّعي بلا بيّنة فلا حقّ له؛ لأنّ المدّعي عليه ليس بحيّ، و لو كان حيّاً لأُلزم اليمين أو الحقّ أو يردّ اليمين عليه، فمن ثمّ

لم يثبت الحقّ «1».

و دلالته علي وجوب ضمّ اليمين الاحتياطي إلي البيّنة و اشتراط ثبوت المدّعي الذي أقام عليه البيّنة بضمّ اليمين، واضحة. و حيث إنّ إيجاب اليمين

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 236، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 4، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 227

______________________________

علي المدّعي الذي أقام البيّنة خلاف العمومات كما عرفت و لا يوجد في الأخبار المودعة في كتب الأحاديث ما يدلّ علي اشتراط انضمامها في مطلق الدعوي علي الميّت، إلّا هذا الخبر، فيعلم من عدم الخلاف بين الأصحاب في المقام: أنّ المشهور اعتمدوا علي هذا الخبر، و هو جابر لضعف سنده من ناحية عدم وضوح حال ياسين الضرير.

و أمّا ما في صحيحة الصفّار: أنّه كتب إلي أبي محمَّد عليه السلام: هل تقبل شهادة الوصي للميّت بدين له علي رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع

إذا شهد معه آخر عدل فعلي المدّعي يمين.

، إلي أن قال: و كتب: أو تقبل شهادة الوصي علي الميّت مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع

نعم، من بعد يمين «1».

فما في فقرتها الأخيرة و إن كان قابلًا للانطباق علي ما تضمّنه خبر البصري بأن كان المراد بقوله

من بعد يمين

من بعد يمين المدّعي، و كان وجه إيجاب اليمين علي المدّعي مجرّد أنّ دعواه علي الميّت إلّا أنّه لا يصحّ الاستدلال بها؛ لعدم العموم فيها أوّلًا؛ إذ يحتمل أن يكون وجه إيجاب اليمين: أنّ الشاهد هو الوصي المحتمل تبانيه مع المدّعي، فأُوجبت اليمين دفعاً لهذا الاحتمال مهما أمكن، نظير إيجاب اليمين فيما كان شاهداً للميّت علي ما في الفقرة الأُولي، و لعدم استقرار ظهورها في إرادة يمين المدّعي ثانياً، فلعلّ المراد يمين الوصي الشاهد.

و بالجملة: فهذه الصحيحة لا يمكن

أن تكون مستند القوم في تلك

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 371، كتاب الشهادات، الباب 28، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 228

فإن أقام البيّنة و لم يحلف سقط حقّه (63) و الأقوي عدم إلحاق الطفل و المجنون و الغائب و أشباههم ممّن له نحو شباهة بالميّت في عدم إمكان الدفاع لهم به (64) فتثبت الدعوي عليهم بالبيّنة من دون ضمّ يمين.

______________________________

الفتوي، بل إنّما استندوا إلي خبر عبد الرحمن البصري المروي في كتب أُصول المشايخ الثلاثة قدس سرهم. و به يجبر ضعف سنده، كما عرفت.

(63) يعني أنّه بعد إقامة البيّنة إذا امتنع عن الإتيان باليمين فلا تسمع دعواه بعداً و قد سقط حقّه للتالي. و الدليل عليه قوله عليه السلام في الخبر المذكور

فإن حلف، و إلّا فلا حقّ له.

إلي آخره، و دلالته واضحة.

(64) وجه الإلحاق أن يقال: إنّ المفهوم من تعليل إيجاب اليمين مع البيّنة بقوله عليه السلام

لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه ببيّنة لا نعلم موضعها، أو غير بيّنة قبل الموت

، أنّه حيث إنّ احتمال الأداء بشاهد أو بغير شاهد قائم، و هو لا يقدر لموته علي الدفاع عن نفسه، فلذلك يضمّ اليمين لكي يكون القضاء أثبت، و هذا المعني موجود في المذكورين؛ فيسري حكم ضمّ اليمين في الدعوي عليهم أيضاً.

و فيه أوّلًا: أنّ التعليل لو كان بخصوص احتمال الأداء ببيّنة لكان إلي ما ذكر سبيل؛ إذ يرجع التعليل حينئذٍ إلي أنّه لمكان موته و عدم علمنا بموضع البيّنة المحتملة فلا يحيي حقّه بإقامة البيّنة، و هو جارٍ في المذكورين أيضاً.

و أمّا إذا عطف عليه قوله

أو غير بيّنة

، و معلوم: أنّ الأداء بلا بيّنة

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 229

و هل

ضمّ اليمين بالبيّنة منحصر بالدين، أو يشمل غيره كالعين و المنفعة و الحقّ؟ وجهان، لا يخلو ثانيهما عن قرب (65) نعم لا إشكال في لحوق العين المضمونة علي الميّت إذا تلفت مضمونة عليه.

______________________________

لا أثر له في دفع دعوي المدّعي، فلا محالة يراد من التعليل: أنّه حيث نحتمل أداءه قبل موته فيجب اليمين حتّي يكون القضاء أثبت. و من الواضح: أنّ هذا الاحتمال قائم في جميع الدعاوي؛ إذ لا يوجد دعوي دين مثلًا قامت لمدّعيها البيّنة، إلّا و يحتمل أداؤه، خلافاً لمؤدّي البيّنة؛ فلو وجب اليمين في موارد قيام التعليل لكانت واجبة في جميع الموارد، و هو مخالف لما مرّت إليه الإشارة من الأخبار الدالّة علي عدم وجوب اليمين علي المدّعي إذا أقام البيّنة.

و ثانياً: أنّه قد عرفت في البحث عن الدعوي علي الغائب، أنّ صحيح جميل بن درّاج قد دلّ علي القضاء عليه بمجرّد قيام البيّنة، فراجع «1».

(65) وجه الانحصار بالدين: أنّ تعبيره في تعليل وجوب اليمين بقوله عليه السلام

لعلّه أوفاه

لا يناسب إلّا الدين؛ فإنّه الحقّ الذي يحتمل فيه إيفاؤه، خلافاً لمؤدّي البيّنة.

و أمّا إذا كان المدّعي عيناً موجودة ملكاً أو حقّا فاحتمال خلاف

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 294، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 26، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 230

______________________________

مؤدّاها هو أن لا تكون العين متعلّق حقّه أو ملكه، لا إيفاؤها. نعم إذا كان المدّعي ملكية عين تلفت تحت يد الميّت مضمونة عليه، فيتصوّر حينئذٍ خلافاً للبيّنة إيفاء عوضها مثلًا أو قيمة. و هذا هو الوجه لما أفاده دام ظلّه بقوله: «نعم لا إشكال.» إلي آخره، هذا.

و لكنّ الأقرب مع ذلك هو شمول الحكم لما كان متعلّق الدعوي عيناً موجودة

أو حقّا متعلّقاً بها؛ فإنّ موضوع الحكم في الخبر سواء في الدعوي علي الحيّ أو الميّت هو عنوان الحقّ الصادق في الأقسام الثلاثة أعني الدين و العين و الحقّ الاصطلاحي فقد سأل الراوي بقوله: «خبّرني عن الرجل يدّعي قبل الرجل الحقّ» و قد فصّل في مورد هذا السؤال بين ما كان المدّعي عليه حيّاً و ما كان ميّتاً، و سؤاله مطلق و الجواب في مورد الحيّ مطلق كما في الروايات الأُخري فلا بدّ و أن يكون في مورد الميّت أيضاً مطلقاً. و حينئذٍ فالتعبير بالإيفاء كناية عن كون البيّنة خلاف الواقع، و إنّما عبّر بتعبير مناسب لبعض الموارد دون جميعها من باب المثال.

ثمّ إنّه لا بدّ من التنبيه في فقه الحديث علي نكتة، هي: أنّه ليس المراد بقوله عليه السلام

لعلّه قد أوفاه.

إلي آخره، أنّا نصدّق بيّنة المدّعي، و أنّ غاية مؤدّاها اشتغال ذمّة الميّت بالدين، و هو لا ينافي أن يكون قد أدّاه في حياته و لم يطّلع عليه البيّنة، و في الحقيقة: البيّنة إنّما تثبت أصل الاشتغال الذي لا ينافي الأداء و اليمين إنّما هي لنفي احتمال الأداء، فكأنّ المدّعي بعد إثبات أصل حقّه علي الميّت يظهر عدم أدائه، و هو في الإظهار بمنزلة المنكر، فيستحلف و يثبت حقّه علي الميّت فعلًا.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 231

[فروع]
اشارة

فروع:

[الأوّل: لو كان المدّعي علي الميّت وارث صاحب الحقّ]

الأوّل: لو كان المدّعي علي الميّت وارث صاحب الحقّ، فالظاهر أنّ ثبوت الحقّ محتاج إلي ضمّ اليمين إلي البيّنة (66)،

______________________________

و ذلك أنّ اللازم علي المدّعي في كلّ دعوي مطروحة إقامة البيّنة علي ما يدّعيه، فإذا ادّعي أنّ له حقّا علي الميّت حين موته فلا بدّ و أن يقيم البيّنة، و يشهد البيّنة علي أنّ له حقّا ثابتاً علي الميّت حين موته. و إن أقام بيّنة علي أنّ الميّت استقرض منه قبل موته بأيّام من دون علمهم بأداء ما عليه قبل موته فهذه البيّنة لا تكفي لإثبات دعواه.

و بالجملة: فلا بدّ للمدّعي هنا كما في جميع الموارد أن يأتي بشاهدين يشهدان بما يدّعيه شعراً بشعر، حتّي يستند إليه القاضي و يحكم بثبوت دعواه.

غاية الأمر: أنّه إذا كان المطلوب بالحقّ ميّتاً أوجب الشارع هنا ضمّ اليمين، احتياطاً و استظهاراً لعدم إمكان دفاع الميّت عن نفسه بعد احتمال عدم انطباق شهادة البيّنة علي الواقع.

(66) فإنّ إيجاب اليمين علي المدّعي في خبر عبد الرحمن الذي هو دليل الحكم بقوله عليه السلام

و إن كان المطلوب بالحقّ قد مات فأُقيمت عليه البيّنة فعلي المدّعي اليمين باللّٰه «1»

، قد علّق علي كون المدّعي عليه ميّتاً،

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 236، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 4، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 232

و مع عدم الحلف يسقط الحقّ (67) و إن كان الوارث متعدّداً لا بدّ من حلف كلّ واحد منهم علي مقدار حقّه (68) و لو حلف بعض و نكل بعض ثبت حقّ الحالف و سقط حقّ الناكل.

______________________________

و هو شامل لما كان المدّعي نفس صاحب الحقّ أو وارثه.

و التعبير في صيغة اليمين بقوله

لقد مات فلان، و أنّ

حقّه لعليه

و إن كان لا يعمّ الوارث إذ كان حقّ مورّثه عليه لا حقّه إلّا أنّه لا ينبغي الشكّ في أنّ العرف يفهم من الخبر: أنّ سرّ إيجاب اليمين هو كون المطلوب بالحقّ ميّتاً، و هو مقتضي التعليل بقوله عليه السلام

لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه

؛ و لذلك فلا يفهم خصوصية من ذلك التعبير الواقع في بيان اليمين المناسب لكون المدّعي صاحب الحقّ لا وارثه، بل إنّ ذاك التعبير قد عبّر به نظراً إلي الغالب في مفروض الرواية.

(67) و ذلك أنّ قوله عليه السلام في الخبر

فإن حلف، و إلّا فلا حقّ له

يعمّ الوارث أيضاً، كما عرفت آنفاً.

(68) فإنّ المفهوم من إيجاب اليمين علي المدّعي و توقّف ثبوت حقّه علي اليمين: أنّ ثبوت حقّ الحالف موقوف و موكول علي حلفه، و حلف غيره لا دليل علي الاكتفاء به له، كما في جميع موارد توقّف ثبوت الحقّ علي اليمين. فمنشأ ثبوت الحقّ للورّاث المتعدّدين و إن كان أمراً واحداً هو ثبوت حقّ مورّثهم علي الميّت حين موته إلّا أنّه لا ينافي توقّف الحكم بثبوته في مقدار حقّ كلّ واحد منهم علي يمينه، و حينئذٍ: فكلّ من حلف يثبت حقّه،

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 233

[الثاني: لو شهدت البيّنة بإقراره قبل موته بمدّة لا يمكن فيها الاستيفاء عادة، فهل يجب ضمّ اليمين أو لا؟]

الثاني: لو شهدت البيّنة بإقراره قبل موته بمدّة لا يمكن فيها الاستيفاء عادة، فهل يجب ضمّ اليمين أو لا؟ وجهان أوجههما وجوبه (69)، و كذا كلّ مورد يعلم أنّه علي فرض ثبوت الدين سابقاً لم يحصل الوفاء من الميّت.

______________________________

و كلّ من امتنع فلا حقّ له؛ عملًا بقوله عليه السلام

فإن حلف، و إلّا فلا حقّ له.

(69) و ذلك لما عرفت في بيان فقه الحديث: أنّ المفروض في جميع الموارد أنّ البيّنة

تشهد بثبوت حقّ المدّعي علي الميّت حين موته، فشهادتها بإقرار الميّت بالنحو المذكور لا تزيد علي شهادتها صريحة باشتغال ذمّة الميّت بحقّ المدّعي حين موته، و قد عرفت وجوب ضمّ يمين المدّعي فيه.

و بعبارة اخري: أنّ الشهادة بالإقرار المذكور إن اكتفي بها فإنّما هو لأنّ مرجعها بعد عدّ الإقرار طريقاً إلي الواقع حجّة علي المقرّ إلي الشهادة باشتغال ذمّة الميّت مثلًا حين الموت، و قد عرفت وجوب ضمّ يمين المدّعي في الشهادة الصريحة.

و توهّم عدم وجوب اليمين فيه مبني علي أن يراد من الحديث، شهادة البيّنة علي مجرّد أنّه كان للمدّعي عند الميّت قبل موته حقّ، من غير اطّلاع لهم علي أدائه، و أنّ وجوب اليمين إنّما هو لإثبات بقائه عنده حين الموت؛ فيقال حينئذٍ بأنّه إذا علم بعدم أدائه فلا حاجة إلي اليمين المثبتة له.

و قد عرفت ممّا بيّنا هناك و هاهنا ضعفه، فتبصّر.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 234

[الثالث: لو تعدّدت ورثة الميّت فادّعي شخص عليه و أقام البيّنة تكفي يمين واحدة]

الثالث: لو تعدّدت ورثة الميّت فادّعي شخص عليه و أقام البيّنة تكفي يمين واحدة (70) بخلاف تعدّد ورثة المدّعي كما مرّ.

[الرابع: اليمين للاستظهار لا بدّ و أن تكون عند الحاكم]

الرابع: اليمين للاستظهار لا بدّ و أن تكون عند الحاكم (71) فإذا قامت البيّنة عنده و أحلفه ثبت حقّه، و لا أثر لحلفه بنفسه أو عند الوارث.

[الخامس: اليمين للاستظهار غير قابلة للإسقاط]

الخامس: اليمين للاستظهار غير قابلة للإسقاط (72) فلو أسقطها وارث الميّت لم تسقط، و لم يثبت حقّ المدّعي بالبيّنة بلا ضمّ الحلف.

______________________________

(70) و ذلك أنّ الموجب لليمين إنّما هو كون الدعوي علي الميّت، و إلّا فلو كان المدّعي عليه حيّاً لما وجب يمين، و معلوم: أنّ الميّت هنا واحد؛ فلا يجب إلّا يمين واحدة.

(71) و ذلك أنّ الخبر ورد في بيان كيفية القضاء الشرعية؛ فكما أنّ يمين المدّعي في الفقرة الاولي من الخبر أعني فيما لم يكن للمدّعي بيّنة لا بدّ و أن تكون عند الحاكم؛ لتوقّف القضاء عليه، فهكذا يمين المدّعي هنا.

(72) لما عرفت آنفاً: أنّ اليمين شرط لحكم الحاكم؛ فلا يجوز له الحكم إلّا إذا حلف، و إلّا فلا حقّ له. و إطلاق اشتراط حكمه باليمين كإطلاق سقوط حقّ المدّعي إذا لم يحلف شامل لما أسقط الوارث يمينه و طلب من الحاكم أن يحكم لمدّعي مورّثهم الميّت، فيستنتج: أنّ اليمين شرط جواز الحكم للمدّعي، و ليست حقّا للورثة حتّي تسقط بإسقاطهم.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 235

[القول في الشاهد و اليمين]
اشارة

القول في الشاهد و اليمين

[مسألة 1 لا إشكال في جواز القضاء في الديون بالشاهد الواحد و يمين المدّعي]

مسألة 1 لا إشكال في جواز القضاء في الديون بالشاهد الواحد و يمين المدّعي (1) كما لا إشكال في عدم الحكم و القضاء بهما في حقوق اللّٰه تعالي، كثبوت الهلال و حدود اللّٰه (2).

______________________________

(1) فإنّ القضاء بهما في الديون هو المتيقّن من الأقوال و الأخبار؛ ففي صحيح محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

كان رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم يجيز في الدين شهادة رجل واحد و يمين صاحب الدين، و لم يجز في الهلال إلّا شاهدي عدل «1»

، إلي غير ذلك من الأخبار الواردة علي عنوان «الدين» أو «الحقّ» أو مطلقاً، فراجع.

(2) لصحيح محمّد بن مسلم الماضي آنفاً. و لصحيحة الآخر عن

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 264، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 236

______________________________

أبي جعفر عليه السلام قال

لو كان الأمر إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس، فأمّا ما كان من حقوق اللّٰه عزّ و جلّ أو رؤية الهلال فلا «1».

و دلالته علي عدم الاكتفاء بشهادة شاهد و يمين المدّعي في مطلق ما كان من حقوق اللّٰه تعالي واضحة.

و المراد بحقّ اللّٰه تعالي واضح؛ فإنّه كلّ ما كان التكليف فيه لا برعاية حقّ أحد من الناس لكي يؤدّيه و لا يتصرّف فيه عدواناً، بل إنّما كان إيجاباً أو تحريماً منه تعالي لمصالح أوجبت إنشاءه. و معلوم: أنّ موضوع كلّ تكليف تابع لحكمه، بل بالحقيقة: الموضوع هو حقّ الناس، و الحكم في غير هذا الموضوع هو حقّ اللّٰه تعالي، و يتبعه هنا موضوعه.

فثبوت «أنّ هذا خمر» لا

يمكن بشهادة رجل و يمين الذي يدّعي أنّه خمر، فلا يحكم بأنّه خمر، كما لا يحكم بأنّه حرام، و كما لا يحكم بثبوت الحدّ بشربه. فالحرمة و وجوب حدّ الثمانين مثلًا من قبيل حقّ اللّٰه تعالي لا يثبت بشاهد و يمين.

ثمّ لا ينبغي الريب في أنّ المراد عدم ثبوت حقّ اللّٰه بهما في الشبهات الموضوعية و الموارد الجزئية؛ فإنّها التي يقوم عليها الشهود، و إلّا فالأحكام الكلّية التي ليس الإخبار عنها من باب الشهادة لا إشكال في ثبوتها بقيام خبر الواحد الثقة، كما لا يخفي.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 268، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 12.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 237

و هل يجوز القضاء بهما في حقوق الناس كلّها حتّي مثل النسب و الولاية و الوكالة أو يجوز في الأموال و ما يقصد به الأموال، كالغصب و القرض و الوديعة، و كذا البيع و الصلح و الإجارة و نحوها؟ وجوه، أشبهها الاختصاص بالديون (3).

______________________________

ثمّ إنّ رؤية الهلال في مثل شهر رمضان و شوّال بل و ذي الحجّة و إن كانت من قبيل حقوق اللّٰه تعالي؛ فإنّها الموضوع لوجوب الصوم و الإفطار و مناسك الحجّ، إلّا أنّه لا يبعد دعوي إرادة الإطلاق منها، فلا يثبت الهلال لكي يثبت حلول نجوم الدين أيضاً، مع أنّه من قبيل حقوق الناس.

و ذلك أنّ ذكر رؤية الهلال بعد عنوان حقوق اللّٰه عزّ و جلّ و عطفها عليه ب «أو» يؤكّد إرادة الإطلاق، و إلّا فلو كان المراد بها خصوص ما إذا أُريد الأحكام التي من قبيل حقوق اللّٰه لما كان إلي ذكرها احتياج. فالظاهر كما يقتضيه إطلاق المتن أيضاً عدم ثبوت الهلال بشاهد و يمين؛

حتّي بالنسبة إلي حقوق الناس.

ثمّ إنّ ملاك عدم الثبوت كون المورد من حقوق اللّٰه تعالي، فالتعزيرات أيضاً كالحدود الإلهية، و كلتاهما مثل الأحكام الابتدائية.

(3) كما عن «النهاية» و «الاستبصار» و «الغنية» و «المراسم» و «الإصباح» و «الكافي»، بل في «الجواهر»: في «الغنية» الإجماع عليه.

و القول الثاني أعني جواز القضاء بهما في الأموال و ما يقصد به

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 238

______________________________

الأموال نسبه في «الجواهر» إلي المشهور، قال: بل عن الشيخ في «الخلاف» و عن الحلّي في «السرائر» الإجماع عليه.

كما أنّ الاحتمال الأوّل و هو القضاء بهما في مطلق حقوق الناس قد اختاره صاحب «الجواهر»، قائلًا: إنّ المتّجه القول بأنّ عنوان الحكم بجواز القضاء هو حقوق الناس، و لكن كلّ ما ثبت إجماع علي عدم ثبوته بالشاهد و اليمين و إن كان هو حقّا للناس قلنا به، و إلّا فلا.

ثمّ إنّ الأُستاذ الماتن دام ظلّه و إن اختار هنا الاختصاص بالديون، إلّا أنّه مدّ ظلّه اختار في كتاب الشهادات في المسألة الرابعة من القول في أقسام الحقوق ما هو المشهور؛ من أنّه يثبت بهما و بشهادة المرأتين و يمين المدّعي كلّ ما كان مالًا أو المقصود منه المال، فراجع.

و التحقيق: أنّ الأخبار الواردة هنا علي أربع طوائف:

الأُولي: ما تدلّ علي جواز القضاء بهما إجمالًا في قبال السلب الكلّي مثل ما في صحيح حمّاد بن عيسي قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول

حدّثني أبي: أنّ رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم قضي بشاهد و يمين «1»

؛ فإنّ الظاهر منه: أنّه عليه السلام بصدد بيان أنّ القضاء بهما وقع منه صلي الله عليه و آله و سلم قبالًا لما عن أبي

حنيفة من السلب المطلق.

و نحوه صدر صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج قال: دخل الحكم بن

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 265، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 4 و 7.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 239

______________________________

عتيبة و سلمة بن كهيل علي أبي جعفر عليه السلام فسألاه عن شاهد و يمين؟ فقال

قضي به رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم و قضي به علي عليه السلام عندكم بالكوفة.

الحديث «1». و ظهوره في أنّه عليه السلام بصدد الإثبات الجزئي في مقابل النفي المطلق واضح.

و نحوهما خبر العبّاس بن هلال و عبّاد بن صهيب و جابر بن عبد اللّٰه و البزنطي و المفضّل بن عمر «2» و غيره، فراجع.

فهذه الطائفة حيث لا إطلاق و لا عموم لها، تجتمع مع جميع الأقوال، و لا يصحّ الاستدلال بها لخصوص شي ء منها، كما هو واضح.

الطائفة الثانية: ما تدلّ علي جواز القضاء بهما في مطلق حقوق الناس المالية و غيرها، و هي أخبار كثيرة:

منها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام الماضية صدر البحث آنفاً فتذكّر؛ فإنّ دلالتها علي أنّ موضوع جواز القضاء بهما حقوق الناس واضحة.

و منها: صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

كان رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم يقضي بشاهد واحد مع يمين صاحب الحقّ «3».

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 265، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 6.

(2) وسائل الشيعة 27: 268، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 13، 15، 16، 17 و 18.

(3) وسائل الشيعة 27: 264، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات،

ص: 240

______________________________

وجه الدلالة: أنّه عليه السلام ليس في كلامه هذا في مقام مجرّد القصّة و الحكاية، بل هو عليه السلام في مقام بيان حكم اللّٰه تعالي بنقل الفعل المستمرّ عن رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم و قد بيّن في هذا المقام متعلّق فعله و مورده، و هو: أنّه يقضي بشاهد و يمين صاحب الحقّ. فكلّ ما كان هنا صاحب حقّ و أقام علي حقّه شاهداً واحداً و ضمّ إليه اليمين يقضي به، و هو مطلق الدعاوي الحقوقية و جميع حقوق الناس كلّها.

و نحوها صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه و معتبرة أبي مريم «1»، فراجع. و نحوها مرسل يونس أيضاً «2».

و ربّما يعدّ من أخبار هذه الطائفة بل صريحاً في شمول الحكم للقضاء بهما في العين ذيل صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج الناقلة لقصّة قضاء شريح في قضية درع طلحة التي وجدها علي عليه السلام عند عبد اللّٰه بن قفل التميمي، فقال: إنّها غلول و رافعه إلي شريح، فقال له شريح: هات علي ما تقول بيّنة، فأتاه بالحسن عليه السلام، فشهد أنّها درع طلحة أُخذت غلولًا يوم البصرة، فقال شريح: هذا شاهد واحد و لا أقضي بشهادة شاهد حتّي يكون معه آخر. إلي أن قال: فغضب علي عليه السلام و قال

خذها؛ فإنّ هذا قضي بجور ثلاث مرّات

، فتحوّل شريح و قال: لا أقضي بين اثنين حتّي تخبرني

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 267، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 8 و 9.

(2) وسائل الشيعة 27: 271، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 15، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 241

______________________________

من أين قضيتُ بجور ثلاث مرّات. إلي أن

قال

ثمّ أتيتك بالحسن عليه السلام فشهد، فقلت: هذا واحد و لا أقضي بشهادة واحد حتّي يكون معه آخر، و قد قضي رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم بشهادة واحد و يمين.

الحديث «1».

وجه الاستدلال: أنّ موضوع المخاصمة هو الدرع الشخصية التي وجدت عند عبد اللّٰه بن قفل التميمي، و قد امتنع شريح من القضاء فيها بشهادة واحد و يمين المدّعي و عدّ عليه السلام فعله هذا من القضاء بالجور، فيدلّ صريحة علي جواز القضاء في غير الدين من حقوق الناس بشهادة شاهد و يمين المدّعي، هذا.

و الحقّ: أنّه يحتمل أن يكون استنكاره عليه السلام بعناية قوله: «هذا واحد، و لا أقضي بشهادة واحد حتّي يكون معه آخر»، و هو كلام عامّ مفاده السلب الكلّي، و إن طبّقه علي المورد. و هو عليه السلام استنكر عليه هذا السلب الكلّي بقوله عليه السلام

و قد قضي رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم بشهادة واحد و يمين

؛ فلا يدلّ علي أكثر من الإثبات الجزئي قبال هذا السلب الكلّي؛ فلا ينافي أن يختصّ الجواز بخصوص الدين، بل أخصّ منه.

قال في «الجواهر»: و خبر درع طلحة إنّما أنكر أمير المؤمنين عليه السلام علي إطلاق قول شريح: «ما أقضي إلّا بشاهد معه آخر»، انتهي. فعدّ هذه الصحيحة من الطائفة الأُولي أولي.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 265، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 6.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 242

______________________________

الطائفة الثالثة: ما دلّت علي جواز القضاء بهما في الديون، من دون دلالة لها علي عدم الجواز في غيره:

فمنها: صحيحة ابن مسلم الماضية عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

كان رسول اللّٰه صلي الله عليه و

آله و سلم يجيز في الدين شهادة رجل واحد و يمين صاحب الدين، و لم يجز في الهلال إلّا شاهدي عدل «1»

؛ فإنّ استمرار فعله صلي الله عليه و آله و سلم في مقام القضاء علي إجازة شهادة واحد و يمين المدّعي في الدين لا دليل فيه علي عدم إجازتها في غيره. و لعلّ ذكر «الدين» في كلامه عليه السلام كان لعلّة سبق ذكره بحضرته عليه السلام. و بالجملة فقد تقرّر أن لا مفهوم للّقب.

و منها: خبر حمّاد بن عثمان و صحيحه قال: سمعت أبا عبد اللّٰه يقول

كان علي عليه السلام يجيز في الدين شهادة رجل و يمين المدّعي «2»

، و وجه دلالته علي ما ذكر عين ما مرّ في الصحيحة.

و هذه الطائفة لا تنافي الإطلاق المذكور في الطائفة الثانية؛ لعدم دلالتها علي عدم الجواز في غير الدين لتكون منافية لها.

الطائفة الرابعة: ما تدلّ علي جواز القضاء بهما في خصوص الدين، و عدم الجواز في غيرها، و هي خبران:

الأوّل: ما روي في الموثّق عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 264، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 265، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 3 و 11.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 243

______________________________

عن الرجل يكون له عند الرجل الحقّ و له شاهد واحد؟ قال: فقال

كان رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم يقضي بشاهد واحد و يمين صاحب الحقّ، و ذلك في الدين «1».

بيان الدلالة: أنّ السائل قد سأله عمّا إذا كان للمدّعي عند الرجل حقّ مطلقاً، من غير تقييد بالدين و لا بالمال، و هو عليه

السلام قد ذكر في مقام الجواب، الفعل الذي كان استمرّ عليه الرسول صلي الله عليه و آله و سلم و قيّده بالدين، فلو كان فعله صلي الله عليه و آله و سلم فيما يقضي بهما بعنوان أنّه حقّ من حقوق اللّٰه لا بعناية أنّه دين لما كان ينبغي تذييله بقوله

و ذلك في الدين

، فهذا التذييل دليل واضح علي أنّ قضاءه إنّما هو بما أنّه دين، لا بما أنّه حقّ من حقوق اللّٰه.

و احتمال أن يكون الجواب خصوص قوله

كان يقضي بشاهد واحد و يمين صاحب الحقّ

، و يراد بقوله

و ذلك في الدين

بقرينة ما قبله: أنّ فعله صلي الله عليه و آله و سلم و إن كان في الدين، إلّا أنّ هذا الفعل كان في الدين بما أنّه حقّ؛ و لذلك قال

يقضي بشاهد و يمين صاحب الحقّ

لا يمين صاحب الدين.

مدفوع بأنّه خلاف الظاهر، و إنّما ظاهره تقييد فعله و الحكم المستفاد منه بصورة ما كان المدّعي ديناً.

الثاني: خبر قاسم بن سليمان قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول

قضي رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم بشهادة رجل مع يمين الطالب في الدين وحده «2»

، فإنّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 265، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 5.

(2) وسائل الشيعة 27: 268، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 10.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 244

______________________________

تقييد مورد القضاء في الدين بقيد «وحده» شاهد علي اختصاص الحكم به بخصوصه و عدم جواز القضاء بهما في غيره.

و احتمال أن يراد به ما يقابل القضاء بهما في حقوق اللّٰه، بعيد جدّاً؛ فإنّه خلاف مفاد مفهوم «وحده» الظاهر في إرادة خصوص الدين، اللازم منها عدم

جريانه في غيره مطلقاً؛ حقّ الناس كان أو حقّ اللّٰه.

مضافاً إلي أنّ قوله عليه السلام

مع يمين الطالب

ظاهر بنفسه في حقوق الناس؛ إذ هي التي يكون فيها الطالب، فإذا كان ما قبله خاصّاً بحقوق الناس ثمّ قيّده بالدين وحده كان لازم هذا التقييد خصوص حقّ كان ديناً.

و بالجملة: فدلالة هذين الخبرين بنفسهما علي اختصاص القضاء بهما بخصوص ما كان المدّعي ديناً واضحة.

و حينئذٍ: فهذه تنافي الطائفة الثانية الدالّة دلالة واضحة علي جريان القضاء بهما في مطلق حقوق الناس. و الجمع بينهما بحمل إطلاق أو عموم حقوق الناس علي ما كان الحقّ ديناً لعلّه جمع عرفي. و هو الوجه لما أفاده و اختاره الماتن دام ظلّه هنا، هذا.

و يمكن أن يقال: إنّ الخبرين غير معتبري السند؛ فإنّ القاسم بن سليمان لم يوثق، و أبو بصير لم يعلم أنّه القاسم بن يحيي أو ليث بن البختري اللذين قد وثقا، أو أنّه غيرهما الذي لم يوثّق.

مضافاً إلي أنّ المشهور لم يعملوا بهما، و قد كان كلاهما في المجاميع الأوّلية «الكافي» و «التهذيبين»، فكأنّهم أعرضوا عنهما؛ فلذلك فليس فيهما حجّة علي خلاف إطلاق الطائفة الثانية، بل إنّ إطلاقها حجّة بلا مزاحم لها.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 245

و يجوز القضاء في الديون بشهادة امرأتين مع يمين المدّعي (4).

______________________________

و لعلّه لذلك اختار هو مدّ ظلّه فيما يأتي من كتاب الشهادة جواز القضاء بهما في مطلق الأموال و ما يقصد به المال.

و لكنّك خبير بأنّ اللازم القضاء بهما في مطلق حقوق الناس و لو لم يكن من قبيل الأموال، كما اختاره صاحب «الجواهر». و لا وجه حينئذٍ للتقييد بالمال إلّا دعوي انصراف حقوق الناس إلي خصوص الحقّ المالي، و هي

ممنوعة جدّاً، و اللّٰه العالم.

(4) لصحيح منصور بن حازم عن الكاظم عليه السلام قال

إذا شهد لطالب الحقّ امرأتان و يمينه فهو جائز «1»

، و دلالته علي جواز القضاء بشهادة امرأتين و يمين المدّعي في مطلق الحقوق واضحة.

و لا دليل لفظي علي تقييده بخصوص الدين؛ إذ الخبران كانا في شهادة رجل و يمين المدّعي؛ فلا وجه للتقييد هنا إلّا دعوي الأولوية.

ببيان: أنّ الموردين يتساويان في يمين المدّعي، و إنّما اختلافهما في أنّ الشاهد في إحدي الصورتين رجل واحد و في الأُخري امرأتان، فلو جاز الاعتماد فيما شهدت امرأتان بشهادتهما في مطلق الحقوق لجاز الاعتماد بشهادة رجل واحد بطريق أولي.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 271، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 15، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 246

[مسألة 2 المراد بالدين كلّ حقّ مالي في الذمّة بأيّ سبب كان]

مسألة 2 المراد بالدين كلّ حقّ مالي في الذمّة بأيّ سبب كان، فيشمل ما استقرضه، و ثمن المبيع، و مال الإجارة، و دية الجنايات، و مهر الزوجة إذا تعلّق بالعهدة، و نفقتها، و الضمان بالإتلاف و التلف إلي غير ذلك، فإذا تعلّقت الدعوي بها أو بأسبابها لأجل إثبات الدين و استتباعها ذلك فهي من الدين (5) و إن تعلّقت بذات الأسباب، و كان الغرض نفسها لا تكون من دعوي الدين.

______________________________

لكنّ الأولوية ممنوعة، فلعلّ لشهادة الامرأتين مزيّة أوجبت الاعتماد عليها في مطلق الحقوق إذا انضمّت إلي يمين المدّعي، و ليست كذلك شهادة رجل واحد.

نعم، بناءً علي الأخذ بإطلاق الأدلّة السابقة في شهادة رجل واحد تساوي الموردان، كما لا يخفي.

(5) شمول الدين للأقسام المذكورة ممّا في الذمّة واضح. و أمّا شموله لما إذا تعلّقت الدعوي بأسبابها، فلأنّه إذا كانت هذه الأسباب لا أصالة لها عند العقلاء و لا

عند المدّعي كما هو المفروض ففي الحقيقة إذا ادّعي كون البيع نسيئة كان مرجع دعواه هذه إلي أنّ له ديناً في ذمّة المدّعي عليه بسبب البيع؛ فلذلك كان لفظة «الدين» المذكورة في الخبرين تشملها.

و لو شكّ في شمولها فيشكّ في ورود التقييد علي إطلاق الطائفة الثانية فيما تعلّقت الدعوي بالأسباب لأجل استتباعها للدين، و هو من قبيل الشكّ في مفهوم المخصّص المنفصل، و من المعلوم: أنّه يؤخذ

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 247

[مسألة 3 الأحوط تقديم الشاهد و إثبات عدالته ثمّ اليمين]

مسألة 3 الأحوط تقديم الشاهد (6) و إثبات عدالته ثمّ اليمين، فإن قدّم اليمين ثمّ أقام الشاهد فالأحوط عدم إثباته و إن كان عدم اشتراط التقديم لا يخلو من قوّة.

______________________________

بعموم العامّ في موارد الشكّ.

(6) لأنّ اليمين لا أثر لها بنفسها و لو اتي بها ألف مرّة، و إنّما ثبت و تحقّق لها الأثر بشهادة الشاهد؛ فما لم يشهد الشاهد لم يحصل معرض و موطأ لليمين، فطبع الأمر يقتضي تحقّق شهادة الشاهد العادل أوّلًا، ثمّ اتّباعها باليمين، و الأخبار لا إطلاق لها؛ فيؤخذ منها بالمتيقّن و هو ما يقتضيه طبع الأمر هذا.

لكنّك خبير بأنّ اليمين قد عُطفت في أكثر الأخبار بالواو العاطفة التي يعطف بها المتقدّم و المتأخّر و المقارن، فليس لمفاد الأخبار من هذه الجهة تيقّن أصلًا. و ما جعل متيقّناً فهو باعتبار أمر خارجي ظنّي.

و لا يبعد أن يقال: قوله عليه السلام

كان رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم يقضي بشاهد واحد مع يمين صاحب الحقّ

أو

كان رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم يجيز في الدين شهادة رجل واحد و يمين المدّعي

كقوله عليه السلام

إذا شهد لطالب الحقّ امرأتان و يمينه فهو جائز

جميعها مطلق يعمّ جميع

الصور الثلاث، و لو كان لخصوص صورة تقدّم الشهادة خصوصية لكان عليه البيان؛ فالإطلاق دليل عدم الخصوصية. فعدم اشتراط التقديم لا يخلو من قوّة.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 248

[مسألة 4 إذا كان المال المدّعي به مشتركاً بين جماعة بسبب واحد]

مسألة 4 إذا كان المال المدّعي به مشتركاً بين جماعة بسبب واحد كإرث و نحوه فأقام بعضهم شاهداً علي الدعوي و حلف لا يثبت به إلّا حصّته (7) و ثبوت سائر الحصص موقوف علي حلف صاحب الحقّ، فكلّ من حلف ثبت حقّه مع الشاهد الواحد.

[مسألة 5 ثبوت الحقّ بشاهد و يمين إنّما هو فيما لا يمكن إثباته بالبيّنة]

مسألة 5 ثبوت الحقّ بشاهد و يمين إنّما هو فيما لا يمكن إثباته بالبيّنة، و مع إمكانه بها لا يثبت بهما (8) علي الأحوط.

______________________________

(7) فإنّ ظاهر جميع الأدلّة: أنّ يمين صاحب الحقّ أو طالب الحقّ أو الخصم إذا انضمّت إلي شاهد واحد يثبت بهما في مقام القضاء حقّه، و إذا كان الخصوم متعدّدين فكلٌّ منهم صاحب حقّ لشخصه و علي حياله، فلا محالة يثبت بيمين كلّ واحد منهم حقّ نفسه. فيمين الشخص منضمّة إلي شهادة الشاهد موضوع و سبب شرعي لثبوت حقّ نفسه، و ما لم تتحقّق لم يثبت حقّه، و تحقّقه في مورد موجب لثبوت الحقّ في خصوص هذا المورد. و مجرّد ملازمة الموارد الأُخر لهذا المورد بحسب الواقع ليس دليلًا شرعياً علي جواز القضاء فيها كما يقضي فيه، إلّا إذا تحقّق هناك أيضاً ذلك السبب الموجب لهذا القضاء.

و بالجملة: فموضوع القضاء و مجوّزه حلف المدّعي هنا، كحلف المنكر في سائر الموارد، و حلف الرجل إنّما يفيد لنفسه، و الملازمة الواقعية لا دليل علي جواز القضاء بها، و ليست ملاكاً في باب القضاء، فكلّ مَن حلف ثبت حقّه مع الشاهد الواحد.

(8) لا ينبغي الإشكال في أنّ إطلاق أدلّة جواز القضاء باليمين و شهادة

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 249

______________________________

رجل أو امرأتين شامل لما أمكن له إقامة البيّنة أيضاً؛ فإنّ مثل قوله عليه السلام

كان رسول اللّٰه صلي الله

عليه و آله و سلم يقضي بشاهد واحد و يمين صاحب الحقّ

كقوله عليه السلام

إذا شهد لطالب الحقّ امرأتان و يمينه فهو جائز

في مقام بيان حكم جواز القضاء بهما، و هو شامل لما تمكّن من إقامة البيّنة بلا إشكال.

فمقتضي إطلاق الأدلّة ثبوت الحقّ بهما و لو مع التمكّن من إقامتها. و لا دليل في قبال هذا الإطلاق إلّا مرسل يونس المضمر، قال

استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل و امرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجل و يمين المدّعي.

الحديث «1»، حيث إنّه قيّد و خصّ استخراج الحقّ بشهادة رجل و يمين المدّعي بما إذا لم تكن شهادة رجلين، و لا شهادة رجل و امرأتين؛ فما كان إليها سبيل لا تصل النوبة إلي شهادة الواحد و اليمين.

لكن الحديث ضعيف بالإرسال.

مضافاً إلي أنّ الترتيب المذكور فيه لعلّه طبيعي؛ بمعني أنّه إن كان تصل اليد في واقعة إلي الرجل فلا حاجة و لا يرجع إلي النساء عادةً، و لا يذهب بهنّ إلي القضاة لأداء الشهادة. و لذلك فأدلّة جواز الاستناد بشهادتهنّ فيما جاز لم يقيّد بما إذا لم يكن بيّنة بحسب الفتاوي، مع أنّه قيّد به في المرسلة المذكورة، فكما أنّ شهادة رجل و امرأتين تقبل و إن تمكّن

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 271، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 15، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 250

[مسألة 6 إذا شهد الشاهد و حلف المدّعي و حكم الحاكم بهما ثمّ رجع الشاهد]

مسألة 6 إذا شهد الشاهد و حلف المدّعي و حكم الحاكم بهما ثمّ رجع الشاهد ضمن نصف المال (9).

______________________________

من إقامة شهادة رجلين، فهكذا شهادة الرجل و يمين المدّعي.

مضافاً إلي أنّ المرسل مختصّ باليمين و شهادة الرجل، و أمّا شهادة امرأتين و يمين صاحب الحقّ فلا

دليل علي تقييدها، اللهمّ إلّا بدعوي الأولوية التي ليست بمقطوعة و لا مظنونة.

(9) هذا الحكم بالضمان مبنيّ علي عدم انتقاض الحكم برجوع الشاهد و إن كان العين باقية، و هو الذي اختاره المحقّق في «الشرائع» و الماتن مدّ ظلّه في كتاب الشهادات في الحقوق المختصّة بالناس المسألة التاسعة من فصل اللواحق التي ما نحن فيه منها.

و الوجه فيه مضافاً إلي أنّه مقتضي القواعد؛ فإنّ المفروض: أنّ إنشاء الحكم مستند إلي الشهادة و اليمين، و قد أجاز الشارع القضاء بهما؛ فالحكم المستند إليهما حكم به طبقاً لموازين القضاء الإسلامية، فهو مشمول قوله عليه السلام

فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما بحكم اللّٰه استخفّ «1».

و رجوع الشاهد ليس دليلًا علي كون الشهادة خلافاً للواقع حتّي يصير الحكم من مصاديق الحكم بغير ما أنزل اللّٰه. و بالجملة: فالحكم وقع علي

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 251

______________________________

مقتضي قواعد القضاء؛ فوجب قبوله و العمل به، و لا يجوز ردّه و الاستخفاف به من أحد؛ حتّي من القاضي نفسه مرسل جميل بن درّاج عن أحدهما عليهما السلام قال: في الشهود إذا رجعوا عن شهادتهم و قد قضي علي الرجل

ضمنوا ما شهدوا به و غرموا، و إن لم يكن قضي طرحت شهادتهم و لم يغرموا الشهود شيئاً «1».

و دلالته علي عدم بطلان القضاء برجوع الشهود واضحة؛ لظهور الفقرة الأُولي بنفسها فيه، و لاقتضاء المقابلة بين الفقرتين ذلك أيضاً؛ فإنّ طرح شهادتهم إنّما هو فيما لم يقض بعد، فلا محالة لا تطرح شهادتهم إذا قضي، و الشهود حينئذٍ يضمنون ما شهدوا به. و تمام الكلام في كتاب الشهادات.

و

بالجملة: فالقضاء السابق لا ينتقض برجوع الشهود، و لا برجوع الشاهد فيما نحن فيه.

و أمّا أنّه يضمن نصف المال المقضيّ به، فلما يستفاد من الأدلّة الواردة في شاهد الزور؛ ففي صحيح محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في شاهد الزور ما توبته؟ قال

يؤدّي من المال الذي شهد عليه بقدر ما ذهب من ماله إن كان النصف أو الثلث إن كان شهد هذا و آخر معه «2».

و في صحيح جميل عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في شاهد الزور؟ قال

إن كان

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 326، كتاب الشهادات، الباب 10، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 327، كتاب الشهادات، الباب 11، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 252

______________________________

الشي ء قائماً بعينه ردّ علي صاحبه، و إن لم يكن قائماً ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل «1».

فإنّ مثل هاتين الصحيحتين و إن ورد في شاهد الزور، إلّا أنّه يدلّ علي أنّ الشاهد يضمن بمقدار ما أتلف؛ فإذا حكم بضمان الشاهد الراجع فيما نحن فيه فلا محالة يضمن بمقدار ما أتلف، بل نفس هاتين الصحيحتين دليل علي ضمان كلّ متلف ما أتلف، و هما دليل علي القاعدة المعروفة: «من أتلف مال الغير فهو له ضامن».

فالمتلف في باب الشهادة ضامن بمقتضي الصحيحتين لمقدار ما هو دخيل بشهادته، ففيما نحن فيه حيث كان إتلاف مال المحكوم عليه مستنداً إلي أمرين: شهادة الشاهد. و يمين المدّعي، فلا محالة إذا رجع الشاهد ضمن نصف المال.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 327، كتاب الشهادات، الباب 11، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 253

[القول في السكوت]

اشارة

القول في السكوت أو الجواب بقوله: «لا أدري» أو «ليس لي» أو غير ذلك

[مسألة 1 إن سكت المدّعي عليه بعد طلب الجواب عنه]

مسألة 1 إن سكت المدّعي عليه بعد طلب الجواب عنه، فإن كان لعذر كصمم أو خرس أو عدم فهم اللغة أو لدهشة و وحشة أزاله الحاكم (1) بما يناسب ذلك، و إن كان السكوت لا لعذر، بل سكت تعنّتاً و لجاجاً، أمره الحاكم بالجواب (2) باللطف و الرفق ثمّ بالغلظة و الشدّة،

______________________________

(1) يعني: أنّ هذا واجب علي الحاكم في مقام القضاء؛ و ذلك أنّه إذا تصدّي القضاء فعليه إدارة مجلس القضاء إلي أن ينشأ الحكم و يحسم النزاع، فإذا كان للمدّعي عليه إحدي هذه العلل فالوصل إلي حسم النزاع لا يمكن إلّا برفع هذه العلل، فعلي الحاكم رفعها لكي يصل إلي ما هو الوظيفة الأصلية؛ أعني الحكم و فصل النزاع.

(2) من باب الأمر بالمعروف؛ فإنّه إذا وجب حسم النزاع فكلّ ما هو من مقدّماته فهو واجب، و إذا كانت المقدّمة فعلًا لمكلّف فلا محالة يجب علي هذا المكلّف.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 254

______________________________

فهاهنا حيث إنّ الحكم موقوف علي جواب المدّعي عليه يجب عليه أن يتكلّم و يجيب في قبال دعواه حتّي يحكم الحاكم بما ينبغي، فإذا امتنع عن العمل بواجبه يجب علي الحاكم المدير للمجلس أن يأمره بالرفق ثمّ بالغلظة علي حسب مراتب الأمر بالمعروف.

و لعلّ عدم التعدّي إلي الضرب و الإهانة هنا لمكان أنّ من المحتمل أن يجيب بعدهما بالإقرار، و الإقرار المستند إلي أمثال الضرب و الإهانة لا اعتبار به؛ لأنّه ممّا اكرهوا عليه.

فمقدّمية الضرب أو التهديد للمطلوب لو فرض أنّه ينجرّ إليه غير معلومة، و المسلّم من موارد الجواز ما إذا كانت مقدّميته مفروضة، و

إلّا فهو داخل في عموم حرمة إيذاء الغير و التعدّي عليه، هذا.

و يمكن أن يقال: إنّ حكم الحاكم غير موقوف علي جواب المدّعي عليه حتّي يكون واجباً عليه، و يجب علي الحاكم أمره به من باب الأمر بالمعروف.

و ذلك أنّ المستفاد من الأخبار: أنّه إذا ادّعي الرجل و لا بيّنة له فله أن يستحلف المدّعي عليه؛ ففي صحيح محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام في الرجل يدّعي و لا بيّنة له؟ قال

يستحلفه، فإن ردّ اليمين علي صاحب الحقّ فلم يحلف فلا حقّ له «1»

، فموضوع الاستحلاف كما تري أن يدّعي الرجل و لا يكون له بيّنة، و لم يؤخذ فيه إنكار المدّعي عليه. فبمجرّد

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 241، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 255

فإن أصرّ عليه فالأحوط أن يقول الحاكم له: أجب و إلّا جعلتك ناكلًا (3).

______________________________

أن لا يكون له بيّنة فله أن يستحلف المدّعي عليه، فإن حلف أو ردّ اليمين فهو، و إلّا يحكم عليه بمجرّد النكول، أو يردّ القاضي اليمين علي المدّعي، علي ما عرفت من القولين.

و مثل هذه الصحيحة معتبر عبيد بن زرارة و مرسل يونس و مرسل أبان «1»، بل و خبر عبد الرحمن البصري «2» و غيرها، فراجع.

(3) و لعلّ وجه لزوم هذا القول هو ما مرّ من أنّه يجب علي الحاكم هداية المتخاصمين إلي ما هو وظيفتهما. فهاهنا حيث يحكم علي المدّعي عليه بحكم النكول فيجب عليه أن يقال له أوّلًا ذلك ليكون علي بصيرة بما هو وظيفته في هذا المجلس.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ هذا الوجه إنّما يقتضي وجوب هذا القول له في خصوص مورد جهله

بالوظيفة، و عبارة المتن و الفتاوي مطلقة من هذه الجهة.

فلعلّ وجه وجوبه وقوعه في عبارات جمع من الفقهاء، و الوجوب خلاف القواعد، و وقوع أمر علي خلاف القواعد في كلمات الأصحاب شاهد

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 241، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 2 و 4 و 5.

(2) وسائل الشيعة 27: 236، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 4، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 256

و الأولي التكرار ثلاثاً، فإن أصر ردّ الحاكم اليمين علي المدّعي (4) فإن حلف ثبت حقّه.

______________________________

علي أنّهم وصلوا في فتواهم به علي مدرك معتبر؛ لا سيّما و عن الشيخ في «مبسوطه»: أنّه الذي يقتضيه مذهبنا، و عن الحلّي في «السرائر»: أنّه الصحيح من مذهبنا و أقوال أصحابنا و ما يقتضيه المذهب.

و التحقيق: أنّه يحتمل أن يكون مستندهم ما عرفت من وجوب هداية المتخاصمين إلي وظيفتهم، لا أنّه واجب تعبّدي آخر، فلا حجّة في فتواهم.

(4) هذا مبنيّ علي عدم القضاء بمجرّد النكول، بل يجب ردّ الحاكم اليمين علي المدّعي. و قد عرفت تفصيل القول فيه و ما هو الحقّ في المسألة السابعة من مسائل الجواب بالإنكار من الكتاب، فتذكّر.

ثمّ إنّك تعرف ممّا ذكرناه و حقّقناه: أنّ الحقّ في المسألة أنّه إذا سكت المدّعي عليه فللمدّعي أن يستحلفه، فإن حلف أو ردّ اليمين فهو، و إلّا رتّب عليه حكم الناكل.

لكنّه إنّما يصحّ إذا علم أنّه يدري الواقع أنّه هل عليه أو عنده حقّ للمدّعي أم لا؟ و أمّا إذا احتمل جهله فبناءً علي ما يأتي في بيان حكم الجواب ب «لا أدري» من الجاهل غير مشمول لأدلّة الاستحلاف، فإذا احتمل جهله فشمول دليل الاستحلاف له غير معلوم؛ إذ

هو من قبيل الشبهة المصداقية للعامّ، و ليس العامّ حجّة فيها.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 257

[مسألة 2 لو سكت لعذر من صمم أو خرس أو جهل باللسان]

مسألة 2 لو سكت لعذر من صمم أو خرس أو جهل باللسان، توصّل إلي معرفة جوابه (5) بالإشارة المفهمة أو المترجم، و لا بدّ من كونه اثنين عدلين (6) و لا يكفي العدل الواحد.

[مسألة 3 إذا ادّعي العذر و استمهل في التأخير أمهله الحاكم]

مسألة 3 إذا ادّعي العذر و استمهل في التأخير أمهله الحاكم (7) بما يراه مصلحة.

______________________________

و فيه: لا يبعد أن تصل النوبة إلي وجوب الجواب عليه و إلي وجوب أمره به بالرفق ثمّ بالشدّة علي حسب مراتب الأمر بالمعروف، فإن أجاب، و إلّا فإجراء حكم النكول عليه مشكل.

ثمّ إنّ هذا كلّه كما عرفت الإشارة إليه في أثناء البحث إنّما هو فيما لم يكن للمدّعي بيّنة و لم يقم عند القاضي قرائن و شواهد قطعية علي صدق المدّعي، و إلّا فيحكم له بمقتضي البيّنة أو علم الحاكم.

(5) فإنّ معرفة جوابه حينئذٍ واجبة؛ فإنّ جوابه دفاع عن نفسه، و الدفاع عن دعوي المدّعي من مقدّمات مجلس القضاء و كيفية التحقيق و الحكم عرفاً. و العدول عنه غير صحيح شرعاً بعد معلومية أن لا طريق خاصّ للشارع في كيفية التحقيق و مجلس القضاء، و إن كان الفاصل هو البيّنة و اليمين. فإذا وجبت معرفة جوابه توصّل إليه بأيّة وسيلة ممكنة.

(6) بناءً علي أنّ كلّا من الموضوعات التي لها دخل في القضاء لا يثبت شرعاً إلّا بشهادة عدلين، و قد مرّ تفصيل القول فيه في المسألة التاسعة من مسائل أوّل الكتاب، فراجع.

(7) فإنّ الإمهال حينئذٍ من مراتب حقّ الدفاع للمدّعي عليه؛

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 258

[مسألة 4 لو أجاب المدّعي عليه بقوله: «لا أدري»]

مسألة 4 لو أجاب المدّعي عليه بقوله: «لا أدري» فإن صدّقه المدّعي فهل تسقط دعواه مع عدم البيّنة عليها (8)،

______________________________

فله أن يدافع عن نفسه قبال دعوي المدّعي بما يكون متعارفاً، و لا يوجب تضييع حقّ المدّعي و غيره، و تشخيص ذلك إلي الحاكم، و هو المصلحة التي يراعيها في الإذن بالتأخير.

(8) لا ريب في أنّه إذا أقام البيّنة علي مدّعاه يثبت

بها دعواه و يحكم الحاكم علي طبق البيّنة؛ سواء صدّقه المدّعي علي قوله: «لا أدري» أم لا. و الاحتمالات الأربعة المذكورة مفروضة في صورة عدم إقامة البيّنة.

و بالجملة: فوجه سقوط دعواه بالمرّة و عدم قابليتها للطرح و التعقيب بعداً، أنّه لمّا كان المفروض أنّ المدّعي عليه لا يدري بثبوت حقّ عنده، و المدّعي يصدّقه علي ذلك و يقرّ به، فالمدّعي معترف بأنّ وظيفة المدّعي عليه و تكليفه هو الرجوع إلي القواعد الشرعية من أصل البراءة و استصحابها و حجّية يده الثابتة علي ما عنده من الأعيان المتعلّقة لدعواه فمع كون تكليفه ذلك و اعتراف خصمه به فلا وجه لبقاء دعواه.

و لكنّه مبني أوّلًا علي عدم طريق شرعاً لفصل هذه الدعوي و حسمها، كما ليس ببعيد.

و يرد عليه ثانياً: أنّ اعترافه بأنّ وظيفته العملية ذلك لا تنافي اعتقاده بأنّ الواقع خلاف مفاد هذه الأُصول العملية، و لا انفتاح الطريق له لإقامة الدعوي إذا أنكر المدّعي عليه أو تمكّن المدّعي من إقامة البيّنة.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 259

أو يكلّف المدّعي عليه بردّ الحلف علي المدّعي (9). أو يردّ الحاكم الحلف علي المدّعي (10) فإن حلف ثبت حقّه، و إن نكل سقط، أو توقّفت الدعوي؛ و المدّعي علي ادّعائه إلي أن يقيم البيّنة، أو أنكر دعوي المدّعي عليه؟

______________________________

(9) لأنّ الأدلّة الدالّة علي توجّه الحلف علي المنكر أكثرها واردة علي عنوان المدّعي أو المدّعي عليه إذا لم يكن بيّنة، كما عرفت ذيل البحث عن سكوت المدّعي عليه.

و المدّعي عليه مخيّر بين حلفه بنفسه و ردّ الحلف علي المدّعي، فإذا امتنع أحد شقّي الترديد لتوقّف اليمين علي الاعتقاد البتّي المفروض عدمه تعيّن الشقّ الآخر، كما هو الأصل

في كلّ واجب تخييري تعذّر إلّا شقّ واحد منه؛ و عليه فلا محالة يكلّف المدّعي عليه بالعمل بما يجب عليه من ردّ اليمين علي المدّعي.

لكنّه مبني أوّلًا علي تمامية دلالة الأخبار علي الوجوب التخييري المزبور، و سيأتي منعها.

و ثانياً علي عدم القضاء بنكول المدّعي عليه من الحلف و الردّ و عدم القول بأنّ الحاكم يردّ اليمين حينئذٍ علي المدّعي عليه، و قد مرّ الكلام فيها مفصّلًا.

(10) هذا الاحتمال مبنيّ علي ما مرّ في المسألة السابعة من مسائل الجواب بالإنكار من أنّ الحاكم يقوم مقام المنكر في ردّ اليمين علي المدّعي، كما أنّه مبني أيضاً علي ما ابتني عليه الاحتمال السابق؛ من كون موضوع

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 260

وجوه، أوجهها الأخير (11).

______________________________

توجّه اليمين أن يدّعي المدّعي و لا بيّنة له. و سيأتي منع المبني الثاني، و قد عرفت منع المبني الأوّل أيضاً.

فمنه تعرف: أنّه مع قطع النظر عمّا سيجي ء يكون المتّجه القضاء عليه بنكوله عن ردّ اليمين علي المدّعي، و هذا احتمال خامس لم يتعرّض له المتن.

(11) أوجهيته مبني علي عدم شمول أدلّة الاستحلاف و ردّ اليمين لما نحن فيه، و إلّا كان الأوجه هو الحكم بالنكول أو ردّ الحاكم اليمين علي المدّعي، علي القولين.

و عدم شمولها موقوف علي أمرين:

الأوّل: أنّ ظاهر الأخبار أنّ متعلّق الحلف الصادر من المدّعي عليه نفي ما يدّعيه المدّعي الذي يلازم دعوي القطع بالعدم، و لا يجتمع مع الاعتراف بأنّه لا يدري و يحتمل الثبوت.

و وجه هذا الظهور مضافاً إلي تبادره من اليمين الواقعة في الأخبار، بحيث لا يشكّ أحد أنّ قوله عليه السلام في صحيح ابن مسلم مثلًا، في الرجل يدّعي و لا بيّنة له

يستحلفه «1»

، يراد

به استحلافه علي أن لا حقّ له قبله التصريح بذلك في بيان كيفية حلف الأخرس.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 241، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 261

______________________________

مع أنّ المذكور في موضوعها

إنّ أمير المؤمنين عليه السلام اتي بأخرس، فادّعي عليه دين و لم يكن للمدّعي بيّنة

، فمورد بيان كيفية حلفه بعينه موضوع تلك الأخبار التي ادّعي شمولها لمورد الجواب ب «لا أدري». فأمير المؤمنين عليه السلام بيّن في هذا الموضوع أنّ كيفية حلف الأخرس أن يكتب

و اللّٰه الذي لا إله إلّا هو. إنّ فلان بن فلان المدّعي ليس له قبل فلان بن فلان أعني الأخرس حقّ و لا طلبة بوجه من الوجوه «1»

، فهو شاهد واضح علي أنّ الحلف لا بدّ و أن يكون من المدّعي عليه بنفي ما يدّعيه المدّعي، الملازم للقطع بانتفائه.

الأمر الثاني: أنّه و إن كان قد يتوهّم إطلاق خبر الاستحلاف و شموله لما إذا أجاب بقوله «لا أدري» بملاحظة: أنّ الموضوع له أن يدّعي الرجل و لا بيّنة له، كما في صحيح ابن مسلم و معتبر عبيد بن زرارة و غيرهما علي ما مرّ. أو أنّ موضوعه المدّعي عليه، كما في خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه

فإن ادّعي بلا بيّنة فلا حقّ له؛ لأنّ المدّعي عليه ليس بحيّ، و لو كان حيّاً لأُلزم اليمين أو الحقّ أو يردّ اليمين عليه «2».

فتري: أنّ الموضوع هو المدّعي عليه الحيّ، و أنّه ملزم بأحد أُمور ثلاثة: الحلف، و ردّه علي المدّعي، و أداء الحقّ إليه. و لازم هذا الإطلاق: إمّا

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 302، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 33، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة

27: 236، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 4، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 262

______________________________

القضاء بمجرّد النكول، أو ردّ الحاكم اليمين علي المدّعي، علي القولين المذكورين في المسألة السابعة من مسائل الجواب بالإنكار.

إلّا أنّ التحقيق منع شمول الإطلاق لما نحن فيه؛ و ذلك أنّ حلف المدّعي عليه لمّا كان علي نفي دعوي المدّعي كما عرفت فلا محالة إنّما يتصوّر منه الحلف إذا أظهر القطع بانتفاء دعواه، فإذا أظهر و صرّح بأنّه لا يدري الواقع فلا يمكنه الإقدام علي الحلف علي نفيه، فلا محالة يكون الاستحلاف و التكليف بالحلف منصرفاً عن مثله ممّن لا يتمكّن من الحلف.

ثمّ حلف المدّعي معنون بأنّه ردّ عليه من المدّعي عليه، و أنّها يمين مردودة، و الردّ مسبوق بالتوجّه أوّلًا إلي رادّه.

فتصوير الأمر: أنّ الحلف الذي لا بدّ أن يحلفه المدّعي عليه قد ردّ منه إلي المدّعي، فإذا كان المفروض عدم توجّه الحلف إلي المدّعي عليه لعدم تمكّنه منه فلا يتصوّر هناك ردّه إلي غيره. فمورد عدم التمكّن خارج بالانصراف عن إطلاق تلك الأخبار في حلف المدّعي عليه بنفسه، و في ردّ الحلف إلي المدّعي.

فلا يمكن المصير إلي القضاء بالنكول و لا القضاء بردّ الحاكم اليمين علي المدّعي، و قد عرفت ضعف الوجوه الأُخر، و أن لا وجه حينئذٍ لسقوط دعواه؛ فتبقي الدعوي بحالها كلّما أقام بيّنة علي دعواه أو تحوّل المدّعي عليه و صار منكراً حكم القاضي بمقتضي البيّنة أو بمقتضي توجيه اليمين علي المدّعي عليه، كما في الموارد الأُخر.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 263

و إن لم يصدّقه المدّعي في الفرض؛ و ادّعي أنّه عالم بأنّي ذو حقّ، فله عليه الحلف (12) فإن

حلف سقطت دعواه بأنّه عالم، و إن ردّ علي المدّعي فحلف ثبت حقّه.

[مسألة 5 حلف المدّعي عليه بأنّه لا يدري يسقط دعوي الدراية]

مسألة 5 حلف المدّعي عليه بأنّه لا يدري يسقط دعوي الدراية (13)، فلا تسمع دعوي المدّعي و لا البيّنة منه عليها، و أمّا حقّه الواقعي فلا يسقط به، و لو أراد إقامة البيّنة عليه تقبل منه، بل له المقاصّة بمقدار حقّه.

______________________________

(12) فإنّ هذه دعوي أُخري يدّعي المدّعي فيها علم المدّعي عليه بالواقع، و هو ينكره و يقول: إنّي لا أدري، فهو منكر؛ إمّا يحلف علي إنكاره، أو يردّ الحلف علي المدّعي، فإن حلف علي إنكاره فلا محالة يقضي القاضي بأنّه لا يدري و يترتّب عليه آثار صورة تصديق قوله: «لا أدري». و إن حلف المدّعي علي أنّه يدري فلا محالة يقضي القاضي بأنّه يدري؛ فعليه أن يحلف علي نفي دعوي المدّعي أو يردّ اليمين عليه. و مع النكول يقضي عليه بالنكول أو يردّ الحاكم اليمين علي المدّعي، علي ما عرفت من القولين.

(13) فإنّه إذا حلف المدّعي عليه علي عدم الدراية و قضي به الحاكم، فلا بدّ و أن يقبل منه هذا الحكم كما في سائر الأحكام و يكون مشمول قوله عليه السلام في صحيح ابن أبي يعفور

إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه فحلف أن لا حقّ له قبله ذهبت اليمين بحقّ المدّعي، فلا دعوي له «1»

؛ و ذلك أنّ المراد بالحقّ هو ما يدّعيه المدّعي ممّا له نحو

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 244، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 9، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 264

نعم لو كانت الدعوي متعلّقة بعين في يده منتقلة إليه من ذي يد، و قلنا يجوز له الحلف استناداً إلي اليد علي

الواقع فحلف عليه، سقطت الدعوي و ذهب الحلف بحقّه (14) و لا تسمع بيّنة منه، و لا يجوز له المقاصّة.

______________________________

تعلّق به و انتفاع منه؛ فيعمّ الدراية المدّعاة هنا، التي ينتفع بها بتوجيه الحلف علي المدّعي عليه.

و لو سلّم عدم شمول لفظه له فلا ريب في إلغاء الخصوصية قطعاً و انفهام أنّ خاصّة اليمين التي استحلفه المدّعي أنّ بها تختتم الدعوي، و لا يمكن طرحها و عرضها ثانياً، فيسقط دعوي الدراية، و لا تكون بعد مسموعة حتّي يفيده إقامة البيّنة، كما في الدعاوي الأُخري.

لكن سقوط هذه الدعوي لا معني له إلّا أنّه محكوم بعدم الدراية و أنّه يجب ترتيب آثار عدم الدراية، و من المعلوم: أنّه ليس من آثاره عدم اشتغال ذمّته بالمدّعي به واقعاً، بل لو كانت مشغولة به واقعاً بقيت ما هي عليها. فللمدّعي إذا كان قاطعاً بأنّ له علي ذمّته ديناً أن يقاصّه مع رعاية الشرائط الأُخر.

و هذا هو ما أفاده بقوله: «بل له المقاصّة بمقدار حقّه»، كما أنّه حيث لم يحكم بعدم اشتغال ذمّته فهو في فسحة بعد، من طرح الدعوي بالنسبة إلي اشتغال الذمّة و إقامة البيّنة عليها، كما أفاده في المتن.

(14) فإنّ دعوي مالكية العين الواقعة في يد المدّعي عليه و إن قارنت إظهار عدم دراية المدّعي عليه بالملكية الواقعية لمن انتقلت منه إليه، إلّا

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 265

[مسألة 6 لو أجاب المدّعي عليه بقوله: «ليس لي، و هو لغيرك»]

مسألة 6 لو أجاب المدّعي عليه بقوله: «ليس لي، و هو لغيرك» فإن أقرّ لحاضر و صدّقه الحاضر كان هو المدّعي عليه (15)، فحينئذٍ له إقامة الدعوي علي المقرّ له، فإن تمّت و صار ماله إليه فهو، و إلّا له الدعوي علي المقرّ بأنّه صار سبباً للغرامة،

و له البدأة بالدعوي علي المقرّ، فإن ثبت حقّه أخذ الغرامة منه، و له حينئذٍ الدعوي علي المقرّ له لأخذ (16) عين ماله،

______________________________

أنّه لمّا جاز له الحلف علي ملكية نفسه و هي متعلّق الدعوي و حلف عليها و قضي بها القاضي، فلا محالة يثبت ملكيته، و لا يبقي محلّ بعداً لدعوي المدّعي، بل اليمين قد ذهبت بحقّه و لا دعوي له، كما عرفت.

(15) فإنّ ذا اليد معترف بأنّه ليس له، فهو أجنبي في دعوي الملكية. لكن لمّا كانت يده واقعة علي هذا العين فإن ثبت أنّها لغير هذا الغير و أنّها للمدّعي فيكون ذو اليد ضامناً لما في يده، مكلّفاً بردّه إلي المالك، و ردّ بدله مع التلف، و ردّ بدل حيلولته في مورده؛ فلذلك يمكن إقامة الدعوي علي ذي اليد، و هذا هو معني قوله دام ظلّه: «و له البدأة بالدعوي علي المقرّ»، و بعد إثبات أنّها له فله أن يكلّفه بردّه، و أن يأخذ منه الغرامة أو بدل الحيلولة، و إن كان استقرار الضمان علي من تلف عنده، كما أنّ بدل الحيلولة يردّ بعد الظفر بالمبدل منه.

(16) فإنّ البدل الذي عنده بدل حيلولة لا يسقط حقّه عن خصوصية عين ماله، فله إقامة الدعوي علي المقرّ له لأخذ عين ماله.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 266

فإن ثبتت دعواه عليه ردّ غرامة المقرّ (17) و إن أقرّ لغائب يلحقه حكم الدعوي علي الغائب (18)، و إن قال: «إنّه مجهول المالك و أمره إلي الحاكم» فإن قلنا: إنّ دعوي مدّعي الملكية تقبل إذ لا معارض له (19) يردّ إليه،

______________________________

(17) فإنّ الغرامة كانت بدل حيلولة، و إذا ظفر بالمبدل منه فقد ظفر بمالية ماله و

خصوصية عينه، فليس له أن يحبس الغرامة التي كانت عوض المالية التي ظفر بها، و ليس له إلّا مالية واحدة، فلا محالة يردّ البدل إلي صاحبه الأوّل، كما في جميع موارد بدل الحيلولة.

(18) فيأخذ ماله أو عوضه إذا أقام البيّنة عليه و هو غائب، و لكنّه علي حجّته إذا قدم علي ما مرّ تفصيله ذيل المسألة الخامسة من مسائل شروط سماع الدعوي من الكتاب.

(19) و وجه قبول دعواه حينئذٍ هو خبر الكيس الذي رواه منصور بن حازم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: قلت: عشرة كانوا جلوساً وسطهم كيس فيه ألف درهم، فسأل بعضهم بعضاً: أ لكم هذا الكيس؟ فقالوا كلّهم: لا، و قال واحد منهم: هو لي، فلمن هو؟ قال

للّذي ادّعاه «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 273، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 17، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 267

و إلّا فعليه البيّنة (20)، و مع عدمها لا يبعد إرجاع الحاكم الحلف عليه (21)،

______________________________

ببيان: أنّ المورد لم يكن له مدّعٍ سوي ذلك الواحد، و قد علّق الحكم بأنّه له علي عنوان «الذي ادّعاه»، فلا بعد في انفهام حكم كلّي منه؛ بأنّ كلّ من ادّعي شيئاً لم يدّعه غيره فهو للّذي ادّعاه.

لكن فيه: أنّ مورد الحديث هو الكيس الواقع وسطهم، فهو لم يكن خارجاً عن أيدي جميعهم، بل كانت أيدي الجميع واقعة عليه، فإذا نفاه الجميع عن أنفسهم و بقي واحد ادّعاه، فقد ادّعاه من يده عليه؛ فيدلّ الخبر علي أنّ دعوي ذي اليد لملكية ما يكون تحت يده مسموعة، و لا عموم له لغيره.

(20) فإنّه بالبيّنة يعلم مالكه و يخرج عن كونه مجهول المالك.

(21) لأنّ الحاكم ولي أمر مجهول المالك،

فكأنّه طرف هذه الدعوي، و إن لم يتمكّن من الحلف علي بطلان دعوي المدّعي لجهله بالحال إلّا أنّه يختار ردّ اليمين علي المدّعي، كما يكون ذلك لكلّ مدّعي عليه.

لكنّه ممنوع علي ما عرفت في المسألة الرابعة.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ الحاكم ولي المالك الغائب بالنسبة إلي ملكه؛ فكما أنّ للمالك ردّ اليمين علي المدّعي، فهكذا الحاكم. فيردّ الحاكم اليمين ولايةً علي المالك الغائب الغير المعلوم، فإذا حلف فلا محالة يحكم له به و يخرج بحكمه عن كونه مجهول المالك.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 268

و إن قال: «إنّه ليس لك بل وقف» فإن ادّعي التولية ترتفع الخصومة بالنسبة إلي نفسه (22) و تتوجّه إليه لكونه مدّعي التولية، فإن توجّه الحلف إليه و قلنا بجواز حلف المتولّي (23) فحلف سقطت الدعوي، و إن نفي عن نفسه التولية فأمره إلي الحاكم (24) و كذا لو قال المدّعي عليه: «إنّه لصبي أو مجنون» و نفي الولاية عن نفسه (25).

______________________________

(22) يعني: بما أنّه مدّعٍ لملكية ما في يده. و إن توجّهت إليه بما أنّه مدّعٍ لتولية ما في يده، فيده حجّة و أمارة علي ما يدّعيه من ملكية أو تولية لما في يده؛ فإنّ اليد أمارة تحقّق العنوان الذي به يتصرّف ذو اليد فيما بيده، فإذا ادّعاه أحد من الخارج كان ذو اليد طرف الدعوي، فإن أقام بيّنة ثبت دعواه بالبيّنة، و إلّا توجّه الحلف علي ذي اليد.

(23) سيأتي البحث عنه إن شاء اللّٰه في المسألة الثانية عشر من مسائل أحكام الحلف.

(24) فيأتي فيه ما مرّ في مجهول المالك؛ إذ الحاكم ولي الموقوف عليهم و بمنزلة المتولّي الخاصّ أيضاً. لكنّه إنّما يتمّ في الوقف العامّ إذا لم

يكن له متولّ منصوص.

(25) ظاهر قوله: «و كذا.» إلي آخره، أنّ أمره إلي الحاكم، مع أنّ لازم الإقرار للصبي و المجنون أنّ أمره إلي وليهما.

اللهمّ إلّا أن يكون التنظير بلحاظ كون الطرف وليهما، كما كان الطرف

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 269

[مسألة 7 لو أجاب المدّعي عليه: بأنّ المدّعي أبرأ ذمّتي]

مسألة 7 لو أجاب المدّعي عليه: بأنّ المدّعي أبرأ ذمّتي أو أخذ المدّعي به منّي أو وهبني أو باعني أو صالحني و نحو ذلك، انقلبت الدعوي (26) و صار المدّعي عليه مدّعياً و المدّعي منكراً، و الكلام في هذه الدعوي علي ما تقدّم.

______________________________

في سابقه متولّي الوقف. فوليهما أيّاً من كان طرف لهذا النزاع، يجي ء فيه ما يتصوّر في ذي اليد الابتدائي من الأقسام المتصوّرة في الجواب، و لكلّ حكم يخصّه علي ما مرّ.

(26) فإنّ كلّا من التعابير المذكورة إقرار بأنّ ما في يده كان ملكاً للمدّعي أو أنّ ذمّته كانت مشغولة بماله؛ فقد كان مالكاً، ثمّ إنّه يدّعي خروجه عن ملكية مالكه بأحد الوجوه المذكورة، فهو حينئذٍ مدّعٍ و الطرف منكر، و هذه الدعوي أيضاً مثل سائر الدعاوي، و الكلام فيها أيضاً علي ما تقدّم.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 271

[القول في أحكام الحلف]

اشارة

القول في أحكام الحلف

[مسألة 1 لا يصحّ الحلف و لا يترتّب عليه أثر من إسقاط حقّ أو إثباته]

مسألة 1 لا يصحّ الحلف و لا يترتّب عليه أثر من إسقاط حقّ أو إثباته إلّا أن يكون باللّٰه تعالي (1) أو بأسمائه الخاصّة به تعالي كالرحمان و القديم و الأوّل الذي ليس قبله شي ء، و كذا الأوصاف المشتركة المنصرفة إليه تعالي كالرازق و الخالق،

______________________________

(1) لا شكّ في أنّ الأصل عدم نفوذ القضاء إلّا فيما قام دليل علي نفوذه، و لا إطلاق لمثل قولهم عليهم السلام

اليمين علي من أنكر

؛ فإنّه في مقام بيان من يجب عليه اليمين المعهودة في باب القضاء، لا في مقام بيان كيفية هذه اليمين. فلو لم يقم دليل خاصّ علي الاكتفاء باليمين بغيره تعالي لكان مقتضي الأصل عدم الاكتفاء.

ثمّ إنّ ما يمكن الاستدلال به لوجوب أن يكون الحلف باللّٰه تعالي وجوه ثلاثة و طوائف ثلاث من الأخبار:

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 272

______________________________

الوجه الأوّل: ما ورد في بيان كيفية القضاء بالحلف، فبيّنها أنّه باللّٰه تعالي، و هي أخبار كثيرة:

منها: صحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

في كتاب علي عليه السلام: إنّ نبياً من الأنبياء شكا إلي ربّه، فقال: يا ربّ كيف أقضي فيما لم أر و لم أشهد؟ قال: فأوحي اللّٰه إليه: احكم بينهم بكتابي و أضفهم إلي اسمي فحلّفهم (تحلّفهم خ. ل) به، و قال: هذا لمن لم تقم له بيّنة «1».

و معلوم: أنّ الحديث في مقام تعليم كيفية القضاء بالحلف، لا في مقام حكاية شريعة ذلك النبي. و يشهد له مضافاً إلي ظهوره بنفسه أنّه عليه السلام زاد عليه قوله

هذا لمن لم تقم له بيّنة

، فقوله «هذا» الوارد في مقام بيان مورد اعتبار الحلف في باب القضاء، شاهد قوي

علي أنّه عليه السلام بصدد تعليم كيفية القضاء بالحلف.

و بالجملة: فقد أمر اللّٰه تعالي أن يحلف الناس في القضاء باسمه تعالي.

و منها: صحيحة ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه فحلف أن لا حقّ له قبله ذهبت اليمين بحقّ المدّعي، فلا دعوي له

، قلت له: و إن كانت عليه بيّنة عادلة؟ قال

نعم، و إن أقام بعد ما استحلفه باللّٰه خمسين قسامة ما كان له. «1»

الحديث.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 229، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 1، الحديث 1.

(1) وسائل الشيعة 27: 244، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 9، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 273

______________________________

فإنّه عليه السلام قد ذكر أوّلًا في صدر الحديث اليمين و الاستحلاف و الحلف بقول مطلق، ثمّ أوضحه في الذيل بقوله عليه السلام

استحلفه باللّٰه

، فيعلم منه: أنّ المراد باليمين في الصدر و المتداول و المعتبر منها في باب القضاء هو ما كانت باللّٰه تعالي.

و مثلهما غيرهما، كمعتبر عبد الرحمن «1»، و صحيح محمّد بن مسلم الوارد في بيان حلف الأخرس «2»، و صحيح الحلبي «3».

الوجه الثاني: ما دلّ علي أنّ إحلاف الغير و استحلافه لا بدّ و أن يكون باللّٰه تعالي، و أظهر موارد الاستحلاف أن يكون في مقام القضاء.

ففي موثّق سماعة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألته هل يصلح لأحد أن يحلف أحداً من اليهود و النصاري و المجوس بآلهتهم؟ قال

لا يصلح لأحد أن يحلف أحداً إلّا باللّٰه عزّ و جلّ «4».

و نفي الصلاح المطلق مساوق لعدم الجواز، و هو المطلوب.

و في صحيح سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

لا يحلف

اليهودي و لا النصراني و لا المجوسي بغير اللّٰه، إنّ اللّٰه عزّ و جلّ يقول:

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 236، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 4، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 302، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 33، الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة 27: 271، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 15، الحديث 3.

(4) وسائل الشيعة 23: 267، كتاب الأيمان، الباب 32، الحديث 5.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 274

______________________________

فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ «1».

فلفظ

لا يحلف

في صدر الحديث و إن احتمل ابتداءً أن يكون بفتح الياء ثلاثياً مجرّداً معلوماً غير مختصّ بباب الإحلاف و القضاء، إلّا أنّ تعليله في الذيل بقوله عليه السلام

إنّ اللّٰه.

إلي آخره شاهد علي أنّ المراد بالصدر، الحلف الذي يعتمد عليه في باب الحكم و القضاء، و أنّ إلزامهم في بابه بالحلف باللّٰه تعالي لمكان أنّه ممّا أنزل اللّٰه؛ فلا بدّ و أن يكون حلف القضاء باللّٰه تعالي حتّي يكون الحكم حكماً بما أنزل اللّٰه تعالي، و نحوهما غيرهما، فراجع «الوسائل» الباب 32 من كتاب الأيمان «2».

الوجه الثالث: ما دلّ علي أن ليس لأحد أن يحلف بغير اللّٰه تعالي:

ففي صحيح محمّد بن مسلم قلت لأبي جعفر عليه السلام: قول اللّٰه عزّ و جلّ وَ اللَّيْلِ إِذٰا يَغْشيٰ- وَ النَّجْمِ إِذٰا هَويٰ و ما أشبه ذلك؟ فقال

إنّ للّٰه عزّ و جلّ أن يقسم من خلقه بما شاء، و ليس لخلقه أن يقسموا إلّا به «3».

و نحوه صحيح ابن مهزيار عن أبي جعفر الثاني «4».

و في صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

لا أري للرجل أن يحلف إلّا باللّٰه، فأمّا قول الرجل: لا أب لشانيك فإنّه قول أهل الجاهلية،

______________________________

(1) وسائل

الشيعة 23: 265، كتاب الأيمان، الباب 32، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 23: 265، كتاب الأيمان، الباب 32.

(3) وسائل الشيعة 23: 259، كتاب الأيمان، الباب 30، الحديث 3.

(4) وسائل الشيعة 23: 259، كتاب الأيمان، الباب 30، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 275

بل الأوصاف غير المنصرفة إذا ضمّ إليها ما يجعلها مختصّة به (2) و الأحوط عدم الاكتفاء بالأخير، و أحوط منه عدم الاكتفاء بغير الجلالة، و لا يصحّ بغيره تعالي كالأنبياء و الأوصياء و الكتب المنزلة و الأماكن المقدّسة كالكعبة و غيرها.

______________________________

و لو حلف الرجل بهذا و أشباهه لترك الحلف باللّٰه.

الحديث «1». فقوله عليه السلام

لا أري له

عبارة أُخري من عدم الإفتاء بالجواز و عدم جواز أن يحلف الرجل بغيره تعالي.

فهذه الصحاح ظاهرة في حرمة الحلف بغير اللّٰه و بخلقه تعالي، عامّة لجميع موارد الحلف في باب القضاء و غيره. و النظر فيها إلي أنّ غيره تعالي لا يليق بأن يحلف به؛ سواء في ذلك باب القضاء و غيره.

لكنّه قد وردت أخبار أُخر دالّة علي جواز الحلف بغيره تعالي، فتحمل علي الكراهة. و سيأتي إن شاء اللّٰه تعالي تمام الكلام في المسألة الرابعة الآتية.

و الوجهان الأوّلان كافيان في إثبات المطلوب، و لا معارض لهما؛ و لا سيّما لأوّلهما، فتدبّر.

(2) و ذلك أنّ المستفاد من الأدلّة الماضية وجوب أن يكون الحلف باللّٰه تعالي، و لا يفهم منه إلّا أن يكون المقسم به تلك الذات المقدّسة

______________________________

(1) وسائل الشيعة 23: 260، كتاب الأيمان، الباب 30، الحديث 4.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 276

______________________________

الشخصية، و ليست هذه الأدلّة إلّا بصدد بيان أن يكون هو تعالي المحلوف به و المقسم به، و هي مطلقة من ناحية

التعبير الذي يعبّر به عنه تعالي، فكلّ لفظ دلّ عليه و حكي عنه تعالي كفي.

و السرّ: أنّ الحلف و الإقسام معني اعتباري إنشائي يتعلّق بواقع المقسم به، و الألفاظ حاكيات لا شأن لها إلّا هذا. فكما يصحّ إنشاء البيع و التعبير عن العوض و المعوّض بكلّ لفظ يفهم منه عرفاً ذلك المعني الإنشائي أو متعلّقه، فكذلك هنا حرفاً بحرف.

إن قلت: إنّ ما ذكر صحيح في غير صحيح سليمان بن خالد. و أمّا فيه فلا؛ إذ فيه أنّه تعالي أوحي إلي ذلك النبي

أضفهم إلي اسمي، فحلّفهم به

، فلا بدّ و أن يكون الحلف باسمه تعالي، و ليس إلّا لفظة الجلالة؛ فإنّ الاسم يراد به ما كان علماً علي المسمّي، و عَلَم ذاته المقدّسة هو «اللّٰه» لا غير. نعم يصحّ التعميم إلي الأسامي المختصّة به تعالي في غير العربية من اللغات، و أمّا إلي غير الأسامي الأعلام فلا.

قلت أوّلًا: إنّ الاسم لا ظهور له عرفاً إلّا في اللفظ المختصّ بالشي ء، فيعمّ كلّ لفظ مختصّ به و لو كان من قبيل «الرحمن».

و ثانياً: إنّ الاسم يطلق في الكتاب و الحديث إطلاقاً شائعاً علي كلّ لفظ يدلّ علي عنوان أُريد منه انطباقه عليه تعالي، و لو كان غير مختصّ به، فضلًا عن كونه عَلَماً.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 277

______________________________

قال اللّٰه تعالي في سورة الحشر هُوَ اللّٰهُ الَّذِي لٰا إِلٰهَ إِلّٰا هُوَ عٰالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهٰادَةِ هُوَ الرَّحْمٰنُ الرَّحِيمُ. هُوَ اللّٰهُ الَّذِي لٰا إِلٰهَ إِلّٰا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلٰامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبّٰارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحٰانَ اللّٰهِ عَمّٰا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللّٰهُ الْخٰالِقُ الْبٰارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمٰاءُ الْحُسْنيٰ يُسَبِّحُ لَهُ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

«1».

فإنّ ذكر هذه الألفاظ العالية المضامين في الآيات الثلاث و إطلاق معانيها عليه تبارك و تعالي ثمّ تذييلها بقوله تعالي لَهُ الْأَسْمٰاءُ الْحُسْنيٰ يدلّ دلالة واضحة علي أنّ كلّا من هذه الألفاظ بما له من المعني، اسم له تبارك و تعالي، و واضح: أنّ فيما بينها ما لا يختصّ به و لا ينصرف إليه تعالي بنفسه كلفظة «الملك» و «المتكبّر» و «المصوّر» فالمراد بالاسم هو اللفظ الدالّ علي معني هو تعالي مصداق له، و أُريد هو تعالي منه.

بل الاسم عند أهل التحقيق هو ذلك المعني الذي يحكي عن الذات المقدّسة بوجه من الوجوه، و إن كان تمام الجهات فيه تعالي عين ذاته المقدّسة تبارك و تعالي. و الاسم بهذا المعني ليس من مقولة اللفظ حتّي يتفرّع عليه ما مرّ، بل من قبيل المعاني. و حينئذٍ فلا بأس بأن يكون التعبير به بلفظ دون لفظ.

و بالجملة: فالمستفاد من الأخبار الماضية أن يكون الحلف به تعالي، و هي مطلقة من جهة التعبير المعبّر به عنه تعالي. فكما أنّ الحلف بالرسول صلي الله عليه و آله و سلم لا يراد به إلّا أن يكون هو المقسم به من غير اعتبار لفظ خاصّ فكذلك الحلف به و بأسمائه تبارك و تعالي.

______________________________

(1) الحشر (59): 22 24.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 278

[مسألة 2 لا فرق في لزوم الحلف باللّٰه بين أن يكون الحالف و المستحلف مسلمين أو كافرين أو مختلفين]

مسألة 2 لا فرق في لزوم الحلف باللّٰه بين أن يكون الحالف و المستحلف مسلمين أو كافرين أو مختلفين، بل و لا بين كون الكافر ممّن يعتقد باللّٰه أو يجحده (3).

______________________________

و ممّا ذكرنا تعرف وجه أحوطية الاقتصار علي خصوص الأسماء المختصّة أو المنصرفة إليه تعالي، و أنّ أحوط منه هو الاقتصار علي لفظة الجلالة، فتذكّر متدبّراً.

(3)

و ذلك لإطلاق الأدلّة الماضية، بل صراحة الطائفة الثانية منها بالنسبة إلي أهل الكتاب المجوس و اليهود و النصاري، فتذكّر.

و في صحيحة الحلبي: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن أهل الملل يستحلفون؟ فقال

لا تحلّفوهم إلّا باللّٰه عزّ و جلّ «1».

لكن في قبال هذه الإطلاقات، أخبار ربّما يستفاد منها جواز أن يستحلف أهل الكتاب بغير اللّٰه:

منها: صحيح محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: سألته عن الأحكام؟ فقال

في كلّ دين ما يستحلفون (يستحلّون خ. ل) به

، و المنقول عن «الفقيه» في الجواب

تجوز علي كلّ دين بما يستحلفون «2».

ببيان: أنّه عليه السلام حكم بصحّة و جواز الحكم علي صاحب كلّ دين بما

______________________________

(1) وسائل الشيعة 23: 266، كتاب الأيمان، الباب 32، الحديث 3 و 6.

(2) وسائل الشيعة 23: 267، كتاب الأيمان، الباب 32، الحديث 7 و 9.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 279

______________________________

يستحلف به في دينه، و إن كان بغير اللّٰه تعالي.

إلّا أنّك خبير بأنّ السؤال إنّما هو عن «الأحكام»، و لعلّ المراد بها الأحكام الصادرة عن القضاة في كلّ دين بحسب كيفية قضائهم، فأجاب عليه السلام بأنّه يجوز للمسلمين و لكلّ أحد ترتيب الأثر علي قضائهم؛ فإنّ في كلّ دين ما يستحلفون به، و يجوز علي كلّ دين بما يستحلفون. و أمّا أنّهم إذا رافعوا إلي قاضي الإسلام و آل الأمر إلي أن يستحلفوا، فهنا موضوع كلام الصادق عليه السلام في مثل صحيح الحلبي من قوله عليه السلام

لا تحلّفوهم إلّا باللّٰه عزّ و جلّ.

و بالجملة: فليس في السؤال دلالة واضحة علي أنّ المراد السؤال عن كيفية قضاء الإسلام حتّي يكون حاصل الجواب إمضاء جواز إحلاف غير المسلم بما يراه في دينه.

و منها: صحيحة

محمّد بن قيس قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول

قضي علي عليه السلام فيمن استحلف أهل الكتاب بيمين صبر أن يستحلفه بكتابه و ملّته «1».

و الظاهر: أنّ «يمين الصبر» هي اليمين التي يلزم بها الخصم في باب القضاء؛ ففي خبر أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام

إنّ أباه كانت عنده امرأة من الخوارج أظنّه قال: من بني حنيفة فقال له مولي له: يا ابن رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم إنّ عندك امرأة تبرأ عن جدّك، فقضي لأبي أنّه طلّقها، فادّعت

______________________________

(1) وسائل الشيعة 23: 267، كتاب الأيمان، الباب 32، الحديث 8.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 280

______________________________

عليه صداقها، فجاءت به إلي أمير المدينة تستعديه، فقال له أمير المدينة: يا علي إمّا أن تحلف و إمّا تعطيها، فقال لي: يا بنيّ قم فأعطها أربعمائة دينار، فقلت له: يا أبت جعلت فداك أ لست محقّاً؟ قال: بلي يا بنيّ، و لكنّي أجللت اللّٰه أن أحلف به يمين صبر «1».

فتراه عليه السلام عبّر عن مجرّد الحلف الذي أراد منه أمير المدينة بيمين الصبر.

قال في «الوافي»: قال في «النهاية»: هي التي لازمة لصاحبها من جهة الحكم الزم بها و حبس عليها. قال: و أصل «الصبر» الحبس، و يقال لها: اليمين المصبورة أي: المصبور لأجلها؛ فإنّ صاحبها حبس لأجلها، فاضيفت إليها مجازاً، انتهي.

و بالجملة: فظاهر صحيحة محمّد بن قيس: أنّ أهل الكتاب يستحلفون بكتابهم و ملّتهم.

لكنّه مبني علي أن يكون أهل الكتاب منصوباً مفعولًا لقوله: «استحلف»، و إلّا فإن كان مرفوعاً و فاعلًا له فالضمير البارز في قوله: «يستحلفه» كالبارز في قوله: «بكتابه و ملّته» يرجع إلي الموصول المجرور، و يراد به ملّة المستحلف بالكسر

و يكون الصحيحة مؤيّدة و موافقة للأدلّة الماضية.

قال المحقّق الكاشاني في «الوافي»: أقول: و يحتمل أن يكون المجروران

______________________________

(1) وسائل الشيعة 23: 200، كتاب الأيمان، الباب 2، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 281

______________________________

في كتابه و ملّته راجعين إلي من استحلف؛ و لهذا أُتيا بالمفرد دون الجمع، فيوافق الحديث الأخبار المتقدّمة الموافقة للقرآن و الاحتياط، المخالفة لمذاهب العامّة.

و هذا الاحتمال المذكور في كلامه ليس مبنياً علي كون أهل الكتاب مفعولًا، بل هو مفروض علي كونه فاعلًا. و غرضه قدس سره: أنّ «أهل الكتاب» اسم أُريد به الجمع، فكان المناسب لو أُريد «أهل الكتاب» من الضمير أن يقال بكتابهم و ملّتهم. فالإتيان بالضمير المفرد شاهد علي رجوعه إلي المستحلف.

و مراده قدس سره من موافقة الأخبار المتقدّمة للقرآن هو قوله تعالي في آية الإشهاد عي الوصية أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصٰابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمٰا مِنْ بَعْدِ الصَّلٰاةِ فَيُقْسِمٰانِ بِاللّٰهِ. «1».

و بالجملة: فبعد مجي ء هذا الاحتمال لا يصحّ الاستدلال بها في مقابل الأخبار المتقدّمة.

و منها: موثّقة السكوني عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام

إنّ أمير المؤمنين عليه السلام استحلف يهودياً بالتوراة التي أُنزلت علي موسي «2»

، و هو و إن كان قضية خاصّة، إلّا أنّ حكايته في لسان الصادق عليه السلام إنّما هي بغاية إسراء الحكم إلي سائر الموارد.

______________________________

(1) المائدة (5): 106.

(2) وسائل الشيعة 23: 266، كتاب الأيمان، الباب 32، الحديث 4.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 282

______________________________

لكن يحتمل فيها أن يكون الاستحلاف في غير مقام القضاء، هذا.

و إن أبيت في هذه الأخبار إلّا أنّ ظاهرها جواز استحلاف أهل كلّ ملّة بكتابهم و ملّتهم، و أنّ ما ذكرناه في ذيلها

احتمالات ضعيفة غير عرفية، و أنّ مقتضي الجمع العرفي حمل النهي الوارد في معارضها علي الكراهة أو تخصيص عموم النهي بغير ما كان الإحلاف بكتابهم و ملّتهم.

فلا يبعد أن يقال: إنّ هذا الجمع إذا كان عرفياً فعدم اعتناء المشهور به شاهد علي إعراضهم عن هذه الأخبار الخاصّة، و كفي به وهناً.

مضافاً إلي أنّ تعليل النهي عن الإحلاف بغير اللّٰه في صحيح سليمان بن خالد بقوله عليه السلام

إنّ اللّٰه عزّ و جلّ يقول فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ «1»

دليل علي أنّ الإحلاف بغيره تعالي عدول عن الحكم بما أنزل اللّٰه، و مثل هذا التعبير لا يقبل الحمل علي التنزيه، و لأنّ موضوع النهي هو الإحلاف بغير اللّٰه و عدّ هو حكماً بغير ما أنزل اللّٰه. فمع التحفّظ علي هذا الموضوع و العنوان لا يقبل التقييد بغير مورد الأخبار الخاصّة؛ فيتعارضان، و العمومات موافقة للمشهور و مخالفة للعامّة؛ فلا بدّ من العمل بها.

و أمّا حمل الأخبار الخاصّة علي ما إذا رأي الحاكم أنّ إحلاف الذمّي بما يقتضيه دينه أردع كما في متن «الشرائع» فهو جمع تبرّعي غير عرفي مخالف لإطلاقها، و لا شاهد علي تقييده و ارتكاب الجمع به.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 23: 265، كتاب الأيمان، الباب 32، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 283

و لا يجب في إحلاف المجوس ضمّ قوله: «خالق النور و الظلمة» إلي «اللّٰه» (4) و لو رأي الحاكم أنّ إحلاف الذمّي بما يقتضيه دينه أردع هل يجوز الاكتفاء به كالإحلاف بالتوراة التي أُنزلت علي موسي عليه السلام؟ قيل: نعم، و الأشبه عدم الصحّة. و لا بأس بضمّ ما ذكر إلي اسم اللّٰه (5) إذا لم يكن أمراً باطلًا.

______________________________

(4) لإطلاق أدلّة

الإحلاف باللّٰه، و عدم دليل علي لزوم هذه الضميمة. و ما قيل وجهاً للزوم ضمّ هذه الضميمة من أنّ المجوس يسمّي النور إلهاً، فيضمّ إلي هذه اللفظة ما يزيل هذا الاحتمال.

فيه: أنّ لفظة الجلالة لمّا كانت اسماً للذات المقدّسة، فلا محالة يراد بها عند المجوس «أهورامزدا»، و لا يراد بها عندهم «يزدان» خالق النور و الحسنات، و لا «أهرمن» خالق الظلمة و الشرور. بل إذا كان معتقدهم أنّ خالق النور غير خالق الظلمة، فتوصيف اللّٰه بخالق النور و الظلمة لا يفيد، بل هو كاللغو عند الحالف؛ إذ ليس عنده أحد يتّصف بهذين الوصفين، فكأنّه حلف بمن لا واقع له باعتقاده، و هو موجب للجرأة علي الكذب.

(5) لأنّ الملاك هو الحلف به تعالي، و هو حاصل و إن ضمّ إليه غيره. و لا دليل علي المنع عن هذه الضميمة بعد شمول الإطلاقات. نعم إذا كانت الضميمة أمراً باطلًا يحرم تعظيمه و تكريمه كالأصنام فحيث إنّ الإقسام إعظام للمقسم به فلا يجوز ضمّ الضميمة حينئذٍ تكليفاً، و إن لم يضرّ بصحّة الحلف وضعاً.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 284

[مسألة 3 لا يترتّب أثر علي الحلف بغير اللّٰه تعالي]

مسألة 3 لا يترتّب أثر علي الحلف بغير اللّٰه تعالي (6) و إن رضي الخصمان الحلف بغيره، كما أنّه لا أثر لضمّ غير اسم اللّٰه تعالي إليه، فإذا حلف باللّٰه كفي، ضمّ إليه سائر الصفات أولا، كما يكفي الواحد من الأسماء الخاصّة، ضمّ إليه شي ء آخر أو لا (7).

[مسألة 4 لا إشكال في عدم ترتّب أثر علي الحلف بغير اللّٰه تعالي، فهل الحلف بغيره محرّم]

مسألة 4 لا إشكال في عدم ترتّب أثر علي الحلف بغير اللّٰه تعالي، فهل الحلف بغيره محرّم تكليفاً (8) في إثبات أمر أو إبطاله مثلًا، كما هو المتعارف بين الناس؟ الأقوي عدم الحرمة (9)،

______________________________

(6) فإنّ الأثر المقصود من الحلف في باب القضاء هو فصل الخصومة شرعاً بإنشاء الحكم علي طبقه، و قد رتّب هذا الأثر علي ما عرفت علي الحلف به تعالي و منع عن الاستحلاف بغيره. فإذا حلف بغيره تعالي و أنشأ القاضي حكمه علي طبقه، فلا دليل علي نفوذ هذا الحكم و فصل الخصومة به، و قد مرّ أنّ الأصل عدم النفوذ، فتذكّر. و هذا من غير فرق فيه بين رضي الخصمين بذلك و عدمه.

(7) كلّ ذلك لإطلاق أدلّة كفاية الحلف باللّٰه تعالي الصادق في جميع هذه الموارد.

(8) لما دلّ علي أنّه ليس لخلقه تعالي أن يقسموا إلّا به. و قد مرّ ذيل الوجه الثالث لوجوب أن يكون اليمين في باب القضاء باللّٰه تعالي في المسألة الاولي من مسائل الباب، فراجع.

(9) لورود الحلف بغيره تعالي في حضورهم أو منهم عليهم السلام؛ ففي معتبر

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 285

______________________________

أبي جرير القمي قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: جعلت فداك قد عرفت انقطاعي إلي أبيك ثمّ إليك ثمّ حلفت له و حقّ رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم و حقّ

فلان و فلان حتّي انتهيت إليه، إنّه لا يخرج ما تخبرني به إلي أحد من الناس. الحديث «1»؛ فإنّ حلف الراوي بغير اللّٰه قد وقع في محضره و في مقام المكالمة معه عليه السلام، فلو كان محرّماً لمنعه عنه من باب النهي عن المنكر أو إرشاد الجاهل بالحكم.

و في خبر علي بن أبي حمزة عن أبي الحسن عليه السلام قال

و لكلّ شهر عمرة

، فقلت: يكون أقلّ؟ فقال

في كلّ عشرة أيّام عمرة

، ثمّ قال

و حقّك لقد كان في عامي هذه السنة ستّ عمر

، قلت: و لم ذلك؟ قال

كنت مع محمّد بن إبراهيم بالطائف و كان كلّما دخل دخلت معه «2»

؛ فإنّ قوله عليه السلام

و حقّك

حلف بغير اللّٰه، و هو دليل الجواز. و احتمال اختصاصهم عليهم السلام بالجواز و تخصيص دليل المنع به غير صحيح؛ فإنّ ملاك النهي و هو قوله عليه السلام

و لو حلف الرجل بهذا و أشباهه لترك الحلف باللّٰه «3»

جارٍ فيهم عليهم السلام أيضاً، بل هم أولي برعايته ليقتدوا الناس بهم. إلي غير ذلك من الأخبار، فراجع الباب 30 من كتاب الأيمان من «الوسائل».

فالجمع العرفي بين مثل هذين الخبرين و أدلّة النهي، هو حمل

______________________________

(1) وسائل الشيعة 23: 261، كتاب الأيمان، الباب 30، الحديث 6.

(2) وسائل الشيعة 14: 308، كتاب الحج، أبواب العمرة، الباب 6، الحديث 3.

(3) وسائل الشيعة 23: 260، كتاب الأيمان، الباب 30، الحديث 4.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 286

نعم هو مكروه، سيّما إذا صار ذلك سبباً لترك الحلف باللّٰه تعالي. و أمّا مثل قوله: «سألتك بالقرآن أو بالنبي صلي الله عليه و آله و سلم أن تفعل كذا» فلا إشكال في عدم حرمته (10).

[مسألة 5 حلف الأخرس بالإشارة المفهمة]

مسألة 5 حلف الأخرس بالإشارة

المفهمة (11)،

______________________________

أدلّة النهي علي التنزيه، و حينئذٍ فإقدامهم عليهم السلام بالحلف بغيره تعالي مع أنّه مكروه لعلّه لبيان الجواز.

(10) فإنّ النهي عن الحلف بغير اللّٰه ظاهره أن يحلف الإنسان بغير اللّٰه تعالي بمثل «و اللّٰه»، و لا يشمل مثل ما في المتن «سألتك بالرسول و بالقرآن»؛ لا سيّما و قد ورد هذا النهي ذيل السؤال عن قوله تعالي وَ النَّجْمِ إِذٰا هَويٰ «1» وَ اللَّيْلِ إِذٰا يَغْشيٰ «2»، و نحوهما ممّا هو من قبيل «و اللّٰه» لا من قبيل «سألتك باللّٰه».

(11) و ذلك أنّ الحلف و الإقسام باللّٰه تعالي من قبيل الأُمور الاعتبارية الإنشائية مثل البيع و الإجارة حقيقته هو المعني الإنشائي الذي يريد الحالف، فهو مثل البيع يتوصّل إلي إنشائه بما تعارف في العرف إنشاؤه به، و إنشاؤه في غير الأخرس بألفاظ خاصّة، و في الأخرس بإشاراته التي بها يفهم و يخبر عمّا يريده. فإنشاءاته كإخباراته تتحقّق بإشاراته.

______________________________

(1) النجم (53): 1.

(2) الليل (92): 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 287

و لا بأس بأن تكتب اليمين في لوح و يغسل و يؤمر بشربه بعد إعلامه، فإن شرب كان حالفاً و إلّا الزم بالحقّ (12)، و لعلّ بعد الإعلام كان ذلك نحو إشارة،

______________________________

و بعبارة اخري: أنّ موضوع الحكم في الأدلّة هو الحلف باللّٰه تعالي، و هو أمر إنشائي يتحقّق بما يراه العرف وسيلة لإنشائه. و هذه الوسيلة في الناطقين هي ألفاظهم و لا تكفي إشاراتهم، و في الأخرس إشاراته الخاصّة القائمة مقام ألفاظه، فإذا أشار هو إشارته المخصوصة مريداً بها الحلف به تعالي فقد صدق بلا تأويل و لا مسامحة أنّه حلف به تعالي، و هو موضوع الأحكام الشرعية؛ فيترتّب عليه حكمه.

(12) و الدليل

علي الاكتفاء به ما في صحيح ابن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام الوارد في بيان كيفية حلف الأخرس؛ فإنّ فيه

ثمّ كتب أمير المؤمنين عليه السلام: و اللّٰه الذي لا إله إلّا هو عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضارّ النافع المهلك المدرك الذي يعلم السرّ و العلانية إنّ فلان بن فلان المدّعي ليس له قبل فلان بن فلان أعني الأخرس حقّ و لا طلبة بوجه من الوجوه، و لا بسبب من الأسباب، ثمّ غسله و أمر الأخرس أن يشربه، فامتنع، فألزمه الدين «1»

؛ فإنّه صريح في الاكتفاء بشرب المغسول به، المفهوم منه عرفاً عدم خصوصية لليمين

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 302، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 33، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 288

و الأحوط الجمع بينهما (13).

______________________________

المغلّظة التي وردت فيه، بل الملاك هو شرب مغسول اليمين المعتبرة المكتوبة؛ فلذلك قال دام ظلّه-: «و لا بأس بأن تكتب اليمين في لوح.» إلي آخره.

ثمّ إنّه لا يبعد أن يقال: إنّ مقتضي القواعد في يمين الأخرس عدم الاكتفاء بشرب المغسول؛ و ذلك لما مرّ من أنّ الحلف و اليمين من الأُمور الإنشائية التي لا بدّ من أن تنشأ بالأسباب المتعارفة في مقام الإنشاء، و سببها المتعارف في القادر علي التكلّم هو ألفاظ اليمين، و في الأخرس هو إشارته. فكما لا يكفي إشارة القادر لانصراف الأدلّة عنها فكذلك لا بدّ و أن لا يكفي شرب الماء المغسول به اليمين المكتوبة في كلّ من القادر و الأخرس بدليل ذلك الانصراف بعينه.

و حينئذٍ: فالاكتفاء بشربه في الأخرس علي خلاف القواعد، نقول به اعتماداً علي الصحيحة المعمول بها. لكنّه لا بدّ و أن يكون

الشرب في مقام اليمين و بعد إعلامه، كما هو الظاهر من الصحيحة، و يكون الشرب بعد الإعلام نحو إشارة يكتفي بها لورود الصحيحة.

(13) هذا الاحتياط استحبابي لا بأس بتركه.

و سرّ كون الاحتياط في الجمع: أنّ الاكتفاء بمجرّد الشرب خلاف القواعد، كما أنّ الاكتفاء بمجرّد إشارته المتعارفة ربّما يقال بكونه خلاف ظاهر الصحيحة المذكورة، بدعوي أنّها ظاهرة في انحصار كيفية حلف

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 289

[مسألة 6 لا يشترط في الحلف العربية]

مسألة 6 لا يشترط في الحلف العربية (14)، بل يكفي بأيّ لغة إذا كان باسم اللّٰه أو صفاته المختصّة به.

______________________________

الأخرس في خصوص شرب الماء المغسول به؛ فإنّ صدر الصحيحة هكذا: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الأخرس كيف يحلف إذا ادّعي عليه دين و لم يكن للمدّعي بيّنة؟ فقال

إنّ أمير المؤمنين أُتي بأخرس ادّعي عليه دين و أنكر و لم يكن للمدّعي بيّنة، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: الحمد للّٰه الذي لم يخرجني من الدنيا حتّي بيّنت للأُمّة جميع ما تحتاج إليه

، ثمّ ذكر كيفية حلف الأخرس؛ فإنّ اكتفاء الإمام الصادق عليه السلام في جواب السؤال عن كيفية حلف الأخرس بما فعله أمير المؤمنين عليه السلام لعلّه ظاهر في انحصار الكيفية به، هذا.

و الحقّ: أنّ ذكر مصداق في مقام الجواب عن كيفية كلّية إنّما يكون دليلًا علي كون هذا المصداق مصداقاً يكتفي به. و أمّا انحصار مصاديق الكلّي فيه فلا دلالة له نفياً و لا إثباتاً. و حيث إنّ الإطلاقات تقتضي الاكتفاء بإشارة الأخرس المتعارفة منه في إنشاء يمينه كسائر إنشاءاته، فلا ينبغي الريب في صحّة إنشائها بإشارته.

لكن مع ذلك فلابتلاء كلّ من الصحيحة و الإطلاقات بشبهة مندفعة، فالأحوط استحباباً الجمع بينهما.

(14) فإنّ الحلف كما عرفت

من الأُمور الاعتبارية الإنشائية حقيقته نفس المعني المنشأ كالبيع و سائر الأُمور الإنشائية فهو صادق علي جميع مصاديقه العرفية، و من المعلوم: عدم اعتبار لغة خاصّة عرفاً في

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 290

[مسألة 7 لا إشكال في تحقّق الحلف إن اقتصر علي اسم اللّٰه]

مسألة 7 لا إشكال في تحقّق الحلف إن اقتصر علي اسم اللّٰه، كقوله: «و اللّٰه ليس لفلان عليَّ كذا» و لا يجب التغليظ (15) بالقول، مثل أن يقول: «و اللّٰه الغالب القاهر المهلك» و لا بالزمان كيوم الجمعة و العيد و لا بالمكان كالأمكنة المشرّفة، و لا بالأفعال كالقيام مستقبل القبلة آخذاً المصحف الشريف بيده، و المعروف أنّ التغليظ مستحبّ للحاكم، و له وجه (16).

______________________________

تحقّق هذا المعني الإنشائي، كسائر المعاني الإنشائية. فإطلاقات أدلّته شاملة لما إذا أنشأ باللغات الأُخر، و العربية و غير العربية سيّان في هذا المقام، كما لا يخفي.

(15) فإنّ الأدلّة إنّما أوجبت علي الحالف اليمين و اشترطت القضاء بها، من غير تقييد لها بأن تكون مغلّظة، و هي مطلقة شاملة للمغلّظة و غيرها. و ليس حقّ المستحلف إلّا هذا المعني المطلق؛ فلا محالة إذا أدّي الحالف هذا المطلق في ضمن أيّ فرد شاء فقد أتي بما هو وظيفته. و لا دليل علي وجوب خصوصية عليه زائدة علي أصل المعني الكلّي، فهو مخيّر تخييراً عقلياً بين جميع الأفراد؛ مغلّظة و غير مغلّظة.

(16) هو أنّ التأمّل في الأخبار الواردة الحاكية لقضايا أمير المؤمنين عليه السلام يعطي أنّ الراجح للقاضي أن يتوسّل إلي كلّ وسيلة مشروعة لكشف الواقع، كما هو عليه، حتّي يكون قضاؤه طبقاً للواقع.

ففي صحيحة معاوية بن وهب أنّ عليّاً عليه السلام في مقام كشف الواقع في اليتيمة التي شهدت عليها جاراتها بالزنا كذباً

دعا إحدي الشهود و

جثا

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 291

______________________________

علي ركبتيه، ثمّ قال: أ تعرفينني؟ أنا علي بن أبي طالب و هذا سيفي، و قد قالت امرأة الرجل ما قالت و رجعت إلي الحقّ و أعطيتها الأمان، فإن لم تصدّقيني لأملأنّ السيف منك، فالتفتت إلي عمر و قالت: الأمان علي الصدق. «1»

الحديث.

فتري أنّه عليه السلام توسّل بالهيئة الخاصّة و إراءة السيف و تعريف نفسه، و بحكاية مقالة امرأة الرجل بنحو مبهم، و التعبير برجوعها إلي الحقّ و إعطائها الأمان الذي أراد منه خلاف الظاهر و بتهديدها بالسيف إن لم تصدق، فتوسّل بهذه الأُمور لكي ينكشف الواقع كما هو عليه، و قد انكشف.

و في خبر أبي بصير أنّه عليه السلام في مقام كشف كيفية قتل الرجل الذي خرج مع نفر قتلوه و أنكروا قتله، توسّل بتفريقهم و تغطية وجوههم و إقامتهم مكاناً يسمعون صوت تكبيره و بإحضار الناس قائلًا لهم

إذا أنا كبّرت فكبّروا

، فأحضر واحداً من هؤلاء النفر و قال للكاتب

اكتب إقراره و ما يقول

، فسأله عن كيفية الأمر، فأبي إلّا أن يقول: إنّه قد مات بالمرض، فسأله عن خصوصيات الواقعة؛ من يوم و شهر و سنة الموت و المرض الذي ادّعي أنّه مات به و المكان الذي مات فيه و كمّية أيّام مرضه و من تصدّي غسله و كفنه و الصلاة عليه و دفنه، فلمّا سأله عن جميع ذلك

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 277، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 19، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 292

______________________________

و اختلق المسئول اكذوبات، كبّر هو عليه السلام و كبّر الناس جميعاً، فارتاب أُولئك الباقون، فأقرّوا بحقيقة الأمر، ثمّ دعا الشخص الأوّل، فأقرّ هو أيضاً. الحديث «1».

فهو عليه السلام توسّل إلي هذه الأسباب لكي ينكشف الحقّ علي ما هو عليه.

و قد مرّ أنّه عليه السلام في مقام تحليف الأخرس وصف اللّٰه تعالي ب

الطالب الغالب الضارّ النافع المهلك الذي يعلم السرّ و العلانية

، و ليس هذا التغليظ في الحلف إلّا لكي يندفع و ينتهي الحالف عن التهجّم علي خلاف الواقع و ينكشف الحقّ ما أمكن، إلي غير ذلك من الأخبار، فراجع «2».

فيستفاد من هذه الأحاديث المستفيضة: أنّ الراجح للحاكم أن يتوسّل إلي كلّ ما يوجب بعد الخطأ في القضاء و قرب القضاء من إصابة الواقع، و هذه الوسائل و الأسباب لا تنحصر فيما كانت مختصّة بغير تغليظ الإقسام؛ فإنّه عليه السلام قد غلّظ الحلف الذي أُحلف به الأخرس، فيعلم منه: أنّ التغليظ في الإحلاف مستحبّ للحاكم، و إن لم يكن واجباً؛ إذ الواجب هو أن يضيفهم إلي اسمه تعالي و يحلفهم به، كما في صحيحة سليمان بن خالد «3»، و إطلاقه يقتضي أن لا يجب عليه إلّا صرف التحليف

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 279، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 20، الحديث 1.

(2) راجع وسائل الشيعة 27: 281، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 21، الحديث 1 و 2 و 4 و 10 و 11.

(3) وسائل الشيعة 27: 229، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 1، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 293

[مسألة 8 لا يجب علي الحالف قبول التغليظ]

مسألة 8 لا يجب علي الحالف قبول التغليظ (17)،

______________________________

باسمه تعالي و إن لم يكن مع التغليظ.

(17) فإنّ الواجب علي المدّعي عليه بمقتضي قولهم عليهم السلام

اليمين علي المدّعي عليه «1»

مجرّد اليمين، و هذه اليمين هي التي تردّ علي المدّعي فيحلف بها و يأخذ ماله «2».

و هذه اليمين مطلقة

غير مقيّدة بخصوص المغلّظة، فحقّ المستحلف علي الحالف المنكر أو المدّعي ليس إلّا الحلف الكلّي الغير المقيّد الصادق بالمغلّظ و غير المغلّظ، و لا محالة يكون الحالف مخيّراً. و لا معني لوجوب خصوص المغلّظ إذا أراده منه الحاكم أو المستحلف.

كما أنّ الواجب علي القاضي أن يقضي بشهادة رجل و يمين صاحب الحقّ «3»، و بشهادة امرأتين و يمين طالب الحقّ «4»، و يمينه الموضوع للقضاء علي طبقها هنا أيضاً مطلقة؛ فليس علي الحالف مطلقاً في باب القضاء إلّا الحلف به تعالي. و لا دليل علي وجوب خصوصية زائدة عليه سواء أرادها منه المستحلف أو القاضي، أم لا فلا يجب عليه قبول التغليظ.

و قد يتوهّم وجوب التغليظ في حلف المدّعي علي الميّت؛ استناداً إلي

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة 27: 233، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 3.

(2) راجع وسائل الشيعة 27: 241، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7.

(3) راجع وسائل الشيعة 27: 264، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14.

(4) راجع وسائل الشيعة 27: 271، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 15.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 294

و لا يجوز إجباره عليه (18) و لو امتنع عنه لم يكن ناكلًا (19)،

______________________________

قوله عليه السلام في خبر عبد الرحمن

و إن كان المطلوب بالحقّ قد مات فأُقيمت عليه البيّنة فعلي المدّعي اليمين باللّٰه الذي لا إله إلّا هو.

الحديث «1»، حيث وصف اللّٰه تعالي بقوله

الذي لا إله إلّا هو

، و هو نحو تغليظ.

لكنّه مندفع بأنّه هو نفسه عليه السلام في كلامه هذا في مقام تعظيم اللّٰه تعالي، فوصفه ب

الذي لا إله إلّا هو

الذي هو من أوصافه واقعاً، و ليس فيه دلالة أصلًا علي وجوب أن يصفه الحالف في

مقام حلفه بهذه الصفة و لا غيرها.

(18) فإنّه ظلم عليه بعد أن لم يكن حقّا عليه.

(19) فإنّ النكول هو الإباء عن أصل اليمين التي تجب عليه، فانظر إلي الأخبار الواردة فيه: ففي خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه المتقدم عن موسي بن جعفر عليه السلام

و لو كان (يعني المدّعي عليه) حيّاً لأُلزم اليمين أو الحقّ أو يردّ اليمين عليه

، و ظاهره: أنّ الواجب عليه أحد الأُمور الثلاثة، و معلوم: أنّه إذا حلف بيمين غير مغلّظة فقد أتي باليمين من هذه الثلاثة، فلا سبيل لإلزام الحقّ أو ردّ اليمين علي مدّعيه عليه، فيقضي بمقتضي يمينه، فلا نكول. فهذا نكول المنكر.

و في صحيحة محمّد بن مسلم في نكول المدّعي عن أحدهما عليهما السلام في

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 236، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 4، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 295

______________________________

الرجل يدّعي و لا بيّنة له؟ قال

يستحلفه، فإن ردّ اليمين علي صاحب الحقّ فلم يحلف فلا حقّ له «1»

، فتراه أنّه عليه السلام قد علّق الحكم بانتفاء حقّه علي عدم حلفه، فإذا حلف يميناً غير مغلّظة لم يصدق أنّه لم يحلف، و إن أُريدت منه المغلّظة.

و بالجملة: فدليل الحكم بانتفاء حقّ المدّعي بنكوله هو مثل هذه الصحيحة، و قد علّق فيها الحكم بالانتفاء علي عدم حلفه من رأس. كما أنّه لو قلنا بالحكم علي المدّعي عليه بنكوله لخبر عبد الرحمن فمقتضاه أيضاً إلزامه بالحقّ إذا لم يحلف أصلًا.

و أمّا ما في صحيح ابن مسلم الوارد في حلف الأخرس من أنّه لمّا امتنع من شرب الماء المغسول به فألزمه الدين «2»، فبما أنّ الحلف الوارد فيه يمين مغلّظة فقد يتوهّم: أنّ مقتضاه الحكم

علي المنكر بنكوله عن اليمين المغلّظة.

لكنّه مندفع بأنّ الظاهر منه: أنّ الحكم بإلزامه الدين مترتّب علي امتناعه من الحلف بامتناعه عن الشرب؛ و ذلك أنّه عليه السلام في مقام بيان كيفية يمين الأخرس، فبيّن عليه السلام أنّ الواجب عليه شرب الماء المغسول به؛ و هو يمينه، و أنّ إباءه عن شربه بما أنّه إباء عن اليمين

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 241، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 302، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 33، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 296

بل لا يبعد أن يكون الأرجح له ترك التغليظ (20) و إن استحبّ للحاكم التغليظ احتياطاً علي أموال الناس،

______________________________

فيلزم بأداء الحقّ المدّعي عليه.

و بالجملة: فالمستفاد من الصحيحة الحكم بالنكول عن اليمين الواجبة لا عن خصوص المصداق الذي عرض عليه، كيف و لازمه أن لا يكتفي بحلفه المغلّظ إذا امتنع عن شربه و أتي بيمين مغلّظة بالإشارات المخصوصة؟ و هو ممّا لا قائل به و لا يمكن القول به.

(20) يمكن الاستدلال له بما ورد من استحباب إجلال اللّٰه تعالي بترك التعرّض للحلف به؛ ففي موثّقة السكوني عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم: من أجلّ اللّٰه أن يحلف به أعطاه اللّٰه خيراً ممّا ذهب منه «1»

، و في خبر أبي بصير: إنّ زين العابدين عليه السلام أعطي المدّعية عليه كذباً أربعمائة دينار و لم يحلف، فقال له أبو جعفر عليه السلام

أ لست محقّاً؟

قال

بلي يا بنيّ، و لكنّي أجللت اللّٰه أن أحلف به يمين صبر «2».

بيان الاستدلال بأمثالهما أن يقال: إنّ الإقسام بأيّ شي ء تعريض له، و صرفه و

إنفاقه في سبيل إثبات المقسم عليه؛ فكأنّ الحالف ببركة إنفاق المقسم به قد حصل علي إثبات مطلبه و مقاله.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 23: 198، كتاب الأيمان، الباب 1، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة 23: 200، كتاب الأيمان، الباب 2، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 297

و يستحب التغليظ في جميع الحقوق إلّا الأموال، فإنّه لا يغلّظ فيها بما دون نصاب القطع (21).

______________________________

و من ناحية اخري: أنّ الشي ء و إن كان ذا جهات مختلفة و أوصاف متعدّدة متفاوتة لا تنفكّ عنه بحسب الواقع، لكنّه إذا اتي في الكلام و في مقام الإقسام بلفظ يدلّ عليه مجرّد دلالة العلم علي المسمّي، فكأنّه لم ينفق منه إلّا مجرّد ذاته، و إذا أضاف عليه ما يحكي عن صفة من صفاته فقد زاد في الإنفاق منه بمقدار ما ذكر من صفاته، فإذا كان الأمر في الذات و صفاتها بهذه المثابة فهو في ذكر أشياء مختلفة و ضمّ المكان الشريف إلي زمان شريف و حالة شريفة و أمثالها أوضح.

و حينئذٍ فلنا أن نقول: كما أنّ الإقسام و الحلف بالشي ء إنفاق له، فكذلك ترك الحلف به إجلال له و تعظيم، كما عرفت التصريح به في الخبرين. فإذا كان تعظيم شي ء و إجلاله أمراً مرغوباً فيه مستحبّاً كما في إعظام اللّٰه و إعظام صفاته و إعظام شعائر اللّٰه كلّها كان ترك الحلف به أمراً مستحبّاً؛ فيكون ترك التغليظ للحالف أرجح، و إن استحبّ للحاكم التغليظ احتياطاً علي أموال الناس و حقوقهم، كما عرفت.

(21) مقتضي العبارة: أنّه لا يستحبّ للحاكم التغليظ في مقام إحلاف الحالف فيما دون نصاب القطع.

و في «الجواهر»: علي المشهور، كما في «المسالك»، بل في «الرياض» نفي الخلاف فيه، بل

في «كشف اللثام» نسبته إلي قطع الأصحاب، و أنّ في

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 298

______________________________

«الخلاف» الإجماع عليه، و في «المبسوط»: أنّه الذي رواه أصحابنا، انتهي.

و لم نقف علي مستند له سوي المرسل أو الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قالا

لا يحلف أحد عند قبر النبي صلي الله عليه و آله و سلم علي أقلّ ممّا يجب فيه القطع «1».

و الاستدلال به مبنيّ علي عدم قراءة

لا يحلف

ثلاثياً مجرّداً مبنياً للفاعل، و علي كون الحلف عند قبره كناية عن مطلق التغليظ.

و إلّا فلو قرئ

لا يحلف

بفتح الياء و كسر اللام فإنّما يدلّ علي أرجحية ترك التغليظ للحالف، الذي قد عرفت أنّ الأرجح ترك التغليظ له مطلقاً و لو بلغت أربعمائة دينار أو أكثر. و حينئذٍ: فيكون التعرّض في الحديث لما دون نصاب القطع لعلّه لأشدّية الاستحباب.

و كيف كان: فلا شاهد علي بطلان هذه القراءة، فلا حجّة فيه علي خلاف ما استفدناه من الأخبار من استحباب التغليظ للحاكم.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ التحديد بما دون نصاب القطع لا يكون إلّا عن سند تعبّدي منقول، و ذهاب المشهور المدّعي عليه الإجماع إلي هذا التحديد دليل علي أنّ قراءة الحديث الصحيحة كانت

يُحلف

مبنياً للمجهول بالتشديد أو التخفيف، و إلّا فلا يمكن للمشهور من علمائنا المتّبعين في فتاواهم لآثار المعصومين عليهم السلام الإفتاء بهذا الحدّ.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 298، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 29، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 299

[مسألة 9 لا يجوز التوكيل في الحلف و لا النيابة فيه]

مسألة 9 لا يجوز التوكيل في الحلف و لا النيابة فيه (22) فلو وكّل غيره و حلف عنه بوكالته أو نيابته لم يترتّب عليه أثر، و لا يفصل به خصومة.

______________________________

فإفتاؤهم هذا

كاشف عن أنّ القراءة الصحيحة ليست بفتح الياء، و إنّما فاتت عنّا لعدم تعارف نقل الحديث بالقراءة علي الشيخ أو استماع قراءة الشيخ الدارجين بين قدماء أصحابنا، رضوان اللّٰه عليهم.

كما أنّه لو لم يجعل الحلف عند قبر النبي صلي الله عليه و آله و سلم كناية عن مطلق التغليظ لما صحّ التعدّي عنه إلي مثل الحلف عند قبر الإمام، فضلًا عن قبر أبناء الأئمّة أو العلماء الأعلام، بل فضلًا عن المساجد.

و بالجملة: فالإفتاء بالاستثناء المذكور مشكل، إلّا أن يجعل قول المشهور دليلًا علي وجود مدرك يبيّن المطلب كمّاً و كيفاً علي طبق فتوي المشهور، فتأمّل.

(22) و ذلك أنّ ظاهر الأدلّة جعل اليمين وظيفة للمنكر أو المدّعي بعد ردّه عليه، أو إذا شهد له رجل أو امرأتان، و هكذا. و حيث إنّ المتفاهم عرفاً: أنّ الغرض من اليمين تأكيد ما يبرزه المدّعي أو المنكر حتّي يحصل من طريقها اطمئنان بصدق مقاله فالمناسب أن يحلف هو بنفسه و يحترز عن الكذب ببركة يمينه، فيكون مقاله مصحوباً بشاهد صدق؛ فإنّ الاعتقاد بحرمة المقسم به يوجب تحرّز القائل عن كذب قوله الذي أقسم عليه. و إلّا فلو أبرز هو كلاماً و مقالًا و أقسم علي صدقه آخر لا يوجب هذا تحرّز

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 300

[مسألة 10 لا بدّ و أن يكون الحلف في مجلس القضاء]

مسألة 10 لا بدّ و أن يكون الحلف في مجلس القضاء (23)،

______________________________

القائل نفسه عن كذب المقال.

فحلف المدّعي أو المنكر كصلاته و صومه يقتضي تناسب الملاك المتفاهم له عرفاً أن يتصدّي لإنشائه و الإتيان به بنفسه لا بوكيله و نائبه، هذا.

مضافاً إلي أنّه لو شكّ فيه فمقتضي الأصل علي ما قيل هو اعتبار المباشرة. و إن كان فيه كلام. و تمام

البحث عنه موكول إلي محلّه.

و بالجملة: فانفهام الملاك المذكور و ارتكاز العرف عليه يوجب ظهور أدلّة إيجاب الحلف و اشتراطه في باب القضاء في أن يحلف شخص من عليه الحلف، لا وكيله و نائبه، اللهمّ إلّا أن يكون وكيلًا عنه و نائباً في أصل إقامة الدعوي و إنكارها. و سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّٰه في المسألة الثانية عشر.

(23) هذه المسألة متعرّضة لفرعين: أحدهما وجوب أن يكون الحلف في مجلس القضاء و بحضور الحاكم و أمره في غير مورد العذر. و الثاني جواز أن يكون عند نائب الحاكم في مورد العذر.

قال في «الجواهر» في الأوّل: بلا خلاف أجده كما في «الرياض» بل فيه: أنّ ظاهرهم الإجماع. و قال في الثاني: ذكره غير واحد، بل نفي بعضهم الخلاف فيه، انتهي.

و يمكن أن يستدلّ عليه بأنّ المتعارف في باب القضاء في غير مورد

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 301

______________________________

العذر، حضور المترافعين عند الحاكم، و هذا التعارف كان هكذا؛ حتّي في زمن صدور الروايات، كما يظهر من غير واحد منها:

ففي صحيح عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام

أيّما مؤمن قدّم مؤمناً في خصومة إلي قاضٍ أو سلطان جائر فقضي عليه بغير حكم اللّٰه فقد شركه في الإثم «1»

؛ فإنّ المفهوم منه: أنّه كان المرسوم في ذلك الزمان كزماننا هذا أنّه إذا كان بينهم خصومة يقدّم الخصم إلي القاضي و يحضر عنده، فهو عليه السلام نهي أن يكون هذا القاضي جائراً.

و في صحيح أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال في رجل كان بينه و بين أخ له مماراة في حقّ، فدعاه إلي رجل من إخوانه ليحكم بينه و بينه، فأبي إلّا

أن يرافعه إلي هؤلاء

كان بمنزلة الذين قال اللّٰه عزّ و جلّ أَ لَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَي الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ. «2» الآية».

فتراه أنّه بعد حصول المماراة كان يدعو أحدهما الآخر إلي الحضور عند رجل من الشيعة، و الآخر يدعوه إلي الحضور عند هؤلاء الفسقة.

و في خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام الوارد في من شرب الخمر و أُتي به أبو بكر، فادّعي أنّه كان جاهلًا بحرمتها

فالتفت أبو بكر إلي عمر فقال: ما تقول يا أبا حفص في أمر هذا الرجل؟ فقال: معضلة و أبو الحسن

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 11، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 11، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 302

______________________________

لها، فقال أبو بكر: يا غلام ادع لنا علياً، قال عمر: بل يؤتي الحكم في منزله.

الحديث «1».

فعلي أيّ حال: كان المتعارف أن يحضر المترافعان عند القاضي، و لعلّه لذلك يعبّر عنه بالمرافعة، فكلّ منهما يرفع الآخر و يحضره عند القاضي، فتأمّل.

و في صحيح آخر لأبي بصير قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام

يا أبا محمّد إنّه لو كان لك علي رجل حقّ فدعوته إلي حكّام أهل العدل فأبي عليك إلّا أن يرافعك إلي حكّام أهل الجور ليقضوا له، لكان ممّن حاكم إلي الطاغوت.

الحديث «2». فظاهر دعوته إلي الحاكم و مرافعته إليه عبارة أُخري عن إحضاره عنده ليقضي بينهما. إلي غير ذلك من الروايات.

و بالجملة: فالمستفاد من الأخبار: أنّ المتعارف في زمن الروايات في كيفية القضاء هو بعينه

المتعارف في زماننا هذا من حضور المتخاصمين عند القاضي و عرض مطالبهم له و قضائه لهم. و هذه الروية لا تختصّ بالقضاء القانوني عند العرف، بل كلّما رضي الخصمان أن يكون أحدٌ هو الحاكم بينهما فالمتعارف أنّهما يرجعان إليه و يحضران عنده ليحكم بينهما، هذا.

لكن هذا التعارف إنّما هو فيما لم يكن عذر، و إلّا فمن المتعارف أيضاً أن يستنيب القاضي معتمداً ليحضر عند هذا المعتذر ليسمع ما يقول و يعرضه

______________________________

(1) الكافي 7: 249/ 4، وسائل الشيعة 28: 33، كتاب الحدود و التعزيرات، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 14، الحديث 5.

(2) وسائل الشيعة 27: 12، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 303

و ليس للحاكم الاستنابة فيه إلّا لعذر كمرض أو حيض و المجلس في المسجد، أو كون المرأة مخدّرة حضورها في المجلس نقص عليها أو غير ذلك، فيجوز الاستنابة، بل الظاهر عدم جواز الاستنابة في مجلس القضاء و بحضور الحاكم فما يترتّب عليه الأثر في غير مورد العذر أن يكون الحلف بأمر الحاكم و استحلافه (24).

______________________________

علي القاضي ليقضي له، و لا يتحمّل القاضي في الغالب تعب الحضور عند المعذور.

و حينئذٍ: فلا يبعد دعوي أنّ أدلّة القضاء منصرفة في كلا الموردين إلي ما هو الغالب؛ فلازمه فيما لم يكن عذر انصراف الأدلّة إلي خصوص حضور المترافعين عند القاضي و قضائه بينهم و انصرافها عمّا لم يحضرا لديه. و نتيجة هذا الانصراف عدم قيام الدليل علي جواز القضاء فيما لم يحضر الحالف عند القاضي في غير مورد العذر، و قد عرفت أنّ الأصل عدم نفوذ القضاء.

كما أنّ الأدلّة شاملة فيما إذا كان عذر لما إذا استناب القاضي أحداً

للحضور عند المعذور و استماع مقاله و تحليفه عند اللزوم و الحاجة؛ فإنّ القضاء كذلك هنا متعارف، و الأخبار شاملة له.

نعم إنّ شموله له من قبيل الشمول للفرد المرجوح و الاضطراري، و إلّا فلو تحمّل القاضي تعب الحضور عند المعذور و أمره بأن يحلف بحضوره كان فرداً راجحاً أولي.

(24) يعني مضافاً إلي اشتراط أن يكون الحلف بحضور الحاكم يشترط أن يكون بأمره و استحلافه.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 304

[مسألة 11 يجب أن يكون الحلف علي البتّ]

مسألة 11 يجب أن يكون الحلف علي البتّ (25) سواء كان في فعل نفسه أو فعل غيره، و سواء كان في نفي أو إثبات، فمع علمه بالواقعة يجوز الحلف و مع عدم علمه لا يجوز إلّا علي عدم العلم.

______________________________

و الدليل عليه أيضاً: أنّ القاضي هو المدير عرفاً لمجلس القضاء و ما يجري فيه، فالأخبار منصرفة إلي المتعارف من إدارة مجلس القضاء تحت أمره.

مضافاً إلي ما مرّ في صحيح سليمان بن خالد من قوله تعالي لنبيّه

احكم بينهم بكتابي و أضفهم إلي اسمي، فحلّفهم (تحلّفهم خ. ل) به «1».

فقد أمر تعالي أن يضيفهم القاضي إلي اسمه تعالي و يحلّفهم به؛ فقد أكّد و أمضي مديريته. فلو بادر المنكر مثلًا إلي الحلف بنفسه أو بعد طلب مدّعيه لا بأمر القاضي فلا دليل علي جواز الاكتفاء بهذه اليمين، و قد عرفت: أنّ الأصل عدم النفوذ.

(25) وجوب كون الحلف علي البتّ يراد منه تارةً الوجوب الوضعي و اشتراط ترتّب الأثر عليه في باب القضاء؛ بأن يكون علي البتّ. و أُخري الوجوب التكليفي و وقوع العصيان لو حلف بتّاً علي ما لا علم له به.

و المعني الأوّل هو الأنسب هنا.

و الدليل عليه: أنّ وضع القسم عند العقلاء علي تأكيد

المقسم عليه به

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 229، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 1، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 305

______________________________

و القسم عندهم من أقسام التأكيدات المعنوية.

و عليه: فالمستفاد من أدلّة الحلف في باب القضاء أن يحلف الحالف و يؤكّد به ما يظهره من الادّعاء أو الإنكار، و لا يكون ذلك إلّا بإيراد الحلف علي مدّعاه بتّاً.

و لذلك ففيما تعرّض للمقسم عليه في الأخبار فقد ورد بصورة الحتم و البتّ؛ ففي صحيح ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام

إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه فحلف أن لا حقّ له قبله ذهبت اليمين بحقّ المدّعي، فلا دعوي له.

الحديث «1».

و في خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه

و إن كان المطلوب بالحقّ قد مات فأُقيمت عليه البيّنة فعلي المدّعي اليمين باللّٰه الذي لا إله إلّا هو، لقد مات فلان و أنّ حقّه لعليه «2».

و نحوهما خبر حلف الأخرس «3»، إلي غير ذلك من الأخبار.

فهذا ممّا لا شبهة فيه، فلا يكفي لو حلف علي المطلب بصورة الظنّ مثلًا بأن قال: و اللّٰه إنّي أظنّ أنّ لي عليه كذا. اللهمّ إلّا أن يكون دعواه لا تعدو الظنّ و أُريد منه الحلف علي الظنّ و عدم العلم.

و أمّا المعني الثاني أعني حرمة الحلف بتّاً علي ما لا علم له به-

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 244، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 9، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 236، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 4، الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة 27: 302، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 33، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 306

______________________________

فمقتضي الأصل العملي جوازه.

و ذلك أنّ اليمين

الكاذبة و إن كانت من المعاصي الكبيرة؛ حتّي أنّه ورد فيها في الصحيحة

ثلاث خصال لا يموت صاحبهنّ أبداً حتّي يري وبالهنّ: البغي، و قطيعة الرحم، و اليمين الكاذبة يبارز اللّٰه بها. «1»

الحديث، و في صحيح وهب بن عبد ربّه قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام

من قال: اللّٰه يعلم، فيما لا يعلم، اهتزّ عرشه لذلك إعظاماً له «2»

، إلي غير ذلك.

إلّا أنّه إذا لم يثبت أنّ هذه اليمين كاذبة و احتمل أنّها صادقة، فمقتضي أصالة البراءة و الجواز و قبح العقاب بلا بيان جوازها. فمقتضي الأصل جواز المبادرة إلي إنشاء اليمين التي لا علم له بصدقها و لا بكذبها.

و أمّا الأخبار الخاصّة: ففي صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام

لا يحلف الرجل إلّا علي علمه «3»

، فهي تدلّ علي عدم جواز حلف الرجل إلّا علي علمه.

و دلالته علي الحرمة التكليفية واضحة؛ إذ هي بقول مطلق نهت عن الحلف علي غير العلم و لم يقيّده بباب القضاء لكي يحتمل فيه المنع الوضعي و الاشتراط.

لكنّه مبني علي أن يقرأ «يحلف» مبنيّاً للفاعل ثلاثياً مجرّداً، و إلّا

______________________________

(1) وسائل الشيعة 23: 207، كتاب الأيمان، الباب 4، الحديث 16.

(2) وسائل الشيعة 23: 209، كتاب الأيمان، الباب 5، الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة 23: 246، كتاب الأيمان، الباب 22، الحديث 1 و 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 307

______________________________

فلو قرئ مبنيّاً للمفعول لكانت الصحيحة حينئذٍ مساوقة لخبر أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام

لا يستحلف الرجل إلّا علي علمه «1»

، و كانت متعرّضة لوظيفة المستحلف، و أنّه ليس له أن يطلب من خصمه أزيد من الحلف علي علمه، فباحتمال أن يكون مبنياً للمفعول لا يمكن الاستدلال به

علي الحرمة التكليفية.

نعم، في مرسل يونس عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

لا يستحلف الرجل إلّا علي علمه، و لا تقع اليمين إلّا علي العلم؛ استحلف أو لم يستحلف «2».

فصدره و إن تعرّض الاستحلاف، إلّا أنّ ذيله صرّح بأنّه لا تقع اليمين إلّا علي العلم مطلقاً؛ استحلفه غيره أو بادر إلي الحلف ابتداءً.

و ظاهر جملة

لا تقع اليمين

أنّه في مقام الإنشاء؛ فتدلّ علي حرمة وقوعها علي غير العلم. لكنّه خبر مرسل. اللهمّ إلّا أن يجبره أنّ يونس ممّن أجمعت العصابة علي تصحيح ما يصحّ عنه. و تمام الكلام في محلّه.

و ممّا ينبغي التنبّه له هو: أنّ رعاية كون الحلف علي علمه إنّما هي وظيفة الحالف. و أمّا القاضي فإذا حلف من عليه الحلف بتّاً قضي علي موازين القضاء، و إن كان الحالف كاذباً في يمينه، و لا يشترط له إحراز صدقه كما هو واضح و إلّا أُنيط القضاء بعلم القاضي، و هو خلاف

______________________________

(1) وسائل الشيعة 23: 247، كتاب الأيمان، الباب 22، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة 23: 247، كتاب الأيمان، الباب 22، الحديث 4.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 308

[مسألة 12 لا يجوز الحلف علي مال الغير أو حقّه]

مسألة 12 لا يجوز الحلف علي مال الغير أو حقّه إثباتاً أو إسقاطاً إذا كان أجنبيّا عن الدعوي (26)، كما لو حلف زيد علي براءة عمرو.

______________________________

البداهة؛ و لذلك ورد أنّه صلي الله عليه و آله و سلم قال

إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان، و بعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار «1»

، فتذييل صدر كلامه بقوله صلي الله عليه و آله و سلم

فأيّما رجل.

دليل واضح علي عدم اعتبار العلم

بصدق الحالف في يمينه.

(26) فإنّ أدلّة الحلف سواء كان حلف المنكر، أو حلف المدّعي بعد الردّ عليه، أو إذا انضمّ إلي الشاهد الواحد، أو إلي البيّنة علي الميّت ظاهرة في حلف المنكر أو المدّعي بنفسهما، و ليس لها عموم يشمل حلف الأجنبي المتبرّع به عنهما.

فقولهم عليهم السلام

اليمين علي من ادّعي عليه

أو

علي من أنكر

ظاهر في صدور اليمين من المنكر بنفسه؛ إذ المفهوم منه و من سائر أدلّة اليمين: أنّه إنّما جعلت اليمين باللّٰه لكي لا يظهر الإنسان ما لا حقيقة له؛ إعظاماً له تعالي، فإذا أظهر إنكار شي ء و طلبت منه اليمين فهذه اليمين تأكيد معنوي لإنكاره، طلبت منه لكي لا يكذب في إظهار الإنكار، و هو إنّما يناسب إنشاء اليمين بنفسه، و لا يعمّ ما إذا أنشأها غيره نيابةً عنه.

و يشهد لذلك: أنّ الأخبار الخاصّة الواردة في تفصيل الأمر كالصريحة

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 232، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 2، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 309

______________________________

في أنّ الحلف يأتي به المدّعي عليه بنفسه؛ ففي صحيح محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام في الرجل يدّعي و لا بيّنة له؟ قال

يستحلفه، فإن ردّ اليمين علي صاحب الحقّ فلم يحلف فلا حقّ له «1»

؛ فإنّه ظاهر كالصريح في إرادة استحلاف خصمه الذي هو المنكر.

و في خبر عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في الرجل يدّعي عليه الحقّ و لا بيّنة للمدّعي؟ قال

يستحلف أو يردّ اليمين علي صاحب الحقّ، فإن لم يفعل فلا حقّ له «2»

، و هو مثل سابقه في الظهور.

و ذيل الحديثين أيضاً ظاهر في أنّ القيام بالحلف و إنشاءه بعد الردّ عليه وظيفة المدّعي نفسه. و إطلاق

قوله عليه السلام

فإن ردّ اليمين علي صاحب الحقّ فلم يحلف فلا حقّ له

يقتضي الحكم بالنكول و إن حلف عنه غيره، و هو عبارة أُخري عن وجوب المباشرة، و نحوهما غيرهما، فراجع.

و هكذا مثل صحيح ابن مسلم

كان رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم يجيز في الدين شهادة رجل واحد و يمين صاحب الدين. «3»

الحديث.

و مثل صحيح منصور بن حازم: إنّ أبا الحسن عليه السلام قال

إذا شهد لطالب الحقّ امرأتان و يمينه فهو جائز «4»

كالصريح في أنّه يكتفي بيمين المدّعي نفسه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 241، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 241، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة 27: 264، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 1.

(4) وسائل الشيعة 27: 271، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 15، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 310

______________________________

و هكذا قوله في خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه

و إن كان المطلوب بالحقّ قد مات فأُقيمت عليه البيّنة فعلي المدّعي اليمين باللّٰه الذي لا إله إلّا هو لقد مات فلان و أنّ حقّه لعليه، فإن حلف، و إلّا فلا حقّ له.

الحديث «1»، ظاهر كالصريح في أنّ الحلف وظيفة شخص المدّعي، و أنّه إن لم يحلف فلا حقّ له.

و بالجملة: فالمستفاد من هذه الأخبار: أنّ الحلف وظيفة شخص المنكر أو المدّعي حسب اختلاف الموارد فلو لم يقوما بهذه الوظيفة لما ترتّب عليه الأثر المطلوب، و إن قام بها غيرهما، هذا.

مضافاً إلي أنّك قد عرفت: أنّ مقتضي الأصل عدم نفوذ القضاء فيما لا دليل علي نفوذه، و مع الشكّ فيه.

فالمتحصّل: أنّ حلف الأجنبي المحض

لا اعتبار به و لا خلاف فيه، بل في «العروة الوثقي»: يرسلونه إرسال المسلّمات، و ادّعي عليه الإجماع.

و إن كان كلام فإنّما هو فيما كان الأجنبي عن المدّعي طرف الدعوي؛ بأن كان وكيل صاحب الحقّ أو وليه أو متولّياً للمدّعي، كالموقوفات. و سيأتي الكلام فيه تالياً إن شاء اللّٰه تعالي.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 236، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 4، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 311

و في مثل الوليّ الإجباري أو القيّم علي الصغير أو المتولّي للوقف تردّد، و الأشبه عدم الجواز (27).

______________________________

(27) قد مرّ منه دام ظلّه ذيل اشتراط بلوغ المدّعي في سماع الدعوي ما لفظه: لو رفع الطفل المميّز ظلامته إلي القاضي فإن كان له ولي أحضره لطرح الدعوي. إلي أن قال: و لو ردّ الحلف فلا أثر لحلف الصغير، و لو علم الوكيل أو الولي صحّة دعواه جاز لهما الحلف، انتهي. و هو كما تري منافٍ لإطلاق ما أفاده في بحثنا هذا.

و كيف كان: فوجه عدم الجواز: أنّ ظاهر قوله عليه السلام

و اليمين علي من ادّعي عليه

أنّ الادّعاء إنّما كان علي نفس من عليه اليمين، لا أنّ الادّعاء علي أحد واقعاً و اليمين متوجّه علي من قام مقامه في الإنكار. و عليه يحمل قوله صلي الله عليه و آله و سلم

اليمين علي من أنكر «1»

، فالمراد ب «من أنكر» من أنكر الادّعاء المدّعي علي نفسه، لا علي موكّله أو من هو مولّي عليه مثلًا.

و هكذا من يردّ عليه اليمين هو صاحب الحقّ، كما في صحيح ابن مسلم و خبر عبيد بن زرارة الماضيين، و هو ظاهر فيما كان الحقّ للمدّعي نفسه، و نحوهما غيرهما.

و هكذا إنّ المعتبر

هو يمين صاحب الحقّ أو طالبه مع شهادة رجل

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 293، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 25، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 312

______________________________

واحد أو امرأتين، و هو عنوان ظاهر في كون الحقّ للمدّعي نفسه، لا أنّه وكيل أو ولي علي صاحب الحقّ، و عليه يحمل سائر التعبيرات الواردة، فراجع.

و هكذا قوله في خبر عبد الرحمن

فعلي المدّعي اليمين باللّٰه الذي لا إله إلّا هو لقد مات فلان، و أنّ حقّه لعليه «1»

ظاهر في أنّ المدّعي: أنّ الحقّ حقّ للمدّعي لا لموكّله أو المولّي عليه مثلًا.

و بالجملة: فالتعبيرات الواردة في موارد الحلف مختصّة و صادقة في خصوص ما إذا كان الحقّ المدّعي للحالف أو عليه نفسه، لا لغيره أو علي غيره و كان الحالف قائماً مقامه. فاعتبار الحلف في باب القضاء إنّما استفيد في خصوص هذه الموارد، و لا دليل علي الاعتبار به في غيرها، و قد عرفت: أنّ الأصل عدم نفوذ القضاء، هذا.

و غاية ما يمكن أن يقال وجهاً لتعميم حكم الحلف بالنسبة إلي كلّ من تصدّي المخاصمة و لو كان وكالة أو ولاية و جواز حلف الوكيل و الولي و المتولّي: أنّ قوله صلي الله عليه و آله و سلم

و اليمين علي من أنكر

عامّ لهم أيضاً، و لا وجه لدعوي انصرافه أصلًا، و أنّ التعبير بصاحب الحقّ و أمثاله في غيره من الروايات تعبير جارٍ علي ما هو الغالب من كون الخصمين طالباً لحقّهما، فهو كالتوصيف بالوصف الغالب لا مفهوم له و لا خصوصية له.

و الشاهد علي ذلك صحيحتان:

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 236، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 4، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات،

ص: 313

______________________________

إحداهما: صحيحة حمّاد بن عثمان و عثمان بن عيسي، المروية عن «تفسير علي بن إبراهيم» عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث فدك، ففيه

إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لأبي بكر: لِمَ منعت فاطمة عليها السلام ميراثها من رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم و قد ملكته في حياة رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم؟ فقال أبو بكر: هذا في ء للمسلمين، فإن أقامت شهوداً أنّ رسول اللّٰه جعله لها، و إلّا فلا حقّ لها فيه، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: تحكم فينا بخلاف حكم اللّٰه في المسلمين؟ قال: لا، قال: فإن كان في يد المسلمين شي ء يملكونه ادّعيت أنا فيه مَن تسأل البيّنة؟ قال: إيّاك كنت أسأل البيّنة علي ما تدّعيه علي المسلمين، قال: فإذا كان في يدي شي ء فادّعي فيه المسلمون تسألني البيّنة علي ما في يدي، و قد ملكته في حياة رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم و بعده و لم تسأل المؤمنين البيّنة علي ما ادّعوا عليّ كما سألتني البيّنة علي ما ادّعيت عليهم؟!.

إلي أن قال

و قد قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم: البيّنة علي من ادّعي و اليمين علي من أنكر.

الحديث «1».

وجه الدلالة: أنّها أو أنّه عليهما السلام كانت أحد طرفي الدعوي، و الطرف الآخر و إن عبّر عنه في كلامه عليه السلام بالمسلمين، إلّا أنّه لا ريب في أنّه ليس جميع المسلمين، بل كان أبو بكر بما أنّه زعيم المسلمين و ولي أمرهم بزعمه تولّي أمر هذه الدعوي، و هو و إن كان مع ذلك حكماً و قاضياً في

______________________________

(1) تفسير القمي 2: 156، وسائل الشيعة

27: 293، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 25، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 314

______________________________

هذه القضية بحسب مفروض كلامه عليه السلام إلّا أنّه لا شكّ في أنّه الطرف الآخر.

و المفهوم من الصحيحة: أنّه من مصاديق قول الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم

البيّنة علي المدّعي و اليمين علي من أنكر

، فيفهم منه: أنّ هذا الكلام لا يختصّ بما إذا كان الطرفان شخصين حقيقيين يدّعي أو ينكر كلّ لنفسهما، بل يعمّه و ما إذا كان ولي أمر امّة و أمثاله، فإذا كان مدّعياً فعليه البيّنة، و إذا كان منكراً فعليه اليمين، و هذه الصحيحة تكون قرينة علي إرادة معني عامّ من سائر الروايات.

الصحيحة الثانية: صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي جعفر الواردة في مرافعة أمير المؤمنين عليه السلام عبد اللّٰه بن قفل التميمي إلي شريح القاضي «1»؛ فإنّها يفهم منها: أنّ من الدعاوي الدارجة أن يكون إمام المسلمين و متولّي أُمورهم و ولي أمرهم أحد طرفي الدعوي، فإذا كان الأمر كذلك أي كان بين الدعاوي المطروحة دعوي أحد طرفيها ولي الأمر و أُلقي العمومات و الأخبار المحتوية علي قواعد القضاء علي العرف، فلا محالة يفهمون منها العموم بلا تأويل بالنسبة إلي مثل قولهم عليهم السلام

البيّنة علي من ادّعي، و اليمين علي من ادّعي عليه

، و مع تأويل: أنّ التعبير بلحاظ الغالب في مثل صاحب الحقّ و من ادّعي عليه الحقّ، كما عرفت.

و الحقّ: أنّ استفادة العموم و لو بقرينة الصحيحتين غير بعيدة،

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 265، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 6.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 315

[مسألة 13 تثبت اليمين في الدعاوي المالية و غيرها]

مسألة 13 تثبت اليمين في الدعاوي

المالية و غيرها (28) كالنكاح و الطلاق و القتل،

______________________________

بل قريبة جدّاً. و معه فما أفاده في البحث عن شرائط المدّعي هو الأقوي.

و منه تعرف: أنّ إقامة الدعوي من ناحية أُمراء المدن و رؤساء البلديات و وكلاء الشركات و أمثالهم صحيحة، و هم بأنفسهم يقومون بتعقيب الدعاوي و يعملون بما هو وظيفتهم لو كانت الدعوي في حقوقهم الشخصية حرفاً بحرف.

(28) فإنّ عموم مثل

اليمين علي من أنكر

جارٍ في جميع موارد الدعاوي التي فيها مدّعٍ و منكر، و هكذا قول الصادق عليه السلام في صحيح بريد بن معاوية

الحقوق كلّها: البيّنة علي المدّعي و اليمين علي المدّعي عليه «1»

، شامل لجميع موارد الدعوي؛ إذ المراد بالحقوق فيه هو مفهومها العرفي الشامل لموارد الملك و الحقّ باصطلاحه الخاصّ في الفقه و موارد الاختصاص بنحوٍ ما؛ فلا محالة تشمل موارد المرافعة في النكاح و الطلاق و القتل و غيرها.

و هكذا ما روي عن كتاب علي عليه السلام من أنّ اللّٰه تعالي أوحي إلي النبي

احكم بينهم بكتابي و أضفهم إلي اسمي تحلّفهم به «2»

جارٍ في جميع تلك الموارد.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 233، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 3، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة 27: 229، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 1، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 316

[و لا تثبت في الحدود فإنّها لا تثبت إلّا بالإقرار أو البيّنة]

و لا تثبت في الحدود (29) فإنّها لا تثبت إلّا بالإقرار أو البيّنة بالشرائط المقرّرة في محلّها،

______________________________

(29) لا يبعد أن يقال: إنّ مقتضي العمومات ثبوتها في موارد الحدود و التعزيرات أيضاً؛ و ذلك لشمول عموم قوله

اليمين علي من أنكر

أو

اليمين علي من ادّعي عليه

لها؛ و ذلك أنّ موضوعها من اتّصف بالإنكار لما ادّعي عليه، فإذا جاء أحد بإنسان إلي القاضي مدّعياً

عليه أنّه زني أو شرب الخمر أو كذب علي اللّٰه مثلًا فأنكره، فلا ريب في صدق المنكر و المدّعي عليه علي ذلك الإنسان؛ فالمورد من موارد القضاء و لذا يقضي عليه إذا أقرّ أو قامت عليه البيّنة و عنوان المنكر و المدّعي عليه صادق عليه، فلزوم اليمين عليه يثبت من الرواية.

و دعوي انصراف «المنكر» إلي من كان في قباله المدّعي أو من ادّعي، و «المدّعي» منصرف إلي من يدّعي شيئاً ترجع فائدته إلي نفسه؛ و حيث لا فائدة في موارد الحدود عائدة إلي الشاكي الحاكي فمدّعيها و منكرها خارجان عن موضوع هذه الأخبار. فقولهم عليهم السلام

البيّنة.

إلي آخره، نظير أقوالهم التي يكون موضوعها صاحب الحقّ و طالبه، و نظير المبدوّ بقوله عليه السلام

الحقوق كلّها: البيّنة.

إلي آخره، لا يشمل موارد الحدّ و التعزير.

مندفعة بأنّه يكفي في ارتباط الأمر إلي المدّعي أن يكون طالباً لإقامة حدود اللّٰه كما هو حقّ كلّ مسلم، و راغباً في انتهاء الناس عن نواهي اللّٰه

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 317

______________________________

تعالي كما هو وظيفة كلّ أحد، و قد عرفت: أنّ التعبير بطالب الحقّ و صاحبه مبني علي ما هو الغالب في المرافعات، فمقتضي العمومات ثبوت اليمين علي المنكر.

و منه تعرف الاستدلال بصحيح سليمان بن خالد المتضمّن لحكاية ما أوحي اللّٰه إلي نبي من الأنبياء «1».

لكن في قبال هذه العمومات أخبار تدلّ علي عدم توجّه اليمين في باب الحدود علي المدّعي عليه، بل لو أقرّ بالمعصية أو قامت عليها البيّنة لُاجري عليه الحدّ، و إلّا تدرأ عنه الحدود بالشبهة بلا حاجة إلي يمين:

فمنها: مرسل البزنطي و ابن عمير اللذين لا يرويان إلّا عن ثقة عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّٰه عليه

السلام قال

أتي رجل أمير المؤمنين عليه السلام برجل فقال: هذا قذفني و لم تكن له بيّنة، فقال: يا أمير المؤمنين استحلفه، فقال: لا يمين في حدّ و لا قصاص في عظم «2».

و دلالة الحديث واضحة؛ إذ لا ريب في أنّه ليس مراده عليه السلام إجراء حدّ القذف مع عدم البيّنة و هو منكر، بل مراده: أنّه يدرأ عنه الحدّ بعد أن لم تكن له بيّنة، بلا حاجة إلي يمين المدّعي عليه.

و الحديث كالصريح في مثل حدّ القذف الذي تعلّق به حقّ الناس

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 229، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 1، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 28: 46، كتاب الحدود، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 24، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 318

______________________________

و أُنيط إقامته بمطالبة المقذوف، و عامّ لجميع الحدود الإلهية الأُخر.

و منها: معتبر غياث بن إبراهيم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام عن أبيه عن أمير المؤمنين عليه السلام في قول اللّٰه عزّ و جلّ- وَ لٰا تَأْخُذْكُمْ بِهِمٰا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّٰهِ قال

في إقامة الحدود

، و في قوله وَ لْيَشْهَدْ عَذٰابَهُمٰا طٰائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قال

الطائفة واحد

، و قال

لا يستحلف صاحب الحدّ «1»

؛ فإنّ وقوع كلامه هذا ذيل إقامة حدّ الزنا و سائر الحدود التي هي عقوبات إلهية من غير انتساب إلي مدّعٍ خصوصي يراعي حقّه، شاهد علي قراءة

لا يستحلف

مبنياً للمجهول، و يراد بصاحب الحدّ من يراد إجراء الحدّ عليه؛ فيدلّ علي المطلوب عين الرواية السابقة.

و منها: معتبر إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام عن أبيه

أنّ رجلًا استعدي علياً عليه السلام علي رجل، فقال: إنّه افتري عليّ، فقال علي عليه السلام للرجال: أ فعلت ما فعلت؟ فقال:

لا، ثمّ قال علي عليه السلام للمستعدي: أ لك بيّنة؟ فقال: ما لي بيّنة، فأحلفه لي، قال علي عليه السلام: ما عليه يمين «2».

و دلالته علي عدم ثبوت اليمين في مورد دعوي الافتراء واضحة. و «الافتراء» و إن عمّ الافتراء بما لا يوجب حدّ القذف، إلّا أنّه يعمّ ما إذا أوجب حدّ القذف أيضاً، فهو دالّ علي انتفاء اليمين في مورد حدّ القذف.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 10: 150/ 602، وسائل الشيعة 28: 46، كتاب الحدود، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 24، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة 28: 46، كتاب الحدود، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 24، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 319

و لا فرق في عدم ثبوت الحلف بين أن يكون المورد من حقّ اللّٰه محضاً كالزنا أو مشتركاً بينه و بين حقّ الناس كالقذف، فإذا ادّعي عليه أنّه قذفه بالزنا فأنكر لم يتوجّه عليه يمين، و لو حلف المدّعي لم يثبت عليه حدّ القذف، نعم لو كانت الدعوي مركّبة من حق اللّٰه و حقّ الناس كالسرقة فبالنسبة إلي حقّ الناس تثبت اليمين، دون القطع الذي هو حقّ اللّٰه تعالي (30).

[مسألة 14 يستحبّ للقاضي وعظ الحالف قبله]

مسألة 14 يستحبّ للقاضي وعظ الحالف قبله (31)، و ترغيبه في ترك اليمين إجلالًا للّٰه تعالي و لو كان صادقاً،

______________________________

فممّا ذكرنا تعرف قوّة ما أفاده دام ظلّه حتّي فيما كان الحدّ من قبيل حدّ القذف المشترك بين اللّٰه و الناس، هذا كلّه في الحدود.

و أمّا التعزيرات: ففي مورد التعزير للافتراء علي أحد بغير موجب القذف، فيدلّ علي انتفاء اليمين فيه معتبر عمّار الماضي. و لعلّه بضمّه إلي ما سبقه من المعتبرين يفهم منها عرفاً عدم اختصاص انتفائها بموارد الحدود، بل يعمّ التعزيرات أيضاً؛ إمّا

بإرادة الأعمّ من لفظة «الحدّ» الواقع فيهما، و إمّا بإلغاء الخصوصية عرفاً إلي كلّ عقوبة دنيوية.

(30) فإنّه مصداق للحدّ، و يعمّه قوله عليه السلام

لا يمين في حدّ، و لا يستحلف صاحب الحدّ.

(31) و يدلّ علي استحبابه: أنّه بعد ما كان المطلوب ترك الحلف به تعالي إجلالًا و تعظيماً كما مرّ ذيل قوله مدّ ظلّه في المسألة الثامنة:

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 320

و أخافه من عذاب اللّٰه تعالي إن حلف كاذباً (32) و قد روي أنّه: «من حلف باللّٰه كاذباً كفر» و في بعض الروايات: «من حلف علي يمين و هو يعلم أنّه كاذب فقد بارز اللّٰه» و «أنّ اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع من أهلها».

______________________________

«الأرجح له ترك التغليظ»، فراجع فهو من الحقّ و الخير، فيعمّه قوله تعالي وَ تَوٰاصَوْا بِالْحَقِّ «1»، و قوله صلي الله عليه و آله و سلم في موثّقة السكوني

من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو دلّ علي خير أو أشار به فهو شريك.

الحديث «2».

(32) فإنّ الاجتناب عن الكذب أيضاً من الحقّ المأمور بالتواصي به، و من الخير الذي يكون الدالّ عليه شريكاً لفاعله، و لا أقلّ من إلغاء الخصوصية عن الأُمور الوجودية و المستحبّات و الواجبات إلي ترك المكروهات و المحرّمات، كما لا يخفيٰ.

______________________________

(1) العصر (103): 3.

(2) وسائل الشيعة 16: 124، كتاب الأمر و النهي، أبواب الأمر و النهي، الباب 1، الحديث 21.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 321

[القول في أحكام اليد]

اشارة

القول في أحكام اليد

[مسألة 1 كلّ ما كان تحت استيلاء شخص و في يده بنحو من الأنحاء فهو محكوم بملكيّته]

مسألة 1 كلّ ما كان تحت استيلاء شخص و في يده بنحو من الأنحاء فهو محكوم بملكيّته و أنّه له (1) سواء كان من الأعيان أو المنافع أو الحقوق أو غيرها. فلو كان في يده مزرعة موقوفة و يدّعي أنّه المتولّي يحكم بكونه كذلك، و لا يشترط في دلالة اليد علي الملكية و نحوها التصرّفات الموقوفة علي الملك فلو كان شي ء في يده يحكم بأنّه ملكه، و لو لم يتصرّف فيه فعلًا و لا دعوي ذي اليد الملكية، و لو كان في يده شي ء فمات و لم يعلم أنّه له و لم يسمع منه دعوي الملكية يحكم بأنّه له و هو لوارثه. نعم، يشترط عدم اعترافه بعدمها، بل الظاهر الحكم بملكية ما في يده و لو لم يعلم أنّه له، فإن اعترف بأنّي لا أعلم أنّ ما في يدي لي أم لا يحكم بكونه له بالنسبة إلي نفسه و غيره.

______________________________

(1) هذه المسألة تضمّنت أحكاماً كثيرة من آثار اليد و تفسيراً إجمالياً للمراد باليد:

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 322

______________________________

أمّا اليد الموضوع لهذه الآثار: فالمراد بها كما أشار إليه مدّ ظلّه بقوله: «كلّ ما كان تحت استيلاء الشخص.» إلي آخره الاستيلاء علي شي ء و التسلّط عليه بحيث كان أمره بيده و في سلطته بنحو من الأنحاء المتعارفة. و لا يراد بها خصوص وقوعه في يده بالمعني المقابلة للرجل و سائر الأعضاء؛ فإنّ الدار و الدكّة و الأرض في يد الإنسان، و اليد حجّة علي الملكية مع أنّها ليست واقعة في العضو الخاصّ منه. هذا بالنسبة إلي تفسيرها.

و أمّا أحكامها: فمنها: أنّها حجّة شرعية علي تحقّق العنوان الذي يكون الشي ء بذاك

العنوان تحت الاستيلاء. فالاستيلاء علي عين بعنوان أنّها ملكه حجّة علي كونها ملكاً للمستولي، و الاستيلاء عليها بعنوان أنّها معارة حجّة علي كونها كذلك، و الاستيلاء عليها بعنوان أنّها جائزة التصرّف من مالكها و بإذنه دليل صرف جواز التصرّف فيها، و هكذا الاستيلاء علي عين موقوفة بعنوان أنّه متولّيها حجّة علي أنّه متولّيها، بل الاستيلاء علي جارية بعنوان أنّها حليلته حجّة علي تحقّق هذا المعني، و الاستيلاء علي امرأة بعنوان أنّها زوجته حجّة علي الزوجية.

و إلي هذه المعاني كلّها أشار بقوله دام ظلّه: «سواء كان من الأعيان أو المنافع أو الحقوق أو غيرها»، متفرّعاً عليه قوله دام ظلّه؛ «فلو كان في يده مزرعة موقوفة و يدّعي أنّه المتولّي يحكم بكونه كذلك».

و منها: أنّه لا يشترط في حجّيتها علي الملكية و نحوها أن يتصرّف

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 323

______________________________

تصرّفاً مناسباً للعنوان المخصوص، بل مجرّد الاستيلاء علي الشي ء و وضع اليد عليه بعنوان مخصوص حجّة علي تحقّق هذا العنوان لذي اليد، بالتفصيل الذي مرّت إليه الإشارة.

و منها: أنّه في موارد الحكم بملكية ذي اليد للعين التي تحت يده لا يشترط دعواه للملكية، بل مجرّد وقوع يده عليها كافٍ للحكم بملكيته ما لم يصرّح هو نفسه بأنّها ليست ملكاً له. فلو مات و كانت عين تحت يده و لم يعلم أنّها ملك له أو وديعة لغيره يجري عليها أحكام ملكه، و تقسّم بين ورثته. و إليه أشار بقوله دام ظلّه: «و لا دعوي الملكية.» إلي قوله: «نعم يشترط عدم اعترافه بعدمها».

و منها: أنّ يده حجّة علي ملكيته حتّي بالنسبة إلي نفس ذي اليد فلو لم يعلم ذو اليد أنّ ما في يده ملك له أم

لغيره، و قد وقعت بيده، حكم بأنّها له، و يده حجّة علي ملكيته بالنسبة إلي نفسه و غيره. و إليه أشار بقوله دام ظلّه: «بل الظاهر: الحكم بملكية ما في يده و لو لم يعلم مبنياً للفاعل أنّه له.» إلي آخر المسألة.

و الدليل علي تفسير «اليد» بذلك التفسير و ترتّب الآثار الأربعة المذكورة عليها، هو بناء العقلاء المستمرّ قطعاً إلي زمن المعصومين، من غير ورود ردع منهم عليهم السلام عن هذا البناء، و عدم الردع دليل الرضا، كما في سائر الموارد. بل ورد الإمضاء له منهم كما سيأتي فإنّ العقلاء ببنائهم العملي يرون الاستيلاء علي الشي ء بالتفسير الذي مضي حجّة علي تحقّق المعاني المشروحة، كما يظهر لمن راجع وجدانه

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 324

______________________________

العقلائي فارغاً عن شوائب الأوهام.

و مع ذلك: فقد وردت أخبار مصرّحة بإمضاء هذا البناء، أو موافقة لهذا البناء العقلائي:

ففي خبر حفص بن غياث الذي رواه المشايخ الثلاثة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: قال له رجل: إذا رأيت شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال عليه السلام

نعم

، قال الرجل: أشهد أنّه في يده و لا أشهد أنّه له، فلعلّه لغيره، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام

أ فيحلّ الشراء منه؟

قال: نعم، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام

فلعلّه لغيره، فمن أين جاز لك أن تشتريه و يصير ملكاً لك، ثمّ تقول بعد الملك: هو لي و تحلف عليه، و لا يجوز أن تنسبه إلي من صار ملكه من قبله إليك؟!

ثمّ قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام

لو لم يجز هنا لم يقم للمسلمين سوق «1».

فتراه عليه السلام لمّا استنكر الرجل أن يشهد علي مالكية ذي اليد، أنّه

قد أرجعه إلي ارتكازه العقلائي و استدلّ به عليه، ثمّ أفاد: أنّ هذا البناء ممضي شرعاً، و أنّه لولاه لم يقم للمسلمين سوق.

و في موثّقة يونس بن يعقوب عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام: في امرأة تموت قبل الرجل، أو رجل قبل المرأة؟ قال

ما كان من متاع النساء فهو للمرأة، و ما كان من متاع الرجال و النساء فهو بينهما، و من استولي علي شي ء منه فهو

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 292، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 25، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 325

______________________________

له «1».

فقوله في الموثّقة

و من استولي.

إلي آخره، حكم في مورد الموثّقة بأنّ استيلاء كلّ منهما بالخصوص علي شي ء من الأمتعة حجّة و دليل علي أنّه له، كما أنّ استيلاء كليهما علي شي ء منه مع عدم أمارة علي الاختصاص بأحدهما حجّة علي أنّه مشترك بينهما. و كلا الأمرين ممّا عليه بناء العقلاء.

فالموثّقة حجّة في خصوص موردها، و فيها إشارة و تأييد لحجّية اليد علي ما يراها العقلاء. كما أنّ قوله

و من استولي

إشارة إلي ملاك هذه الحجّية و تفسير المراد باليد علي ما عرفت.

و في صحيحة العيص بن القاسم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام عن مملوك ادّعي أنّه حُرٌّ و لم يأت ببيّنة علي ذلك، أشتريه؟ قال

نعم «2»

، و نحوها رواية حمزة بن حمران «3»، فراجع.

فتراه عليه السلام قد حكم بترتيب آثار ملكية ذي اليد و جواز شراء من يكون تحت يده بعنوان أنّه مملوك، و عدم الاعتناء بادّعاء المملوك أنّه حُرٌّ، فهي حجّة في موردها و مؤيّدة لسيرة العقلاء علي حجّية اليد.

و في صحيح جميل بن صالح قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: رجل وجد في منزله ديناراً؟

قال

يدخل منزله غيره؟

قلت: نعم كثير، قال

هذا

______________________________

(1) وسائل الشيعة 26: 216، كتاب الفرائض و المواريث، أبواب ميراث الأزواج، الباب 8، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة 18: 250، كتاب التجارة، أبواب بيع الحيوان، الباب 5، الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة 18: 250، كتاب التجارة، أبواب بيع الحيوان، الباب 5، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 326

______________________________

لقطة

، قلت: فرجل وجد في صندوقه ديناراً؟ قال

يدخل أحد يده في صندوقه غيره أو يضع فيه شيئاً؟

قلت: لا، قال

فهو له «1».

و في صحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن الدار يوجد فيها الورق؟ فقال

إن كانت معمورة فيها أهلها فهي لهم، و إن كانت خربة قد جلا عنها أهلها فالذي وجد المال أحقّ به «2»

، و نحوه صحيحه الآخر عن أحدهما عليهما السلام «3»، فراجع.

فإنّه عليه السلام قد حكم فيما كان الصندوق و ما فيه تحت يده فقط بأنّ الدينار الذي وجده فيه، هو له و إن لم يعلم هو نفسه بأنّه له، و فيما كانت الدار معمورة بيد أهلها: أنّ الورق التي وجدت فيها و وقعت تحت يد مالكي الدار و أهلها هي لهم.

فالصحاح حجّة في موردها و مؤيّدة للتعميم الذي يراه العقلاء من حجّية اليد؛ حتّي بالنسبة إلي نفس ذي اليد، و لا اختصاص لحجّيتها بالغير.

و في خبر مسعدة بن صدقة المروي عن «الكافي» و «التهذيب» عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سمعته يقول

كلّ شي ء هو لك حلال حتّي تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، و ذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته و هو سرقة، أو المملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع

______________________________

(1) وسائل الشيعة 25: 446، كتاب

اللقطة، الباب 3، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 25: 447، كتاب اللقطة، الباب 5، الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة 25: 447، كتاب اللقطة، الباب 5، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 327

______________________________

قهراً، أو امرأة تحتك و هي أُختك أو رضيعتك، و الأشياء كلّها علي هذا حتّي يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة «1».

فتراه عليه السلام قد حكم بحلّية ما في يده من الثوب أو المملوك الذي اشتراه مع احتمال حرمته لكونه سرقة و غيرها و حكم بحلّية ما استولي عليها من المرأة مع احتمال حرمتها عليه لكونها أُختاً له أو رضيعته ثمّ حكم بجريان هذه الحلّية في جميع موارد احتمال الحرمة؛ فتدلّ علي حلّية ما في اليد في جميع موارد احتمال حرمته.

و في الحديث كلام طويل مذكور في مباحث أُصول الفقه، و الحديث فيه إشارة إلي عدم اختصاص حكم اليد بملكية ما فيها، بل يثبت بها مثل الزوجية أيضاً كما مرّت، فتأمّل.

فبالجملة: فلا ريب في استقرار سيرة العقلاء علي حجّية اليد كما عرفت و الشارع لم يردع عنها، بل أمضاها بما عرفت من خبر حفص و هذه الأخبار؛ فسيرتهم حجّة في جميع مواردها.

و لا يبعد أن يقال بعدم اختصاص عندهم في حجّية اليد بكون ذي اليد إنساناً، بل إذا كان لبناءٍ مثل المسجد و الحمّام يداً و استيلاء علي الاستقاء من نهر أو جدول مثلًا فيد المسجد أو الحمّام حجّة علي كونه ذا حقّ من النهر و الجدول و هكذا.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 4، الحديث 4.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 328

[مسألة 2 لو كان شي ء تحت يد وكيله أو أمينه أو مستأجرة]

مسألة 2 لو كان شي ء تحت يد وكيله أو أمينه

أو مستأجرة فهو محكوم بملكيته (2) فيدهم يده، و أمّا لو كان شي ء بيد غاصب معترف بغصبيته من زيد، فهل هو محكوم بكونه تحت يد زيد أو لا؟ فلو ادّعي أحد ملكيته و أكذب الغاصب في اعترافه، يحكم بأنّه لمن يعترف الغاصب أنّه له، أم يحكم بعدم يده عليه، فتكون الدعوي من الموارد التي لا يد لأحدهما عليه؟ فيه إشكال و تأمّل و إن لا يخلو الأوّل من قوّة. نعم، الظاهر فيما إذا لم يعترف بالغصبية أو لم تكن يده غصباً و اعترف بأنّه لزيد يصير بحكم ثبوت يده عليه.

______________________________

(2) هذه المسألة متضمّنة لأمرين:

أحدهما: أنّ وقوع الشي ء تحت يد الشخص لا يعتبر في حجّيته أن يكون بلا واسطة و بالمباشرة، بل إذا كان تحت يد متفرّعة علي يد الشخص فهو كافٍ في الحكم بملكية الشخص الأصيل.

و هل هو من باب تنزيل اليد الفرعية منزلة يد نفس الشخص كما ربّما يشير إليه قوله دام ظلّه: «فيدهم يده» أو إنّ الاستيلاء علي الشي ء الذي هو مفهوم اليد أعمّ من أن يكون بإيراد التصرّفات الخارجية عليه من ناحية الشخص بلا واسطة؛ بأن يسكن الدار مثلًا بنفسه، أو بوقوع اليد المتفرّعة علي يده بوكالة أو إجارة أو إعارة مثلًا عليه بما أنّها متفرّعة. فهذا النحو من الاستيلاء أيضاً كافٍ في صدق حقيقة مفهوم اليد، الذي هو موضوع الحكم بالحجّية عند العقلاء؟

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 329

[مسألة 3 لو كان شي ء تحت يد اثنين فيد كلّ منهما علي نصفه]

مسألة 3 لو كان شي ء تحت يد اثنين فيد كلّ منهما علي نصفه (3)،

______________________________

و الظاهر هو الثاني؛ فإنّه لا ريب في أنّ العقلاء يرون الشخص الأصلي الذي تفرّع عليه وقوع الأيادي الفرعية ذا يدٍ علي الشي ء، و يرون يده حجّة

علي مالكيته، و لا يعتبرون في حقيقة موضوع حكمهم بالحجّية أزيد من هذا الاستيلاء. هذا كلّه لو علم بتفرّع أياديهم علي يده.

و أمّا لو لم يعلم ذلك، فهل يكون قول ذي اليد بالمباشرة بأنّ ما في يده فهو تحت يد ذلك الشخص، و أنّه وقع تحت يده من يد ذلك الشخص و تبعاً له و متفرّعاً عليه، فهل يكون قوله هذا حجّة أم لا؟

فهذا هو الأمر الثاني الذي تضمّنت هذه المسألة له، و هو قوله دام ظلّه: «و أمّا لو كان شي ء بيد غاصب.» إلي آخر المسألة، فقد اختار دام ظلّه حجّية قول ذي اليد بذلك و إن كان غاصباً. و الدليل عليها: هو بناء العقلاء علي حجّية قول ذي اليد و إن كان غاصباً؛ فإنّ مَن وجد عنده مال مسروق و قال بسرقته من دكّان شخص، فلا يرتاب أحد في أنّه يحكم بأنّه كان من جملة أموال الدكّان واقعاً تحت يد صاحبه، جارياً عليه أحكام يده و احتمال أنّ كونه غاصباً سارقاً مانع عن قبول قوله، مردود عند العقلاء، و لا يعتني به في بنائهم، و لم يردع عن بنائهم هذا أيضاً الشرع الأقدس؛ فهو حجّة.

(3) لعلّ الوجه فيه: أنّ الشي ء الواحد محدود لو تصرّف فيه أحدهما تصرّفاً فلا يقبل أن يتصرّف فيه الآخر؛ فلو باعه أحدهما لا يتصوّر

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 330

فهو محكوم بمملوكيته لهما (4) و قيل: يمكن أن تكون يد كلّ منهما علي تمامه، بل يمكن أن يكون شي ء واحد لمالكين علي نحو الاستقلال، و هو ضعيف.

______________________________

أن يبيعه الآخر، و هكذا إجارته و إعارته؛ فلا محالة يكون يد كلّ منهما علي نصفه.

لكن فيه: أنّ المفروض أنّ كلّا

منهما يتصرّف فيه ما أمكن من التصرّفات، من غير أن يردعه الآخر، و تصرّفاته متعلّقة بجميع الشي ء لا بنصفه؛ فهو مستولٍ علي بيع جميعه و علي إجارة جميعه و علي التصرّف الخارجي في جميعه. و المحدودية الوجودية إنّما توجب حدّا للاستيلاء، و لا يوجب حدّا فيما استولي عليه، فاستيلاؤه علي جميع هذا الشي ء كما كان علي جميعه لو لم يكن معه غيره.

فالحقّ ما أفاده دام ظلّه بقوله: «و قيل: يمكن أن تكون يد كلّ علي تمامه».

(4) و ذلك أنّ يد كلّ منهما و إن قلنا بأنّها علي تمامه كما قوّيناه و اليد حجّة علي ملكية ما فيها لذيها، إلّا أنّه لمّا كان لا يتصوّر عند العقلاء اجتماع مالكين علي شي ء واحد في زمان واحد بل ليس كلّ الشي ء الواحد إلّا ملكاً لواحد، لا أن يكون كلّ هذا الشي ء في عين كونه ملكاً لزيد مثلًا ملكاً لعمرو أيضاً فلا محالة يكون اليد التامّة هنا حجّة علي تنصيف الشي ء بين الاثنين و تثليثه بين الثلاث و هكذا.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 331

[مسألة 4 لو تنازعا في عين مثلًا فإن كانت تحت يد أحدهما]

مسألة 4 لو تنازعا في عين مثلًا فإن كانت تحت يد أحدهما فالقول قوله بيمينه، و علي غير ذي اليد البيّنة (5).

______________________________

و منه تعرف وجه ضعف ما نقله دام ظلّه: «بل يمكن أن يكون شي ء واحد لمالكين علي نحو الاستقلال»، هذا.

و يشهد من الأخبار علي هذا التنصيف ما قد مرّ في موثّقة يونس بن يعقوب من قول الصادق عليه السلام

و ما كان من متاع الرجال و النساء فهو بينهما

، فتذكّر.

فالاحتمال المذكور مخالف لاعتبار العقلاء، و للأخبار أيضاً.

ثمّ إنّ هذا كلّه في حجّية اليد بنفسها علي ملكية صاحبها فيما لم يكن في البين

نزاع. و أمّا مع وقوع النزاع فاليد ليست بحجّة كافية معتمدة، بل هي كأصالة البراءة و سائر الأُصول مشخّصة للمنكر من المدّعي. فاليد كالأُصول الأُخر حجّة بنفسها إذا لم يكن منازعة، و ملاك لتشخيص المنكر إذا وقع نزاع. و هذا المعني يأتي التعرّض له و لدليله في المسائل الآتية.

(5) و ذلك لوجهين:

أحدهما: شمول إطلاق قولهم عليهم السلام

البيّنة علي من ادّعي، و اليمين علي من ادّعي عليه «1»

، أو

و اليمين علي من أنكر «2»

له؛ فإنّه لا ريب في

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 233، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 3، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 293، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 25، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 332

______________________________

أنّ من يمشي علي طبق طبع القضية و يداوم عليه، ثمّ يأتي آخر من الخارج يزاحمه و يدّعي شيئاً علي خلاف جريان الأمر، فلا شكّ في أنّ هذا الآخر يعدّ عرفاً مدّعياً و ذلك الشخص مدّعي عليه و منكراً.

و فيما نحن فيه حيث إنّ اليد حجّة عقلائية علي ملكية ذي اليد كما عرفت فالمشي علي طبقها إنّما هو بأن يكون ذو اليد متصرّفاً لما في يده مالكاً له؛ فمن يأتي و يريد هدم مقتضاها فهو المدّعي عرفاً، و ذو اليد مدّعي عليه و منكر، و البيّنة علي من ادّعي و اليمين علي من ادّعي عليه.

الوجه الثاني: صحيحة حمّاد بن عثمان و عثمان بن عيسي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام الواردة في حديث فدك، ففيها

إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لأبي بكر: أ تحكم فينا بخلاف حكم اللّٰه في المسلمين؟ قال: لا، قال: فإن كان في يد المسلمين شي ء يملكونه ادّعيت أنا فيه، ممّن كنت

تسأل البيّنة؟ قال: إيّاك كنت أسأل البيّنة علي ما تدّعيه علي المسلمين، قال: فإذا كان في يدي شي ء فادّعي فيه المسلمون تسألني البيّنة علي ما في يدي؟.

إلي أن قال

و قد قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم: البيّنة علي من ادّعي و اليمين علي من أنكر «1».

و هي كالصريحة في أنّ حكم اللّٰه و سنّة الرسول: أنّ البيّنة علي من ادّعي علي ذي يد مالكية، و اليمين علي ذي اليد.

و نحوها خبر منصور الوارد في تعارض بيّنة ذي اليد و غيره من قول

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 293، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 25، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 333

و إن كانت تحت يدهما فكلّ بالنسبة إلي النصف مدّع و منكر؛ حيث إنّ يد كلّ منهما علي النصف (6) فإن ادّعي كلّ منهما تمامها يطالب بالبيّنة بالنسبة إلي نصفها، و القول قوله بيمينه بالنسبة إلي النصف،

______________________________

الصادق عليه السلام

حقّها للمدّعي و لا أقبل من الذي في يده بيّنة؛ لأنّ اللّٰه عزّ و جلّ إنّما أمر أن تطلب البيّنة من المدّعي، فإن كانت له بيّنة، و إلّا فيمين الذي هو في يده، هكذا أمر اللّٰه عزّ و جلّ «1»

، و هو صريح في أنّ البيّنة علي من يدّعي علي ذي اليد، و أنّ عليه اليمين.

(6) يعني فهو ذو اليد بالنسبة إلي النصف، و ذو اليد بالنسبة إلي ما في يده منكر و غيره مدّعٍ.

لكنّه إنّما يتمّ علي مبناه دام ظلّه و أمّا علي ما قوّيناه من أنّ يد كلّ منهما في أمثال المورد علي التمام فبيان المطلب: أنّ يد كلّ منهما و إن كانت علي جميع العين، لكنّها كما عرفت

إنّما تقتضي هنا ملكيته لنصف ما في يده، فطبع الأمر عند العرف أن يكون مالكاً للنصف، فإن ادّعي أزيد منه فهو كالخارج غير ذي اليد مدّعٍ لخلاف مقتضي طبيعة الأمر، فهو مدّع و ذو اليد الآخر منكر و مدّعي عليه بالنسبة إلي هذا النصف، هذا بالنظر إلي الوجه الأوّل.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 255، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12، الحديث 14.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 334

و إن كانت بيد ثالث فإن صدّق أحدهما المعيّن يصير بمنزلة ذي اليد (7)، فيكون منكراً و الآخر مدّعياً، و لو صدّقهما و رجع تصديقه بأنّ تمام العين لكلّ منهما يلغي تصديقه (8) و يكون المورد ممّا لا يد لهما،

______________________________

و أمّا الوجه الثاني أعني الأخبار فقد مرّ أنّه عليه السلام قال

فإن كان في يد المسلمين شي ء يملكونه ادّعيت أنا فيه

، فوصف الشي ء بوصف

يملكونه

فهو لا سيّما بضميمة الارتكاز العرفي يدلّ علي أنّ الملاك: أن يكون ذو اليد يعامل معاملة الملك لما في يده؛ حتّي يكون دعوي غيره عليه دعوي علي خلاف مقتضي جريان الأمر في الخارج، و هو عبارة أُخري عمّا قلناه.

(7) لما عرفت في المسألة الثانية من حجّية قول ذي اليد عند العقلاء، فإذا صدّق أحدهما المعيّن فلا بدّ مع قطع النظر عن المنازعة و أن يعدّ مالكاً و طبع الأمر أن يعرف هو مالكاً؛ فمن يظهر و يدّعي الخلاف فهو مدّعٍ و الآخر مدّعي عليه و منكر.

(8) لأنّ قول ذي اليد أمارة، و حجّية الأمارات منوطة بأن لا يعلم كذبها. و حيث يستحيل عرفاً أن يكون كلّ منهما مالكاً لتمام العين في زمان واحد فيعلم بكذب ذي اليد في خبره؛ فلا حجّة لقوله، و لا

يمكن الاستناد إليه في تعيين المالك و ذي اليد، و المفروض أن لا يد لأحدهما خارجاً مع قطع النظر عن قول من في يده.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 335

و إن رجع إلي أنّها لهما بمعني اشتراكهما فيها يكون بمنزلة ما تكون في يدهما (9) و إن صدّق أحدهما لا بعينه لا تبعد القرعة (10) فمن خرجت له حلف، و إن كذّبهما و قال: هي لي تبقي في يده و لكلّ منهما عليه اليمين (11).

______________________________

(9) إذ لا بأس حينئذٍ بأن يكون قوله حجّة؛ فمع قطع النظر عن النزاع يقتضي طبع الأمر عند العقلاء مالكيتهما مشتركاً؛ فمن يدّعي الخلاف فهو مدّعٍ و خصمه مدّعي عليه و منكر في هذه الجهة.

(10) و ذلك أنّ قول ذي اليد بأنّ أحدهما لا بعينه مالك، حجّة عقلائية علي مالكية أحدهما لا بعينه مع قطع النظر عن النزاع، و مع النظر إلي النزاع يكون أحدهما لا بعينه مدّعياً، له حقّ إقامة البيّنة و استحلاف الخصم، و للآخر حقّ التصرّف في المال، إلّا بإقامة خصمه بيّنة علي الخلاف.

فبعد النزاع يكون المورد بملاحظة الجهل بالمقرّ له و عدم معلوميته عندنا من موارد تزاحم الحقوق، و مبني السيّد الماتن دام ظلّه حجّية قاعدة القرعة في جميع موارد تزاحم الحقوق؛ فبالقرعة يعيّن و يعرف هذا المجهول، فيعرف بها مَن له حقّ إقامة البيّنة و استحلاف خصمه ممّن عليه اليمين.

(11) إذ هو حينئذٍ ذو اليد، و كلّ من المتنازعين معه مدّعيان لخلاف طبع الأمر و مقتضاه، فعليهما البيّنة و علي ذي اليد اليمين. و حيث إنّ لكلّ من المتنازعين دعوي علي حدة فعليه اليمين لكلّ منهما كذلك،

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص:

336

و لو لم تكن في يدهما و لا يد غيرهما و لم تكن بيّنة فالأقرب الاقتراع بينهما (12).

______________________________

و إن لا يبعد الاكتفاء بيمين واحدة لهما بعد استحلافهما جميعاً له؛ عملًا بإطلاق أدلّة الاكتفاء باليمين بعد استحلاف المدّعي.

(12) و ذلك أنّ من المسلّم: أنّ من ادّعي ما لا يد لأحد عليه يحكم بأنّه له، و الدليل عليه بناء العقلاء؛ فإنّه إذا كان عين مطروحة في جانب طريق عامّ مثلًا لا يد لأحد عليها و لا يدّعيها أحد، فادّعاها أحد و تناولها و تصرّف فيها، فلا ريب في أنّه لا يقبّحه العقلاء و لا يمنعونه و لا يسألونه الحجّة علي ما يدّعيه، بل لا يزاحمه العقلاء أصلًا.

و لعلّ من ذلك الباب ما في صحيح منصور بن حازم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: قلت: عشرة كانوا جلوساً وسطهم كيس فيه ألف درهم، فسأل بعضهم بعضاً: أ لكم هذا الكيس؟ فقالوا كلّهم: لا، و قال واحد منهم: هو لي، فلمن هو؟ قال

للّذي ادّعاه «1»

؛ فإنّه لمّا ادّعي شيئاً لم يدّعه غيره حكم بأنّه له.

و إن لم يمكن الاستدلال لهذه القاعدة بهذه الصحيحة؛ فإنّ المفروض

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 273، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 17، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 337

[مسألة 5 إذا ادّعي شخص عيناً في يد آخر و أقام بيّنة]

مسألة 5 إذا ادّعي شخص عيناً في يد آخر و أقام بيّنة و انتزعها منه بحكم الحاكم ثمّ أقام المدّعي عليه بيّنة علي أنّها له، فإن ادّعي أنّها فعلًا له و أقام البيّنة عليه، تنتزع العين و تردّ إلي المدّعي الثاني (13)،

______________________________

فيها: أنّ الكيس كان واقعاً وسطهم، و كونه كذلك عبارة أُخري عن وقوعه تحت أيديهم، فإذا نفاه كلّهم فقد أقرّوا علي

أنفسهم، و إقرار العقلاء علي أنفسهم حجّة، فإذا ادّعاه واحد منهم فدعواه بعد نفي غيره بمنزلة دعوي ذي اليد، فلا حجّة في الصحيحة علي تلك القاعدة.

لكنّها يكفي فيها بناء العقلاء عليها، الذي لم يردع الشارع عنه، بل لعلّه أمضاه لفظاً بمثل هذه الصحيحة، و مثل الأخبار الواردة في اللقطة و وجوب إعطائها لطالبها، فراجع.

و بالجملة: فمقتضي القاعدة العقلائية: أنّ ما لا يد لأحد عليه و يدّعيه شخص أن يعدّ هذا ملكاً لمدّعيه، ففيما نحن فيه إذا ادّعاه شخصان فمقتضي هذه القاعدة أن يكون ملكاً لأحدهما، و لا يكون المالك خارجاً عنهما، و حيث إنّهما متنازعان فدعوي كلّ منهما مزاحمة في مقتضاها لدعوي الآخر؛ فالمورد من قبيل التزاحم في الحقوق المالية يرجع لتعيين ذي الحقّ إلي قاعدة القرعة.

(13) فإنّ دعوي هذا المدّعي الثاني بناءً علي هذا الفرض دعوي جديدة هو مدّعيها و ذو اليد منكر، و البيّنة علي المدّعي، فإذا جاء بها قضي بها له.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 338

و إن ادّعي أنّها له حين الدعوي و أقام البيّنة علي ذلك، فهل ينتقض الحكم و تردّ العين إليه أو لا؟ قولان، و لا يبعد عدم النقض (14).

______________________________

(14) و ذلك أنّ دعواه هذه و ما أقام عليها البيّنة هي عين ما كان يظهره و يدّعيه في الدعوي التي يكون المفروض القضاء فيها بحسب موازين القضاء، و ليست دعواه هذه دعوي جديدة، بل نفس تلك الدعوي السابقة، غاية الفرق: أنّه لم يقم البيّنة سابقاً و أقامها الآن.

و هذه الدعوي لمّا كان المفروض طرحها و القضاء فيها حسب موازين القضاء فلا يجوز نقض الحكم السابق بمجرّد إقامة البيّنة علي خلاف ما حكم به القاضي، و إن

جاز نقضه مع القطع بكونه خلاف الواقع.

و الفرق: أنّه مع القطع بكونه خلاف الواقع يدخل في الحكم بغير ما أنزل اللّٰه، فيجب نقضه. و أمّا إذا لم يحصل القطع بكونه خلاف الواقع، و المفروض: أنّه كان علي موازين القضاء، فلا محالة يكون داخلًا في عموم قولهم عليهم السلام

فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّٰه «1»

و غيره ممّا مرّ، هذا.

مضافاً إلي ما سيجي ء في المسألة الثامنة من أنّه في تعارض البيّنات يتقدّم بيّنة الخارج؛ فإنّه لمّا كان المفروض أنّه يدّعي ملكيته حين الدعوي الاولي و يقيم البيّنة عليها، فدعواها نفس تلك الدعوي التي كانت

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 339

[مسألة 6 لو تنازع الزوجان في متاع البيت]

مسألة 6 لو تنازع الزوجان في متاع البيت سواء حال زوجيتهما أو بعدها ففيه أقوال (15) أرجحها أنّ ما يكون من المتاع للرجال فهو للرجل، كالسيف و السلاح و ألبسة الرجال، و ما يكون للنساء فللمرأة كألبسة النساء و مكينة الخياطة التي تستعملها النساء و نحو ذلك،

______________________________

فيها ذا يدٍ، و مع تعارض بيّنة ذي اليد و غيره فالتقدّم أيضاً لبيّنة غير ذي اليد، علي ما يجي ء إن شاء اللّٰه.

و أمّا توهّم: أنّ تخلّل الحكم و كون دعواه بعد إنشاء الحكم يوجب كونها دعوي جديدة هو فيها مدّعٍ و صاحبه المنكر فلا بدّ و أن يقبل منه البيّنة و يحكم له بها.

فمندفع بأنّ المفهوم عرفاً من أدلّة تقديم بيّنة الخارج: أنّ في هذه الدعوي يكون حقّ البيّنة للخارج، و لا يقبل بيّنة ذي اليد؛ سواء أقامها قبل حكم الحاكم أو بعده، كما لا يخفي.

(15) منها: أنّ كليهما ذو اليد،

فيد كلّ منهما علي نصفه، فيحلف كلٌّ منهما لصاحبه و يكون بينهما بالسوية.

حكاه في «الشرائع» عن الشيخ في «المبسوط». قال في «الجواهر» و «المسالك»: و تبعه العلّامة في «القواعد» و ولده في المحكي من شرحه.

و منها: أنّ ما يصلح للرجال للرجل، و ما يصلح للنساء للمرأة، و ما يصلح لهما يقسّم بينهما.

و هو قول الشيخ في «الخلاف»، قال في كتاب الدعاوي و البيّنات منه

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 340

و ما يكون للرجال و النساء فهو بينهما (16) فإن ادّعي الرجل ما يكون للنساء كانت المرأة مدّعي عليها، و عليها الحلف لو لم يكن للرجل بيّنة، و إن ادّعت المرأة ما للرجال فهي مدّعية، عليها البيّنة و علي الرجل الحلف، و ما بينهما فمع عدم البيّنة و حلفهما يقسّم بينهما، هذا إذا لم يتبيّن كون الأمتعة تحت يد أحدهما،

______________________________

في (المسألة 27): فما يصلح للرجال القول قوله مع يمينه، و ما يصلح للنساء القول قولها مع يمينها، و ما يصلح لهما كان بينهما. و قد روي أيضاً: أنّ القول في جميع ذلك قول المرأة مع يمينها. إلي أن قال بعد نقل أقوال أهل الخلاف: دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم.

و في «الشرائع»: ما ذكره في «الخلاف» أشهر في الروايات و أظهر بين الأصحاب. و نسبه في «المسالك» إلي الأكثر، و عن المحقّق في «نكت النهاية» نسبته إلي المشهور، و عن «السرائر»: الإجماع عليه.

و منها: غير ذلك.

(16) أقول: إنّ المسألة مفروضة علي وجهين: فتارةً لا يكون في البين نزاع، و يكون المالك الواقعي مجهولًا و يراد تعيينها بحسب القواعد؛ سواء كان في حياة الزوجين أم بعد و فات أحدهما أو كليهما. فيقال حينئذٍ بأنّ مختصّات الرجال

محكومة بملكية الرجل، و مختصّات النساء للمرأة، و المشتركات مشتركة بينهما، إلّا إذا كان شي ء تحت يد أحدهما بالخصوص؛ فيحكم عليه بملكيته لذي اليد.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 341

______________________________

و أُخري يقع بين الزوجين أو ورثتهما أو بين أحدهما و ورثة الآخر تنازع، يدّعي كلٌّ ملكية شي ء يدّعيه الآخر، فيكون الاختصاص أو اليد ميزاناً لتشخيص المنكر الذي عليه اليمين من المدّعي الذي عليه البيّنة.

و كيف كان: فالدليل علي هذا القول موثّقة يونس بن يعقوب عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في امرأة تموت قبل الرجل أو رجل قبل المرأة؟ قال

ما كان من متاع النساء فهو للمرأة، و ما كان من متاع الرجال و النساء فهو بينهما، و من استولي علي شي ء منه فهو له «1».

و صحيحة رفاعة النخاس بنقل «الفقيه» عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

إذا طلّق الرجل امرأته و في بيتها متاع فلها ما يكون للنساء، و ما يكون للرجال و النساء قسّم بينهما

، قال

و إذا طلّق الرجل المرأة فادّعت أنّ المتاع لها و ادّعي الرجل أنّ المتاع له، كان له ما للرجال، و لها ما يكون للنساء «2».

فظاهر الحديث الأوّل و صدر الثاني: أنّ الاختصاص و الاشتراك حجّة شرعية علي الحكم بملكيته لأحدهما أو لهما بالاشتراك، و الحديث الأوّل و صدر الثاني و إن لم يصرّح بأنّ ما للرجال فهو للرجل إلّا أنّ المفهوم منهما عرفاً كصريح ذيل الثاني أنّ الاختصاص بإحدي الطائفتين جعل

______________________________

(1) وسائل الشيعة 26: 216، كتاب الفرائض و المواريث، أبواب ميراث الأزواج، الباب 8، الحديث 3.

(2) الفقيه 3: 65/ 215، وسائل الشيعة 26: 216، كتاب الفرائض و المواريث، أبواب ميراث الأزواج، الباب 8، الحديث 4.

مباني تحرير الوسيلة

- القضاء و الشهادات، ص: 342

______________________________

شرعاً حجّة أو أمارة علي أنّ ذلك الشي ء ملك لمن اختصّ به. و إطلاقهما يقتضي أن يحكم بالملكية لهما بالتفصيل المذكور و إن لم يكن منازعة. كما أنّ من ملاحظتهما و انضمامهما يعلم أنّ الاختصاص و الاشتراك قرينتان و حجّتان، من غير دخل لموت أحدهما أو حياته.

بل يمكن دعوي: أنّ إطلاق ظاهرهما يقتضي تبعية الحكم بالملكية للاختصاص و الاشتراك حتّي مع التنازع، بلا حاجة إلي أمر آخر كاليمين.

لكنّها مندفعة بأنّ ما في ذيل الموثّقة من قوله عليه السلام

و من استولي علي شي ء منه فهو له

شاهد علي اختصاص حجّية الاختصاص و الاشتراك بغير مورد النزاع.

و ذلك أنّه لا ريب في أنّ الحكم بالملكية المذكورة في هذا الذيل مساوق عرفاً للحكم بالمذكورة منها في الصدر، و معلوم: أنّ مفاد الذيل هو الملكية المستندة إلي اليد؛ إذ الاستيلاء علي شي ء عبارة أُخري عن وقوع اليد عليه، و من الواضح المصرّح به في الأخبار: أنّ الملكية في باب اليد و إن كانت ممّا قامت عليها الحجّة و هي اليد إلّا أنّه لا شكّ في أنّه إذا ادّعي أحدٌ ما في يد الغير كان هذه دعوي مسموعة؛ فالمدّعي إن أقام بيّنة علي دعواه يحكم بأنّه له، و إلّا كان علي ذي اليد أن يستحلف حتّي يحكم بأنّها له، فهذا الذيل قرينة واضحة علي أنّ الملكية المذكورة في الصدر أيضاً من هذا القبيل، لا تقاوم البيّنة علي خلافها، و علي صاحبها اليمين إذا ادّعي خلافها، هذا.

مضافاً إلي وضوح الأمر بنفسه؛ إذ لا يتصوّر عند العقلاء أن يكون

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 343

______________________________

حجّية الاختصاص و الاشتراك و أماريتهما أقوي من حجّية اليد و أماريتها.

ثمّ

إنّ ذكر هذا الذيل دليل متّصل لفظي علي أنّ حجّية الاختصاص و الاشتراك إنّما هي فيما لم تكن يد لأحدهما خاصّة، و إلّا فلو كان شي ء تحت يد أحدهما بالخصوص و استيلائه، فيحكم بأنّه له، و لا يعتني إلي قضية الاختصاص

و من استولي علي شي ء منه فهو له

، هذا.

و من الحديثين يعلم: أنّ مقتضي القاعدة قاعدة وقوع يد كلّ من الرجل و المرأة علي شي ء واحد و إن كان الحكم باشتراكه بينهما علي السواء، إلّا أنّه بعد ورود الحديثين في نفس المورد و حكمهما بحجّية الاختصاص، فلا محالة لا اعتبار بمقتضي اليد المشتركة، و يكون اختصاص الشي ء بإحدي الطائفتين حجّة شرعية علي كونه ملكاً للرجل أو المرأة و علي كونه المدّعي عليه، عليه اليمين و علي خصمه البيّنة، كما لا يخفي.

و منه تعرف عدم إمكان الاستناد إلي مقتضي القواعد الأوّلية في المقام و انهدام أساس القول الأوّل و بعض آخر من الأقوال.

و في قبال الحديثين صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألني

هل يقضي ابن أبي ليلي بالقضاء ثمّ يرجع عنه؟

فقلت له: بلغني أنّه قضي في متاع الرجل و المرأة إذا مات أحدهما فادّعاه ورثة الحيّ و ورثة الميّت أو طلّقها فادّعاه الرجل و ادّعته المرأة بأربع قضايا، فقال

و ما ذاك؟

قلت: أمّا أوّلهنّ: فقضي فيه بقول إبراهيم النخعي؛ كان يجعل متاع المرأة الذي لا يصلح للرجل للمرأة، و متاع الرجل الذي لا يكون للمرأة للرجل، و ما كان للرجال و النساء بينهما نصفين، ثمّ بلغني أنّه

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 344

______________________________

قال: إنّهما مدّعيان جميعاً؛ فالذي بأيديهما جميعاً يدّعيان جميعاً بينهما نصفان، ثمّ قال: الرجل صاحب البيت، و

المرأة الداخلة عليه و هي المدّعية؛ فالمتاع كلّه للرجل، إلّا متاع النساء الذي لا يكون للرجال، فهو للمرأة الداخلة عليه و هي المدّعية؛ فالمتاع كلّه للرجل إلّا متاع النساء الذي لا يكون للرجال فهو للمرأة.

ثمّ إنّه قضي بقضاء بعد ذلك لولا أنّي شهدته لم أروه عنه: ماتت امرأة منّا و لها زوج و تركت متاعاً، فرفعته إليه، فقال: اكتبوا المتاع، فلمّا قرأه قال للزوج: هذا يكون للرجال و المرأة فقد جعلناه للمرأة إلّا الميزان؛ فإنّه من متاع الرجل، فهو لك.

فقال عليه السلام لي

فعلي أيّ شي ء هو اليوم؟

فقلت: رجع إلي أن قال بقول إبراهيم النخعي: أن جعل البيت للرجل، ثمّ سألته عليه السلام عن ذلك فقلت: ما تقول أنت فيه؟ فقال

القول الذي أخبرتني أنّك شهدته و إن كان قد رجع عنه

، فقلت: يكون المتاع للمرأة؟! فقال

أ رأيت إن أقامت بيّنة إلي كم كانت تحتاج؟

فقلت: شاهدين، فقال

لو سألت من بين لابتيها يعني الجبلين، و نحن يومئذٍ بمكّة لأخبروك أنّ الجهاز و المتاع يهدي علانية من بيت المرأة إلي بيت زوجها، فهي التي جاءت به، و هذا المدّعي فإن زعم أنّه أحدث فيه شيئاً فليأت عليه البيّنة «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة 26: 213، كتاب الفرائض و المواريث، أبواب ميراث الأزواج، الباب 8، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 345

______________________________

و الحديث نقل بإسناد مختلفة معتبرة عن عبد الرحمن بن الحجّاج و إسحاق بن عمّار، رواه الكليني و الشيخ في «الكافي» و «التهذيبين»، فهو حديث معروف في الكتب المعروفة مروي بإسناد معروفة كثيرة معتبرة.

و هو و إن كان في بعض خصوصيات نقله اختلاف، إلّا أنّها جميعاً متّحدة في الاشتمال علي ما اشتمل عليه ذيل ما نقلناه؛ من أنّ

المتاع للمرأة، و أنّ علي الرجل إقامة البيّنة، إلّا فيما يختصّ بالرجال ليس إلّا، كالميزان ممّا لم يعهد كونه من جهاز المرأة.

و دلالة الحديث واضحة كسنده، لكنّه لاشتماله علي التعليل في قوله عليه السلام

أ رأيت إن أقامت بيّنة إلي كم كانت تحتاج؟

فقلت: شاهدين، فقال

لو سألت من بين لابتيها لأخبروك أنّ الجهاز و المتاع يهدي علانية من بيت المرأة إلي بيت زوجها.

إلي آخره، مختصّ ببلاد يكون المتعارف فيها هدية متاع البيت من ناحية المرأة و من مال أهلها إلي بيت الرجل، و بزمان يكون المتعارف بقاءه فيه؛ بأن لم يمض من ازدواجهما فصل طويل يفني فيه جهاز المرأة كلّا أو جلّا، و إلّا فلا ريب في عدم جريان التعليل المذكور.

و حينئذٍ: فلا يبعد أن يقيّد إطلاق الموثّق و الصحيح الأوّلين بمضمون هذه الصحيحة المستفيضة، فيختصّان ببلاد لم يتعارف فيها حمل الجهاز من مال المرأة إلي بيت زوجها، و بما مضي زمان يفني فيه جهازها.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ كلامه و تعليله عليه السلام مطلق يدلّ علي أنّ المتعارف في بلاد المسلمين حمل الجهاز من بيت المرأة إلي بيت زوجها، ففي هذا

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 346

و إلّا فلو فرض أنّ المتاع الخاصّ بالنساء كان في صندوق الرجل و تحت يده أو العكس، يحكم بملكية ذي اليد (17) و علي غيره البيّنة،

______________________________

الوضع المتعارف وردت صحيحة رفاعة و موثّقة يونس بن يعقوب المتقدّمتين، و دلّتا علي أنّ المعيار هو اختصاص المتاع عرفاً بالرجال و النساء و اشتراكه بينهما. فالمختصّ مختصّ و المشترك مشترك و من استولي علي شي ء منه فهو له؛ فلا محالة يقع التعارض بينهما فيما يحتمل كونه للمرأة و كونه للرجل.

نعم، إذا علم

كون شي ء من جهاز المرأة في بلدة يشهد أهلها جميعاً بأنّ المرأة أهدت جهازها إلي بيت زوجها، فكون هذا الشي ء ملكاً للمرأة معلوم، و الصحيحة و الموثّقة منصرفتان عنه.

و أمّا إذا لم يكن شي ء بهذه المثابة من الوضوح فمفاد الصحيحة المستفيضة معارض لهما. و الصحيحة و إن كانت أشهر و أوثق نقلًا و روايةً، إلّا أنّهما أشهر فتوي؛ حتّي أنّك عرفت دعوي الإجماع من «الخلاف» و «السرائر» علي مفادهما.

و قد تحقّق في مباحث التعادل و الترجيح: أنّ أوّل المرجّحات هي شهرة الرواية بين الأصحاب عملًا و فتوي، و هي موافقة لهما دونها، بل ربّما يقال بأنّ الأصحاب أعرضوا عنها، فهي ساقطة عن الحجّية بنفسها بالإعراض عنها، فضلًا عن معارضتها لهما.

و كيف كان: فلا ينبغي الإشكال في أنّ المتّبع هو موثّقة يونس و صحيحة رفاعة النخّاس، علي ما عرفت.

(17) لما عرفت من دلالة ذيل الموثّقة علي أنّ اليد مقدّمة علي

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 347

و لا يعتبر في ما للرجال أو ما للنساء العلم بأنّ كلّا منهما استعمل ماله أو انتفع به، و لا إحراز أن يكون لكلّ منهما يد مختصّة بالنسبة إلي مختصّات الطائفتين (18). و هل يجري الحكم بالنسبة إلي شريكين في دارٍ: أحدهما من أهل العلم و الفقه، و الثاني من أهل التجارة و الكسب، فيحكم بأنّ ما للعلماء للعالم و ما للتجّار للتاجر، فيستكشف المدّعي من المدّعي عليه؟ وجهان، لا يبعد الإلحاق (19).

[مسألة 7 لو تعارضت اليد الحالية مع اليد السابقة]

مسألة 7 لو تعارضت اليد الحالية مع اليد السابقة أو الملكية السابقة تقدّم اليد الحالية، فلو كان شي ء في يد زيد فعلًا، و كان هذا الشي ء تحت يد عمرو سابقاً أو كان ملكاً له، يحكم بأنّه

لزيد (20) و علي عمرو إقامة البيّنة، و مع عدمها فله الحلف علي زيد.

______________________________

التشخيص بالاختصاص.

(18) كلّ ذلك لإطلاق الموثّقة و الصحيحة، و استظهار أنّ المشخّص و الملاك هو نفس الاختصاص، و إن لم يتصرّف فيه المختصّ به، بل و لم يكن عليه يده المختصّة.

(19) و الوجه فيه: أنّه بعد ما كانت الصحيحة و الموثّقة حجّتين، فالظاهر منهما عرفاً أنّ اختصاص شي ء بواحد من شريكي التصرّف في محلّ، قرينة و حجّة علي أنّه له؛ فكلّما حصل هذا القدر من الاختصاص كان حجّة علي الملكية، فيستكشف منه المالك عند الجهل، و يستكشف منه المدّعي و المنكر عند النزاع.

(20) أقول: إذا كان شي ء تحت يد عمرو مثلًا أو علمنا بأنّه كان

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 348

نعم، لو أقرّ زيد بأنّ ما في يده كان لعمرو و انتقل إليه بناقل، انقلبت الدعوي و صار زيد مدّعياً (21)، و القول قول عمرو بيمينه،

______________________________

ملكاً له ثمّ وقع بيد زيد و احتملنا أنّه له، فوقع التنازع بينهما؛ فادّعي عمرو و هو ذو اليد أو المالك السابق أنّه له، و ادّعي زيد و هو ذو اليد اللاحق أنّه له، فتنازعاه.

فهاهنا صور أربع، قد تعرّض الماتن مدّ ظلّه لحكم كلّ منها:

فالصورة الاولي: أن نري الشي ء بيد زيد بعد أن رأيناه بيد عمرو، أو علمنا بأنّه كان ملكاً لعمرو، فهاهنا لو لم يكن نزاع فيد زيد حجّة علي أنّ الشي ء ملك له؛ إذ لا يعتبر في حجّية اليد علي ملكية ذي اليد عدم كونها مسبوقة بيد غيره أو بملك الغير؛ فإنّا نعلم أنّ ما في يد التجار مسبوقة بيد غيرهم و بملك غيرهم، و مع ذلك نعامل معها معاملة ملكهم، و هو

أمر عليه جميع العقلاء.

فإذا وقع عليه نزاع بين ذي اليد الفعلية و ذي اليد السابقة، فيدّعي كلٌّ منهما أنّها ملك له لا يزيد علي هذا، فلا ريب في تقدّم قول ذي اليد الفعلية بيمينه، و علي خصمه إقامة البيّنة، كما عرفت في المسائل السابقة.

(21) هذه هي الصورة الثانية، و هي: أن يتّفقا في أنّ العين كانت لعمرو، فادّعي زيد أنّ عمراً نقلها إليه، و أنكره عمرو؛ فإنّهما يتنازعان في انتقالها إلي زيد، و اليد و إن كانت حجّة علي الملكية، إلّا أنّها لا تثبت سببها. فإذا تنازعا في الانتقال و عدمه فالأصل عدم الانتقال. و قول مدّعي الانتقال مخالف للأصل، و هو مدّعٍ عرفاً و منكره منكر و مدّعي عليه؛ فعلي مدّعي

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 349

و كذا لو أقرّ بأنّه كان لعمرو أو في يده و سكت عن الانتقال إليه (22) فإنّ لازم ذلك دعوي الانتقال، و في مثله يشكل جعله منكراً لأجل يده، و أمّا لو قامت البيّنة علي أنّه كان لعمرو سابقاً أو علم الحاكم بذلك، فاليد محكّمة (23) و يكون ذو اليد منكراً و القول قوله.

______________________________

الانتقال إقامة البيّنة علي دعواه، و إلّا فالقول قول خصمه بيمينه.

(22) هذه هي الصورة الثالثة، و الفرق بينها و بين سابقتها: أنّ في السابقة تصريحاً من ذي اليد بدعوي الانتقال، و هاهنا إنّما يصرّح بأنّها كانت قبلًا لعمرو و يدّعي أنّها الآن له، و لا يأتي من الانتقال بكلام صريح، إلّا أنّ لازم كلامه هو دعوي انتقالها من عمرو إليه. و يقوي هنا حكم العرف بأنّ لبّ نزاعهما في الانتقال؛ فيدّعيه أحدهما و ينكره الآخر، و في مثله يشكل جعل زيد منكراً لأجل

يده؛ فلا يبعد جريان حكم الصورة السابقة هاهنا أيضاً.

(23) فرقها مع سابقتها هو اعتراف ذي اليد الفعلية بسبق ملك عمرو في سابقته، و لا يعترف به فيها، و إنّما يعلم بهذا السبق الحاكم أو قام به البيّنة؛ فبحسب طرح النزاع و مصبّه يدّعي ذو اليد أنّه ملك له و يدّعي غيره أنّه ملك لغير ذي اليد، و العلم بسبق ملك هذا الغير كالعلم بسبق ملك غيره لا يمنع عن جريان قاعدة اليد، و لا عن حجّية اليد علي الملكية. و بالحقيقة مرجع هذه الصورة إلي الصورة الأُولي؛ و لذلك لم نعدّها صورة رابعة، و قد عرفت الكلام في الصورة الأُولي، فتذكّر.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 350

نعم، لو قامت البيّنة بأن يد زيد علي هذا الشي ء كان غصباً من عمرو أو عارية أو أمانة و نحوها، فالظاهر سقوط يده (24) و القول قول ذي البيّنة.

[مسألة 8 لو تعارضت البيّنات في شي ء فإن كان في يد أحد الطرفين]

مسألة 8 لو تعارضت البيّنات في شي ء فإن كان في يد أحد الطرفين فمقتضي القاعدة تقديم بيّنة الخارج و رفض بيّنة الداخل و إن كانت أكثر أو أعدل و أرجح؛ و إن كان في يدهما فيحكم بالتنصيف بمقتضي بيّنة الخارج و عدم اعتبار الداخل،

______________________________

(24) هذه هي الصورة الرابعة، و فرقها مع سوابقها واضح؛ إذ المفروض في السوابق عدم قيام البيّنة علي كون اليد يد غير المالك، بخلافها؛ فإنّ البيّنة قامت علي أنّ يده يد غير المالك ابتداءً؛ لكونها يد الغاصب أو المستعير أو الأمين أو المستأجر و أمثالهم، فالبيّنة تبيّن أمر اليد في ابتداء الأمر.

و معلوم: أنّ اليد إنّما تكون حجّة علي الملكية إذا لم يتبيّن أمرها و منشأها بالبيّنة أو العلم كما هو واضح لمن راجع العقلاء

فإذا وقع بينهما تنازع فإنّا و إن احتملنا صدق ذي اليد في دعواه الملكية بأن انتقل ما في يده من مالكه إليه إلّا أنّ اليد المعلومة الحال و أنّها كانت يد غير المالك في أوّل الأمر ليست عند العقلاء أمارة و لا حجّة علي الملكية عند النزاع؛ فإنّهم يحتملون فيها أنّها بقاء اليد الاولي؛ فلا حجّة فيها علي ملكية ذيها.

و حيث إنّ مقتضي البيّنة أنّها كانت ملكاً لعمرو مثلًا و زيد بادّعائه أنّها ملك له يدّعي أمراً خلاف الأصل، فزيد مدّعٍ عرفاً عليه البيّنة، و عمرو منكر يقبل قوله بيمينه.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 351

و إن كان في يد ثالث أو لا يد لأحد عليه، فالظاهر سقوط البيّنتين و الرجوع إلي الحلف أو إلي التنصيف أو القرعة. لكن المسألة بشقوقها في غاية الإشكال من حيث الأخبار و الأقوال، و ترجيح أحد الأقوال مشكل و إن لا يبعد في الصورة الأُولي ما ذكرناه (25).

______________________________

(25) مراده دام ظلّه بالصورة الأُولي: تعارض بيّنة ذي اليد المعبّر عنه بالداخل و بيّنة غيره، و قد قال دام ظلّه فيها: «فمقتضي القاعدة: تقديم بيّنة الخارج و رفض بيّنة الداخل، و إن كانت أكثر أو أعدل و أرجح».

و كيف كان: فكما أفاده دام ظلّه فالمسألة في غاية الإشكال من حيث الأخبار و الأقوال؛ حتّي في هذه الصورة الاولي:

أمّا الأقوال: فالمنسوب إلي المشهور فيما إذا شهدت البيّنتان بالملك المطلق و لم يذكرا سببه تقديم بيّنة الخارج، بل عن «الخلاف» و «الغنية» و «السرائر» و ظاهر «المبسوط»: الإجماع عليه. و مع ذلك فقد نسب إلي ابن حمزة في «الوسيلة» تقديم بيّنة الداخل مطلقاً، و عن الصدوقين: اختصاص تقديم بيّنة الخارج هنا

بما إذا تساوتا في العدالة، و عن المفيد: اختصاصه بما إذا تساوتا في العدالة و العدد، و عن أبي علي بن الجنيد: أنّه مع تساوي البيّنتين يحلف المدّعي و المنكر جميعاً، فإن حلفا جميعاً أو أبيا أو حلف الذي في يده، يحكم للّذي هي في يده، فإن أبي ذو اليد و حلف غير ذي اليد يحكم لغير ذي اليد.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 352

______________________________

كما أنّ المنسوب إلي المشهور في هذه الصورة الأُولي فيما إذا شهدت البيّنتان بسبب الملك كالنتاج و الاشتراء تقديم بيّنة الخارج أيضاً، بل عن «الغنية»: الإجماع عليه.

و مع ذلك: فعن شيخ الطائفة في «النهاية» و «التهذيبين» تقديم بيّنة ذي اليد، و في «الجواهر»: أنّه يقدّم هنا بيّنة ذي اليد و يتوجّه عليه اليمين.

كما أنّه إذا شهدت بيّنة ذي اليد بسبب ملكه و شهد بيّنة الخارج بأصل الملك، فعن «الرياض»: أنّ الصدوقين و المفيد و ابن إدريس و ابن زهرة أطلقوا تقديم بيّنة الخارج، بل عن ابن زهرة في «غنيته»: الإجماع عليه، لكن عن الشيخ في «تهذيبه» و «نهايته» و «مبسوطه»، و عن القاضي ابن البرّاج و الطبرسي و الفاضلين و الشهيدين: تقديم بيّنة ذي اليد، و اختار صاحب «الجواهر» تقديم بيّنة ذي اليد و توجيه اليمين عليه، إلي غير ذلك من الاختلافات.

و أمّا الأخبار الواردة في تعارض البيّنات: فهي علي اختلافها تنقسم بالنسبة إلي محلّ البحث علي قسمين: القسم الأوّل ما ورد في تعارض البيّنتين بقول مطلق، من غير اختصاص بصورة إقامة الدعوي علي ذي اليد. و القسم الثاني ما ورد في خصوص هذه الصورة:

أمّا القسم الأوّل: فهو علي طوائف:

الطائفة الأُولي: ما تدلّ علي أنّه يقرع حينئذٍ بين المتخاصمين،

فأيّهما وقعت عليه القرعة يحلف و يحكم له، و هي أخبار:

منها: صحيحة الحلبي قال: سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام عن رجلين شهدا

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 353

______________________________

علي أمر و جاء آخران فشهدا علي غير ذلك فاختلفوا؟ قال

يقرع بينهم، فأيّهم قرع فعليه اليمين و هو أولي بالحقّ «1».

و دلالتها علي ما ذكرناه كإطلاقها واضحة. نعم، إنّ المفروض استواء البيّنتين عدداً و إن لم يكن فيها إشارة بالاختصاص به.

و منها: صحيحة داود بن سرحان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في شاهدين شهدا علي أمر واحد، و جاء آخران فشهدا علي غير الذي شهدا عليه (شهد الأوّلان خ. ل) و اختلفوا؟ قال

يقرع بينهم، فأيّهم قرع عليه اليمين فهو أولي بالقضاء «2»

، و هي مثل سابقته حرفاً بحرف.

و احتمال أن يراد الضرب بالقرعة لتعيين البيّنة التي عليها اليمين مضافاً إلي بعده في نفسه؛ لعدم معهودية إحلاف الشهود يدفعه الإتيان بضمير الإفراد في قوله عليه السلام

فهو أولي بالقضاء

؛ فإنّ إفراده مناسب للخصم الذي اختصم إلي القاضي، لا الشاهدين اللّذين شهدا له.

و منها: صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

كان علي عليه السلام إذا أتاه رجلان (يختصمان) بشهود عدلهم سواء و عددهم، أقرع بينهم علي أيّهما تصير اليمين، و كان يقول: اللهمّ ربّ السماوات السبع (و ربّ الأرضين السبع) أيّهم كان له الحقّ فأدّه إليه، ثمّ يجعل الحقّ للّذي

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 254، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12، الحديث 11.

(2) وسائل الشيعة 27: 251، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12، الحديث 6.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 354

______________________________

يصير عليه اليمين إذا حلف «1».

و دلالة

الصحيحة كإطلاقها من جهة ذكر السبب و عدمه، و من حيث كون الدعوي علي ذي اليد و عدمه واضحة، و إن اختصّت، بل ربّما دلّت علي اختصاص حكم هذه القرعة بما إذا استوت الشهود عدداً و عدالة.

ثمّ إنّ التعبير بالصحيحة في الأخيرتين إنّما هو بلحاظ سند الصدوق، و إلّا فعدّهما صحيحتين علي نقل الشيخ و الكليني غير خالٍ عن إشكال.

الطائفة الثانية: ما تدلّ علي أنّه يقرع بين المتخاصمين لتعيين من له الحقّ؛ فأيّهما أصابته القرعة حكم بأنّ الحقّ له، من غير حاجة إلي يمينه.

و هي موثّقة سماعة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

إنّ رجلين اختصما إلي علي عليه السلام في دابّة، فزعم كلّ واحد منهما أنّها نتجت علي مذوده، و أقام كلّ واحد منهما بيّنة سواء في العدد، فأقرع بينهما سهمين فعلم السهمين كلّ واحد منهما بعلامة، ثمّ قال: اللهمّ ربّ السماوات السبع و ربّ الأرضين السبع و ربّ العرش العظيم عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم، أيّهما كان صاحب الدابّة و هو أولي بها فأسألك أن يقرع و يخرج سهمه، فخرج سهم أحدهما فقضي له بها «2».

فمورد الموثّقة و إن كان شهادة الشهود بسبب الملك و تختصّ أيضاً بما

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 251، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12، الحديث 5.

(2) وسائل الشيعة 27: 254، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12، الحديث 12.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 355

______________________________

إذا استوت البيّنتان في العدد، إلّا أنّه لا ريب في إطلاقها من حيث كون الدعوي علي ذي اليد أو علي غيره.

كما أنّه لا دلالة فيها أصلًا علي اختصاص الحكم بما إذا شهدت الشهود بالسبب، و إنّما كان موردها الشهادة به، كما

لا يخفي.

و كيف كان: فظهور الموثّقة في أنّه بمجرّد وقوع القرعة علي أحدهما يحكم بأنّ مورد النزاع له واضح؛ فإنّ القضاء له بها ترتّب علي صرف خروج سهمه، من غير انتظار حالة اخري و أمر آخر؛ حلفاً كان أو غيره.

و نحوها مرسلة داود بن أبي يزيد العطّار عن بعض رجاله عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في رجل كانت له امرأة، فجاء رجل بشهود أنّ هذه المرأة امرأة فلان، و جاء آخران فشهدا أنّها امرأة فلان، فاعتدل الشهود و عدلوا، فقال

يقرع بينهم، فمن خرج سهمه فهو المحقّ، و هو أولي بها «1».

و دلالة المرسلة علي أنّ الإقراع إنّما كان لتعيين المحقّ واضح، إلّا أنّه لا يبعد دعوي أنّ موردها ما إذا كانت الدعوي علي ذي اليد؛ فإنّ قوله: «في رجل كانت له امرأة» ظاهر في كون الامرأة تحت يد هذا الرجل، و حينئذٍ: فإن كان هذا الرجل واحداً من اللذين أقاما بيّنة كان من باب تعارض بيّنة الداخل و الخارج، و إن كان اللذان أقاما البيّنة غيره كان من باب تعارض البيّنتين فيما لا يد لواحد منهما؛ و كيف كان: فعدّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 252، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12، الحديث 8.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 356

______________________________

المرسلة من أخبار القسم الأوّل فاسد.

و منها: خبر عبد اللّٰه بن سنان قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول

إنّ رجلين اختصما في دابّة إلي علي عليه السلام فزعم كلّ واحد منهما أنّها نتجت عنده علي مذوده، و أقام كلّ واحد منهما بيّنة سواء في العدد، فأقرع بينهما سهمين، فعلم السهمين كلّ واحد منهما بعلامة، ثمّ قال: اللهمّ ربّ السماوات السبع و ربّ الأرضين

السبع و ربّ العرش العظيم عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم، أيّهما كان صاحب الدابّة و هو أولي بها فأسألك أن تقرع و يخرج اسمه، فخرج اسم أحدهما فقضي له بها. و كان أيضاً إذا اختصم إليه الخصمان في جارية، فزعم أحدهما أنّه اشتراها و زعم الآخر أنّه أنتجها، فكانا إذا أقاما البيّنة جميعاً، قضي بها للّذي أنتجت عنده «1».

فصدر الخبر كما تري مثل الموثّقة علي السواء. لكن ما في ذيلها من تقديم بيّنة الذي أنتجت عنده إن أُريد من «الذي أنتجت عنده» ظاهره بأن كان المفروض إنتاج الجارية التي ورد عليها النزاع تحت يد أحد الخصمين و عنده، كان الخبر من القسم الثاني و ممّا يدلّ علي تقديم بيّنة الداخل، و كان هذا الذيل قرينة متصلة علي تقييد الصدر بغير ذي اليد.

و أمّا إن أُريد من «الذي أنتجت عنده» من يدّعي إنتاجها عنده في مقابل من يدّعي اشتراءها. كان فرقاً بين دعوي الإنتاج و الشراء كما هو

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 255، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12، الحديث 15.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 357

______________________________

ظاهر فهم صاحب «الجواهر» و يكون قرينة علي عدم إلغاء الخصوصية من الصدر من هذه الجهة، و كان ذيله كصدره مطلقاً من حيث كون الدعوي علي ذي اليد و غيره و أنّ جميع الموارد من هذه الجهات علي السواء.

لكنّ الاحتمال الأوّل هو الأظهر، بل الظاهر؛ فلا يصحّ عدّ هذا الخبر أيضاً من القسم الأوّل.

الطائفة الثالثة: ما تدلّ علي أنّه يؤخذ بكلتا البيّنتين و يقسّم المال بين المتخاصمين بنسبة عدد شهودهما، و هي:

موثّقة السكوني عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

قضي أمير المؤمنين عليه السلام في رجلين ادّعيا

بغلة، فأقام أحدهما شاهدين و الآخر خمسة، فقضي لصاحب الشهود الخمسة خمسة أسهم و لصاحب الشاهدين سهمين «1».

و دلالتها واضحة، و كذلك إطلاقها؛ إذ قضاؤه عليه السلام و إن كان لا محالة في قضية خاصّة، إلّا أنّ أبا عبد اللّٰه عليه السلام في كلامه هذا ليس بصدد بيان القصّة و الحكاية، بل بصدد بيان الحكم الإلهي، و حينئذٍ: فإن كان أيّة خصوصية دخيلة في الحكم لكان عليه البيان؛ فترك التفصيل حجّة عرفاً علي إرادة الإطلاق. فإطلاقها شامل لما كان المدّعي عليه ذا اليد و غيره، و يلغي الخصوصية عن مورد الاثنين و الخمسة. و يستفاد منها: أنّه يقسّم المال بنسبة شهودهما.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 253، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12، الحديث 10.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 358

______________________________

الطائفة الرابعة: ما تدلّ علي أنّه يقرع بين الشهود، فأيّ البيّنتين أصابته القرعة حلفت و قضي علي طبق شهادتها، و هي صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: رجل شهد له رجلان بأنّ له عند رجل خمسين درهماً، و جاء آخران فشهدا بأنّ له عنده مائة درهم، كلّهم شهدوا في موقف؟ قال

أُقرع بينهم ثمّ استحلف الذين أصابهم القرع باللّٰه أنّهم يحلفون بالحقّ «1»

، و في التهذيب المطبوع

أنّهم يشهدون بالحقّ «2».

و دلالتها علي ما ذكرناه حتّي علي نسخة «يحلفون» واضحة؛ إذ المشهود له رجل واحد، فالإتيان بالحالفين بصيغة الجمع دليل علي إرادة الشهود، و موردها و إن كان تعارض بيّنتي أحد الخصمين، إلّا أنّه لا يبعد أن يدّعي إلغاء الخصوصية عنه إلي جميع موارد تعارض البيّنات، و أنّ معه يقرع بينها و يحلف البيّنة التي وقع عليها القرعة أنّ شهادتها لحقّ ثمّ

يقضي علي طبقها.

الطائفة الخامسة: ما تدلّ علي أنّ من كان من الخصمين عدد شهوده أكثر يستحلف و يقضي له؛ و هي صحيحة أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل يأتي القوم فيدّعي داراً في أيديهم و يقيم البيّنة، و يقيم الذي في يده الدار البيّنة أنّه ورثها عن أبيه، و لا يدري كيف كان

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 252، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12، الحديث 7.

(2) تهذيب الأحكام 6: 235/ 578.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 359

______________________________

أمرها؟ قال

أكثرهم بيّنة يستحلف و تدفع إليه

، و ذكر

إنّ عليّاً عليه السلام أتاه قوم يختصمون في بغلة، فقامت البيّنة لهؤلاء أنّهم أنتجوها علي مذودهم و لم يبيعوا و لم يهبوا (و قامت البيّنة لهؤلاء بمثل ذلك)، فقضي عليه السلام بها لأكثرهم بيّنة و استحلفهم

، قال: فسألته حينئذٍ فقلت: أ رأيت إن كان الذي ادّعي الدار؟ قال

إنّ أبا هذا الذي هو فيها أخذها بغير ثمن، و لم يقم الذي هو فيها بيّنة، إلّا أنّه ورثها عن أبيه

، قال

إذا كان الأمر هكذا فهي للّذي ادّعاها و أقام البيّنة عليها «1».

فالصحيحة و إن كان صدرها صريحاً في خصوص ما إذا كان المدّعي عليه ذا اليد، إلّا أنّ حكاية مورد قضاء أمير المؤمنين عليه السلام من غير تقييد له بكون أحدهما ذا اليد دليل واضح علي إرادة الإطلاق، و أنّ جميع الموارد علي السواء، و أنّه يحكم باستحلاف الخصم الذي بيّنته أكثر عدداً و يدفع مورد النزاع إليه.

كما أنّ ذكر الشهادة علي مطلق الملك في صدرها بالنسبة إلي الخارج و الشهادة علي سبب الإرث بالنسبة إلي الداخل، لا دخل له بحكم استحلاف الأكثر. و ذلك أيضاً

بقرينة أنّه في مورد قضاء الأمير عليه السلام قد استوي شهود الخصمين في الشهادة علي الملك و سببه؛ و هو «الإنتاج» علي نسخة أو كان مطلقاً من ناحية كيفية شهادة شهود الخصم الآخر

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 249، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 360

______________________________

- علي نسخة الحذف و مع ذلك حكم فيه أيضاً بأنّه يستحلف أكثرهم بيّنة و يقضي له؛ فالمستفاد من الصحيحة قاعدة كلّية، هي: أنّه يستحلف أكثر الخصمين بيّنة و يدفع ما فيه النزاع إليه؛ سواء كان أحدهما ذا يدٍ أم لا. نعم، هو صريح في شموله لذي اليد، فهي من أخبار القسم الأوّل من جهةٍ، و من القسم الثاني من جهة أُخري.

و أمّا ما في ذيلها من الحكم بتقديم بيّنة الخارج فليس بما أنّها بيّنة الخارج، بل الظاهر: أنّه إذا كان شهود الخارج شهدوا بأنّ أخذ أبي المتصرّف كان بلا ثمن فقد أوضحوا بشهادتهم كيفية يد ذي اليد و أنّها لم تكن يد المالك، و المفروض: أنّ شهود المتصرّف لم يشهدوا بأزيد من وقوع يده، و حينئذٍ فلم يكن منافاة بين الشهادتين، و كان مقتضي الأخذ بهما: أنّ الملك كان للخارج، و كان ملكه في يد أبي المتصرّف؛ فلا محالة يدفع إلي الخارج.

هذا كلّه في طوائف القسم الأوّل من الأخبار.

و أمّا القسم الثاني أعني الأخبار الواردة في خصوص ما إذا كانت الدعوي علي ذي اليد فهو أيضاً علي طوائف:

الطائفة الأُولي: ما تدلّ علي أنّ من كان من الخصمين أكثر شهوداً يستحلف و يدفع المال المتنازع فيه إليه؛ و هي ما مرّ من صحيحة أبي بصير آنفاً، التي قد عرفت صحّة عدّها من

أخبار هذا القسم أيضاً؛ لصراحتها في شمول ما تضمّنته من استحلاف أكثرهما شهوداً لخصوص ما كان إقامة الدعوي علي ذي اليد، فتذكّر.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 361

______________________________

الطائفة الثانية: ما تدلّ علي تقديم بيّنة ذي اليد؛ و هي موثّقة غياث بن إبراهيم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام

إنّ أمير المؤمنين عليه السلام اختصم إليه رجلان في دابّة و كلاهما أقاما البيّنة أنّه أنتجها، فقضي بها للّذي في يده و قال: لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين «1».

و دلالتها علي تقديم بيّنة ذي اليد و أنّ هذا التقديم لمكان أنّه ذو اليد و إلّا جعلها بينهما نصفين واضحة.

و الظاهر منها عرفاً: أنّ الحكم عامّ لجميع موارد اختلاف البيّنتين، من غير اختصاص بما ذكرت البيّنتان سبب الملك؛ فإنّ العرف لا يفهم خصوصية، و يفهم منها: أنّ ملاك الحكم مجرّد التعارض.

و الموثّقة ظاهرة بإطلاقها في أنّه يحكم و يقضي علي طبق بيّنة ذي اليد، من دون حاجة إلي حلف ذي اليد، كما لا يخفي.

الطائفة الثالثة: ما تدلّ علي تقديم بيّنة ذي اليد؛ بمعني أنّ ذا اليد إن حلف يقضي له، و هي موثّقة إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام

إنّ رجلين اختصما إلي أمير المؤمنين عليه السلام في دابّة في أيديهما، و أقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها نتجت عنده، فأحلفهما علي عليه السلام فحلف أحدهما و أبي الآخر أن يحلف، فقضي بها للحالف، فقيل له: فلو لم تكن في يد واحد منهما و أقاما البيّنة؟ فقال: أحلفهما، فأيّهما حلف و نكل الآخر جعلتها للحالف،

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 250، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء

و الشهادات، ص: 362

______________________________

فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين، قيل: فإن كانت في يد أحدهما و أقاما جميعاً البيّنة؟ قال: أقضي بها للحالف الذي هي في يده «1».

و دلالتها علي أنّ بيّنة ذي اليد مقدّمة بمعني أنّ ذا اليد يحلف و يقضي بها له واضحة، و قد عرفت إلغاء الخصوصية عرفاً عمّا إذا شهدتا بسبب الملك. مضافاً إلي عدم الحاجة في انفهام العموم إلي إلغائها، بناءً علي نسخة حذف فيها من صدر الحديث قوله

في دابّة.

إلي قوله

فأحلفهما علي عليه السلام

؛ إذ ذكر كون الشهادة علي الإنتاج عنده واقع في هذه الجملة التي حذفت فيها؛ فيكون كيفية الشهادة مطلقة من حيث ذكر سبب الملك و عدمه، بلا حاجة إلي دعوي إلغاء الخصوصية، و كيف كان: فالأمر سهل.

و قد عرفت: أنّ من أخبار هذه الطائفة ذيل خبر عبد اللّٰه بن سنان ذكرناه في عداد الطائفة الثانية من القسم الأوّل، فتذكّر.

فهذه الطوائف الثلاث و إن كانت أخصّ مطلقاً بالنسبة إلي طوائف القسم الأوّل ممّا تعارضها، إلّا أنّها أنفسها متعارضة المضمون؛ فإنّ تقييد الطائفة الثانية بقرينة الطائفة الثالثة بما إذا حلف ذو اليد بعد شهادة بيّنته خلاف الظاهر جدّاً. كما أنّ تقييد كلتيهما بخصوص ما إذا كان عدد شهود البيّنتين متساوياً، بعيد جدّاً لا يتحمّل العرف إرادته من إطلاقها، و يكون

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 250، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 363

______________________________

هذا الجمع جمعاً غير عرفي.

الطائفة الرابعة: ما دلّت علي تقديم بيّنة الخارج و القضاء علي طبقها من غير انتظار أمر آخر، و هي خبران، بل أخبار ثلاثة:

الأوّل: خبر منصور قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: رجل في يده

شاة، فجاء رجل فادّعاها، فأقام البيّنة العدول أنّها ولدت عنده و لم يهب و لم يبع، و جاء الذي في يده بالبيّنة مثلهم عدول أنّها ولدت عنده لم يبع و لم يهب؟ فقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام

حقّها للمدّعي، و لا أقبل من الذي في يده بيّنة؛ لأنّ اللّٰه عزّ و جلّ إنّما أمر أن تطلب البيّنة من المدّعي، فإن كانت له بيّنة، و إلّا فيمين الذي هو في يده، هكذا أمر اللّٰه عزّ و جلّ «1».

و دلالة الخبر علي تقديم بيّنة الخارج في كمال الوضوح، و جعل السرّ و الحكمة لهذا التقديم: أنّ الخارج هو المأمور بإقامة البيّنة في باب القضاء دون الداخل، و الداخل مأمور باليمين؛ فيؤخذ من كلّ منهما ما هو مأمور به؛ فلا محالة يؤخذ بيّنة الخارج لا الداخل.

الخبر الثاني: ما عن «دعائم الإسلام» عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قضي في البيّنتين تختلفان في الشي ء الواحد يدّعيه الرجلان

أنّه يقرع بينهما فيه إذا عدلت بيّنة كلّ واحد منهما و ليس في أيديهما، فأمّا إن كان في أيديهما

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 255، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 12، الحديث 14.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 364

______________________________

فهو بينهما نصفان، فإن كان في يدي أحدهما فإنّما البيّنة فيه علي المدّعي و اليمين علي المدّعي عليه «1».

و ظهوره أيضاً في تقديم بيّنة الخارج واضح؛ إذ ظاهره: أنّ المقسم للأقسام الثلاثة المذكورة فيه، هو ما إذا عدلت بيّنة كلّ منهما.

ففي هذا المفروض قد لا يكون في يد واحد منهما، و قد يكون في يد كليهما، و قد يكون في يد أحدهما بالخصوص، و لكلّ منها حكم يخصّه.

و أشار إلي حكم القسم الثالث بقوله

فإنّما

البيّنة فيه علي المدّعي و اليمين علي المدّعي عليه

يعني: أنّه يطلب من كلّ أحد ما عليه؛ فيطلب من المدّعي و هو الخارج البيّنة و يؤخذ بها منه دون ذي اليد المدّعي عليه.

الخبر الثالث: ما عن «فقه الرضا عليه السلام»

فإذا ادّعي رجل علي رجل عقاراً أو حيواناً أو غيره و أقام بذلك بيّنة و أقام الذي في يده شاهدين، فإنّ الحكم فيه أن يخرج الشي ء من يد مالكه إلي المدعي؛ لأنّ البيّنة عليه «2».

قال في «المسالك»: قال الصدوق بعد ذكره في «المقنع»: هكذا ذكره والدي رحمه الله في رسالته إليّ. و رسالته هذه هي التي قال فيها أبو علي ابن

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 17: 372، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 10، الحديث 1.

(2) مستدرك الوسائل 17: 372، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 10، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 365

______________________________

الشيخ الطوسي 0: إنّ أوّل من ابتكر طرح الأسانيد و جمع بين النظائر و أتي الخبر مع قرينه، علي بن بابويه في رسالته إلي ابنه، قال: و رأيت جميع من تأخّر عنه يحمد طريقته فيها و يعوّل عليه في مسائل لا يجد النصّ عليها؛ لثقته و أمانته و موضعه من العلم و الدين، انتهي.

و قال الشهيد في «الذكري»: إنّ الأصحاب كانوا يأخذون الفتاوي من «رسالة علي بن بابويه» إذا أعوزهم النصّ ثقةً و اعتماداً عليه.

و بالجملة: فدلالة هذه الأخبار الثلاثة علي تقديم بيّنة الخارج، و أنّ السرّ فيه هو الأخذ بما كان الشخص مأموراً بالإتيان به في باب القضاء، واضحة. لكن هذه الأخبار ضعاف بثلاثتها، فكيف يقاوم ما تقدّمتها من الأخبار؟! و التحقيق أن يقال: إنّ القواعد الأوّلية تقتضي سقوط البيّنات المتعارضة؛ و

ذلك أنّ أدلّة حجّيتها عامّة لكلّ أحد؛ إذ هي طريق عقلائي أمضاه الشرع، و ليس قوام طريقيتها و حجّيتها بأن يقيمها خصوص المدّعي عليه، بل هي بنفسها طريق إذا قامت و لو لا بالتماس أحد الخصمين، و كانت حجّة شرعية يجوز للقاضي أن يستند إليها بعد اجتماع سائر الشرائط و يقضي علي طبقها.

فإذا قامت في مورد النزاع بيّنتان متعارضتان فلا محالة وقع التعارض بين طريقين، يكون كلّ منهما حجّة بنفسه و طريقاً، و مقتضي القاعدة في تعارض الطريقين تساقطهما.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 366

______________________________

فلا مجال لتوهّم أنّ مقتضي القواعد حجّية بيّنة خصوص الخارج من هذه الجهة.

كما أنّه لا ينبغي توهّم أنّ قولهم عليهم السلام

البيّنة علي المدّعي، و اليمين علي من ادّعي عليه

، يدلّ علي عدم قبول البيّنة من المدّعي عليه إذا سمح و تفضّل بإقامتها أو قامت له البيّنة لا بالتماس منه، فاستند إليها.

و ذلك أنّ كلّ أحد يعلم أنّ مفاد قولهم هذا إنّما هو أنّ بعهدة المدّعي إقامة البيّنة، و لا يثبت مدّعاه إلّا بإقامتها، و لا تقبل منه اليمين و لا يكتفي منه بها. و المدّعي عليه، عليه اليمين، و لا يلزم تكلّف إقامة البيّنة، و لا يفهم منه: أنّه لو أقام البيّنة فلا يقبل منه، كيف و أدلّة حجّية البيّنة عامّة و حكم العقلاء بطريقتها شاملة لكلّ الموارد و جميع الأشخاص؟! فلا ينبغي الإشكال و الريب في أنّ تقديم بيّنة الخارج و الأخذ بها ليس مقتضي القواعد.

و قد عرفت: أنّ الأخبار المعتبرة المستفيضة و إن تعارضت، إلّا أنّها متّفقة المضمون علي عدم تقديم بيّنة الخارج، بحيث يعارض كلّ من طوائفها لهذه الطائفة الأخيرة الضعيفة.

و مع ذلك كلّه: فقد مرّ

أنّ المشهور من العلماء بل ربّما ادّعي الإجماع أفتوا بتقديم بيّنة الخارج، و لو في خصوص الشهادة بالملك المطلق، أو و ما إذا شهدت البيّنتان المتعارضتان بسببه، و ليس يوجد وجه لهذا التقديم إلّا هذه الأخبار التي لا ريب في أنّها كانت بأيديهم؛ فإنّ خبر منصور موجود في «الكافي» الذي بأيديهم، و خبر «فقه الرضا عليه السلام» موجود

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 367

______________________________

في «رسالة ابن بابويه»، التي يعتمدون عليها إذا أعوزهم النصوص.

فالإفتاء منهم و لو في بعض الموارد الذي لا وجه له إلّا العثور علي هذه الأخبار دليل قطعي علي أنّ المشهور قد عملوا بخبر منصور في قبال هذه الأخبار المعتبرة المستفيضة، و أنّهم قدّموه عليها. فعمل المشهور به يجبر ضعف سنده. و حيث لا جمع عقلائي بينه و بينها فيرجّح بعملهم عليها؛ لما تقرّر في محلّه: أنّ أوّل المرجّحات هو الشهرة الروائية التي تطابقهما العمل.

فهذا هو الوجه لما أفاده دام ظلّه في المتن من قوله: «فمقتضي القاعدة تقديم بيّنة الخارج و رفض بيّنة الداخل، و إن كانت أكثر أو أعدل»، و اللّٰه العالم.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 369

[خاتمة فيها فصلان]

اشارة

خاتمة فيها فصلان:

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 371

[الفصل الأوّل في كتاب قاضٍ إلي قاضٍ]

اشارة

الفصل الأوّل في كتاب قاضٍ إلي قاضٍ

[مسألة 1 لا ينفذ الحكم و لا تفصل الخصومة إلّا بالإنشاء لفظاً]

مسألة 1 لا ينفذ الحكم و لا تفصل الخصومة إلّا بالإنشاء لفظاً، و لا عبرة بالإنشاء كتباً (1)، فلو كتب قاضٍ إلي قاضٍ آخر بالحكم و أراد الإنشاء بالكتابة لا يجوز للثاني إنفاذه و إن علم بأنّ الكتابة له و علم بقصده.

______________________________

(1) قد مرّ في المسألة الثالثة من مسائل الجواب بالإقرار: أنّه لا بدّ في القضاء من إنشاء الحكم، و أنّه غير الثبوت عند الحاكم؛ فإنّ غير الحاكم من أفراد الناس إذا علم بالهلال مثلًا فلا محالة يرتّب عليه آثار كون الغد من شوّال، من دون أن يصدر منه حكم أصلًا.

و الحاكم أيضاً إذا ثبت عنده هلال شوّال فبما أنّه أحد من أفراد الناس يرتّب عليه آثار شوّال، فلا يصوم هو بنفسه و يؤدّي زكاة نفسه و عياله. فصرف هذا العمل و ترتيب الأثر ليس حكماً، بل الحكم هو أن ينشئ أنّ هلال شوّال قد حلّ، أو أنّ غداً عيد الفطر، و إنشاؤه هذا هو حكمه الذي يرتّب عليه الأثر شرعاً، و يجب علي كلّ الناس اتّباعه

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 372

______________________________

و الإفطار غداً و أداء الزكاة و أمثال ذلك.

فالمقصود في هذه المسألة: أنّه لا بدّ و أن يكون الإنشاء بخصوص اللفظ، و لا يكفي الإنشاء بالكتابة. و هذا بحث ثبوتي؛ بمعني أنّه لو فرض أنّ القاضي كتب في ورق في مقام إنشاء الحكم سطوراً مفاده ما أراده من الحكم بأن كتب مثلًا في مقام الإنشاء: أنّ غداً يوم الفطر و أبداه للناس فلا يكتفي به حتّي ينشئه باللفظ.

و التحقيق: أنّ الحكم كما عرفت من الأُمور الإنشائية، و أنّ العقلاء لا يعتبرون في إنشاء الأُمور

الإنشائية أن يكون باللفظ ليس إلّا، فالأمر و النهي أيضاً أمران إنشائيان. و لا ريب في أنّه لو كتب المولي كتاباً في مقام إنشاء أوامره و نواهيه بلا تلفّظ به أصلًا، لما كان شكّ في صدق أنّه أمر و نهي، و يتحقّق بالكتابة أيضاً هذا المعني الإنشائي.

ففيما نحن فيه أيضاً: إذا كتب القاضي مفاد حكمه، و كان بكتابه هذا في مقام الإنشاء، فلا محالة يصدق أنّه حكم بكذا. نعم لا ريب في أنّه إن أنشأ حكمه بالألفاظ الدالّة عليه عرفاً لصدق عليه أيضاً أنّه حكم به.

و حينئذٍ: فالدليل علي اعتبار كون الإنشاء باللفظ لعلّه انصراف الأدلّة إلي المعهود من أقسام الإنشاء في زمن صدور الأخبار؛ إذ المتعارف فيه هو الإنشاء باللفظ.

لكنّه محلّ تأمّل، بل منع؛ فإنّ حقيقة الحكم كسائر الاعتباريات العقلائية معني اعتباري عقلائي يتحقّق باللفظ، و حقيقته من قبيل المعاني، كمعني البيع و النكاح و الطلاق و غيرها. و ليس مصداقه و فرده الحقيقي هو

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 373

[مسألة 2 إنهاء حكم الحاكم بعد فرض الإنشاء لفظاً إلي حاكم آخر]

مسألة 2 إنهاء حكم الحاكم (2) بعد فرض الإنشاء لفظاً إلي حاكم آخر: إمّا بالكتابة أو القول أو الشهادة، فإن كان بالكتابة بأن يكتب إلي حاكم آخر بحكمه، فلا عبرة بها (3) حتّي مع العلم بأنّها له و أراد مفادها،

______________________________

اللفظ حتّي يقال بأنّ كون اللفظ مصداقاً له معلوم و غيره مشكوك، بل لا ريب في أنّ حقيقته أمر معنوي اعتباري يتحقّق عند العرف باللفظ و غيره، كما يتحقّق حقيقة البيع بالألفاظ و المعاطاة.

(2) المقصود في هذه المسألة مرحلة إثبات حكم الحاكم، و أنّه إذا تحقّق و تمّ إنشاؤه بما اعتبرنا به إنشاءه، فمن أيّ طريق يثبت و يعلم أنّه حكم بكذا

حتّي يترتّب عليه آثاره، التي منها تنفيذه من ناحية حاكم آخر؟

و تعرّض دام ظلّه من طرق إثباته لحكم كتابة القاضي الأوّل، و لقوله، و لقيام البيّنة علي حكمه، و لحصول العلم القطعي به.

(3) قال في «الجواهر»: عندنا إجماعاً، كما في «القواعد» و محكي «الخلاف» و «السرائر» و «التحرير» و غيرها.

خلافاً عن أبي علي ابن الجنيد، فجوّزه في حقوق الناس. و عن المحقّق الأردبيلي: موافقته علي ذلك مع العلم بكتابته قاصداً لمعناه، انتهي.

و الوجه فيه: أنّ كتابه إذا كان في مقام الإفادة به و إن كان حجّة عليه و طريقاً إلي كشف مراده، لكنّه لا يزيد علي قوله و خبره الصريح الدلالة علي حكمه المعلوم إرادته لمفاده، و سيأتي أنّ قوله أيضاً ليس بحجّة وحده.

نعم فيما احتمل أن لا يكون الكتاب خطّه و إنّما جعل عليه، فليس هنا

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 374

______________________________

أصل عقلائي دافع لهذا الاحتمال، و مع هذا الاحتمال ليس الكتاب حجّة عليه حتّي يثبت أنّه له.

كما أنّه لو احتمل في كتابه أنّه لم يكن في مقام الإفادة، و إنّما كتبه مثلًا بعنوان المقدّمة للحكم، أو ليعلم من نفسه هل هو قادر علي كتابة صورة الحكم، لأمكن دعوي عدم وجود أصل عقلائي علي وجوب الحمل علي أنّه كان في مقام الإنشاء؛ و لذلك قيّد الأردبيلي حجّيته بالعلم بكتابته قاصداً لمعناه، كما عرفت.

و بالجملة: فلو لم يكن في كتابه شي ء من الاحتمالين، و علمنا بأنّه نفسه كتب لغرض الإفادة و أراد مضمونه، لما كان الكتاب مع ذلك حجّة أصلًا؛ لما يأتي من عدم حجّية خبره، هذا.

مضافاً إلي موثّق السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السلام أنّه كان لا يجيز كتاب

قاضٍ إلي قاضٍ في حدّ و لا غيره، حتّي وليت بنو أُميّة فأجازوا بالبيّنات «1».

و ظاهره: أنّ بني أُميّة أجازوا كتاب القاضي إذا قامت البيّنة علي أنّه كتاب القاضي؛ فيدلّ علي عدم اعتبار كتابه و إن ثبت بوجه معتبر أنّه كتابه، و معلوم: أنّ كتاب القاضي إلي قاضٍ آخر متضمّن إمّا لثبوت الحدّ أو غيره عنده أو لحكمه بحدّ أو غيره، و الموثّق يدلّ علي أنّ عليّاً عليه السلام كان لا يجيز

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 297، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 28، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 375

و أمّا القول مشافهة فإن كان شهادة علي إنشائه السابق فلا يقبل (4)

______________________________

كتابه مطلقاً و إن تضمّن حكمه بثبوت حدّ في حقوق اللّٰه أو أمر آخر في حقوق الناس.

و الأصحاب كما عرفت قد أفتوا علي وفقه و لم يعرضوا عنه؛ فهو حجّة أُخري علي عدم حجّية كتابه.

(4) إذ حكم الحاكم في كلّ مورد من الموارد فرد من الموضوعات الجزئية الخارجية، و لا بدّ في ثبوت كلّ موضوع شخصي من قيام البيّنة عليه، و لا يكفي فيه خبر عدل واحد، و شهادة الحاكم نفسه بحكم نفسه شهادة عدل واحد فلا تكفي و لا تقبل إلّا مع شهادة عادل آخر؛ لتكون من قبيل قيام البيّنة.

و يمكن أن يقال: لا ريب في أنّ العقلاء يرون حجّية خبر الواحد الثقة في الأحكام و الموضوعات الكلّية و الجزئية، و القدر المسلّم الذي منع عنها الشارع موارد ثبوت الموضوعات الشخصية في باب القضاء التي تقع مورداً لحكم الحاكم في حقوق الناس أو حقوق اللّٰه تعالي، أو الموضوعات التي يراد ترتيب أثر الحرمة الشرعية عليه، كما يقتضيه الأدلّة الواردة في

كيفية الحكم من قوله صلي الله عليه و آله و سلم

إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان «1»

، و قوله

البيّنة علي المدّعي «2»

، إلي غير ذلك، و قوله عليه السلام في ذيل رواية مسعدة الواردة في

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 232، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 2، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 233، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 3، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 376

إلّا مع شهادة عادل آخر، و أولي بذلك ما إذا قال: «ثبت عندي كذا» (5)، و إن كان الإنشاء بحضور الثاني؛ بأن كان الثاني حاضراً في مجلس الحكم فقضي الأوّل فهو خارج عن محطّ البحث (6) لكن يجب إنفاذه (7).

______________________________

أصالة الحلّ

و الأشياء كلّها علي هذا حتّي يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة «1».

و أمّا غيرها من الموارد و منه حكم الحاكم فلا دليل علي وجوب أن يكون طريق ثبوته خصوص البيّنة بحيث لا يكفي خبر العدل الواحد، و السيرة العقلائية تقتضي حجّيته، و لا رادع عنها فيه.

(5) وجه الأولوية: أنّه إخبار بمجرّد ثبوته عنده، و ليس ملازماً للحكم.

(6) إذ البحث كان في إنهاء حكم الحاكم إلي حاكم آخر بالقول بعد إنشائه، و هذه الصورة قد فرض فيها أنّ الحاكم الثاني قد حضر نفس إنشائه.

(7) فإنّ الحاكم الثاني لمّا كان حاضراً في مجلس الإنشاء فقد أدرك و نال كلّ ما يكون من الحاكم في مقام إنشاء الحكم، فإنشاؤه المحمول علي الجدّ أو المعلوم منه الجدّ حجّة علي المعني المنشأ الذي هو حكمه، و الشارع قد أوجب قبول حكمه؛ إذ لا معني لجعله قاضياً و حاكماً إلّا لزوم ترتيب

______________________________

(1) وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما

يكتسب به، الباب 4، الحديث 4.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 377

و أمّا شهادة البيّنة علي حكمه فمقبولة (8) يجب الإنفاذ علي حاكم آخر،

______________________________

الأثر علي حكمه و عدّ حكمه و قضائه صحيحاً و نافذاً.

و لذا قال عليه السلام في مقبولة عمر بن حنظلة

فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّٰه و علينا ردّ، و الرادّ علينا الرادّ علي اللّٰه، و هو علي حدّ الشرك باللّٰه «1».

و ليس المراد من حكمه بحكمهم عليهم السلام إلّا رعاية قواعد قضائهم المفروض رعايتها. و حينئذٍ: فإذا احتاج ترتّب الأثر عليه إلي تنفيذ من الحاكم الآخر و أمر منه بالإجراء فلو لم يأمر بإجرائه لكان مصداقاً لعدم القبول المساوق للاستخفاف بحكم اللّٰه.

(8) ادّعي علي قبول شهادة البيّنة هنا عدم وجدان الخلاف في «الجواهر». و الدليل عليه: عموم أدلّة حجّية البيّنة؛ فإنّ العقلاء يرون شهادة العدل الواحد فضلًا عن العدلين طريقاً معتبراً و حجّة، فلو فرض ردع الشارع عن حجّية خبر الواحد و شهادته، فلا دليل علي ردع شهادة البيّنة، فهي طريق و حجّة بها تقوم طريق و حجّة علي أنّ الحاكم حكم بكذا، فيكون كما لو ظفر به بالعلم القطعي، و حكم الحاكم يجب كما عرفت قبوله و ترتيب الأثر عليه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 378

و كذا لو علم حكم الحاكم بالتواتر أو قرائن قطعية (9)، أو إقرار المتخاصمين (10).

[مسألة 3 الظاهر أنّ إنفاذ حكم الحاكم أجنبي عن حكم الحاكم الثاني في الواقعة]

مسألة 3 الظاهر أنّ إنفاذ حكم الحاكم أجنبي عن حكم الحاكم الثاني في الواقعة، لأنّ قطع الخصومة حصل بحكم الأوّل و إنّما أنفذه و أمضاه الحاكم الآخر ليجريه الولاة و

الأُمراء، و لا أثر له بحسب الواقعة (11) فإنّ إنفاذه و عدم إنفاذه بعد تمامية موازين القضاء في الأوّل سواء، و ليس له الحكم في الواقعة،

______________________________

(9) فإنّ العلم و القطع حجّة عقلائية انكشف به الواقع لدي العالم انكشافاً تامّاً، و هذا الواقع قد رتّب عليه أثر وجوب القبول الذي ينافيه عدم الإنفاذ.

(10) فإنّ إقرار المحكوم عليه بحكم الحاكم عليه إقرار علي نفسه؛ إذ هو قد أقرّ بموضوع له أثر وجوب القبول شرعاً، و قبوله يلزم منه محكومية المقرّ بأحكام خاصّة.

فكما أنّه لو أقرّ بأنّه شرب الخمر أو أنّ داره التي في يده لزيد يقبل منه و يحكم عليه الحاكم بحدّ الشرب و بوجوب دفع الدار إلي زيد، فكذلك هنا يحكم عليه بما يقتضيه حكم ذلك الحاكم؛ و ذلك كلّه لعموم حجّية و جواز إقرار العقلاء علي أنفسهم عرفاً و شرعاً.

(11) يعني: في فصل الخصومة بحسب موازين القضاء؛ فإنّ فصل الخصومة بحسب موازين القضاء ليس إلّا بأن يحكم القاضي الحكم

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 379

لعدم علمه و عدم تحقّق موازين القضاء عنده (12).

[مسألة 4 لا فرق فيما ذكرناه بين حقوق اللّٰه تعالي و حقوق الناس، إلّا في الثبوت بالبيّنة]

مسألة 4 لا فرق فيما ذكرناه بين حقوق اللّٰه تعالي و حقوق الناس (13)، إلّا في الثبوت بالبيّنة، فإنّ الإنفاذ بها فيها محلّ إشكال و الأشبه عدمه (14).

______________________________

المناسب، و إلّا فإجراؤه و عدم إجرائه أمر مترتّب علي قضائه و متأخّر عنه. فالإنفاذ أي الأمر بالإجراء متأخّر عن الحكم، و سواء أنفذه أم لم ينفذه فلا شكّ في أنّ القاضي الأوّل قد فصل الخصومة بقضائه و لم يبق محلّ لقضاء الثاني.

(12) فإنّ ميزان القضاء هو إقرار المحكوم عليه أو علم الحاكم أو قيام البيّنة أو اليمين، و جميعها مفروضة العدم، و

حكم الحاكم الأوّل و إن كان ثابتاً معلوماً، لكنّه و إن حمل علي الصحّة ليس ممّا يصحّ الاستناد إليه في الحكم بنفس ما حكم به؛ لعدم الدليل عليه، بل حكمه هذا لا يبقي محلّا لقضاء الثاني، و لو لم يعتن به و قام مقام الحكم من رأس لكان هذا أيضاً من مصاديق عدم القبول، و هو حرام. و قد مرّ تفصيل الكلام في أوائل الكتاب.

(13) فإنّ دليل حجّية علم القاضي و إقرار المتخاصمين كدليل عدم حجّية كتاب القاضي الأوّل أو خبره و شهادته، يعمّ حقوق اللّٰه و حقوق الناس.

(14) و ذلك أنّه لا يخفي علي أحد من العلماء: أنّ عمومات حجّية البيّنة شاملة لما إذا شهدت بحكم الحاكم في حقوق اللّٰه أيضاً؛ فإنّ سيرة العقلاء علي طريقية خبر الثقة العدل و حجّيته التي هي عمدة الأدلّة-

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 380

[مسألة 5 لا يعتبر في جواز شهادة البيّنة و لا في قبولها هنا غير ما يعتبر فيهما في سائر المقامات]

مسألة 5 لا يعتبر في جواز شهادة البيّنة و لا في قبولها هنا غير ما يعتبر فيهما في سائر المقامات (15)، فلا يعتبر إشهادهما علي حكمه و قضائه في التحمّل. و كذا لا يعتبر في قبول شهادتهما إشهادهما علي الحكم و لا حضورهما في مجلس الخصومة و سماعهما شهادة الشهود، بل المعتبر شهودهما أنّ الحاكم حكم بذلك، بل يكفي علمهما بذلك.

______________________________

لا فرق فيها بين أن يقوم الخبر علي حكم الحاكم في الواقعة الفلانية و غيره. و الشارع إنّما ردع بحسب الأدلّة علي التسليم عن حجّية خبر العدل إذا كان عدلًا واحداً، و لا رادع عن حجّيته إذا كان بيّنة.

فممّا لا ينبغي الشكّ فيه: أنّ مقتضي الأدلّة حجّية البيّنة فيما قامت علي حكم الحاكم، من غير فرق بين أن يكون في حقوق

اللّٰه أو حقوق الناس أصلًا.

و مع ذلك: فقد ذهب جلّ العلماء لولا الكلّ إلي عدم اعتبار البيّنة القائمة و الحاكية عن حكم الحاكم في حقوق اللّٰه؛ قال في «الجواهر»: بلا خلاف أجده فيه، بل حكي الإجماع عليه غير واحد، بل قد يشهد له التتبّع.

فوضوح اقتضاء القواعد لثبوت حكمه في حقوق اللّٰه من طريق البيّنة و ذهاب العلماء إلي خلافها، كاشف قطعي عن أنّه كان بأيديهم دليل معتبر اقتضي الخروج عن مقتضي القواعد؛ و لذلك قال: «و الأشبه عدمه».

(15) فإنّ أدلّة حجّية البيّنة من بناء العقلاء و غيره عامّة، و لا دليل خاصّ علي اعتبار شرط هنا أزيد ممّا في سائر المقامات، و قد مرّ في بحث

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 381

[مسألة 6 قيل: إن لم يحضر الشاهدان الخصومة]

مسألة 6 قيل: إن لم يحضر الشاهدان الخصومة، فحكي الحاكم لهما الواقعة و صورة الحكم، و سمّي المتحاكمين بأسمائهما و آبائهما و صفاتهما و أشهدهما علي الحكم، فالأولي القبول؛ لأنّ إخباره كحكمه ماضٍ، و الأشبه عدم القبول (16) إلّا بضمّ عادل آخر، بل لو أنشأ الحكم بعد الإنشاء في مجلس الخصومة، فجواز الشهادة بالحكم بنحو الإطلاق مشكل بل ممنوع (17)،

______________________________

الشهادة علي العدالة: أنّه لا يعتبر في قبول شهادة البيّنة أزيد من ثبوت المشهود به عندها بطريق قطعي، فراجع. و سيأتي إن شاء اللّٰه تعالي البحث عنه في كتاب الشهادات.

(16) فإنّ نفوذ حكمه و مضيّه قد قام عليه الدليل، مثل ما في مقبولة عمر بن حنظلة

فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّٰه.

مضافاً إلي أنّه لازم جعله قاضياً؛ إذ لا معني لإعطاء منصب القضاء و فصل خصومة المتنازعين لأحد ثمّ عدم الاعتبار لحكمه و عدم مضيّ حكمه.

و هذا بخلاف إخباره

بحكمه الذي يخبر أنّه أنشأه سابقاً؛ فإنّه خبر عدل واحد، فهو مثل خبر سائر العدول ليس حجّة في إثبات الموضوعات الجزئية، إلّا إذا انضمّ إليه خبر عادل آخر؛ فصارا بيّنة.

(17) فإنّ ظاهر الشهادة بالحكم بنحو الإطلاق هو الحكم الأوّلي الذي ينشئه الحاكم في مجلس المحاكمة و لأجل فصل الخصومة؛ فالشهادة بمطلقه إغراء للحاكم الثاني بالجهل و تدليس، و هو ممنوع.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 382

و الشهادة بنحو التقييد بأنّه لم يكن إنشاء مجلس الخصومة و لا الإنشاء الرافع لها جائزة، لكن إنفاذه للحاكم الآخر مشكل بل ممنوع (18).

[مسألة 7 لا فرق في جميع ما مرّ بين أن يكون حكم الحاكم بين المتخاصمين مع حضورهما و بين حكمه علي الغائب]

مسألة 7 لا فرق في جميع ما مرّ (19) بين أن يكون حكم الحاكم بين المتخاصمين مع حضورهما و بين حكمه علي الغائب بعد إقامة المدّعي البيّنة، فالتحمّل فيهما و الشهادة و شرائط القبول واحد، و لا بدّ للشاهدين من حفظ جميع خصوصيات المدّعي و المدّعي عليه بما يخرجهما عن الإبهام (20) و حفظ المدّعي به بخصوصياته المخرجة عن الإبهام، و حفظ الشاهدين و خصوصياتهما كذلك فيما يحتاج إليه، كالحكم علي الغائب و أنّه علي حجّته.

______________________________

(18) و ذلك أنّ الحكم الذي يستفاد من الأدلّة نفوذه و وجوب ترتيب الآثار عليه، هو ما ينشأ علي موازين القضاء في مقام فصل الخصومة و لتعيين تكليف الواقعة بحسب موازين القضاء، و ليس هذا إلّا الحكم الأوّل الذي لا يتصوّر بعد إنشائه إلّا الإخبار عنه، فالإنشاء الثاني و إن كان يثبت للشهود علماً و للحاكم الثاني بشهادة البيّنة، إلّا أنّه لا يترتّب عليه أثر شرعاً حتّي يقوم الحاكم الثاني بصدد إجرائه و ترتيبه الذي هو معني إنفاذه. و الإنشاء الأوّل لم يثبت للشهود لكي يشهدوا به عند الحاكم

الثاني.

(19) فإنّ أدلّة حجّية البيّنة و أدلّة الشرائط المعتبرة عامّة، و الحكم علي الغائب موضوع شرعاً لآثار، و الحاكم الثاني ينفذه و يأمر بإجراء تلك الآثار.

(20) إذ لا يجوز تكليف شخص بشي ء حتّي يثبت شرعاً أنّه ثابت عليه

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 383

[مسألة 8 لو اشتبه الأمر علي الحاكم الثاني]

مسألة 8 لو اشتبه الأمر علي الحاكم الثاني لعدم ضبط الشهود له ما يرفع به الإبهام أوقف الحكم حتّي يتّضح الأمر (21) بتذكّرهما أو بشهادة غيرهما.

[مسألة 9 لو تغيّرت حال الحاكم الأوّل بعد حكمه بموت أو جنون]

مسألة 9 لو تغيّرت حال الحاكم الأوّل بعد حكمه بموت أو جنون لم يقدح ذلك (22) في العمل بحكمه،

______________________________

و إلّا فالأصل يقتضي البراءة، فلا يجوز للحاكم الثاني إجراء حكم الأوّل و إلزام شخص بشي ء إلّا إذا ثبت عنده الحكم الأوّل بجميع خصوصياته.

(21) لما مرّ آنفاً: أنّه ما لم يتبيّن المحكوم عليه و المحكوم به عند الحاكم الثاني و لم يقم عنده حجّة، فمقتضي الأصل براءته من كلّ شي ء، و الإلزام عليه بلا حجّة ظلم و حرام؛ فلا محالة يوقف الحكم حتّي يتّضح الأمر بقيام حجّة عليه.

(22) فإنّ المستفاد من الأدلّة إنّما هو اعتبار الحياة و العقل و العلم و الإيمان و غيرها في الحاكم عند إنشاء الحكم.

ضرورة أنّ قوله عليه السلام في مقبولة عمر بن حنظلة

ينظران من كان منكم ممّن قد روي حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا، فليرضوا به حاكماً؛ فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّٰه و علينا ردّ «1»

، و قوله عليه السلام في معتبرة

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 384

و في لزوم إنفاذه علي حاكم آخر لو توقّف استيفاء الحقّ عليه و لو تغيّرت بفسق، فقد يقال: لم يعمل بحكمه (23) أو يفصل بين ظهور الفسق قبل إنفاذه فلم يعمل أو بعده فيعمل، و الأشبه العمل مطلقاً (24) كسائر العوارض و جواز إنفاذه أو وجوبه.

______________________________

أبي خديجة

اجعلوا بينكم رجلًا

قد عرف حلالنا و حرامنا؛ فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً «1»

إنّما يدلّ علي مجرّد اعتبار هذه الأوصاف اللازمة، و المنصرفة إلي الحيّ العاقل، في القاضي في زمن حكمه و مجلس المحاكمة.

و أمّا بعده فلا يدلّ الخبران و لا ما شابههما من الأخبار و الأدلّة عليه، و لا يساعده حكم العقل و لا اعتبار العقلاء؛ و لذلك فإطلاق الخبرين و أمثالهما ينفي اعتبار بقاء الأوصاف إلي زمان إجراء الحكم.

(23) كما عن الشهيد في «الدروس»، و هو مطلق من حيث ظهور الفسق قبل إنفاذه و بعده. و التفصيل بينهما كما في المتن مختار «الشرائع»، و حكي عن العلّامة في «القواعد» و «الإرشاد».

(24) و ذلك أنّ المستفاد من دليل اعتبار العدالة سواء كان هذا الدليل انصراف الأدلّة إلي من يعدل في حكمه و يراعي جانب الإنصاف، أم

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 139، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 385

______________________________

كان هو المنع المذكور في معتبر أبي خديجة «1» من التحاكم إلي الفسّاق، أم كان هو توصيف الإمام القاضي بكونه

العادل في المسلمين

في صحيح سليمان بن خالد «2»، أم كان هو الأولوية المستفادة من اعتبارها في الشاهد فجميع ذلك إنّما يدلّ و يقتضي أن يكون القاضي حين قضائه و إنشاء حكمه و فصل الخصومة بحكمه واجداً لهذه الصفة. و هو الذي يقتضيه الاعتبار، كما في ما سبقتها من الصفات، و إلّا فالأدلّة مطلقة من حيث عروض الفسق بعد الحكم و عدمه.

فلذلك يجب بمقتضي الأدلّة علي الناس أن يقبلوا حكمه و يعملوا به، و يجوز أو يجب إنفاذه من الحاكم الآخر فيما جرت الحاجة إليه، و إن عرض عليه الفسق بعد أن كان

متّصفاً بالعدالة حين إنشاء الحكم.

و أمّا الاستدلال علي اعتبار العدالة و لو بعد إنشاء الحكم بقول العسكري عليه السلام حين سئل عن كتب بني فضّال، فقال

خذوا بما رووا و ذروا ما رأوا «3»

، بناءً علي أنّه عليه السلام نهي عن مطلق ما رأوه؛ فتوي كان أو حكماً.

ففيه: أنّ بني فضّال من الفطحية القائلين بإمامة عبد اللّٰه بن أفطح بعد

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 139، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6.

(2) وسائل الشيعة 27: 17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 3.

(3) وسائل الشيعة 27: 102، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 8، الحديث 79.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 386

[مسألة 10 لو أقرّ المدّعي عليه عند الحاكم الثاني بأنّه المحكوم عليه]

مسألة 10 لو أقرّ المدّعي عليه عند الحاكم الثاني بأنّه المحكوم عليه و هو المشهود عليه، ألزمه الحاكم (25)، و لو أنكر فإن كانت شهادة الشهود علي عينه (26) لم يسمع منه و ألزم، و كذا لو كانت علي وصف لا ينطبق إلّا عليه (27)

______________________________

الإمام أبي عبد اللّٰه الصادق عليه السلام؛ فلا محالة كانوا معتقدين بعقيدتهم هذه قبل زمن العسكري عليه السلام و حين صدور الرأي منهم، فلا ربط له بما نحن فيه. مضافاً إلي عدم بُعد دعوي انصرافه إلي النهي عن اتّباع ما رأوه من عقيدة الفطحية الفاسدة؛ فلا يعمّ أمثال الفتوي و الحكم.

(25) فإنّ الإقرار بموضوع يلزمه حكمه. فالإقرار بأنّه المحكوم عليه بحكم يلزمه وجوب قبول هذا الحكم عليه و عدم ردّه؛ فلا محالة بعد أن كان إقرار العقلاء علي أنفسهم جائزاً يلزمه الحاكم باتّباع الحكم الذي قد أقرّ به علي نفسه.

(26) بمعني أنّ الشهود شهدوا عليه شخصه بأنّ الحاكم قد حكم بحكم كذا، و حينئذٍ: فقد

ثبت بالبيّنة حكم الحاكم عليه، و البيّنة طريق و حجّة علي إنشاء الحكم عليه؛ فلا محالة لم يسمع إنكاره في مقابل البيّنة و أُلزم العمل به.

(27) فإنّ البيّنة إذا شهدوا مثلًا بأنّ الحاكم الأوّل حكم علي رجل رأيناه في مجلس الحكم و كانت له هذه الأوصاف، و المفروض أن لا يوجد في بلد الحكم و محلّه أحد له هذه الأوصاف إلّا هو، فلازم البيّنة: أنّ

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 387

و كذا فيما ينطبق عليه إلّا نادراً؛ بحيث لا يعتني باحتماله العقلاء و كان الانطباق عليه ممّا يطمأنّ به (28)، و إن كان الوصف علي وجه قابل للانطباق علي غيره و عليه فالقول قوله بيمينه (29) و علي المدّعي إقامة البيّنة بأنّه هو، و يحتمل في هذه الصورة عدم صحّة الحكم؛ لكونه من قبيل القضاء بالمبهم، و فيه تأمّل.

______________________________

المشهود عليه هو هذا الشخص. ففي الحقيقة: أنّ البيّنة قامت علي أنّ الحكم قد أُنشئ عليه؛ فيثبت أنّه المشهود عليه و المحكوم عليه و إن أنكره هو شخصه؛ فإنّ إنكاره لا يلتفت إليه في مقابل البيّنة.

(28) و ذلك أنّ الفرض إذا كان ضعف احتمال عدم انطباق المشهود عليه عليه؛ بحيث لا يعتني به العقلاء، فالاطمئنان الكذائي حجّة، و هو بمنزلة العلم بالانطباق، فبالمآل: أنّ البيّنة قد شهدت بأنّه المحكوم عليه، و البيّنة حجّة شرعية عقلائية يجب اتّباعها و الحكم بأنّه المحكوم عليه.

(29) فإنّ البيّنة و إن قامت علي من كانت له تلك الأوصاف، إلّا أنّها لمّا كانت قابلة للانطباق علي غيره فكون المشهود عليه بالحكم غيره محتمل، و مع هذا الاحتمال لا حجّة علي أنّه المحكوم عليه. فإذا ادّعي أنّه المحكوم عليه أو المشهود عليه،

أو ادّعي عليه الحقّ، فهذا المدّعي مدّعٍ و هو منكر، و البيّنة علي من ادّعي و اليمين علي من ادّعي عليه، كما عرفت.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 388

______________________________

و أمّا دعوي أنّ البيّنة لمّا قامت علي تعلّق الحكم بعنوان من له هذه الأوصاف؛ أو بعد جعله في نظر الحاكم مشاراً به إلي شخص، كان له هذه الأوصاف، من غير أن يعيّنه، فهذا الحكم باطل؛ إذ المستفاد من أدلّة القضاء إنّما هو مشروعيته فيما كان علي معيّن لا مبهم أو كلّي.

فمدفوعة بأنّها إنّما تتمّ لو فرض تعلّق إنشائه بالعنوان الكلّي أو المبهم، و إلّا فإن كان إنشاؤه علي شخص معيّن و إنّما وقع التعبير عن هذا المعيّن بعنوان كلّي أو مبهم في شهادة الشهود فليس أصل الحكم باطلًا، و إن لم يثبت بمجرّد شهادة الشهود أنّه هو المحكوم عليه.

غاية الأمر: أنّه لمّا أنكر أن يكون هو المحكوم عليه فليس حكم الحاكم الأوّل و لو بضمّ هذه الشهادة كافياً في فصل الخصومة، بعد عدم الطريق لإثباته علي هذا الشخص الخاصّ.

و لعلّه دام ظلّه لذلك قال: «و فيه تأمّل»؛ أي في رجوعه إلي الحكم و القضاء بالمبهم.

بل يمكن أن يقال: إنّ المسلّم من موارد بطلان القضاء بالمبهم أن يقضي علي أحد هذين الشخصين لا بعينه؛ فإنّه ليس حينئذٍ مصداقاً لفصل الخصومة أصلًا، و لا فائدة له إلّا بعد إقامة الدعوي و إثبات حقّه علي أحدهما بخصوصه، فلم يكن في هذا الحكم المبهم فائدة.

و أمّا إن جعل الحاكم هذا العنوان المبهم مشيراً إلي شخص خاصّ قد أحضره المدّعي عنده يوماً مثلًا فبطلان مثل هذا الحكم ممنوع؛ إذ قد

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 389

______________________________

يمكن قيام

البيّنة عند الحاكم الأوّل علي من كانت بحضرته يوم الجمعة بإحضار المدّعي، فيشير بعنوان من أحضره المدّعي لديه يوم الجمعة إلي هذا الشخص الخاصّ فيحكم عليه.

ثمّ إذا أقام بيّنة اخري علي أنّ من أحضره بحضرة الحاكم في ذلك اليوم هو زيد مثلًا فيثبت أنّ زيداً هو المحكوم عليه بالحكم الأوّل، فيجري عليه الحكم الأوّل؛ سواء كان قيام البيّنة الأُخري عند نفس الحاكم الأوّل، أو عند الحاكم الثاني، هذا.

لكنّك خبير بإمكان تصوّر مثل هذه الفائدة في القضاء علي أحدهما لا بعينه؛ بأن يقوم البيّنة مثلًا بعد الحكم الأوّل علي نفي ثبوت الحقّ علي أحدهما بالخصوص فيثبت علي الآخر، فإمّا يجوز الحكم بالمبهم أيضاً، و إمّا لا يجوز بعنوان مشير إلي شخص غير معلوم حين الحكم، و إن كان معيّناً واقعاً، فتأمّل.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 391

[الفصل الثاني في المقاصّة]

اشارة

الفصل الثاني في المقاصّة

[مسألة 1 لا إشكال في عدم جواز المقاصة]

مسألة 1 لا إشكال في عدم جواز المقاصة (1)

______________________________

(1) لا ريب في أنّ مقتضي القواعد عدم جواز التصرّف في مال الغير ما لم يأذن بالتصرّف فيه. و يدلّ عليه مضافاً إلي كونه إجمالًا من ضروريات الدين أخبار كثيرة:

منها: صحيحة أبي أُسامة زيد الشحّام عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام

إنّ رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم وقف بمني حتّي قضي مناسكها في حجّة الوداع.

إلي أن قال

ألا من كانت عنده أمانة فليؤدّها إلي من ائتمنه عليها؛ فإنّه لا يحلّ دم امرئ مسلم و لا ماله إلّا بطيبة نفسه «1»

؛ فإنّه كالصريح في اعتبار طيب نفس المالك في حلّية التصرّف في ماله؛ فإذا لم تطب نفسه بذلك

______________________________

(1) وسائل الشيعة 29: 10، كتاب القصاص، أبواب القصاص في النفس، الباب 1، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 392

______________________________

فلا يجوز حبس المال عنه و عدم أدائه إليه.

و منها: موثّقة أبي بصير عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال

قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم: سباب المؤمن فسوق، و قتاله كفر، و أكل لحمه معصية، و حرمة ماله كحرمة دمه «1»

، فقد جعل حرمة مال المؤمن عِدلًا لحرمة دمه في مرتبة الحرمة؛ فكما لا يجوز التعرّض لهتك دمه فكذلك لا يجوز أيّ تصرّف في ماله.

و منها: خبر أبي الحسين الأسدي أنّه كان فيما ورد في جواب مسائله عن صاحب العصر عجّل اللّٰه تعالي فرجه الشريف علي الشيخ أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري

فلا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه، فكيف يحلّ ذلك في مالنا؟! «2».

إلي غير ذلك من الأخبار.

فالمستفاد منها عدم جواز التصرّف في مال المسلمين

بغير إذنهم، و هو قاعدة عقلائية أمضاها الشارع بأمثال هذه الروايات. فأخذ مال الغير عوضاً عمّا في ذمّته أو عوضاً عمّا عنده من الأعيان تصرّف في مال الغير، و هو غير جائز إلّا بطيب نفسه. و مفهومه العرفي: أنّه لا يملك ما أخذه من أموال الناس بغير إذنهم، و لا يؤثّر أخذه في إخراج الأموال عن ملك الغير و إدخالها في ملكه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 12: 297، كتاب الحجّ، أبواب العشرة، الباب 158، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة 9: 540، كتاب الخمس، أبواب الأنفال، الباب 3، الحديث 7.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 393

مع عدم جحود الطرف و لا مماطلته (2) و أدائه عند مطالبته، كما لا إشكال في جوازها إذا كان له حقّ علي غيره (3)

______________________________

فلا مجال لأن يقال: إنّ الأخذ يوجب خروجها عن ملكهم و دخولها في ملكه، فلا يكون التصرّف بعده إلّا تصرّفاً في ملك نفسه لا في مال غيره، هذا.

مضافاً إلي أنّ العقلاء يرون تعيين المالك لما في ذمّته في عين خاصّة حقّا للمالك، فإذا اختار الدائن مثلًا عيناً لذلك و لم يأذن بها المالك فلا يتعيّن ما في الذمّة فيها، بل هي باقية علي ملك مالكها لا يجوز التصرّف فيها، و هكذا الكلام في تعيين شي ء عوضاً عمّا عنده من العين.

(2) لأنّ أدلّة جواز التقاصّ لا تشمل ما إذا يؤدّي المديون ما عليه عند المطالبة، و لا ما يسامح في العمل بوظيفته، و قد عرفت أنّ مقتضي القواعد أن لا يجوز التصرّف في مال الغير إلّا بإذنه.

(3) تحقيق المقال هنا: أنّ مقتضي القاعدة و إن كان عدم جواز التصرّف في مال الغير من دون إذنه كما عرفت إلّا أنّه قد

دلّت أخبار كثيرة مفتي بها علي جواز التصرّف في مال الغير مقاصّة، و بها نخرج عن القاعدة الأوّلية و نخصّص عمومات عدم الجواز؛ فلا بدّ من التعرّض لها و لما قد يعارضها، ثمّ التعرّض لحدود مفادها:

فمن هذه الأخبار: ما في ذيل موثّقة بريد بن معاوية عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: قلت له: إنّ رجلًا أوصي إليّ، فسألته أن يشرك معي ذا

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 394

______________________________

قرابة له ففعل، و ذكر الذي أوصي إليّ أنّ له قبل الذي أشركه في الوصية خمسين (خمسمائة يه) و مائة درهم عنده و رهناً بها جاماً من فضّة، فلمّا هلك الرجل أنشأ الوصي يدّعي أنّ له قبله أكرار حنطة؟ قال

إن أقام البيّنة، و إلّا فلا شي ء له

، قلت له: أ يحلّ له أن يأخذ ممّا في يديه شيئاً؟ قال

لا يحلّ له

، قلت: أ رأيت لو أنّ رجلًا عدا عليه فأخذ ماله فقدر علي أن يأخذ من ماله ما أخذ أ كان ذلك له؟ قال

إنّ هذا ليس مثل هذا «1».

بيان الدلالة: أنّه عليه السلام لمّا منع أحد الوصيين عن أخذ ما يزعمه أنّه له علي الميّت من مال الميّت، سأل الراوي و قايسه مع ما ذكره بقوله: «لو أنّ رجلًا.» إلي آخره، و هو عليه السلام أجاب بأنّ بينهما فرقاً؛ فيدلّ جوابه عليه السلام علي أنّ القاعدة الكلّية المذكورة في كلام بريد حقّ، إلّا أنّها غير مورد السؤال.

و فرقهما: أنّ بريداً في مورد السؤال كان مكلّفاً بحفظ أموال الموصي، فليس له أن يأذن لشريكه في الوصية أن يأخذ منها شيئاً إلّا بعد أن يثبته بالحجّة المعتبرة. و هذا بخلاف ما إذا لم يكن في البين إلّا

ما ذكره السائل نفسه في كلامه؛ فللرجل الذي عدا عليه غيره و أخذ ماله أن يأخذ من مال المتعدّي ما أخذ إذا قدر عليه.

فالموثّقة قد تضمّنت ذكر قاعدة كلّية، هي: جواز أخذ من عدا عليه غيره و أخذ ماله من مال ذلك العادي إذا قدر عليه.

نعم، من استعمال لفظة: «فقدر علي أن يأخذ من ماله ما أخذ» يفهم

______________________________

(1) وسائل الشيعة 19: 428، كتاب الوصايا، الباب 93، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 395

______________________________

أنّ الآخذ العادي لم يكن بصدد أداء ما أخذه حتّي أنّه إذا قدر علي ماله يقوم بصدد استيفاء حقّه و ماله، و من سائر الجهات الأُخر، فالقاعدة عامّة.

و منها: صحيحة داود بن زربي قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: إنّي أُعامل قوماً، فربّما أرسلوا إليّ فأخذوا منّي الجارية و الدابّة، فذهبوا بها منّي ثمّ يدور لهم المال عندي، فآخذ منه بقدر ما أخذوا منّي؟ فقال

خذ منهم بقدر ما أخذوا منك، و لا تزد عليه «1»

، كذا رواه في «الفقيه» «2».

و روي نحوه الشيخ، إلّا أنّه قال: قلت لأبي الحسن موسي عليه السلام: إنّي أُخالط السلطان. الحديث «3».

و موردها كما تري غصب عين الجارية أو الدابّة و الامتناع من أدائها اعتماداً علي القدرة، فحكم عليه السلام بجواز أن يؤخذ من مطلق ما يقع من أموالهم بيد المغصوب منه، بشرط أن يكون بقدر ما أخذوا منه، و لا يزاد عليه.

و حملها علي أنّها إذن من ولي الأمر في الأخذ، و ليس بحكم شرعي كلّي إلهي، خلاف الظاهر، بل هي كسائر الأخبار المتضمّنة للسؤالات المفروضة في موارد شخصية ظاهرة بحسب الجواب في أنّها حكم كلّي، بلا إشكال.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 17: 272، كتاب التجارة،

أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 1.

(2) الفقيه 3: 115/ 489.

(3) تهذيب الأحكام 6: 347/ 978.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 396

______________________________

فهي و إن فارقت موثّقة بريد السابقة في أنّ مورد السؤال فيها أمر جزئي بخلاف مورد كلام بريد؛ فإنّه قانون كلّي إلّا أنّهما مشتركتان في أنّ ما أفاده المعصوم عليه السلام فيهما قاعدة كلّية.

نعم، هذه الصحيحة مختصّة بحسب المورد بغصب الأعيان الشخصية، و الموثّقة عامّة لها و لما كان عليه دين كلّي، كما لا يخفي. بل يمكن أن يقال: إنّ إطلاقها يعمّ ما إذا علم بعد الغصب بموت الجارية و ذبح الدابّة أو موتها، و هو موجب لاشتغال ذمّتهم بالقيمة التي هي كلّي في الذمّة.

و منها: خبر جميل بن درّاج قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل يكون له علي الرجل الدين، فيجحده، فيظفر من ماله بقدر الذي جحده، أ يأخذه و إن لم يعلم الجاحد بذلك؟ قال

نعم «1»

، و مورده الدين المجحود، و إلّا فهو من سائر الجهات مثل سابقه. و احتمال أن يكون من باب إذن ولي الأمر فيه أضعف؛ لكون مفروض السؤال أمراً كلّياً عامّاً.

و منها: خبر إسحاق بن إبراهيم: إنّ موسي بن عبد الملك كتب إلي أبي جعفر عليه السلام يسأله عن رجل دفع إليه رجل مالًا ليصرفه في بعض وجوه البرّ، فلم يمكنه صرف المال في الوجه الذي أمره به، و قد كان له عليه مال بقدر هذا المال، فسأل: هل يجوز لي أن أقبض مالي أو أردّه عليه؟ فكتب

اقبض مالك ممّا في يدك «2»

، و مورده و إن كان ما إذا كان عليه دين، إلّا أنّه

______________________________

(1) وسائل الشيعة 17: 275، كتاب التجارة، أبواب

ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 10.

(2) وسائل الشيعة 17: 275، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 8.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 397

______________________________

عامّ من سائر الجهات؛ حتّي أنّه يعمّ ظاهراً ما إذا لم يجحد و لم يماطل في الأداء. اللهمّ إلّا أن يقال بانصرافه عنه، لكنّه علي أيّ حال ضعيف بمجهولية إسحاق بن إبراهيم.

و منها: ما رواه المشايخ الثلاثة قدس سرهم في المعتبر عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: قلت له: رجل كان له علي رجل مال، فجحده إيّاه و ذهب به (منه خ. يه) ثمّ صار بعد ذلك (منه خ. يه) للرجل الذي ذهب بماله مال قبله (مثله خ. يه) أ يأخذه مكان ماله الذي ذهب به منه (ذلك الرجل خ، كا، يب)؟ قال

نعم، (و لكن لهذا كلام خ. يب. كا) يقول: اللهمّ إنّي (إنّما خ. يه) آخذ هذا المال مكان مالي الذي أخذه منّي (و إنّي لم آخذ الذي أخذته خيانة و لا ظلماً خ. كا، يب) «1»

، و مورد المعتبرة كما تري ما إذا كان له علي الآخر مال و كان هو جاحداً، و هي من سائر الجهات مطلقة، بناءً علي نسختي «الكافي» و «التهذيب». نعم، بناءً علي نسخة «الفقيه» و نقل: «مثله» مكان «قبله» يكون موردها ما إذا كان مال المديون من جنس مال الدائن و مثلًا له، و لا تعمّ ما إذا كان مال الدائن الذي صار عند دائنه من غير جنس ما عليه.

و أمّا ما تضمّنته من قول

اللهمّ إنّي.

إلي آخره، فبقرينة خلوّ

______________________________

(1) الكافي 5: 98/ 3، الفقيه 3: 114/ 485، تهذيب الأحكام 6: 197/ 439، وسائل الشيعة 17:

274، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 5.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 398

______________________________

سائر الأخبار الواردة في كيفية المقاصّة عن مثله، فلا محالة ليس شرطاً فيها؛ فإن كان و لا بدّ فهو محمول علي الاستحباب.

و يحتمل أن يراد منه: أنّه إنّما يجوز أخذ مال ذلك الغير المديون إذا كان أخذه بعنوان المقاصّة و عوضاً عن ماله الذي جحده، لا من باب عدم المبالاة بالتصرّف في مال الغير و أكل مال الغير، كما كان ذلك الغير الذي جحد دينه غير مبال بالتصرّف في مال الناس.

و هذا الاحتمال قويّ؛ خصوصاً بناءً علي نسخة «الفقيه» الخالية عن جملة

و لكن لهذا كلام

؛ فإنّ قوله عليه السلام في مقام الجواب

نعم، يقول: اللهمّ إنّي إنّما آخذ هذا المال مكان مالي الذي أخذه منّي

لا يبعد أن يستظهر منه ما ذكرناه، كما يظهر بالتدبّر.

ثمّ إنّ هذه الأخبار الخمسة كما تري مطلقة تعمّ ما إذا حلف الجاحد أم اكتفي بمجرّد الجحود، كما أنّها تعمّ ما إذا كان المال الذي يراد منه المقاصّة وديعة أو غيرها.

و نحوها ما رواه في «قرب الإسناد» عن علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر عليهما السلام قال: سألته عن الرجل الجحود أ يحلّ أن أجحده مثل ما جحد؟ قال

نعم، و لا تزداد «1».

و نحوها أيضاً ما عن كتاب علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: سألته

______________________________

(1) وسائل الشيعة 17: 276، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 13.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 399

______________________________

عن رجل كان له علي آخر دراهم فجحده، ثمّ وقعت للجاحد مثلها عند المجحود، أ يحلّ له أن يجحده مثل ما جحد؟ قال

نعم، و لا

يزداد «1».

و نحوها أيضاً خبر أبي بكر الأريني قال: كتبت إلي العبد الصالح عليه السلام: إنّه كان لي علي رجل دراهم، فجحدني فوقعت له عندي دراهم فاقتصّ من تحت يدي، ما لي عليه؟ و إن استحلفني حلفت أن ليس له عليّ شي ء؟ قال

نعم، فاقبض من تحت يدك و إن استحلفك فاحلف له أنّه ليس له عليك شي ء «2».

و منها: ما رواه الشيخ في المعتبر عن أبي بكر الحضرمي قال: قلت له: رجل لي عليه دراهم، فجحدني و حلف عليها، أ يجوز لي إن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقّي؟ قال: فقال

نعم، و لكن لهذا كلام

، قلت: و ما هو؟ قال

تقول: اللهمّ إنّي لا آخذه (لم آخذه لن آخذه خ. ل) ظلماً و لا خيانة، و إنّما أخذته مكان مالي الذي أخذ منّي لم أزدد عليه شيئاً «3».

و هو كما تري وارد فيما إذا حلف الجاحد، و إن لم يصرّح فيه بكون حلفه هل كان عند الحاكم و في مقام القضاء أم هو حلف عادي ربّما يتعارف الاستحلاف و الحلف به عند الناس أنفسهم، فهو بإطلاقه يعمّ كلا القسمين، و قد أذن عليه السلام و حكم بجواز المقاصّة مع الحلف مطلقاً أيضاً، فإن تجوّز إذا لم

______________________________

(1) وسائل الشيعة 23: 287، كتاب الأيمان، الباب 48، الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة 23: 285، كتاب الأيمان، الباب 47، الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة 17: 273، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 4.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 400

______________________________

يحلف و إنّما اقتصر علي مجرّد الجحود فبطريق أولي.

ثمّ إنّ المعتبرة مطلقة من جهة الوديعة و غيرها، كما لا يخفي.

و منها: صحيحة أبي العبّاس البقباق: إنّ

شهاباً ما رآه في رجل ذهب له بألف درهم و استودعه بعد ذلك ألف درهم، قال أبو العبّاس: فقلت له: خذها مكان الألف التي أخذ منك، فأبي شهاب، قال: فدخل شهاب علي أبي عبد اللّٰه عليه السلام فذكر له ذلك، فقال

أمّا أنا فأُحبّ أن تأخذ و تحلف «1».

و موردها كما تري الوديعة؛ فقد حكم عليه السلام بجواز أخذها مكان الدراهم التي له عليه أو عنده، فهي واردة في مورد التقاصّ من الوديعة، و مطلقة من حيث الجحود أو الإقرار و الإباء عن الأداء، و من حيث بقاء المال بعينه عنده أو إتلافه و كون عوضه عليه، و من حيث ضمّ الحلف إلي الجحود إذا جحد و عدمه؛ فإنّ تمام الموضوع فيها أن يذهب بدراهمه، الظاهر في أن يكون بصدد أكل دراهمه و عدم أدائها، و هي مطلقة من الجهات الأُخر.

و منها: خبر علي بن سليمان قال: كتبت إليه: رجل غصب مالًا أو جارية، ثمّ وقع عنده مال بسبب وديعة أو قرض مثل خيانة أو غصب (مثل ما خانه أو غصبه خ. ل) أ يحلّ له حبسه عليه أم لا؟ فكتب

نعم، يحلّ له ذلك إن كان بقدر حقّه، و إن كان أكثر فيأخذ منه ما كان عليه

______________________________

(1) وسائل الشيعة 17: 272، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 401

______________________________

و يسلّم الباقي إليه إن شاء اللّٰه «1».

و هو أيضاً صريح في الشمول لمورد المقاصّة من الوديعة، و إن كان مطلقاً من سائر الجهات الأُخر. فإذا جاز المقاصّة من مال الوديعة التي أكّد الشارع فيها الأمر بأدائها إلي من ائتمنه عليها، فلأن يجوز المقاصّة من سائر أمواله بطريق

أولي.

فهذه الأخبار الأحد عشر يستفاد منها و من انضمام بعضها إلي بعض، قاعدة كلّية، و هي: جواز المقاصّة من مال الغير بلا إذن منه؛ سواء كان جاحداً أم مقرّاً مماطلًا، و سواء كان حالفاً علي جحده أم اقتصر علي مجرّد الجحود، و سواء كان عين مال المقاصّ باقية أم تالفة، و سواء كان غاصباً أم مستقرضاً أو متلفاً لما يستعقب ضمانه، إلي غير ذلك.

بل لا يبعد دعوي: أنّ العقلاء أيضاً لا يرون لمال الجاحد أو المماطل الذي بحكمه حرمة، و لا يوجبون علي المالك المجحود أن يصبر علي جحوده، بل يجوّزون له الأخذ من مال الجاحد أو المماطل إجمالًا.

فالحاصل: أنّ هذه الأخبار الأحد العشر دليل خاصّ معتبر علي خلاف إطلاق الأدلّة الدالّة علي القاعدة الأوّلية، و يجب أن نخرج بها عن عموم القاعدة إن لم يكن لها معارض معتبر.

و لا دليل علي المنع بقول مطلق بحيث يمنع عن التقاصّ مطلقاً؛ فإنّ ما

______________________________

(1) وسائل الشيعة 17: 275، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 9.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 402

______________________________

قد يتوهّم دلالته صحيح الحسين بن المختار، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: الرجل يكون له الشريك فيظهر عليه قد اختان شيئاً، إله أن يأخذ منه مثل الذي أخذ من غير أن يبيّن له؟ فقال

شوه، إنّما اشتركا بأمانة اللّٰه، و إنّي لأُحبّ له إن رأي شيئاً من ذلك أن يستر عليه، و ما أُحبّ أن يأخذ منه شيئاً بغير علمه «1».

لكنّه مضافاً إلي اختصاصه بمورد الشركة التجارية، أو مطلق الموارد التي يكون الشخص الدائن أميناً علي مال المديون، بناءً علي انفهام هذا المعني الكلّي من قوله عليه السلام

إنّما اشتركا بأمانة اللّٰه

،

و لا يشمل مطلق الموارد الذي ذهب بمال أحد و يريد التقاصّ من مال الذاهب، فمضافاً إلي ذلك ليس بنفسه ظاهراً في الوجوب؛ فإنّه إنّما دلّ علي أنّه عليه السلام إنّما يحبّ أن لا يأخذ شيئاً بغير علمه، بل علي أنّه يحبّ أن يستر عليه خيانته و لا يطالبه جهراً و إظهاراً عليه أنّه قد اختان، فهو متضمّن لأمر أخلاقي من كرامات الإنسان المسلم، و لو فرض له ظهورٌ ما في الوجوب بدعوي: أنّ إظهار حبّه عليه السلام بشي ء حجّة علي الوجوب ما لم يظهر خلافه، فلا ريب في أنّ الأخبار العشرة الماضية حجّة علي الجواز و قرينة علي أن لا يريد بحبّه وجوبه.

نعم، هنا طائفتان من الأخبار تدلّان بأنفسهما علي المنع و التحريم في موردين خاصّين:

______________________________

(1) وسائل الشيعة 19: 11، كتاب الشركة، الباب 5، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 403

______________________________

فالطائفة الأُولي: ما يكون ظاهرها المنع عن التقاصّ إذا كان المال الذي يراد التقاصّ منه وديعة عنده:

ففي صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قلت له: الرجل يكون لي عليه حقّ فيجحدنيه، ثمّ يستودعني مالًا، أ لي أن آخذ مالي عنده؟ قال

لا، هذه الخيانة «1».

و في خبر ابن أخي الفضيل بن يسار قال: كنت عند أبي عبد اللّٰه عليه السلام و دخلت امرأة و كنت أقرب القوم إليها، فقالت لي: اسأله، فقلت: عمّا ذا؟ فقالت: إنّ ابني مات و ترك مالًا كان في يد أخي، فأتلفه ثمّ أفاد مالًا فأودعنيه، فلي أن آخذ منه بقدر ما أتلف من شي ء؟ فأخبرته بذلك، فقال

لا، قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم: أدّ الأمانة إلي من ائتمنك، و

لا تخن من خانك «2».

فالحديثان كما تري قد وردا في مورد التقاصّ من الوديعة، و قد منعا عنه و عدّاه خيانة، هذا.

و لو كنّا و هذين الخبرين لقيّدنا بهما إطلاقات الباب علي ما هو مقتضي الجمع بين المطلق و المقيّد و منعنا عن التقاصّ من الوديعة، كما نقل القول بالمنع عن «النهاية» و «الغنية» و الكيدري و القاضي، بل عن «الغنية»

______________________________

(1) وسائل الشيعة 17: 275، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 11.

(2) وسائل الشيعة 17: 273، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 404

______________________________

الإجماع عليه، و نسبه المجلسي في «روضة المتّقين» إلي المشهور بين القدماء «1».

لكنّك قد عرفت ورود صحيحة البقباق و خبر علي بن سليمان بجواز المقاصّة من خصوص الوديعة، و هما قرينتان علي إرادة الكراهة من المنع الوارد في صحيحة معاوية و خبر ابن أخي الفضيل، و هو الذي جعله في «الشرائع» أشبه، و نسبه «الجواهر» إلي أكثر المتأخّرين، و قال في «روضة المتّقين»: و المشهور بين المتأخّرين الكراهة.

لا يقال: إنّ حمل الدليل الظاهر في الحرمة علي الكراهة بقرينة الدليل الصريح في الجواز أمر واضح يعرفه كلّ أحد؛ و عليه فذهاب المشهور من القدماء إلي الحرمة هنا دليل علي إعراضهم عن صحيحة البقباق، و الإعراض يسقطها عن الحجّية؛ فلا تقوم قرينة علي إرادة الكراهة. و مثلها خبر علي بن سليمان، مضافاً إلي أنّه غير معتبر السند بنفسه.

لأنّا نقول: لعلّ وجه ذهابهم إلي الحرمة: أنّه عليه السلام عبّر في صحيحة البقباق عن الجواز بقوله

أمّا أنا فأُحبّ أن تأخذ و تحلف

؛ فإنّ إظهار حبّه بأخذ الوديعة من باب التقاصّ ربّما ينافي كراهيته؛

فيتعارض هذه الصحيحة و صحيحة ابن عمّار و يرجع إلي عموم مثل قوله صلي الله عليه و آله و سلم

ألا من كانت عنده أمانة فليؤدّها إلي من ائتمنه عليها «2».

فليس قولهم بالحرمة

______________________________

(1) روضة المتّقين 6: 530.

(2) وسائل الشيعة 29: 10، كتاب القصاص، أبواب القصاص في النفس، الباب 1، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 405

______________________________

شاهداً علي إعراضهم عن صحيحة البقباق.

و حينئذٍ نقول في صحيحة البقباق: لمّا كان قد اعتقد شهاب عقيدة ارتكزت علي الحرمة و أبي عن أخذ الوديعة مكان ماله، مع أنّ البقباق قال له بجوازه، و مثله لا يقول به إلّا عن علم، فلعلّه لتبيين حكم الجواز حقّ بيانه عبّر هو عليه السلام بقوله

أمّا أنا فأُحبّ أن تأخذ و تحلف

، يعني: ليس الأمر كما زعمت و اعتقدت شديداً من الحرمة، بل الحكم الإلهي هو الجواز، فأُحبّ أن تعمل بهذا الجواز لتنكسر سورة عقيدتك علي الحرمة.

و بالجملة: فهذا الوجه فيها محتمل، و معه فلا تعارض، بل تكون الصحيحة قرينة إرادة الكراهة في المنع المذكور في صحيحة معاوية بن عمّار و خبر ابن أخي الفضيل بن يسار.

و منه تعرف: أنّ الحقّ ما أفاده دام ظلّه في المسألة التاسعة من أنّ الأقوي جواز المقاصّة من المال الذي جعل عنده وديعة علي كراهية، و الأحوط عدم الجواز.

هذا تمام الكلام في الطائفة الأُولي.

الطائفة الثانية: ما تدلّ بنفسها علي المنع من التقاصّ إذا حلف من عليه المال، و هي عدّة من الأخبار:

منها: صحيحة سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل وقع لي عنده مال، فكابرني عليه و حلف، ثمّ وقع له عندي مال آخذه (فآخذه) لمكان مالي الذي أخذه و أجحده

و أحلف عليه كما صنع؟ قال

إن

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 406

______________________________

خانك فلا تخنه، و لا تدخل فيما عبته عليه «1»

، فموردها كما تري وقوع المكابرة أي المنازعة بينهما و حلف من عنده المال علي النفي. و قد عدّ هو عليه السلام أخذ ماله مكان ما أخذه خيانة و نهي عنه، و هو مخالف لما مرّ من الأخبار. و حيث إنّ النسبة عموم و خصوص مطلق فيخصّص بها عموم تلك الأخبار.

و لكنّ الحقّ: أنّ محطّ نظره عليه السلام في المنع ليس إلي جهة حلفه؛ فإنّه عليه السلام أجاب السائل بقوله

إن خانك فلا تخنه

، و واضح: أنّ قوام خيانة من ذهب بماله و أخذه إنّما هو بمجرّد أخذ ماله بغير رضاه، و لا دخل لحلفه علي النفي في تحقّق معني الخيانة أصلًا.

و حينئذٍ: فمآل جوابه عليه السلام إلي المنع عن أخذ ماله لمكان ما أخذه، و أنّ التقاصّ خيانة، فيكون الصحيحة دالّة علي عدم جواز التقاصّ بقول مطلق، و إذا وضعت جنب الأخبار الصريحة في جوازه يحمل النهي الوارد فيها علي الكراهة، نظير ما عرفت في قوله عليه السلام في صحيح الحسين بن المختار

و ما أُحبّ أن يأخذ منه شيئاً بغير علمه «1».

و بالجملة: فعدّ هذه الصحيحة من مطلقات المنع أصحّ و أولي.

و منها: خبر خضر النخعي الذي رواه المشايخ الثلاثة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في الرجل يكون له علي الرجل المال فيجحده قال:

______________________________

(1) وسائل الشيعة 17: 274، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 7.

(1) وسائل الشيعة 19: 11، كتاب الشركة، الباب 5، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 407

______________________________

إن استحلفه فليس له أن يأخذ شيئاً،

و إن تركه و لم يستحلفه فهو علي حقّه «1».

قال في «الوسائل»: و رواه الصدوق، و زاد

و إن احتسبه فليس له أن يأخذ منه شيئاً.

و هو كما تري ظاهر في أنّ صاحب الحقّ إذا طلب ممّن عليه حقّه أن يحلف فحلف علي نفي حقّه، فليس له أن يأخذ شيئاً، و هو ظاهر في انتفاء حقّه بالاستحلاف و الحلف؛ خصوصاً بقرينة جعله مقابلًا لقوله

و إن تركه و لم يستحلفه فهو علي حقّه

، فأفاد عليه السلام: أنّه في صورة الترك يكون علي حقّه. فالمقصود من قوله

فليس له أن يأخذ شيئاً

: أنّه ليس علي حقّه حتّي يجوز له أن يأخذ شيئاً، فهذا من آثار الاستحلاف، و الحلف عقيبه.

ثمّ الحلف بنفسه و إن كان عامّاً يشمل ما وقع منه في مجلس القضاء و ما يقع بين الناس أنفسهم، و هكذا مفهوم الاستحلاف يعمّ ما كان في مجلس القضاء و غيره، إلّا أنّه لا يبعد دعوي انصراف لفظة «الاستحلاف» إلي خصوص ما كان في مجلس القضاء، و يتبعه الحلف لا محالة، و إن شكّ في صحّة هذه الدعوي ابتداءً فلا بعد في التصديق لها مع ملاحظة سائر الأخبار الآتية، و إلّا فهذا الخبر بنفسه ضعيف السند.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 246، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 10، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 408

______________________________

و منها: خبر عبد اللّٰه بن وضّاح قال: كانت بيني و بين رجل من اليهود معاملة، فخانني بألف درهم، فقدّمته إلي الوالي، فأحلفته، فحلف و قد علمت أنّه حلف يميناً فاجرة، فوقع له بعد ذلك عندي أرباح و دراهم كثيرة، فأردت أن أقتصّ الألف درهم التي كانت لي عنده و أحلف عليها، فكتبت إلي

أبي الحسن عليه السلام فأخبرته: أنّي قد أحلفته فحلف و قد وقع له عندي مال، فإن أمرتني أن آخذ منه الألف درهم التي حلف عليها فعلت؟ فكتب

لا تأخذ منه شيئاً، إن كان ظلمك فلا تظلمه، و لو لا أنّك رضيت بيمينه فحلّفته، لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك، و لكنّك رضيت بيمينه و قد ذهبت اليمين بما فيها.

الحديث «1».

و ظهور هذا الخبر في أنّ ذهاب حقّه من آثار الاستحلاف و الرضا بيمينه واضح، و هذا الحلف كان حلفاً في مجلس القضاء؛ إذ الظاهر أنّ الوالي أيضاً كان مرجعاً للخصومات؛ و لذلك ورد في مقبولة عمر بن حنظلة

فتحاكما إلي السلطان أو إلي القضاة «2»

، و في صحيح عبد اللّٰه بن سنان

أيّما مؤمن قدّم مؤمناً في خصومة إلي قاضٍ أو سلطان جائر فقضي عليه بغير حكم اللّٰه، فقد شركه في الإثم «3».

فهذا الخبر من جملة القرائن علي أنّ المراد بالاستحلاف في خبر خضر

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 246، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 10، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة 27: 13، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 4.

(3) وسائل الشيعة 27: 11، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 409

______________________________

أيضاً ما كان في مجلس القضاء، لكنّه أيضاً ضعيف السند.

و منها: صحيحة ابن أبي يعفور التي رواها المشايخ الثلاثة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه فحلف أن لا حقّ له قبله ذهبت اليمين بحقّ المدّعي، فلا دعوي له

، قلت له: و إن كانت عليه بيّنة عادلة؟ قال

نعم، و إن أقام بعد ما استحلفه باللّٰه خمسين قسامة ما كان له و

كانت اليمين قد أبطلت كلّ ما ادّعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه «1».

فقوله عليه السلام فيها أوّلًا

ذهبت اليمين بحقّ المدّعي، فلا دعوي له

ظاهر بنفسه في أنّ حقّ المدّعي ذهب بيمين المنكر، فإذا لم يكن له حقّ فلا مجال للاقتصاص، كما لا مجال لإقامة الدعوي ثانية؛ و لذلك فرّع عليه قوله

فلا دعوي له.

فاحتمال أن يكون المراد مجرّد ذهاب حقّ طرح الدعوي خلاف الظاهر، بل ظاهره ذهاب نفس الحقّ، و يتبعه أنّه لا دعوي له.

و قد أكّد هذا المعني في ذيل الحديث بقوله

و كانت اليمين قد أبطلت كلّ ما ادّعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه

، فأفاد: أنّ يمينه أبطلت ما ادّعاه و ذهبت به، و حينئذٍ: فلا حقّ له بعد يمينه حتّي يقوم بصدد اقتصاصه.

ثمّ إنّ الصحيحة كما تري مختصّة بالحلف الذي يحلفه المنكر في مجلس القضاء و يقضي به القاضي، فهي قرينة أُخري علي ما احتملنا و استظهرنا في خبر خضر.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 244، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 9، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 410

______________________________

و منها: خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه الذي رواه المشايخ الثلاثة أيضاً قال: قلت للشيخ عن «الفقيه»: يعني موسي بن جعفر عليه السلام-: خبّرني عن الرجل يدّعي قبل الرجل الحقّ فلم تكن له بيّنة بما له؟ قال

فيمين المدّعي عليه، فإن حلف فلا حقّ له.

الحديث «1»، فتراه أنّه عليه السلام حكم بأن لا حقّ للمدّعي إذا حلف المدّعي عليه يمينه، و هذا الخبر في كيفية الدلالة مثل الصحيحة السابقة، فتذكّر.

فالمستفاد من جميع هذه الأخبار: أنّ اليمين التي يستحلفها المدّعي توجب ذهاب حقّه، و أن لا يكون له علي المنكر حقّ، و معه فلا يبقي

مجال للتقاصّ؛ إذ لا حقّ له حتّي يتقاصّ.

و لعلّه بهذه الملاحظة و العناية عدّ الأخذ من مال المنكر الحالف في خبر عبد اللّٰه بن وضّاح ظلماً، فقال عليه السلام

إن كان ظلمك فلا تظلمه

، فإذا لم يكن للمدّعي حقّ فلا محالة يكون أخذ مال المنكر ظلماً عليه.

بل لعلّه بهذه العناية قال عليه السلام في صحيحة سليمان بن خالد الماضية

إن خانك فلا تخنه

، بأن يراد من الحلف الوارد فيها خصوص حلف مجلس القضاء، و إن كان خلاف إطلاقه.

إن قلت: إنّ هذا الذي استظهر من مجموع هذه الأحاديث و لا سيّما صحيحة ابن أبي يعفور و خبر عبد الرحمن يناقض قوله صلي الله عليه و آله و سلم في الصحيحة المستفيضة

إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان، و بعضكم ألحن

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 236، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 4، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 411

______________________________

بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار «1»

، فجعل مستند قضائه البيّنة و اليمين و حكمه صلي الله عليه و آله و سلم بأنّه أيّما رجل قطع بقضائه له من مال أخيه شي ء فهو له قطعة نار، صريح في حرمة هذا المال المقطوع علي من قضي له، فهو باقٍ علي ملك مالكه الأصلي الذي يكون هو المدّعي فيما استند القضاء إلي يمين المنكر الكاذب، فهذه الصحيحة صريحة في بقاء حقّ المدّعي، و هو مناقض لما تضمّنته هذه الأخبار.

قلت: لا مناقضة و لا منافاة، ببيان أنّه لا ريب في أنّ ما تضمّنته المستفيضة هو حكم اللّٰه الواقعي؛ فلا محالة يكون ما دلّت عليه تلك الأخبار الأُخر حكمه الظاهري؛ بمعني

أنّه تعالي حكم بموجب القضاء و في مرحلة العمل التي يجب أن يلتزم جميع المكلّفين بها أنّه لا حقّ للمدّعي بعد أن استحلف المنكر و حلف، فيجب أن يعمل معاملة أن لا حقّ له.

و هذا الوجوب ثابت؛ حتّي علي نفس المدّعي، بحيث يكون التخلّف عنه معصية غير جائز، و مع ذلك فالمال ملك بحسب الواقع لمن يكون ملكاً له واقعاً، و لا يوجب اليمين الكاذبة انقلاب الواقع عمّا هو عليه، فهو حرام واقعاً علي غير مالكه و إن قضي في ظاهر الشرع بأنّه ملكه.

و مآل هذا الحكم الظاهري هنا إلي وجوب قبول حكم الحاكم الذي يحكم علي موازين القضاء الشرعي، و يكون عين ما قاله أبو عبد اللّٰه عليه السلام في مقبولة عمر بن حنظلة

فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 232، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 2، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 412

______________________________

استخفّ بحكم اللّٰه و علينا ردّ، و الرادّ علينا الرادّ علي اللّٰه، و هو علي حدّ الشرك باللّٰه «1».

و حينئذٍ: فإذا أخذ المدّعي الحقّ من مال المنكر الحالف كاذباً بقدر حقّه و لو خفاءً فهو و إن لم يعص اللّٰه من حيث التصرّف في مال الغير بغير إذنه لأنّه أخذه مكان ماله الذي ذهب به إلّا أنّه عصي اللّٰه تعالي من جهة أنّه استخفّ بحكم الحاكم الذي حكم بحكمهم، و هو علي حدّ الشرك باللّٰه.

و كون حكمه حكماً بحكمهم لا يلازم انطباقه علي الواقع؛ إذ لا يفضل حكمه علي حكم رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم الذي قال

فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من

النار.

و من الدقّة في مفاد أخبار الطائفة الثانية و في مفاد أخبار جواز التقاصّ تعرف: أنّ المنع المستفاد من هذه الطائفة منع و تحريم بعنوان أنّه مخالفة لحكم الحاكم، لا بعنوان أنّه تصرّف في مال الغير و ظلم واقعي، فأخذ المدّعي المحقّ من مال المنكر الحالف الكاذب له عنوانان: عنوان التقاصّ و عنوان الاستخفاف بحكم الحاكم، و بالعنوان الأوّل يحكم عليه بالجواز، و بالعنوان الثاني يحكم عليه بالحرمة، بناءً علي جواز اجتماع الأمر و النهي.

هذا تمام الكلام في أصل جواز التقاصّ، و بعد ذلك يقع الكلام في ذكر حدوده، فارتقب.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 413

من عين أو دين أو منفعة (4) أو حقّ (5)

______________________________

(4) فإنّ عنوان المال المأخوذ في موثّقة بريد «1» يعمّ العين و الدين و المنفعة، و عنوان «الألف درهم» في صحيحة البقباق «2» يعمّ العين و الدين، كما أنّ صحيحة داود بن زربي «3» مثل خبر علي بن سليمان «4» واردة في خصوص العين، و معتبرا أبي بكر الحضرمي «5» مختصّ بالدين، بل يعمّ إتلاف العين أو المنفعة الموجب لاشتغال الذمّة، فراجع. مضافاً إلي ما يأتي في الحقّ.

(5) مثاله: أن يسبق أحد إلي مكان من المسجد أو بعض المشتركات الأُخر، فيجي ء آخر و يدفعه عن مكانه غصباً و يجلس محلّه، فله أن يقاصّه بمثله في زمن آخر أو بمقدار من المال يقوّم به. و سيجي ء تفسير «الحقّ» بأعمّ من ذلك في المسألة الرابعة و العشرين.

و الدليل عليه: أنّ العناوين المأخوذة في أخبار الباب و إن كانت لا تعمّه، إلّا أنّه لا ريب في أنّ العرف يصطادون

منها قاعدة كلّية، هي: جواز المقاصّة في جميع موارد الأموال و الحقوق و سقوط اعتبار رضي المالك

______________________________

(1) تقدّمت في الصفحة 393.

(2) تقدّمت في الصفحة 400.

(3) تقدّمت في الصفحة 395.

(4) تقدّم في الصفحة 400.

(5) تقدّمتا في الصفحة 397 و 399.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 414

و كان جاحداً أو مماطلًا (6) و أمّا إذا كان منكراً لاعتقاد المحقّية (7) أو كان لا يدري محقّية المدّعي (8)

______________________________

و المقتصّ منه؛ فكلّ مورد يجب علي الشخص أداء ما عليه من حقّ الغير أو ماله بأداء مثله أو قيمته فإذا امتنع عن أدائه سقط اعتبار رضاه، و كان لذي الحقّ الاستقلال باستيفائه، من غير خصوصية للعين و المنفعة و الدين، بل يعمّ موارد الحقوق القابلة للتقاصّ، هذا.

خصوصاً أنّ قوله تعالي فَمَنِ اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ «1» مطلق، يعمّ مورد الاعتداء في باب الحقوق أيضاً، و يكون شاهداً و مؤيّداً لاصطياد القاعدة العامّة المذكورة أيضاً.

(6) هذان الموردان هما المتيقّن من أخبار الباب؛ فإنّ الجحود قد صرّح به في أخبار عديدة؛ منها معتبر أبي بكر الحضرمي، كما أنّ صحيحة داود بن زربي واردة في مورد الغصب البيّن الملازم للمماطلة و الاستنكاف عن الأداء، مضافاً إلي أنّ إطلاق مثل موثّقة بريد و صحيحة البقباق بيّن الشمول لهما.

(7) أي أنكر أنّ عليه شيئاً و اعتقد محقّية نفسه.

(8) أي فلا يقوم بصدد الأداء؛ اعتماداً علي أصالة البراءة و نحوها، و إلّا فإن كان مقتضي مثل الاستصحاب اشتغال ذمّته لكان عليه الأداء،

______________________________

(1) البقرة (2): 194.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 415

ففي جواز المقاصّة إشكال (9) بل الأشبه عدم الجواز، و لو كان غاصباً و أنكر لنسيانه فالظاهر جواز

المقاصّة.

______________________________

فامتناعه حينئذٍ من الأداء من مصاديق المماطلة، فجامع الصورتين عدم قيام حجّة فعلية علي وجوب الأداء.

(9) و ذلك أنّ ستّة من الأخبار الأحد عشر الواردة في جواز التقاصّ و إن وردت علي عنوان الجحود الذي قد فسّر بالإنكار الذي يعلم الجاحد خلافه، و بنفي ما في القلب إثباته و إثبات ما في القلب نفيه، كما أنّ صحيحة داود و خبر علي بن سليمان واردان في مورد الغصب؛ فلا يعمّ شي ء منهما محلّ الكلام، إلّا أنّ عنوان «عدا عليه فأخذ ماله» الوارد في موثّقة بريد مثل عنوان «ذهب له بألف درهم» الوارد في صحيحة البقباق يمكن دعوي شمولهما له؛ فإنّ من عليه أو عنده المال و إن استند في عدم أدائه له إلي اعتقاده بالخلاف أو إلي حجّة معتبرة معذّرة، إلّا أنّه لا ريب في أنّ عدم قيامه بأداء مال الغير و تصميمه علي عدم الأداء عدوان علي الغير و أخذ لماله و ذهاب بماله واقعاً، و إن لم يكن هو في أخذه و ذهابه بماله عاصياً، فالعنوانان شاملان، و هما مطلقان؛ فيجوز لصاحب الحقّ التقاصّ هاهنا أيضاً.

مضافاً إلي أنّ العنوان المأخوذ في خبر إسحاق بن إبراهيم عنوان «قد كان له عليه مال»، الذي لا ينبغي الشكّ في شموله لما نحن فيه.

و ممّا ذكرنا في حديثي بريد و البقباق تعرف إمكان الاستناد إلي

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 416

______________________________

إطلاق آية الاعتداء أيضاً، هذا.

مضافاً إلي إمكان أن يقال: إنّ العرف لا يري خصوصية لكون العدوان و الذهاب بمال الغير معصية، و إنّما يفهم و يري أنّ التقاصّ طريق أسّسه أو أمضاه الشارع لكي يصل ذو الحقّ إلي حقّه إذا لا يقوم من عليه الحقّ بأدائه،

هذا.

و لكن لا يبعد أن يقال: إنّ الظاهر عرفاً من إسناد الفعل إلي الفاعل الذي هو بحسب الطبع ملتفت إلي ما يفعله أنّه كان ملتفتاً إلي فعله مريداً لعنوانه فاعلًا له بالتفاته و اختياره، فيكون ظاهر أفعال «عدا» و «ذهب» و «اعتدي» أنّ هذه العناوين وقعت من فاعلها عن عمد إليها و قصد، و ينصرف و لا يعمّ ما إذا وقعت منه هذه العناوين غير ملتفت إليها، بل معتقداً لعدم تحقّقها.

و أمّا خبر إسحاق بن إبراهيم: فقد عرفت عدم اعتبار سنده، مضافاً إلي عدم بعد دعوي انصرافه أيضاً عن غير العامد. كما أنّ إلغاء الخصوصية عرفاً غير مسلّم؛ إذ يحتمل قوياً أن يكون قاعدة التقاصّ مجازاة للعاصي المتخلّف فقط، لا و للمخطئ المعذور أيضاً.

و بالجملة: فلا يبعد دعوي عدم شمول الأدلّة المجوّزة، و قد عرفت أنّ مقتضي القاعدة الأوّلية عدم الجواز؛ فلذلك كان الأشبه بالقواعد عدم الجواز.

نعم، إذا كان حين عدوانه و الذهاب بمال الغير ملتفتاً عامداً، بأن يعلم أنّ عليه ديناً، فجحده أو ماطل في أدائه، أو علم أنّ هذا مال الغير فأخذه

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 417

[مسألة 2 إذا كان له عين عند غيره]

مسألة 2 إذا كان له عين عند غيره؛ فإن كان يمكن أخذها بلا مشقّة و لا ارتكاب محذور فلا يجوز المقاصّة من ماله (10)،

______________________________

غصباً بلا رضاه، لكنّه نسي الأمر بعده و اعتقد أن لا شي ء عليه، و أنّ المغصوب ملك لنفسه، فلا ريب في أنّ هذه الصورة مشمولة لجميع العناوين؛ فإنّ من صدق عليه أنّه جحد أو غصب أو أخذ مال الغير و كان ملتفتاً إلي الغصب و أخذ مال الغير حين صدوره، عمّه الأدلّة، و إطلاقها شامل لما إذا طرأ عليه النسيان

أيضاً، فيجوز المقاصّة ممّن جحد أو غصب و إن طرأ عليه النسيان و أنكر؛ لاعتقاد محقّيته في الإنكار.

و منه تعرف الوجه لما أفاده بقوله: «و لو كان غاصباً و أنكر لنسيانه فالظاهر جواز المقاصّة».

(10) لما عرفت: أنّ القواعد الأوّلية مقتضية لعدم جواز التقاصّ و أدلّة جواز التقاصّ فيما إذا غصب عين مال له لا يعمّ ما إذا أمكنه أخذها بسهولة؛ فإنّ أدلّة جواز التقاصّ في غصب العين هي عموم موثّقة بريد و صحيحة البقباق و خصوص صحيحة داود و خبر علي بن سليمان «1»، و شي ء منها لا يعمّ ما إذا أمكن أخذها بسهولة؛ فإنّ التعبير في موثّقة بريد بقوله: «فقدر علي أن يأخذ من ماله ما أخذ» ظاهر في أنّه لا يقدر علي أخذها من غير هذا الطريق؛ فكان قبله غير قادر أصلًا، ثمّ قدر علي

______________________________

(1) تقدّمت هذه الأخبار في الصفحة 263 و 267 و 264 و 268.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 418

و إن لم يمكن أخذها منه أصلًا جاز المقاصّة من ماله الآخر (11) فإن كان من جنس ماله جاز الأخذ بمقداره، و إن لم يكن جاز الأخذ بمقدار قيمته، و إن لم يمكن إلّا ببيعه جاز بيعه (12) و أخذ مقدار قيمة ماله و ردّ الزائد.

______________________________

أن يأخذ من ماله ما أخذ. كما أنّ إمكان الأخذ من الوديعة المفروضة في صحيحة البقباق ظاهره أنّه أمر حادث و فرصة مغتنمة، لا أنّ له طريقاً أيضاً إلي أخذه ممّن ذهب بدراهمه بأدائه بنفسه أو أخذه لعين ماله. و نحوها في كيفية الانحصار خبر علي بن سليمان. و صحيحة داود أيضاً ظاهرة في أنّ السلطان أو القوم المذكور باقون علي غلبتهم و أخذهم

و الذهاب بماله قهراً، و لا يمكنه بالسهولة الطمع فيما أخذوا منه.

و بالجملة: لا يعمّ شي ء منها ما إذا أمكن أخذها بلا مشقّة و لا ارتكاب محذور، و هي ظاهرة في جواز المقاصّة إذا لم يمكن له أخذها.

(11) لأنّه القدر المتيقّن من الأحاديث الأربعة المذكورة، ثمّ صحيحة البقباق واردة في خصوص التقاصّ بالجنس، و صحيحة داود في خصوص القيميات. و خبر علي بن سليمان و إن كان صريحاً في القيميات، إلّا أنّه يعمّ باشتماله علي عنوان غصب المال للمثليات أيضاً، فيكون نحو موثّقة بريد دالّاً علي جواز التقاصّ بقدر ما أخذ؛ سواء كان من جنس المأخوذ أم من غير جنسه.

(12) المنقول عن الأصحاب قدس سرهم تخيير صاحب الحقّ بين التقاصّ بعين مال المقتصّ منه، و بين بيعه و صرف الثمن في جنس الحقّ، بل و بين التقاصّ بالثمن.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 419

______________________________

قال في «الشرائع»: و لو كان المال من غير جنس الموجود جاز أخذه بالقيمة العدل، و يسقط اعتبار رضي المالك بإلطاطه، كما يسقط اعتبار رضاه في الجنس، و يجوز أن يتولّي بيعها و قبض دينه من ثمنها دفعاً لمشقّة التربّص بها.

و زاد في «الجواهر»: بل يجوز له بيع ثمنها إلي أن ينتهي إلي ما يساوي حقّه في الجنس ثمّ يأخذ مقاصّة.

و في «الرياض»: قالوا: و يتخيّر في غير الجنس بين أخذه بالقيمة العادلة فيما بينه و بين اللّٰه تعالي، و بين بيعه و صرفه في جنس الحقّ. و يستقلّ بالمعاوضة، كما يستقلّ بتعيين أحد الفردين المخيّر بينهما، هذا.

لكن مختار المتن المستفاد من المسألة السابعة: أنّه لا يجوز بيعه أصلًا ما دام يمكن التقاصّ بعين المال، و إنّما يجوز في خصوص

ما إذا لم يمكن التقاصّ بعينه، و ظاهره أن لا يمكن التقاصّ بعينه؛ لا مفروزاً و لا مشاعاً، فإذا لم يمكن إلّا بيعه جاز، و إلّا فلا.

و الدليل علي ما أفاده دام ظلّه أنّ مقتضي القواعد كما عرفت عدم جواز التصرّف في مال الغير أيّ تصرّف كان و إنّما دلّت أخبار التقاصّ علي جواز أخذ مال المقتصّ منه كما في أكثرها أو ما يرجع إليه كالقبض منه كما في خبر إسحاق بن إبراهيم أو الاقتصاص منه كما في خبر أبي بكر الأريني أو جحوده كما في خبري علي بن جعفر ففي جميعها كما تري إنّما جوّز أخذ مال المقتصّ منه مكان ماله، فلم يجوّز له الأخبار سوي الأخذ؛ فيبقي التصرّفات الأُخر كبيعه و سائر معاملاته-

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 420

______________________________

تحت عموم المنع الذي اقتضته العمومات و القاعدة.

و أمّا ما استدلّ به في «الجواهر» لجواز البيع من أنّ الشارع قد أقامه مقام المالك في الاستيفاء، فلا يلزم بالمقاصّة من غير الجنس.

ففيه: أنّه لا دليل علي أنّه قائم مقام المالك في الاستيفاء بقول مطلق، و إنّما دلّ الدليل علي أنّ له أن يأخذ من مال المالك مكان ماله، فهو قائم مقام المالك في الاستيفاء بهذه الكيفية، و غير هذه الكيفية ممنوع بحكم القواعد و العمومات.

إن قلت: إنّ مقتضي الآية «1» جواز الاعتداء بالمثل، و معلوم: أنّه لو باعه و اقتصّ بثمنه أو صرف ثمنه في جنس حقّه فاقتصّ به فلم يعتد عليه أزيد ممّا اعتدي، فإطلاق الآية دليل الجواز.

قلت: لمّا كان المفروض أنّ الغاصب مثلًا إنّما اعتدي عليه بأخذ ماله و غصبه، فإذا اقتصر علي أخذ مال الغاصب بمقدار ما أخذ فقد اعتدي عليه

بمثل ما اعتدي. و أمّا إذا باع ماله ثمّ اقتصّ بثمنه مثلًا فنفس أخذ الثمن مثلًا إذا كان بمقدار ما غصب و إن كان اعتداء عليه بمقدار ما اعتدي و لا يزيد عليه شيئاً لفرض تساويهما في المالية إلّا أنّ التصرّف البيعي أيضاً اعتداء علي الغاصب، مع أنّ الغاصب لم يبدأ بمثل هذا الاعتداء.

و بالجملة: فالاعتداء بالمثل في الفرض إنّما يكون بأن يقتصر بأخذ ما يساوي المغصوب في المالية، و ما زاد عليه فهو اعتداء ابتدائي لا يجوّزه

______________________________

(1) البقرة (2): 194.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 421

______________________________

الآية. و مقتضي سائر الأدلّة المنع عنه، هذا فيما أمكن التقاصّ بأخذ نفس المال.

و أمّا إذا لم يمكن المقاصّة إلّا ببيعه، فما جوّزه الأخبار و إن كان مجرّد الأخذ أو ما يرجع إليه، إلّا أنّه لمّا كان المفروض أنّ الأخذ غير ممكن إلّا إذا بيع ماله و اقتصّ بثمنه، فالإذن في الأخذ يؤول إلي الإذن في البيع؛ لتوقّف الأخذ هنا علي بيعه، هذا.

و لقائل أن يقول: إنّ المأذون فيه إنّما هو مجرّد أخذ مال من عليه أو عنده الحقّ، و ماله هو الشي ء الذي ملكه بالأسباب الشرعية المملّكة؛ فإن أمكن الأخذ من ماله فهو، و إن لم يمكن فبيع ماله لمّا كان بغير إذنه و إجازته لا دليل علي صحّته حتّي يصير الثمن ملكاً له و من جملة أمواله. فما هو مال له لا يمكن أخذه و الاقتصاص منه، و ما أمكن الاقتصاص به ليس بمقتضي القواعد مالًا له. فما نحن فيه نظير ما إذا لم يقدر علي أن يأخذ من أمواله أصلًا، فلا يتحقّق المقاصّة؛ لعدم إمكانها.

و بالجملة: فالإذن في الشي ء و إن استلزم الإذن في

مقدّمته المنحصرة، إلّا أنّه إذا فرض توقّف المقدّمة علي أمر غير حاصل و هو إذن المالك بالبيع هنا فلا محالة لا يتحقّق المقدّمة؛ فلا يمكن تحقّق ذي المقدّمة.

اللهمّ إلّا أن يقال: إن المفهوم من أخبار الباب عرفاً أنّ الشارع بصدد جعل الطريق لذي الحقّ إلي إحياء حقّه؛ فهو و إن وجب عليه الاقتصار علي المقدار اللازم من التصرّف في مال الغير إلّا أنّه إذا توقّف وصوله إلي حقّه علي بيع مال الغير فلا ينبغي الريب في جوازه.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 422

[مسألة 3 لو كان المطلوب مثلياً و أمكن له المقاصّة من ماله المثلي و غيره]

مسألة 3 لو كان المطلوب مثلياً و أمكن له المقاصّة من ماله المثلي و غيره، فهل يجوز له أخذ غير المثلي تقاصّاً بقدر قيمة ماله، أو يجب الأخذ من المثلي، و كذا لو أمكن الأخذ من جنس ماله و من مثلي آخر بمقدار قيمته، مثلًا: لو كان المطلوب حنطة و أمكنه أخذ حنطة منه بمقدار حنطته و أخذ مقدار من العدس بقدر قيمتها، فهل يجب الاقتصار علي الحنطة أو جاز الأخذ من العدس؟ لا يبعد جواز التقاصّ مطلقاً (13) فيما إذا لم يلزم منه بيع مال الغاصب و أخذ القيمة، و مع لزومه و إمكان التقاصّ بشي ء لم يلزم منه ذلك، فالأحوط بل الأقوي الاقتصار علي ذلك،

______________________________

(13) كما في «الرياض»، قال: و هل يتعيّن عليه أخذ الجنس إذا اجتمع مع غيره؟ ظاهر إطلاق الأدلّة كالعبارة و نحوها العدم، خلافاً للشهيدين و غيرهما، فيتعيّن، و هو أحوط، و إن كان في تعيينه نظر، انتهي.

لكن في «الجواهر»: قد يقال بوجوب الاقتصار في المقاصّة علي الأخذ من جنس حقّه مع الإمكان، و من غيره مع عدم الإمكان؛ لعدم الإطلاق في الأدلّة يوثق به

علي الجواز من غير الجنس مطلقاً، فيقتصر فيما خالف الأصل علي المتيقّن. فما في «الرياض» من الميل إلي عدم تعيّن ذلك عليه؛ للإطلاق المزبور نصّاً و فتوي لا يخلو من نظر، انتهي.

فالمسألة خلافية. و وجه الخلاف ما في عبارة «الرياض» و «الجواهر».

و ما يمكن الاستناد إلي إطلاقه أخبار ثلاثة:

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 423

______________________________

أحدها: مكاتبة علي بن سليمان «1»، و بيان دلالتها: أنّ المفروض في السؤال: أنّه وقع عنده مال، و هو يعمّ ما إذا كان هذا المال مجتمعاً من الجنس و غيره. و قوله في السؤال في توصيف المال: «مثل ما خانه أو غصبه» و إن أوجب ظهوره في كونه غير زائد علي المغصوب فلا محالة يخرج عن محلّ الكلام إلّا أنّ قوله عليه السلام في الجواب

و إن كان أكثر فيأخذ منه ما كان عليه، و يسلّم الباقي إليه

تفضّل ببيان حكم ما إذا زاد علي المغصوب. و حينئذٍ: فعدم التعرّض لإلزام الأخذ من خصوص الجنس فيما كان مع غيره. و إطلاق كلامه دليل علي عدم تعيّنه، كما في «الرياض»، و لا وجه لمنع الإطلاق، هذا.

لكن الخبر ضعيف السند؛ لاشتراك علي بن سليمان بين الزراري الثقة و غيره المجهول.

ثانيها: خبر جميل بن درّاج «2»، ببيان: أنّ المفروض في سؤاله أنّ صاحب الحقّ يظفر من ماله بقدر الذي أخذه، فجوّز أخذه. و واضح: أنّ مراده أنّ صاحب الحقّ قد ظفر بمقدار حقّه و يمكنه أخذه، لا أنّه لا يزيد ما ظفر به علي مقدار الحقّ، بل لا ريب في شمول السؤال لما إذا زاد علي مقدار الحقّ، و مآل السؤال إلي أنّه قد أمكنه أخذ مقدار حقّه من مال

______________________________

(1) تقدّمت في الصفحة 400.

(2)

تقدّم في الصفحة 396.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 424

______________________________

الجاحد، فالسؤال مطلق من حيث اشتمال ماله علي جنس حقّه و غير الجنس، و الجواب أيضاً مطلق لم يقيّد بتعيّن الأخذ من الجنس مع الإمكان، و هو حجّة.

لكن في سند الخبر علي بن حديد، الذي قال الشيخ بضعفه، و إن وثّقه في خاتمة «المستدرك» و جعله من أعاظم العلماء الثقات، فراجع.

ثالثها: موثّقة بريد بن معاوية «1»؛ فإنّه قد ذكر في السؤال قوله: أ رأيت لو أنّ رجلًا عدا عليه فأخذ ماله فقدر علي أن يأخذ من ماله ما أخذ، أ كان ذلك له؟ فأجابه أبو عبد اللّٰه عليه السلام بقوله

إنّ هذا ليس مثل هذا

، فهو عليه السلام قد صوّبه في المقيس و أجاب بأنّ المقيس عليه ليس مثل المقيس؛ فما في السؤال مورد تصديق المعصوم عليه السلام فلو قدر صاحب الحقّ علي أن يأخذ من مال من عدا عليه ما أخذ لكان له جائزاً. و واضح: أنّ المراد من أخذ ما أخذ، هو أخذ مقداره، و هو مطلق من جهة اتّحاد الجنس و اختلافه، و من جهة إمكان الأخذ من الجنس و عدم إمكانه؛ فيدلّ بإطلاقه علي عدم تعيّن الأخذ من الجنس مع الإمكان.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ السائل ليس في مقام بيان تمام الموضوع لما يجوز الأخذ منه، و إنّما هو بصدد السؤال عن سرّ منع الوصي عن الاقتصاص من مال موصيه، مع أنّه نظير قاعدة الاقتصاص المذكورة في السؤال،

______________________________

(1) تقدّمت في الصفحة 393.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 425

بل الأحوط الاقتصار علي أخذ جنسه (14) مع الإمكان بلا مشقّة و محذور (15).

[مسألة 4 لو أمكن أخذ ماله بمشقّة]

مسألة 4 لو أمكن أخذ ماله بمشقّة (16)،

______________________________

فأجاب

عليه السلام بالفرق بينهما؛ فلا إطلاق في السؤال حتّي يتبعه الجواب.

(14) قد ظهر ممّا ذكرنا في ذيل كلّ حديث وجه هذا الاحتياط.

(15) و أمّا مع المشقّة أو المحذور فلا ينبغي الريب في جواز الأخذ من غير الجنس؛ فإنّ قاعدة التقاصّ أمر عقلائي أمضاه الشارع لتسهيل أمر الوصول إلي الحقّ لصاحبه، و يفهمون العقلاء من أدلّة جوازه: أنّ له أن يأخذ من ماله بمقدار ما أُخذ، و إن كان من غير جنس حقّه إذا لم يمكن أخذ الجنس، أو كان في الأخذ من الجنس محذور شرعي أو مشقّة خارجية، و إن شكّوا فإنّما يشكّون فيما كان الجنس أيضاً موجوداً عنده أمكنه الأخذ منه بسهولة. فهنا ربّما يحتاج إلي دليل شرعي من نصّ أو إطلاق خاصّ.

(16) لا بدّ هنا من توضيح أمرين:

الأوّل: أنّ المراد بالمال هنا يعمّ العين و الدين، و لا يختصّ بالعين؛ إذ ربّما كان تحمّل مشقّة الحضور مع جمع عند المديون الجاحد مثلًا يوجب مبادرته بأداء دينه و لو حياءً و حفظاً لعرضه عندهم.

الثاني: أنّ المقصود بالمشقّة هو المشقّة اللازمة في مقام الاستيفاء بعد مطالبته بالأداء، لا المشقّة التي تلزم أحياناً في مقام إعلام المطالبة؛ و ذلك أنّه قد مرّ أنّه لا تجوز المقاصّة فيما إذا كان يؤدّي عند المطالبة؛ فما لم يطالب

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 426

فالظاهر جواز التقاصّ (17)، و لو أمكن ذلك مع محذور (18)، كالدخول في داره بلا إذنه أو كسر قفله و نحو ذلك،

______________________________

لا يجب عليه الأداء و لا تجوز المقاصّة، و إنّما تجوز إذا جحد أو ماطل في الأداء بعد المطالبة.

(17) و ذلك لشمول إطلاق الأخبار لهذه الصورة؛ إذ الموضوع لجواز المقاصّة فيها هو جحود

من عنده الحقّ أو أخذه و ذهابه بمال صاحب الحقّ، و هو عنوان شامل لجميع موارد عزم من عنده الحقّ علي عدم الأداء، غاية الأمر انصراف الأخبار عمّا إذا أمكن أخذه بلا مشقّة و لا محذور؛ فيبقي مورد المشقّة تحت إطلاقها و تدلّ علي جواز التقاصّ معها.

(18) المراد بالمحذور ما منع و نهي عنه الشارع لو خلّي و طبعه، لكنّ المقصود منه هنا خصوص ما كان النهي عنه لأجل أنّه تصرّف في سلطنة الغير، و يصير جائزاً إذا تعلّق بالغاصب. و ذلك بقرينة قوله: «هذا إذا جاز ارتكاب المحذور و أخذ ماله، و لو أضرّ ذلك بالغاصب»، و إلّا فما يبقي علي حرمته كهتك عرض منتسبيه و شتمهم و ضربهم، فضلًا عن إثارة فتنة عامّة فلا ريب في جواز التقاصّ معه و دخوله في عمومات الجواز حينئذٍ.

ثمّ إنّ الدليل علي جواز مثل الدخول في دار الغاصب و كسر قفله و نحو ذلك فيما توقّف عليها أخذ ماله، انفهام ذلك عرفاً بالأولوية القطعية البيّنة من الأدلّة الواردة المجوّزة للقتال في الدفاع عن المال؛ ففي صحيحة

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 427

______________________________

محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال

قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم: من قتل دون ماله فهو شهيد، و قال: لو كنت أنا لتركت المال و لم أُقاتل «1»

و نحوها غيرها «2».

فقد جوّز القتال مع من يريد المال و أنّه إن انجرّ إلي قتل المالك فهو بمنزلة الشهيد، و معلوم: أنّ القتال ربّما ينجرّ إلي جرح الغاصب أو قتله؛ فلا محالة يكون جائزاً.

و من الواضح: شمول إطلاق الحديث للقتال الذي يقع في مقام استرداد المال عن الغاصب أيضاً؛ فإنّ

عنوان

دون ماله

شامل له قطعاً، فدلّت الصحيحة و أمثالها علي جواز جرح الغاصب بل و قتله إذا قاوم و لم يترك المال.

فجواز التصرّف في ماله بالدخول في داره و كسر قفله و نحو ذلك ممّا يتوقّف عليه استرداد ماله أولي قطعاً.

لكن جواز الأصل مختصّ ظاهراً بالغاصب المعتدي كاللصّ و نحوه و لا يعمّ من كان تصرّفه في المال مبنياً علي اعتقاد الجواز؛ فلا دليل فيه علي جواز التصرّفات المالية المتوقّف عليها استرداد المال فيه بغير إذنه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 28: 383، كتاب الحدود و التعزيرات، أبواب الدفاع، الباب 4، الحديث 1.

(2) راجع وسائل الشيعة 28: 383، كتاب الحدود و التعزيرات، أبواب الدفاع، الباب 4، و 5، و 15: 119، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الباب 46.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 428

ففي جواز المقاصّة إشكال (19). هذا إذا جاز ارتكاب المحذور و أخذ ماله و لو أضرّ ذلك بالغاصب، و أمّا مع عدم جوازه كما لو كان المطلوب منه غير غاصب، و أنكر المال بعذر فالظاهر جواز التقاصّ من ماله إن قلنا بجواز المقاصّة في صورة الإنكار لعذر.

______________________________

(19) قد يوجّه الإشكال بأنّ حقيقة المقاصّة: أنّه مع أنّ التصرّف في مال الغير ممنوع شرعاً، فمع ذلك فقد جوّز الشارع تملّك مال الغير بغير إذنه بعنوان المقابلة بالمثل و عوضاً عمّا أخذه من ماله، فالمقاصّة تصرّف في مال الغير بتملّكه من غير إذن منه، فإذا توقّف الوصول إلي عين ماله و أخذ عين ماله الذي ينتفي معه التصرّف بالمقاصّة علي التصرّف في داره أو كسر قفله و نحو ذلك ممّا هو أيضاً تصرّف آخر في مال الغير من دون إذن منه، و كان هذا التصرّف أهون من

التصرّف بالتملّك، كان الأنسب عدم جواز التقاصّ.

و بعبارة اخري: التقاصّ تصرّف في سلطنة الغير و هدم لها، يجوّزه الشارع تلافياً و تداركاً لما فات من سلطنته، و إلّا فهو بنفسه غير جائز. فامتناع من عليه أو عنده الحقّ ضرورة مجوّزة للتقاصّ، فكيف لا يجوّز التصرّفات الضعيفة الأُخر التي ينتفي بها ذلك التصرّف الأقوي؟! و الضرورات إنّما تبيح المحظورات بمقدار الضرورة إليها؛ فلا محالة يجب تجويز تلك التصرّفات الأضعف، و لا يجوز التصرّف الأقوي بالمقاصّة.

و وجه جواز التقاصّ حينئذٍ ما عرفت من أنّ موضوعه امتناع من عليه المال عن أدائه، و المسلّم انصرافه عمّا يتمكّن من أخذ ماله بلا مشقّة

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 429

______________________________

و لا ارتكاب محذور؛ فيبقي الباقي تحته، هذا.

لكنّ هذا التوجيه لا يناسب المتن من وجهين:

أحدهما: أنّ لازمه سريان الإشكال أيضاً إلي الشقّ الآخر أعني ما لو كان المطلوب منه غير غاصب و أنكر بعذر، و جوّزنا المقاصّة من ماله إذ الوجه المذكور للإشكال جارٍ هنا أيضاً بعينه، مع أنّ الماتن جازم بجواز التقاصّ فيه من غير إشكال.

ثانيهما: أنّه مبني علي حرمة الدخول في دار الغاصب و نحوه من التصرّفات في ماله المتوقّف عليها استرداد المال، و يكون احتمال جوازها لمكان أنّها أهون من التصرّف بالمقاصّة، مع أنّ ظاهر المتن كما عرفت الفراغ عن جواز تلك التصرّفات، و أنّه الفارق بين الغصب و الإنكار لعذر.

و بالجملة: فظاهر المتن أنّه لو كان التصرّف في مال المطلوب منه غير جائز هنا بنفسه، و كان في أخذ ماله ارتكاب هذا المحذور، لكان المورد من موارد جواز التقاصّ، و لا يجوز ارتكاب ذلك المحذور. فالتوجيه المذكور غير مراد للماتن.

فلو كان للإشكال المذكور وجه، لكان

هو احتمال شمول عموم أدلّة التقاصّ لما كان متمكّناً من أخذ ماله بلا ارتكاب محذور فعلي، لكنّه يلزمه ارتكاب محذور شأني؛ فإنّ تلك التصرّفات في مال الغير كانت محرّمة لو لم تكن مقدّمة لأخذ ماله؛ فيحتمل شمول عموم أدلّته له، كما يحتمل انصرافها عنه، كما كانت منصرفة عمّا ليس في الوصول إلي حقّه و عين ماله ارتكاب محذور شأني أيضاً.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 430

[مسألة 5 لو كان الحقّ ديناً و كان المديون جاحداً أو مماطلًا]

مسألة 5 لو كان الحقّ ديناً و كان المديون جاحداً أو مماطلًا، جازت المقاصّة من ماله و إن أمكن الأخذ منه بالرجوع إلي الحاكم (20).

______________________________

و الحقّ: أنّه بناءً علي جواز تلك التصرّفات كما عرفت فليس أخذ ماله من دار الغاصب و بيته شرعاً إلّا كأخذه من خان أو طريق و سائر الأمكنة التي يجوز له دخولها؛ فإذا قلنا بانصراف أدلّة جواز التقاصّ عن هذه الموارد، فاللازم انصرافها أيضاً عمّا توقّف علي تلك التصرّفات الجائزة، كما لا يخفي.

و التوجيه المذكور و إن لا يمكن أن يكون مراداً للماتن، إلّا أنّه توجيه وجيه لاستشكال الجواز فيما إذا كان المطلوب منه معذوراً في إنكاره غير غاصب. نعم، لا يبعد دعوي شمول إطلاق جواز التقاصّ له، و إن جاز له ارتكاب تلك التصرّفات، و يرفع بها موضوع جواز التقاصّ، هذا.

(20) و قد نسبه في «المسالك» إلي الأكثر، و مثله المنقول عن «الإيضاح»، و نقل عن «الكفاية»: أنّه الأشهر، و كثير من العبارات إنّما تعرّضت للجاحد. لكن بعضها عطفت عليه «المماطل» أيضاً، كما في «المسالك» و «الخلاف» (المسألة 28 من كتاب الدعاوي و البيّنات).

و كيف كان ففي «النافع»: أنّ مع جحود الغريم و عليه حجّة لم يستقلّ المدّعي بالانتزاع من دون الحاكم،

و نحوه نقل عن «الإيضاح» و ظاهر «كشف الرموز»، و عن العلّامة في «التحرير»: أنّه قد تردّد فيه.

و الدليل علي مختار الأكثر: هو إطلاق أدلّة الجواز؛ فإنّ تمام الموضوع

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 431

[مسألة 6 لو توقّف أخذ حقّه علي التصرّف في الأزيد]

مسألة 6 لو توقّف أخذ حقّه علي التصرّف في الأزيد جاز (21)

______________________________

في الأدلّة لجواز التقاصّ هو ذهاب ماله و الامتناع عن أدائه، و هو صادق في مورد التمكّن من الوصول إلي حقّه بالرجوع إلي الحاكم أيضاً، و الأدلّة في مقام البيان؛ فيؤخذ بإطلاقها، و يجري حكمها في جميع الموارد التي يصدق فيها الموضوع.

و غلبة إمكان الرجوع إلي الحاكم و الوصول إلي الحقّ من هذا الطريق لو سلّمت فهي مؤكّدة للإطلاق، و إلّا لكان عليه التقييد بعدم الإمكان. و كيف كان: فالإطلاق محقّق، و هو حجّة علي الجواز بلا إشكال.

(21) فإنّ إطلاق جواز المقاصّة من مال المطلوب منه في الأخبار التي ليس المفروض فيها مساواة ما وقع عنده من ماله لما عليه أو عنده، يقتضي جوازها و لو استلزمت التصرّف في الأزيد، و عليه إطلاق صحيحة داود بن زربي و معتبرة أبي بكر المضمر و خبر جميل بن درّاج «1» و غيرها. و عنوان «الوقوع عنده» الوارد في الصحيحة و المعتبرة أعمّ من أن يجوز له التصرّف أو يحرم كأن يسلّمه أحد إليه خطأ أو نسيه فبقي عنده و هكذا فلا مجال لتوهّم أنّ الوقوع عنده ملازم لجواز التصرّف فيه، و لو من غير جهة أدلّة المقاصّة.

______________________________

(1) تقدّمت هذه الأخبار في الصفحة 395 و 399 و 396.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 432

و الزائد يردّ إلي المقتصّ منه (22) و لو تلف الزائد في يده من غير

إفراط و تفريط و لا تأخير في ردّه لم يضمن (23).

______________________________

(22) لأنّه ماله؛ فلا يحلّ إلّا بطيبة نفس منه.

(23) و ذلك أنّ الدليل العامّ علي الضمان هو قوله صلي الله عليه و آله و سلم

علي اليد ما أخذت حتّي تؤدّي «1»

فإنّه نبوي مشهور انجبر ضعف سنده باستناد الأصحاب إليه؛ حتّي مثل ابن إدريس الذي لا يري حجّية خبر الآحاد.

و هذا العموم منصرف عمّا إذا كان وضع اليد عليه من قبيل ما نحن فيه ممّا أذن به الشارع، و لا يكون التصرّف و وضع اليد عليه إلّا من باب توقّف أخذ حقّه من غيره عليه؛ فإنّه في مقام استيفاء حقّه قد تملّك أو يتملّك ما يساوي حقّه، و هذا الزائد إنّما أخذه و وضع يده عليه لعدم إمكان أخذ حقّه من غيره إلّا بوضع اليد عليه؛ فعموم مثل «علي اليد» عنه منصرف، و لا دليل علي الضمان سواه.

نعم، لو أتلفه شملته قاعدة الإتلاف، كما أنّه لو فرّط في حفظه أو أفرط في وضع اليد عليه أو أخّر في ردّه فقد عصي و لما كان العموم عنه منصرفاً و كانت القواعد حينئذٍ مقتضية للضمان.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 17: 88، كتاب الغصب، الباب 1، الحديث 4.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 433

[مسألة 7 لو توقّف أخذ حقّه علي بيع مال المقتصّ منه]

مسألة 7 لو توقّف أخذ حقّه علي بيع مال المقتصّ منه جاز بيعه و صحّ (24) و يجب ردّ الزائد من حقّه، و أمّا لو لم يتوقّف علي البيع بأن كان قيمة المال بمقدار حقّه فلا إشكال في جواز أخذه مقاصّة، و أمّا في جواز بيعه و أخذ قيمته مقاصّة أو جواز بيعه و اشتراء شي ء من جنس ماله ثمّ أخذه مقاصّة إشكال، و الأشبه

عدم الجواز.

[مسألة 8 لا إشكال في أنّ ما إذا كان حقّه ديناً علي عهدة المماطل فاقتصّ منه بمقداره برئت ذمّته]

مسألة 8 لا إشكال في أنّ ما إذا كان حقّه ديناً علي عهدة المماطل فاقتصّ منه بمقداره برئت ذمّته (25)، سيّما إذا كان المأخوذ مثل ما علي عهدته (26) كما إذا كان عليه مقدار من الحنطة فأخذ بمقدارها تقاصّاً، و كذا في ضمان القيميات إذا اقتصّ القيمة بمقدارها،

______________________________

(24) قد مرّ الكلام في جواز بيعه في هذه الصورة و عدم جوازه في الصور الأُخر بنحو مستوفي ذيل المسألة الثانية فتذكّر.

(25) فإنّ المفهوم من أدلّة جواز التقاصّ: أنّ ما يأخذه تقاصّاً فإنّما هو مكان ما عند المطلوب منه، فإذا كان ما عنده شيئاً في ذمّته فما يأخذه فهو مكان ما في ذمّته و عوض عنه. و لازمه العرفي خروج ذمّته عمّا اشتغلت به. و ما في بعض المصاديق المذكور في الأخبار كما في صحيح البقباق و معتبر أبي بكر من التصريح بهذه العوضية لا يختصّ بخصوص هذه المصاديق، بل المفهوم منه عرفاً أنّه تعبير عامّ في جميع موارد التقاصّ.

(26) وجه الخصوصية: أنّه قد ورد التصريح بما ذكرناه من أنّ المأخوذ إنّما هو مكان ما عنده و عوض عنه في بعض مصاديق المثليات،

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 434

و أمّا إذا كان عيناً فإن كانت مثلية و اقتصّ مثلها فلا يبعد حصول المعاوضة قهراً (27) علي تأمّل.

______________________________

علي ما مرّت إليه الإشارة.

كما في صحيح البقباق: «إنّ شهاباً ماراه في رجل ذهب له بألف درهم و استودعه بعد ذلك ألف درهم، فقلت له: خذها مكان الألف التي أخذ منك»، فمورده: أخذ ألف درهم مكان الألف درهم التي أُخذت منه و هما مثلان.

و نحوه مضمر أبي بكر المفروض فيه أيضاً أخذ الدراهم مكان دراهم آخر، و في

ذيله تقول

اللهمّ. إنّما أخذته مكان مالي الذي أخذ منّي.

و نحوهما معتبره، بناءً علي نسخة «الفقيه»، فراجع.

(27) خصوصية التقاصّ بالمثل الموجبة لأظهرية المعاوضة القهرية أمران:

أحدهما: أنّ صحيح البقباق المصرّح بأنّ ما يأخذه تقاصّاً فهو مكان ما ذهب به منه عامّ لما إذا كانت الدراهم التي ذهب بها منه موجودة بعينها عند المطلوب منه، فيكون قد صرّح بأنّ المأخوذ عوض عنها. و لازم العوضية عرفاً حصول المعاوضة قهراً، و من المعلوم: أنّ مورد الصحيحة من التقاصّ بالمثل.

ثانيهما: أنّه بعد ما كان جهات المالية المرغوب فيها عند العقلاء في مصاديق المثليات المتماثلة متساوية في جميع المصاديق لا تفاوت فيها،

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 435

و أمّا إذا كانت من القيميّات كفرس مثلًا و اقتصّ بمقدار قيمتها، فهل كان الحكم كما ذكر من المعاوضة القهرية، أو كان الاقتصاص بمنزلة بدل الحيلولة، فإذا تمكّن من العين جاز أخذها بل وجب (28)، و يجب عليه ردّ ما أخذ، و كذا يجب علي الغاصب ردّها بعد الاقتصاص (29) و أخذ ماله؟

______________________________

و قد كان مفهوم التقاصّ أنّ ما به التقاصّ فهو مكان ما أُخذ منه، فقد وقع ما يتقاصّ به مكان المأخوذ منه في جميع جهاته المرغوب فيها، فلا يبقي من جهاته المرغوبة شي ء لم يؤخذ عوضها، فلازمه حصول المعاوضة قهراً.

و مع ذلك: فاحتمال بقاء ملكيته بالنسبة إلي حيثية شخصية العين المأخوذة قائم بحاله؛ و لا سيّما بعد ما صوّرنا بدل الحيلولة الذي لازمه بقاء المبدل منه علي ملك مالكه الأصلي، و لكنّه احتمال ضعيف بعد ذلك الاستظهار العرفي.

(28) التعبير بالجواز بملاحظة أنّها ماله، فأمرها بيده، فيجوز له أخذها ممّن تصرّف فيها بغير رضاه. و الترقّي إلي الوجوب لا وجه له

إلّا بملاحظة أنّ التصرّف في البدل المأخوذ للحيلولة لا يجوز له بعد ذلك؛ فإنّه إنّما جاز التصرّف في ذلك الشخص لمكان سدّ الطريق عليه إلي ماله، فإذا ارتفع المانع و انفتح الطريق فلا يجوز له التصرّف في مال الغير إلّا بإذنه. فمآل الوجوب إلي حرمة تصرّفه في مال الغير، و إلّا فلو سلّم مال الغير إليه و رضي بأن يكون عين مال نفسه عند هذا الغير لما كان به بأس.

(29) يعني أنّ الاقتصاص لا يوجب تغييراً في وظيفة الغاصب،

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 436

فيه إشكال و تردّد (30) و إن لا يبعد جريان حكم بدل الحيلولة فيه (31).

______________________________

فتصرّفه في مال المتقاصّ حرام و يجب عليه ردّه إلي مالكه كلّ آن، و لا يوجب التقاصّ أن يجوز له فيه التصرّف أو أن لا يجب عليه الردّ؛ فإنّه تصرّف في مال الغير بغير إذنه، و لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفس منه.

(30) لعدم التصريح بالعوضية بالمعني الذي قد مرّ في شي ء من النصوص في مورد البحث، و كون مفاد التقاصّ عرفاً العوضية المذكورة غير معلوم؛ خصوصاً بعد أن كان بدل الحيلولة أيضاً أمراً عرفياً.

(31) فإنّه بعد أن لم يتبيّن أمره بحسب أخبار التقاصّ و شككنا فيه، كان مقتضي الاستصحاب بقاء كلّ من العينين علي ملك مالكهما و حرمة تصرّف الغاصب في العين المغصوبة. غاية الأمر: جواز تصرّف المتقاصّ فيما أخذه تقاصّاً ما دام لم يدفع الغاصب ماله إليه، و إلّا فإذا دفعه كان مقتضي عموم «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفس منه» هو حرمة تصرّفاته فيما أخذه بعد ذلك الزمان، بناءً علي ما هو الحقّ من وجوب الرجوع إلي العامّ

و حكمه، لا إلي استصحاب حكم المخصّص في أمثال المقام.

لكن لا يبعد دعوي: أنّ الأظهر ما ذكرناه أوّلًا؛ من أنّ مفهوم التقاصّ عرفاً أنّ المأخوذ يكون مكان المغصوب و عوضاً عنه، و أنّ التعبير بهذا المعني في صحيح البقباق و معتبرات أبي بكر الحضرمي، هو تعبير بما يقتضيه حقيقة التقاصّ في جميع مصاديقه، و من قبيل التعبير بلازم الماهية، لا أنّه مختصّ بالمصاديق الخاصّة الواردة فيها. و حينئذٍ فظاهرها كما في

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 437

[مسألة 9 الأقوي جواز المقاصّة (32) من المال الذي جعل عنده وديعة]

مسألة 9 الأقوي جواز المقاصّة (32) من المال الذي جعل عنده وديعة علي كراهية، و الأحوط عدمه.

[مسألة 10 جواز المقاصّة في صورة عدم علمه بالحقّ مشكل]

مسألة 10 جواز المقاصّة في صورة عدم علمه بالحقّ مشكل (33) فلو كان عليه دين و احتمل أداءه، يشكل المقاصّة، فالأحوط رفعه إلي الحاكم، كما أنّه مع جهل المديون مشكل و لو علم الدائن،

______________________________

«الجواهر» ملك المقاصّ العوض الذي يأخذه و يلزمه انتقال ما يقابله إلي الغاصب.

(32) قد مرّ وجه ما تضمّنته هذه المسألة في ذيل البحث عن أخبار جواز التقاصّ، عند البحث عن الطائفة الاولي من الأخبار المتعارضة، فتذكّر.

(33) لعدم علمه بالحقّ صورتان:

فتارةً لا يعلم بأنّ له علي الآخر حقّا، و الأُصول العملية أيضاً حاكمة ببراءة ذمّته، كأن احتمل اشتغال ذمّة زيد بمال له؛ فإنّ استصحاب عدم اشتغالها و براءتها حاكم بأن ليس له علي ذمّته شي ء.

و أُخري يكون مقتضي الأُصول عنده اشتغال ذمّة هذا الغير، كأن علم بأنّ ذمّة الغير قد اشتغلت بمال له و شكّ في أدائه و فراغها.

فالصورة الاولي لا وجه لتوهّم جواز المقاصّة بعد أن كانت الأُصول قاضية بعدم ملك له علي الغير و بحرمة التصرّف في مال الغير بلا طيب نفس منه، بل لو بذل له ذلك الغير و أذن له في الاستيفاء منه فليس له

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 438

______________________________

الأخذ منه؛ لاستصحاب حرمة التصرّف فيه. و الإذن في الاستيفاء ليس إذناً مطلقاً حتّي يكون موجباً لنقض اليقين السابق. و بالجملة: فهذه الصورة لا شبهة في حرمة التقاصّ معها.

و أمّا الصورة الثانية و هي مراد الماتن دام ظلّه كما يشهد له قوله: «فلو كان عليه دين و احتمل أداءه يشكل المقاصّة» فإنّها مورد استصحاب بقاء ماله في ذمّته علي ما

كان؛ فقد يقال فيها بجواز المقاصّة، ببيان: أنّه إذا كان المفروض اليقين بأنّ له علي ذمّة الغير ألف درهم مثلًا و شكّ في أنّه أدّاه أم لا، كان مقتضي قاعدة «لا تنقض اليقين بالشكّ» الحكم ببقاء يقينه علي ما كان، و اليقين طريقي؛ فيحكم بأنّ له علي ذمّة الغير ألف درهم في الحال أيضاً. فبالاستصحاب يثبت و ينقّح موضوع الدين، و أنّ له علي الغير ألف درهم مثلًا فيعمّه مثل صحيحة البقباق الدالّة علي أنّه يجوز التقاصّ بألف درهم ممّن عليه الألف درهم و ذهب بها.

و بالجملة: لمّا كان المفروض شكّ صاحب الحقّ و احتمال أن يكون المديون قد أدّي دينه، و معلوم: أنّ المديون ينكر أن يكون عليه شي ء، فالتمسّك بالأخبار المشتملة علي عنوان الجحد و إن لم يمكن فإنّ صدق هذا العنوان مشكوك، و التمسّك بأخباره تمسّك بالعامّ في شبهته المصداقية إلّا أنّه لا بأس بالتمسّك بمثل صحيحة البقباق الواردة علي عنوان الذهاب بماله الذي يحرز تحقّقه ببركة الاستصحاب.

و حينئذٍ: فلعلّ وجه الإشكال في جواز التقاصّ هو احتمال انصراف الأخبار المجوّزة إلي ما إذا كان من له الحقّ قاطعاً بأنّ له علي الغير حقّا غير

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 439

______________________________

شاكّ في ذلك؛ فلا تشمل مورد الشكّ. و قوّة هذا الاحتمال تمنع عن الإفتاء و الجزم بالأخذ بما اقتضاه الاستصحاب؛ فإنّ استصحاب اشتغال ذمّته لا يزيل الشكّ حقيقة. و الأخبار منصرفة عن مورد وجود الشكّ الحقيقي باحتمال قوي، هذا.

أقول: و التحقيق: أنّه لا يجوز التقاصّ استناداً إلي ذلك الاستصحاب؛ و ذلك أنّ موضوع الجواز كما عرفت ليس مطلق الذهاب بالمال الذي عليه، بل خصوص ما كان عن علم و التفات إلي

أنّه ذهاب بمال الغير. و لهذه الجهة بعينها قوّينا عدم جوازه فيما إذا اعتقد بعدم مال للغير عنده أو عليه أو قامت عنده حجّة معذّرة علي العدم، و هو الذي اختاره الماتن دام ظلّه في المسألة الأُولي و أعاد ذكره في ذيل مسألتنا هذه.

و من المعلوم: أنّ من عليه احتمالًا الحقّ ينكر اشتغال ذمّته بشي ء هنا جزماً، أو يستند إلي حجّة علي البراءة، و حيث إنّ مريد التقاصّ لفرض شكّه يحتمل صدقه في إنكاره أو صدق الحجّة التي استند إليها، فلا محالة لا يثبت له خصوصية الذهاب و أنّه يكون عن علم و التفات بأنّه ذهاب بمال الغير.

و من الواضح: أنّ اشتغال ذمّته الثابت بالاستصحاب لا يستلزم علم المديون بأنّ عليه شيئاً، لكي يلزم منه اتّصاف الذهاب بالخصوصية اللازمة. مع أنّه لو فرض الاستلزام فإثباته بالاستصحاب غير ممكن، إلّا علي القول بالأصل المثبت، و هو ممنوع.

و عليه: فصدق موضوع جواز التقاصّ هنا غير معلوم؛ حتّي بعد

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 440

بل ممنوع كما مرّ (34) فلا بدّ من الرفع إلي الحاكم.

[مسألة 11 لا يجوز التقاصّ من المال المشترك]

مسألة 11 لا يجوز التقاصّ من المال المشترك (35)

______________________________

استصحاب اشتغال الذمّة؛ لاحتمال أن يكون صادقاً في إنكاره أو معذوراً في الاستناد إلي حجّته؛ فلا يكون ذهابه بمال الغير صادراً عن التفات إلي أنّه ذهاب بمال الغير؛ فلا يشمله أدلّة الجواز.

و مع هذا الاحتمال فالتمسّك بأدلّة جواز التقاصّ رجوع إلي العامّ في شبهته المصداقية، و هو غير جائز قطعاً.

و حينئذٍ: كان المرجع أصالة عدم جواز التصرّف في مال الغير بالتملّك و غيره مع عدم إذنه، و أصالة عدم دخوله في ملكه بعد نية التملّك، و أصالة كونه ملكاً لذلك الغير حتّي بعدها

فلا يجوز التصرّف فيه.

نعم، لو كان المديون الاحتمالي أيضاً شاكّاً في الأداء، فحيث إنّ استصحاب الاشتغال جارٍ في حقّه و حاكم بوجوب أدائه، فعدم قيامه بالأداء ذهاب بمال الغير حتّي عنده؛ فهنا يقوي جريان التقاصّ إن لم يحتمل انصرافها إلي خصوص صورة علم المقاصّ بالاشتغال.

(34) في المسألة الاولي من مسائل الباب، و قد مرّ وجهه، و قد أشرنا إليه آنفاً أيضاً، فتذكّر.

(35) لما عرفت من عدم جواز التصرّف في مال الغير إلّا بإذنه. و أدلّة جواز التقاصّ إنّما جوّزت التصرّف بالتملّك في مال من عليه أو عنده مال المقاصّ، و لم تجوّز التصرّف في مال شريكه إذا كان له شريك؛

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 441

بين المديون و غيره إلّا بإذن شريكه، لكن لو أخذ وقع التقاصّ و إن أثم (36)، فإذا اقتصّ من المال المشاع، صار شريكاً لذلك الشريك إن كان المال بقدر حقّه أو أنقص منه (37)، و إلّا صار شريكاً مع المديون و شريكه، فهل يجوز له أخذ حقّه و إفرازه بغير إذن المديون؟ الظاهر جوازه مع رضا الشريك (38).

______________________________

فهو باقٍ علي الحرمة كما كان.

(36) فإنّ تصرّفه في المال المشترك بما أنّه تصرّف في أسهم غريمه و تملّك لنصيبه عوضاً عمّا عليه أو عنده جائز و مشمول لعمومات التقاصّ، و بما أنّه تصرّف خارجي في نصيب الشريك حرام و إثم. و كون التقاصّ هنا و في هذا المصداق ملازماً لعمل حرام لا يوجب عدم شمول أدلّته له، بل إطلاقاتها شاملة؛ فيقع التقاصّ و يترتّب عليه آثاره، كما أفاده في المتن.

(37) المراد بالمال هو سهم المديون لا المال المشاع، و إلّا لما صحّ قوله: «و إلّا صار شريكاً مع المديون و

شريكه»، كما لا يخفي علي المتأمّل.

(38) و ذلك أنّ مقتضي الأدلّة كما تقرّر في باب الشركة توقّف التقسيم و الإفراز علي إذن جميع الشركاء، و لا بدّ من الأخذ بها بالنسبة إلي الشريك و المتقاصّ، و كذا بالنسبة إلي المديون إذا أراد الشريك السابق إفراز نصيبه؛ فلا بدّ من رعاية إذنهم و رضاهم في التقسيم.

و أمّا المتقاصّ إذا أراد إفراز سهمه من نصيب المديون فليس عليه رعاية رضي المديون؛ و ذلك أنّ أدلّة التقاصّ قد دلّت علي أنّ المتقاصّ مستقلّ في أخذ مقدار ماله من جملة أموال المديون، و لا معني لاعتبار رعاية رضاه؛ فإنّ التقاصّ إنّما شرّع لتسهيل الأمر و فتح الطريق لذي الحقّ إلي

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 442

______________________________

وصول حقّه و نيل ماله، و المناسب له كما هو ظاهر إطلاق أدلّته بسط يده لأخذ ماله و عدم توقّفه علي تحصيل رضاه إذا أراد إفراز نصيبه الذي به يقع التقاصّ.

و بالجملة: قد جوّزت أدلّة التقاصّ أن يأخذ من مال المديون بقدر ماله كما في موثّقة بريد و خبر جميل «1» و غيرهما و أمر بردّ ما زاد من ماله علي حقّه إليه كما في صحيحة داود بن زربي و خبر علي بن سليمان «2» فقد اذن للمقتاصّ تعيين حقّه فيما شاء من أموال المديون، فأمر التعيين مفوّض إليه شرعاً.

فإذا كان مال المديون مشاعاً بينه و بين غيره و زاد ماله علي حقّ المتقاصّ و وضع اليد عليه بعنوان تملّك ما يساوي حقّه، فهو يملك بمقدار حقّه مشاعاً، و كان أمر التعيين بيده من غير اعتبار رعاية أذن المديون و رضاه.

فكما دلّت علي أنّ أمر التعيين بيده فيما كان تملّكه مقارناً للتعيين

و تعيينه مقدّمة للتملّك و معه، فكذلك تدلّ بإطلاقها علي أنّه إذا وضع اليد علي ماله المشاع بقصد التملّك و كان زائداً علي حقّه، فهنا أيضاً كان أمر التعيين و إفراز نصيبه بيده، و هذه الأدلّة الواردة في تجويز التقاصّ مقدّمة بإطلاقها علي سائر الأدلّة و مخصّصة للعمومات و مقيّدة للإطلاقات منها، كما لا يخفي.

______________________________

(1) تقدّمتا في الصفحة 393 و 396.

(2) تقدّمتا في الصفحة 395 و 400.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 443

[مسألة 12 لو كان له حقّ و منعه الحياء أو الخوف أو غيرهما من المطالبة]

مسألة 12 لو كان له حقّ و منعه الحياء أو الخوف أو غيرهما من المطالبة، فلا يجوز له التقاصّ (39) و كذا لو شكّ في أنّ الغريم جاحد أو مماطل لا يجوز التقاصّ (40).

[مسألة 13 لا يجوز التقاصّ من مال تعلّق به حقّ الغير]

مسألة 13 لا يجوز التقاصّ من مال تعلّق به حقّ الغير (41) كحقّ الرهانة و حقّ الغرماء في مال المحجور عليه، و في مال الميّت الذي لا تفي تركته بديونه.

______________________________

(39) لما عرفت من أنّ أدلّة جوازه مختصّة بالمماطل أو الجاحد، و لا تعمّ ما إذا يقوم المديون بالعمل بوظيفته و أداء ما عنده أو عليه إذا طولب به. و القواعد تقتضي عدم حلّية مال الغير إلّا بطيب نفسه.

(40) إذ بعد الشكّ في أنّه جاحد أو مماطل أم لا، فلا يجوز التمسّك للجواز بأدلّة التقاصّ؛ لأنّه من قبيل الرجوع إلي العامّ في شبهته المصداقية، و هو غير جائز إجماعاً. كما لا يجوز التمسّك للحرمة بعموم مثل «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفسه»؛ فإنّه قد خصّص بأدلّة التقاصّ، فالرجوع إليه حينئذٍ من قبيل التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية لمخصّصه، و هو غير جائز علي التحقيق. فالأدلّة اللفظية غير وافية بإثبات حكم المورد.

لكنّه لا ريب في أنّ التصرّف في مال المديون قبل صيرورته مديوناً بغير إذنه كان حراماً، و الآن بالشكّ في جحوده و مماطلته يشكّ في بقاء الحرمة و ارتفاعها، و الاستصحاب قاضٍ ببقائها؛ فلا يجوز له التقاصّ.

(41) فإنّ مقتضي القواعد حرمة التصرّف وضعاً و تكليفاً في حقّ الغير و ماله إلّا بإذنه، و أدلّة التقاصّ إنّما تدلّ علي جواز الأخذ من مال

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 444

[مسألة 14 لا يجوز لغير ذي الحقّ التقاصّ]

مسألة 14 لا يجوز لغير ذي الحقّ التقاصّ إلّا إذا كان وليّاً أو وكيلًا (42) عن ذي الحقّ، فللأب التقاصّ لولده الصغير أو المجنون أو السفيه في مورد له الولاية، و للحاكم أيضاً ذلك في مورد ولايته.

______________________________

من عليه أو عنده حقّ المتقاصّ، و لا

تدلّ علي جواز التصرّف في مال أو حقّ غير المديون بغير إذنه؛ فهو باقٍ علي ما كان من الحرمة؛ فإذا تعلّق بمال الغريم حقّ الغير فأخذه غير جائز؛ لأنّه بعينه تصرّف في حقّ من يجب احترام حقّه.

إن قلت: فلِمَ لا يكون المورد مثل التقاصّ من المال المشترك بين المديون الجاحد و شريكه بغير إذن الشريك الذي قلتم بوقوع التقاصّ و إن أثم؛ فاللازم هنا أيضاً لو تقاصّ بغير إذن ذي الحقّ أن يقع التقاصّ و إن أثم.

قلت: الفرق أنّ التقاصّ هناك كان يقع بأخذ نصيب الغريم، و لم يكن يعتبر في أخذه إذنه؛ و أخذ نصيب شريكه و التصرّف الخارجي فيه كان أمراً آخر زائداً علي أخذ نصيب الغريم، و يعتبر فيه رضا الشريك، فإذا أخذ المال المشاع بغير إذن الشريك فمصداق التقاصّ؛ و هو أخذ نصيب الغريم قد تحقّق واجداً لشرائطه، و الفعل الملازم له أعني أخذ نصيب الشريك فعل آخر وقع به الإثم و العصيان، و لا يضرّ بصحّة التقاصّ. و أمّا هنا فنفس نصيب الغريم و ماله بعينه متعلّق لحقّ الغير، فأخذ نصيب الغريم بعينه أخذ لحقّ الغير، و مصداقهما أمر واحد؛ فالمنع عن أحدهما وضعاً لا يجتمع مع جواز الآخر.

(42) فإنّه لا ريب في أنّ جواز التقاصّ من قبيل الحقوق المالية،

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 445

[مسألة 15 إذا كان للغريم الجاحد أو المماطل عليه دين]

مسألة 15 إذا كان للغريم الجاحد أو المماطل عليه دين، جاز احتسابه عوضاً عمّا عليه (43) مقاصّة إذا كان بقدره أو أقلّ، و إلّا فبقدره و تبرأ ذمّته بمقداره.

______________________________

و المسلّم فيها عند العقلاء عدم اعتبار مباشرة ذي الحقّ في استيفائها، بل من لوازمها العقلائية جواز استيفائها بالوكيل و الولي أيضاً.

و الشارع لم

يردع عن بنائهم هذا و لم يأت بأساس جديد، بل مقتضي إطلاق أدلّة الولاية أنّ الولي يقوم مقام المولّي عليه في جميع ماله من الحقّ شرعاً. و هكذا إذا كان التوكيل مطلقاً فقد وكّله الأصيل و جعله مقام نفسه في حقّ التقاصّ أيضاً. و حينئذٍ: فلا ريب في أنّه يفهم العرف بارتكازه من أدلّة التقاصّ جواز استيفائه و لو بالوكيل أو الولي و أنّ الحقّ المجعول لذي الحقّ هو المعني الأعمّ.

نعم، إذا تصدّي الأجنبي لاستيفاء حقّ المقاصّة من غير توكيل له من ذي الحقّ و لا تسبيب، فهو غير مشمول لأدلّة التقاصّ، بل داخل تحت عموم حرمة التصرّف في مال الغير تكليفاً و وضعاً.

(43) لأنّ الوارد في أدلّة التقاصّ و إن كان هو عنوان الأخذ الظاهر في أنّ متعلّقه الأعيان الخارجية من أموال الغريم، لا ديونه إلّا أنّ المفهوم منها عرفاً بقرينة أنّ الشارع بصدد فتح الطريق للدائن إلي إحياء حقّه من أموال غريمه إذا لا يقوم هو نفسه بالعمل بوظيفة الأداء أنّه إذا لم يقم بوظيفته فالدائن مستقلّ في تحصيل حقّه من جملة أمواله أينما وجدها.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 446

______________________________

و التعبير ب «الأخذ» كناية عن هذا المعني العامّ و تعبير بالفرد الغالب، لا لأنّه يعتبر أخذ حقّه من الأعيان لا الديون، و هو واضح؛ لا سيّما و الأخذ المذكور في أكثر الأخبار أُريد منه بناؤه علي أن يكون ما وقع بيده بإذن الغريم عوضاً عمّا له؛ إذ المفروض في أكثرها أنّه يتقاصّ ممّا لغريمه بيده وديعة أو غيرها، و حينئذٍ: فله أن يحاسب ما عليه عوضاً عمّا له علي غريمه تقاصّاً، و يبرأ ذمّته بذلك كما أفاد، هذا.

مضافاً إلي دلالة

بعض الأخبار عليه؛ ففي مكاتبة علي بن سليمان: رجل غصب مالًا أو جارية، ثمّ وقع عنده مال بسبب وديعة أو قرض. أ يحلّ له حبسه عليه أم لا؟ فكتب

نعم، يحلّ له ذلك.

الحديث «1»؛ فقد ورد بجواز التقاصّ إذا وقع عند المقاصّ وديعة أو قرض، و من المعلوم: أنّ عين القرض ملك للمقترض، و إنّما ذمّته مشغولة بعوضه؛ فلو قاصّه فإنّما يكون بما عليه.

و في خبر علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: سألته عن الرجل الجحود، أ يحلّ أن أجحده مثل ما جحده؟ قال

نعم «2»

؛ فإنّه دلّ علي جواز الجحود في مقام المقاصّة، و هو يتأتّي فيما وقعت المقاصّة باحتساب الدين أيضاً، كما لا يخفي.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 17: 275، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 9.

(2) وسائل الشيعة 17: 276، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 83، الحديث 13.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 447

[مسألة 16 ليس للفقراء و السادة المقاصّة من مال من عليه الزكاة أو الخمس]

مسألة 16 ليس للفقراء و السادة المقاصّة (44) من مال من عليه الزكاة أو الخمس أو في ماله إلّا بإذن الحاكم الشرعي، و للحاكم التقاصّ ممّن عليه أو في ماله نحو ذلك (45) و جحد أو ماطل،

______________________________

(44) و ذلك أنّ الأشخاص من الفقراء و السادة ليسوا مالكين للزكاة و الخمس بنحو الإشاعة مثلًا و إلّا كان يجب تقسيمهما عليهم علي السواء دائماً، و لما جاز تخصيص أحد بجميع زكاة من وجبت عليه أو خمسه، بل الفقراء أو السادة من قبيل المصرف كسائر الموارد المذكورة في آية الزكاة. و بالجملة: فأخبار المقاصّة إذن للمالك، و السادة أو الفقراء ليسوا بمالكين؛ فليسوا بمأذونين.

(45) لأنّ الحاكم الشرعي ولي شرعاً علي أمر الزكاة أو الخمس علي ما

تقرّر في بابهما و الزكاة أو الخمس ليس ملكاً لمن يجب عليه، بل هو من قبيل الأموال العامّة و بيت مال المسلمين، و أمره إلي ولي أمرهم أعني الحاكم الشرعي فما لم يؤدّ فهو موجود في ماله بالإشاعة أو بنحو الكلّي في المعيّن، و إذا أدّاه ثمّ اقترض من حاكم الشرع صار في ذمّته، و علي بعض الاحتمالات يشتغل ذمّته بمقدار الواجب من أوّل الأمر، و بالأخرة: يكون الخمس أو الزكاة في ماله أو علي ذمّته.

و أخبار المقاصّة و إن وردت جميعها في الأموال الشخصية كما هو ظاهر لمن نظر إليها إلّا أنّه لا شكّ في إلغاء الخصوصية عرفاً عنها إلي الأموال العامّة أيضاً؛ لا سيّما و أنّ قاعدة المقاصّة ممّا استقرّت عليها آراء

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 448

و كذا لو كان شي ء وقفاً علي الجهات العامّة أو العناوين الكلّية و ليس لها متولٍّ لا يجوز التقاصّ لغير الحاكم (46)، و أمّا الحاكم فلا إشكال في جواز مقاصّته منافع الوقف (47).

______________________________

العقلاء و سيرتهم، و عندهم لا فرق بين الأموال العامّة و الشخصية. فإذا أُلقيت أخبارها إليهم فلا يفهمون منها أمراً تأسيسياً، بل إمضاء لما عندهم.

فإذا كانت هذه القاعدة عندهم عامّة للأموال العامّة أيضاً، يفهمون من الأخبار أيضاً هذا المعني العامّ، و يكون ذكر الأموال الشخصية في الأخبار من قبيل ذكر المورد الذي يعمّ الحكم غيره أيضاً، كذكر «الرجل» في موردها و الحكم يعمّ المرأة أيضاً. نعم بعد إلغاء الخصوصية يؤخذ بإطلاق الأخبار، و إن كان أوسع ممّا هو المسلّم من سيرة العقلاء.

(46) الوقف علي الجهة العامّة كالوقف علي المسجد، و علي العناوين العامّة كالوقف علي الفقراء.

و التقييد بأن لا يكون لها متولّ،

لبداهة أنّه إذا كان لها متولّ منصوص من قبل الواقف فهو المتصدّي لأمر الوقف، ليس للحاكم أيضاً التعرّض له إلّا بنحو النظارة بقدر أن يطمئنّ بعدم تضييع الوقف، فإذا لم يكن لها متولّ منصوب فأمرها إلي الحاكم من باب الأُمور الحسبية. و ما أمكن تصرّف الحاكم ليس لغير الحاكم التعرّض لها علي ما تقرّر في محلّه.

(47) إنّ حقيقة الوقف علي ما تحقّق في محلّه هو حبس العين و جعلها متوقّفة باقية، لا تباع و لا توهب و لا تنتقل بأيّ نحو كان، و تسبيل

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 449

و هل يجوز المقاصّة بمقدار عينه إذا كان الغاصب جاهلًا أو مماطلًا لا يمكن أخذها منه (48) و جعل المأخوذ وقفاً علي تلك العناوين؟

______________________________

منافعها و جعل منافعها تحت يد الأشخاص أو الجهة أو العناوين الموقوف عليهم، فيكون منافع الوقف ملكاً للموقوف عليه؛ إمّا من قبيل ملك الأشخاص إن كان الموقوف عليه شخصاً أو أشخاصاً خاصّة و إمّا من قبيل ملك الجهة و العناوين تبعاً للموقوف عليه.

ففي الموقوفات العامّة حفظ المنافع و تحصيلها وظيفة للمتولّي إن كان لها متولّ و إلّا فالحاكم، فإذا غصبها غاصب و جحدها أو ماطل في أدائها فللمتولّي أو الحاكم أن يتقاصّ من أمواله؛ لما عرفت من عدم اختصاص جواز التقاصّ بالأموال الشخصية، بل يجوز في الأموال العامّة أيضاً، هذا في منافع الوقف. و أمّا إذا غصب نفس العين الموقوفة و كان جاحداً أو مماطلًا فسيأتي الكلام فيه.

(48) قد مرّ في المسائل السابقة: أنّ التقاصّ في الأموال الشخصية جائز، و إن أمكن أخذ عين ماله بمشقّة أو بالرجوع إلي الحاكم، فراجع ما مرّ في المسألة الرابعة و الخامسة. و الأمر كذلك

في الأموال العامّة غير الموقوفة، كالخمس و الزكاة و منافع الوقف؛ لعموم أدلّة التقاصّ و عدم دليل مخصّص أو مقيّد؛ و لذلك لم يقيّده دام ظلّه بقيد.

و أمّا نفس الأعيان الموقوفة إذا غصبت، فسواء كانت وقفاً علي أشخاص أو علي جهة أو علي العناوين، و سواء كان لها متولّ أم لا،

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 450

وجهان (49) و علي الجواز لو رجع عن الجحود و المماطلة،

______________________________

فلا ينبغي الإشكال في عدم جواز التقاصّ إذا أمكن أخذ نفس العين الموقوفة، و لو بالرجوع إلي الحاكم أو تحمّل المشقّة.

و الدليل عليه: أنّ نظر الواقف و صيغة الوقف التي حكم الشارع بصحّتها و أمضاها الشارع بحسب ما أنشأه الواقف، تعلّقت بخصوص العين الموقوفة؛ فلا بدّ و أن تبقي العين موقوفة و مصروفة في الجهة التي وقفها عليها، و المتولّي أو الحاكم مكلّف بحفظ الموقوفة و صرفها في الجهة التي وقفت عليها، لا يجوز له القصور فيه إلّا إذا عرض ما يسقط هذا التكليف. و هذا بخلاف الأموال الشخصية أو العامّة التي يكون أمر المعاوضة عليها بيد المالك أو الولي، فالأخذ بعموم أدلّة التقاصّ لا يمنعها مانع. فللولي أو المالك أن يقاصّ من أموال الغاصب، و إن أمكن أخذها بمشقّة غير بالغة حدّ الحرج، أو بالرجوع إلي الحاكم.

و أمّا الموقوفات: فلا بدّ من كونها باقية علي الوقفية موضوعة تحت يد الموقوف عليهم، و المتولّي أو الحاكم هو المكلّف بذلك، ليس لهم القصور عن امتثال هذا التكليف ما لم يسقط بطروّ عذر يسقط معه التكاليف.

(49) وجه جواز التقاصّ هو: أنّه بعد أن لم يمكن الوصول إلي نفس العين الموقوفة، فللمتولّي أو الحاكم أن يأخذ من جملة أموال الغاصب

شيئاً به يحفظ العين الموقوفة بماليتها؛ استناداً إلي عموم أدلّة جواز التقاصّ.

و وجه العدم: ما عرفت من أنّ لازم جعل شي ء وقفاً بعد إمضاء

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 451

فهل ترجع العين وقفاً و تردّ ما جعله وقفاً إلي صاحبه أو بقي ذلك علي الوقفية و صار الوقف ملكاً للغاصب؟ الأقوي هو الأوّل (50) و الظاهر أنّ الوقف من منقطع الآخر، فيصحّ إلي زمان الرجوع.

______________________________

الشارع و حكمه بصحّته، أن يبقي العين موقوفة ما دامت موجودة، فالعين الموقوفة محكومة بالوقفية، و لا تخرج عن الوقفية ما دامت موجودة و لو بيد الغاصب. و أدلّة جواز التقاصّ منصرفة إلي الأموال القابلة للمعاوضة عليها و منصرفة عن مثل عين الموقوفات.

و منه تعرف: أنّ الإشكال إنّما هو فيما كانت العين الموقوفة باقية عند الغاصب، و أمّا إذا تلفت و مع ذلك بقي الغاصب علي الجحود أو المماطلة فلا ينبغي الإشكال في أنّه ضامن، و للمتولّي أو الحاكم الاستقلال باستيفاء ما عليه و جعل المأخوذ وقفاً كالعين.

(50) لما عرفت من أنّ صحّة الوقف شرعاً مقتضية لبقاء العين الموقوفة علي الوقفية و لو كانت في يد الغاصب ما دامت موجودة، فلا محالة إن قلنا بشمول أدلّة جواز التقاصّ لمثل المورد كان المال المأخوذ تقاصّاً بدل حيلولة و كان من قبيل الوقف المنقطع الآخر، كما أفاد.

ثمّ إنّ ممّا يدلّ علي وجوب أن يبقي العين الموقوفة علي حالها ما دامت موجودة مضافاً إلي أنّه مقتضي صحّة الوقف صحيحة الصفّار، قال: كتبت إلي أبي محمَّد عليه السلام أسأله عن الوقف الذي يصحّ كيف هو؟ فقد روي أنّ الوقف إذا كان غير موقّت فهو باطل مردود علي الورثة، و إذا كان موقّتاً

مباني تحرير

الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 452

[مسألة 17 لا تتحقّق المقاصّة بمجرّد النيّة بدون الأخذ]

مسألة 17 لا تتحقّق المقاصّة بمجرّد النيّة بدون الأخذ و التسلّط علي مال الغريم (51).

______________________________

فهو صحيح ممضي، قال قوم: إنّ الموقّت هو الذي يذكر فيه أنّه وقف علي فلان و عقبه، فإذا انقرضوا فهو للفقراء و المساكين، إلي أن يرث اللّٰه الأرض و من عليها، و قال آخرون: هذا موقّت إذا ذكر أنّه لفلان و عقبه ما بقوا و لم يذكر في آخره للفقراء و المساكين إلي أن يرث اللّٰه الأرض و من عليها، و الذي هو غير موقّت أن يقول: هذا وقف و لم يذكر أحداً، فما الذي يصحّ من ذلك؟ و ما الذي يبطل؟ فوقّع عليه السلام

الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها، إن شاء اللّٰه «1».

فإنّ توقيعه عليه السلام: «الوقوف.» إلي آخره، ذيل ما سأله الصفّار دليل واضح علي صحّة قسمي الصيغة، و أنّه إذا صرّح ببقاء الوقف علي الوقفية إلي الأبد المعبّر عنه بقوله: «إلي أن يرث اللّٰه الأرض و من عليها» فهو ممضي بحسب ما أوقفه؛ فيكون وقفاً إلي الأبد، و معلوم: أنّه إذا كان الإنشاء بقوله: «هذا وقف» فهو أيضاً راجع إلي سابقه، و كان حكمه الشرعي: أنّ

الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها

، و لازمه ما ذكرناه.

(51) و ذلك أنّ الواقع في أدلّة جواز التقاصّ، الإذن في خصوص أخذ مال الغريم كما في أكثر الأدلّة أو الإذن في القبض ممّا بيده من ماله

______________________________

(1) وسائل الشيعة 19: 192، كتاب الوقوف و الصدقات، الباب 7، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 453

نعم يجوز احتساب الدين تقاصّاً كما مرّ (52) فلو كان مال الغريم في يده أو يد غيره، فنوي الغارم تملّكه تقاصّاً لا يصير

ملكاً له، و كذا لا يجوز بيع ما بيد الغير منه بعنوان التقاصّ من الغريم.

[مسألة 18 الظاهر أنّ التقاصّ لا يتوقّف علي إذن الحاكم]

مسألة 18 الظاهر أنّ التقاصّ لا يتوقّف علي إذن الحاكم (53)،

______________________________

أو حبس ماله الذي وقع بيده، و هما أيضاً راجعان إلي الأخذ.

و معني أخذ ماله ليس إلّا التسلّط الخارجي عليه. نعم لمّا كان المفروض في أكثرها أنّ مال الغريم كان واقعاً بيد المقاصّ، فلا محالة يكون أخذه مكان ماله بمعني البناء علي أن يكون ما في يده عوضاً عمّا يكون علي الغريم أو عنده، إلّا أنّه علي أيّ حال فلا يكون عنوان الأخذ خالياً عن التسلّط خارجاً. فالمأذون فيه هو التسلّط الخارجي علي مال الغريم بقصد أن يكون ما بيده عوضاً عمّا عند الغريم أو عليه؛ فقد جعل الشارع هذا المعني سبباً لحصول ملكيته لما أخذ. و لمّا كان هذه السببية خلاف القواعد فإنّه لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفسه فكان ما يخلو عن التسلّط الخارجي و ما بمعناه غير كافٍ في حصول التقاصّ به.

(52) و قد مرّ: أنّ الوجه فيه إلغاء الخصوصية عرفاً إلي ما هو بمنزلة الأخذ المذكور؛ فإنّ البناء علي كون ما بيده عوضاً عمّا علي الغريم بمنزلة البناء علي كون ما في ذمّته عوضاً عمّا عليه أو عنده و تلغي الخصوصية عرفاً كذلك.

(53) لما مرّ من أنّ الأخبار مطلقة، تمام موضوع جواز التقاصّ فيها

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 454

و كذا لو توقّف علي بيعه أو إفرازه يجوز كلّ ذلك بلا إذن الحاكم (54).

[مسألة 19 لو تبيّن بعد المقاصّة خطاؤه في دعواه، يجب عليه ردّ ما أخذه أو ردّ عوضه]

مسألة 19 لو تبيّن بعد المقاصّة خطاؤه في دعواه، يجب عليه ردّ ما أخذه أو ردّ عوضه (55) مثلًا أو قيمة لو تلف، و عليه غرامة ما أضرّه، من غير فرق بين الخطأ في الحكم أو الموضوع،

______________________________

أن يكون له مال عند الغريم أو

عليه و يجحده أو يماطل في أدائه، فهو كافٍ في شمول الأدلّة و جريانها، و معلوم: أنّ صدقه لا يتوقّف علي إذن الحاكم.

و دعوي أو احتمال أنّ جوابهم عليهم السلام بالجواز إذن منهم عليهم السلام في الأخذ، مدفوعة بأنّه لا ريب في أنّ كيفية السؤال في أخبار التقاصّ عين سائر الأسئلة الواقعة فيها عن سائر الأحكام الشرعية، و سياق الجواب فيها كسياق الجواب في سائر الموارد، فكما لا يتوهّم و لا وجه لتوهّم اعتبار إذن الحاكم في إجراء سائر الأحكام، فكذلك هنا. و تناسب اعتبار الإذن هنا دون سائر الموارد لا يوجب افتراق الموارد في الظهور الإطلاقي، كما لا يخفي.

(54) لعين ما مرّ من اقتضاء الإطلاقات.

(55) فإنّ مورد جواز التقاصّ ما إذا كان له عند شخص أو عليه مال واقعاً و بحسب نفس الأمر؛ إذ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية و النسب النفس الأمرية، و لا تصدق إلّا فيما كان مصداقاً لها واقعاً، فإذا تبيّن أن ليس له عند الغير و لا عليه شي ء فأدلّة جواز التقاصّ لا تعمّه، و مقتضي القاعدة: أن «لا يحلّ مال الغير إلّا بطيب نفسه»، و أنّ «علي اليد ما أخذت حتّي تؤدّيه»، و أنّ «من أتلف مال الغير فهو له ضامن»، و عليه فيجب عليه ردّ

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 455

و لو تبيّن أنّ ما أخذه كان ملكاً لغير الغريم، يجب ردّه أو ردّ عوضه لو تلف (56).

[مسألة 20 يجوز المقاصّة من العين أو المنفعة أو الحقّ في مقابل حقّه]

مسألة 20 يجوز المقاصّة من العين أو المنفعة أو الحقّ في مقابل حقّه من أيّ نوع كان (57) فلو كان المطلوب عيناً يجوز التقاصّ من المنفعة إذا عثر عليها أو الحقّ كذلك و بالعكس.

______________________________

عين ما أخذ إذا كانت باقية،

و ردّ عوضه الذي يضمن به إذا تلف، و عليه غرامة كلّ ما أتلف و أضرّ به، من دون فرق بين أن يكون خطاؤه في الحكم، كأن تخيّل أنّ الوديعة التالفة بلا قصور مضمونة، أو في الموضوع.

(56) و ذلك لعين ما مرّ في سابقه؛ إذ جواز المقاصّة مختصّ بمال الغريم، و مال غيره محترم و مضمون بمقتضي القواعد. غاية الأمر: أنّ خطأه أو جهله يكون عذراً له موجباً لعدم عقوبته بمقتضي حديث الرفع.

(57) و ذلك أنّ مورد أدلّة جواز التقاصّ و إن كان أموالًا خاصّة كما في صحيحة داود بن زربي و البقباق و بعض آخر منها أو عنوان المال، و لا يعمّ الحقوق بإطلاق لفظه أو عمومه، إلّا أنّ المفهوم منها عرفاً قاعدة كلّية عقلائية متعلّقة بالأموال؛ سواء كان في نفس الأموال أو الحقوق المتعلّقة بها، و حاصلها جواز مقاصّة المال أو الحقّ المغصوب بمال أو حقّ للغاصب من دون رعاية المماثلة، فهذه قاعدة عقلائية ارتكز عليها ارتكاز العقلاء، فإذا أُلقي عليهم أدلّة التقاصّ فهموا منها أنّ الشارع قد أمضي طريقتهم و ما عليه بناؤهم، و يلغي الخصوصية عن العناوين الواقعة في الأخبار. و يفهم

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 456

[مسألة 21 إنّما يجوز التقاصّ إذا لم يرفعه إلي الحاكم فحلّفه]

مسألة 21 إنّما يجوز التقاصّ إذا لم يرفعه إلي الحاكم فحلّفه، و إلّا فلا يجوز بعد الحلف (58) و لو اقتصّ منه بعده لم يملكه.

[مسألة 22 يستحب أن يقول عند التقاصّ]

مسألة 22 يستحب أن يقول (59) عند التقاصّ: «اللهمّ إنّي آخذ هذا المال مكان مالي الذي أخذه منّي، و إنّي لم آخذ الذي أخذته خيانةً و لا ظلماً». و قيل: يجب و هو أحوط.

______________________________

منها أنّها من قبيل المثال أو لابتلاء المكلّف بها. و راجع لمزيد الاتّضاح ما مرّ ذيل قوله في المسألة الاولي: «من عين أو منفعة أو حقّ»، و ما مرّ ذيل المسألة الخامسة عشر.

(58) قد مرّ وجه هذه المسألة مستوفي عند البحث عن الطائفة الثانية من الأخبار المعارضة للأدلّة المجوّزة للتقاصّ، فتذكّر. و من التأمّل فيما ذكرناه هناك يتبيّن أنّ الحكم بعدم ملكيته لما يقاصّه حينئذٍ حكم ظاهري، و يكون ارتكاب التقاصّ معصية موجبة للعقاب، و ما أخذه محكوماً في قانون الشريعة الذي عليها بناء الشرع بعدم ملكيته له، و إن كان ملكاً له واقعاً، فمنه تعرف الوجه لما أفاده دام ظلّه بقوله: «و لو اقتصّ منه بعده لم يملكه»، كما تعرف حقيقة هذا الحكم بعدم الملكية.

(59) كما دلّ عليه معتبرا أبي بكر الحضرمي، و ظاهرهما و إن سلّم أنّه الوجوب، إلّا أنّه محمول علي الاستحباب بقرينة خلوّ غيره من الأخبار، و قد مرّ احتمال أن لا يكون هذا القول مطلوباً أصلًا، فراجع ما مرّ ذيل معتبرا أبي بكر الذي أوردناه في أوّل بحث المقاصّة تحت الرقم 5 و 9.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 457

[مسألة 23 لو غصب عيناً مشتركاً بين شريكين]

مسألة 23 لو غصب عيناً مشتركاً بين شريكين فلكلّ منهما التقاصّ منه بمقدار حصّته (60)، و كذا إذا كان دين مشتركاً بينهما (61) من غير فرق بين التقاصّ بجنسه أو بغير جنسه، فإذا كان عليه ألفان من زيد فمات و ورثه ابنان، فإن جحد حقّ

أحدهما دون الآخر، فلا إشكال في أنّ له التقاصّ بمقدار حقّه، و إن جحد حقّهما فالظاهر أنّه كذلك، فلكلّ منهما التقاصّ بمقدار حقّه، و مع الأخذ لا يكون الآخر شريكاً، بل لا يجوز لكلّ المقاصّة لحقّ شريكه.

______________________________

(60) و ذلك أنّ أدلّة الجواز و إن كان موردها ما إذا كان المقاصّ المالك لما غصب منه شخصاً واحداً، إلّا أنّه لا ريب في إلغاء الخصوصية عنه إلي المالك بالإشاعة، و أنّ لكلّ أحد أن يقاصّ من مال الجاحد أو المماطل بمقدار ما أخذ من ماله، و إن كان ما غصبه و جحده ملكاً مشاعاً له. و إلغاء هذه الخصوصية ممّا لا يرتاب فيه أحد.

ثمّ بعد إلغاء هذه الخصوصية تدلّ الأخبار علي أنّ للمقاصّ أن يأخذ بمقدار ما غصب منه؛ فلو بادر إلي مقاصّة ما قابل نصيب شريكه كان تصرّفاً في مال الغير غير مجاز شرعاً، و مقتضي القواعد حرمته.

اللهمّ إلّا أن يكون وكيلًا مأذوناً أو ولياً لشريكه، و حيث إنّ مفاد الأخبار أنّه يملك ما يقاصّه المقاصّ عوضاً عن ملكه فما يأخذه لنفسه تقاصّاً فهو ملك خاصّ له و لا يكون الآخر شريكاً.

(61) لما مرّ آنفاً؛ فإنّه جارٍ فيه أيضاً بعينه، بل يمكن أن يقال: إنّ الشركة لا تتصوّر في الدين، بل في مثال المتن يكون ذمّة المديون مشتغلة

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 458

[مسألة 24 لا فرق في جواز التقاصّ بين أقسام الحقوق المالية]

مسألة 24 لا فرق في جواز التقاصّ بين أقسام الحقوق المالية، فلو كان عنده وثيقة لدينه فغصبها، جاز له أخذ عين له وثيقة لدينه و بيعها لأخذ حقّه في مورده (62). و كذا لا فرق بين الديون (63) الحاصلة من الاقتراض أو الضمانات أو الديات، فيجوز المقاصّة في كلّها.

______________________________

بألف لهذا

الابن و ألف للآخر. نعم، إذا سلّم شيئاً إليهما بعنوان الأداء يصيران شريكين فيه بالإشاعة، و حينئذٍ: فشمول الأخبار للدين الكذائي لا يحتاج إلي إلغاء الخصوصية، بل يعمّه عنوان الدين أو المال الواقع فيها.

(62) استفادة هذا التعميم أيضاً مبني علي إلغاء الخصوصية، و هو غير بعيد. و هذا ما ذكرناه ذيل تفسيرنا للحقّ المذكور في المسألة الاولي؛ من أنّه سيجي ء تفسير الحقّ بأعمّ من ذلك، فتذكّر.

(63) فإنّ لفظ «الدين» أو «المال» الواقع في الأخبار يعمّ جميع هذه الأقسام، من غير حاجة إلي إلغاء الخصوصية، فراجع معتبر أبي بكر و خبر جميل «1» و غيرهما.

و الحمد للّٰه وحده تمّ يوم الثلاثاء 19 بهمن 1361 ه. ش 24 ربيع الثاني 1403 ه. ق

______________________________

(1) تقدّما في الصفحة 397 و 396.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 459

[كتاب الشهادات]

اشارة

كتاب الشهادات

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 461

[القول في صفات الشهود]

اشارة

القول في صفات الشهود و هي أُمور:

[الأوّل: البلوغ]

الأوّل: البلوغ، فلا اعتبار بشهادة الصبي غير المميّز مطلقاً (1)،

______________________________

(1) إنّ الشهادة و إن كانت في اللغة بمعني الحضور إلّا أنّه لا شكّ في أنّ حقيقة مصاديقها الإخبار عن أمر جزئي شخصي، و ملاك اعتبارها أنّها خبر عن ذلك الأمر، فيعتبر في حجّيتها جميع ما يعتبر عند العقلاء في حجّية الخبر الواحد؛ فإنّها من مصاديقه و أفراده.

غاية الأمر: أنّ الشارع قد اعتبر في حجّية الخبر القائم علي الموضوعات بعنوان الشهادة أُموراً كالعدالة و التعدّد و نحوهما زيادةً علي ما يعتبر في حجّية كلّ خبر واحد، و إلّا فكلّ ما يعتبر في العرف في حجّية قول المخبر فهو معتبر في حجّية شهادة الشاهد.

و حينئذٍ: فلا ريب في أنّ التميّز و عرفان ما يحكي معتبر في مخبر الخبر

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 462

و لا بشهادة المميّز في غير القتل و الجرح (2)،

______________________________

لكي يمكن الاعتماد علي خبره، و إذا لم يكن للمخبر تشخيص ما يحكي عنه فلا يعتني عند العقلاء بألفاظه الحاكية عن معانيها. فغير المميّز لا دليل علي حجّية إخباراته و شهاداته أصلًا، و لا حاجة إلي دليل خاصّ علي عدم الحجّية. و مورد سؤال الروايات لا يشمله؛ لعدم احتمال العقلاء حجّيته حتّي يقوموا بصدد تبيّن حكمه الشرعي.

(2) و الدليل عليه أخبار متعدّدة دالّة علي عدم اعتبار شهادة الصبي؛ إمّا مطلقاً و إمّا في غير القتل:

فمن المطلقات: صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام في الصبي يشهد علي الشهادة، فقال

إن عقله حين يدرك (حتّي يدرك، خ. ل يب المطبوع بالنجف) أنّه حقّ جازت شهادته «1»

؛ فإنّ الظاهر أنّ «يشهد» مبني للمفعول من باب الإفعال؛ بمعني إحضاره

لتحمّل ما يراد الإشهاد عليه، كما يشهد له تعديته ب «علي» لا ب «الباء» و لا بنفسه. و المراد بالإدراك هو البلوغ حدّ التكليف كما هو الشائع في الأخبار المتضمّنة لعنوان إدراك الصبي أو الغلام، فراجع أبواب الوصية. و قوله

أنّه حقّ

مفعول قوله

عقله.

و حاصل المعني: أنّ الصبي إذا دعي إلي تحمّل أمر ليشهد عليه بعداً فإذا كان يعقله و يتذكّره إذا بلغ يجوز له بعد البلوغ أن يشهد عليه. و حينئذٍ

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 342، كتاب الشهادات، الباب 21، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 463

______________________________

فتقييد جواز شهادته بما بعد البلوغ في كلامه عليه السلام يدلّ دلالة واضحة بمفهومه علي عدم جواز شهادته، و لا مضيّها إذا قام بها قبل البلوغ.

و منها: موثّقة السكوني عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

قال أمير المؤمنين عليه السلام: إنّ شهادة الصبيان إذا أشهدوهم و هم صغار جازت إذا كبروا ما لم ينسوها «1»

، و ظاهر أنّ المراد بجملة

ما لم ينسوها

هو بقاء ما اشهدوا عليه في ذهنهم و ذكرهم حتّي يكون شهادتهم شهادة عن علم، فيساوق ما مرّ في صحيحة ابن مسلم من قوله عليه السلام

إن عقله حين يدرك أنّه حقّ

، و حينئذٍ فظاهرها أنّ شهادتهم بعد ما كبروا جائزة و إن استندت إلي التحمّل حال الصغر، بشرط أن لا ينسوا ما تحمّلوه في الصغر، فتقييد الجواز بما بعد الكبر ظاهر عرفاً في أنّها غير جائزة إذا وقعت قبله.

و نحوها موثّقته الأُخري عن جعفر عن أبيه عن أمير المؤمنين عليهم السلام

إنّ شهادة الصبيان إذا شهدوا و هم صغار جازت إذا كبروا ما لم ينسوها، و كذلك اليهود و النصاري إذا أسلموا جازت شهادتهم. «2»

الحديث؛ فإنّها أيضاً بقرينة

ما

لم ينسوها

و بقرينة وحدة سياقها مع شهادة اليهود و النصاري بعد أن أسلموا، ظاهرة جدّاً في إرادة إنشاء شهادتهم بعد البلوغ، فيكون المراد بقوله

شهدوا

أنّهم حضروا ما يراد الشهادة به بعداً، أو يقرأ

إذ اشهدوا

بجزم «إذ» و جعل الماضي مبنياً للمفعول من الإشهاد.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 342، كتاب الشهادات، الباب 21، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة 27: 349، كتاب الشهادات، الباب 23، الحديث 13.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 464

______________________________

و كيف كان: فهي أيضاً بحسب المفهوم ظاهرة في عدم الاعتناء بشهادتهم قبل أن يكبروا.

هذه هي الأخبار الدالّة علي عدم الاعتبار بشهادة الصبيان قبل البلوغ مطلقاً.

و أمّا ما دلّ علي عدم اعتبار شهادتهم في غير القتل: فهو صحيح جميل بن درّاج قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: تجوز شهادة الصبيان؟ قال

نعم، في القتل يؤخذ بأوّل كلامه و لا يؤخذ بالثاني منه «1»

، و دلالته علي المطلوب واضحة فإنّه مع أنّ سؤال السائل كان عن مطلق شهادة الصبيان، فقد قيّد جوازها في الجواب بما كانت شهادتهم في القتل، فيدلّ بالمفهوم دلالة واضحة علي عدم جواز شهادتهم في غير القتل.

و مثله بل أظهر منه خبر محمّد بن حمران قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن شهادة الصبي، قال فقال

لا، إلّا في القتل، يؤخذ بأوّل كلامه و لا يؤخذ بالثاني «2»

؛ فإنّ السؤال وقع عن المطلق و قد نفاها مطلقاً إلّا في القتل، فيدلّ بمنطوقه دلالة واضحة علي المطلوب.

فدلالة الطائفتين علي عدم اعتبار شهادتهم في غير القتل واضحة، و الثانية منها مخصّصة للطائفة الاولي في الشهادة بالقتل.

و أمّا عطف الجرح في كلامه مدّ ظلّه علي القتل فمبني علي

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 343، كتاب الشهادات، الباب 22، الحديث 1.

(2) وسائل

الشيعة 27: 343، كتاب الشهادات، الباب 22، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 465

______________________________

مساواتهما في الحكم، و إثباتها بعهدة ما يجي ء فانتظر.

ثمّ إنّ هنا أخباراً خاصّة تدلّ علي اعتبار شهادة الصبي في بعض الموارد أو ببعض الخصوصيات؛ و هي علي أقسام ثلاثة:

الأوّل: ما يدلّ علي اعتبار شهادته في الأمر الدون؛ و هي موثّقة عبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن شهادة الصبي و المملوك، فقال

علي قدرها يوم اشهد؛ تجوز في الأمر الدُّون و لا تجوز في الأمر الكبير. «1»

الحديث.

و الظاهر أنّ قوله عليه السلام

علي قدرها يوم اشهد

جواب إجمالي عن السؤال، أُريد به أنّ شهادتهما تابعة في الجواز و عدمه لقدر ما يشهدان به، ثمّ فصّل هذا الإجمال و بيّنه بقوله

تجوز في الأمر الدون و لا تجوز في الأمر الكبير.

و كيف كان: فهي تدلّ دلالة واضحة علي جواز شهادة الصبي في الأمر الدون؛ و هو ما لا يعتني به عند العرف من الأُمور و الأشياء الحقيرة و الخسيسة. و الحقارة و الدونية و إن كانت من النسب الإضافية إلّا أنّها ليست هنا من باب الإضافة بل قسم من الأشياء؛ و هو ما لا يعتني به العرف و يعدّ عند العقلاء دوناً و حقيراً في قبال قسم آخر ليس كذلك، فالقسم الدون يكون شهادة الصبيان حجّة فيه.

فدلالة الحديث علي المطلب واضحة، و هي أخصّ مطلقاً من كلتا

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 344، كتاب الشهادات، الباب 22، الحديث 5.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 466

______________________________

الطائفتين، فمقتضي الجمع العقلائي أن تخصّصا بها و يؤخذ في موردهما بمفادها، هذا.

لكنّا لم نجد من تعرّض لها و لا من نقل المتعرّض لها، بل إطلاق

كلماتهم ينفي مفادها، مع أنّها منقولة بطريق معتبر عن كتاب الحسين بن سعيد في «تهذيب» شيخ الطائفة، و كتب الحسين بن سعيد ك «تهذيب» الشيخ من الكتب المعروفة الموجودة بأيدي الأصحاب، فعدم التعرّض لها كاشف عن تركهم لها و عدم اعتنائهم بمفادها، فكانت معرضاً عنها متروكة مهجورة؛ حتّي أنّه جعلها شاذّة مهجورة من لا يري قيمة لإعراض المشهور عن الرواية، كما في «مباني التكملة»، فلا حجّة فيه حتّي يخصّص بها عموم أو إطلاق الطائفتين.

الثاني: ما يدلّ علي قبول شهادة الصبيان بشرطين: و هو خبر طلحة بن زيد عن الصادق عن أبيه عن آبائه عن علي عليهم السلام قال

شهادة الصبيان جائزة بينهم ما لم يتفرّقوا أو يرجعوا إلي أهلهم «1»

، فإنّه يدلّ علي جواز شهادة الصبيان و حجّيتها بشرطين: اشتراط أن لا يتفرّقوا عن الاجتماع الذي كانوا عليه، و اشتراط أن تكون شهادتهم شهادة بعض منهم علي بعض آخر أو له، فلا محالة يكون شهادتهم مرتبطة بامورهم التي تقع في جمعهم من المنازعات و عوارضها و أمثال ذلك من الحوادث التي يتّفق فيما بينهم.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 345، كتاب الشهادات، الباب 22، الحديث 6.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 467

______________________________

و هذا المضمون أخصّ مطلقاً بالنسبة إلي الطائفة الاولي من المطلقات، و أظهر بالنسبة إلي إطلاق الباقي تحت الطائفة الثانية.

و سند الخبر معتبر؛ فإنّ طلحة بن زيد و إن كان عاميا بترياً، بل و إن قلنا بعدم ثبوت كونه ثقة، إلّا أنّه لا ريب في أنّ كتابه معتمد، و الحديث قد رواه الصدوق في «الفقيه» عن كتابه بسنده الصحيح المذكور في مشيخته؛ فمن حيث السند لا إشكال فيه.

كما أنّ دلالته و الجمع بينه و بين

سائر ما مرّ من الأخبار واضحة علي ما عرفت.

نعم، يبقي الكلام في إعراض المشهور عنه و عدمه؛ فنقول: قال الشيخ قدس سره في كتاب الشهادات من «الخلاف» (مسألة 20): تقبل شهادة الصبيان بعضهم علي بعض في الجراح ما لم يتفرّقوا إذا اجتمعوا علي أمر مباح كالرمي و غيره. إلي أن قال: دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم؛ فتراه قدس سره قد قيّد قبول شهادتهم بكلا القيدين المذكورين في الخبر و إن زاد عليه قيد «كون اجتماعهم علي أمر مباح».

و كيف كان: فكلامه قدس سره شاهد علي عدم إعراض المشهور عن مفاده، فلا بدّ من الالتزام بمضمونه و تخصيص مطلقات المنع به.

نعم، لا ريب في اشتراط سائر الشرائط كالعقل و الحفظ بل الإيمان و الثقة فيه بحيث كان الفرق بين شهادتهم و شهادة غيرهم مجرّد أنّهم صبيان أو ما هو لازم له مثل العدالة بناءً علي عدم إمكان اتّصاف الصبي بها و إن كان فيه تأمّل بل منع، و سيجي ء بإذن اللّٰه تعالي الكلام فيها.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 468

______________________________

الثالث: ما ربّما يقال بدلالته علي اعتبار شهادة الصبي إذا بلغ عشر سنين؛ و هي صحيحة أبي أيّوب الخزّاز و هي مقطوعة قال: سألت إسماعيل بن جعفر: متي تجوز شهادة الغلام؟ فقال: «إذا بلغ عشر سنين».

قلت: و يجوز أمره؟ قال: فقال: «إنّ رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم دخل بعائشة و هي بنت عشر سنين، و ليس يدخل بالجارية حتّي تكون امرأة، فإذا كان للغلام عشر سنين جاز أمره و جازت شهادته» «1»، و حيث إنّ المسئول فيها إسماعيل، و قوله ليس بنفسه بحجّة، و لم ينقل ما قال به عن المعصوم،

و ليس ما استدلّ به دالّاً علي قوله؛ ضرورة عدم الدليل علي الملازمة بين الجارية و الصبي؛ لا سيّما و الجارية التي لها تسع سنوات مدركة كبيرة، و الصبي ليس بمدرك في هذا السنّ. فلا حجّة فيها علي الاعتبار بسنّ العشرة في الغلام، و إن جعل قيداً في كلمات بعض الأصحاب كالشيخ قدس سره في «نهايته».

نعم وردت أخبار معتبرة بقبول وصيته إذا أوصي في حقّ إذا بلغ عشر سنين «2»، لكنّه لا ملازمة بين قبول وصيته في ماله و قبول شهادته لغيره أو علي غيره. و للكلام تتمّة ستجي ء إن شاء اللّٰه تعالي.

فحاصل الأخبار: عدم حجّية شهادة المميّزين من الصبيان في غير القتل و الجرح علي كلام يأتي إذا لم تكن الشهادة بينهم و بالنسبة إلي أنفسهم.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 344، كتاب الشهادات، الباب 22، الحديث 3.

(2) راجع وسائل الشيعة 19: 361، كتاب الوصايا، الباب 44.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 469

و لا بشهادته فيهما إذا لم يبلغ العشر (3).

______________________________

(3) لعلّ الوجه فيه، مع أنّ الأخبار الواردة في قبول شهادته في القتل كما عرفت و يأتي إن شاء اللّٰه تعالي مطلقة تشمل ما إذا لم يبلغ العشر أيضاً، هو إعراض المشهور عن إطلاقها هذا؛ فإنّ صاحب «الرياض» قدس سره حكي فيه عن «المهذّب» التصريح بذهاب معظم الأصحاب إلي عدم قبول شهادة من لم يبلغ عشراً في الجنايات، بل فيه عن «التنقيح» أنّه قال: لا قائل بقبول شهادته لدون العشر.

فوجود هذه الروايات المطلقة بين أظهُرهم و بأيديهم، و قولهم بعدم قبول شهادة من لم يبلغ العشر عبارة أُخري عن إعراضهم عن إطلاقها، و معه فلا حجّة فيه.

و الحقّ: أنّ ما أفاده «المهذّب» و «التنقيح»

خلاف إطلاق ما ذكراه في «الانتصار» و «الغنية» و ادّعيا عليه الإجماع؛ قال في «الانتصار» في أواخر كتاب الشهادات ما لفظه: و ممّا يظنّ انفراد الإمامية به و لها فيه موافق القول بقبول شهادة الصبيان في الشجاج و الجراح إذا كانوا يعقلون ما يشهدون به، و يؤخذ بأوّل كلامهم و لا يؤخذ بآخره، و قد وافق الإمامية عبد اللّٰه بن زبير. و المعتمد في هذه المسألة علي إطباق الطائفة. ثمّ ذكر: أنّه مشهور من مذهب أمير المؤمنين عليه السلام، و استدلّ برواية الغلمان الستّة، انتهي.

و قال في «الغنية» بعد عدّ البلوغ في عداد سائر شرائط الشاهد و تقبل شهادة الصبيان في الشجاج و الجراح خاصّة إذا كانوا يعقلون ذلك،

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 470

و أمّا لو بلغ عشراً و شهد بالجراح و القتل ففيه تردّد (4).

______________________________

و يؤخذ بأوّل أقوالهم و لا يؤخذ بآخرها، بدليل إجماع الطائفة، و قد اشتهر عند الناس عن أمير المؤمنين عليه السلام فذكر رواية الغلمان انتهي.

فتراهما أنّهما لم يعتبرا في معقد إجماع الطائفة أكثر من كون الصبيان يعقلون ما يشهدون به، الذي هو عبارة أُخري عن التميّز، من غير تعرّض لمبلغ السنّ و اعتباره في قبول شهادتهم، و إطلاقه شامل لمن لم يبلغ العشر أيضاً كما لا يخفي. و نحوهما بدون دعوي الإجماع عبارة سلّار في «المراسم».

و معه فكيف يمكن دعوي أنّ معظم الأصحاب قائلون بعدم قبول شهادة من لم يبلغ عشراً أو أنّه لا قائل بقبول شهادته لدون العشر؟! نعم قال في «النهاية»: و يجوز شهادة الصبيان إذا بلغوا عشر سنين فصاعداً إلي أن يبلغوا في الشجاج و الجراح. إلي آخره، لكنّه مع تسليم المفهوم له ليس

دليلًا علي بطلان ما يفيده دعوي السيّدين كما لا يخفي.

فمقتضي القواعد و الأخبار أن لا يفرّق بين من بلغ عشراً و من لم يبلغ في قبول الشهادة و عدمه.

(4) الدليل علي قبول شهادة الصبيان في الجراح و القتل من الأخبار مضافاً إلي ما مرّ من صحيح جميل و خبر محمّد بن حمران معتبر جميل، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الصبي تجوز شهادته في القتل؟ قال

يؤخذ بأوّل كلامه و لا يؤخذ بالثاني «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 344، كتاب الشهادات، الباب 22، الحديث 4.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 471

______________________________

لكن هذه الأخبار كما تري و رأيت واردة علي خصوص عنوان القتل، و ظاهر كلّ من اقتصر علي ذكر الجراح خاصّة عدم قبول شهادتهم في القتل، قال في «الرياض»: كالتقي و المرتضي و ابن زهرة و الفاضلين، و صريح الشهيدين في «الدروس» و «الروضة»، و ظاهر «الانتصار» و «الغنية» دعوي الإجماع علي عدم القبول في غيرها، انتهي.

إذ لا ريب أنّ المتبادر منه كما في «الرياض» الجراح التي لا تؤدّي إلي النفس؛ فلذا يمكن أن يقال: بأنّ أكثر الأصحاب قائلون باختصاص القبول بالجراح و لا تقبل في القتل.

و من هنا يقع في النفس قوّة احتمال إعراضهم عن هذه الأخبار المعتبرة الصريحة في قبول شهادتهم في القتل، و معه فلا حجّة فيها، و لا يصحّ الاستناد إلي مجرّد فتوي الأكثر بالقبول في الجراح، فلا حجّة علي قبول شهادتهم لا في القتل و لا في الجراح؛ فلذلك و لما يأتي في توجيه قبول شهادتهم فيهما تردّد دام ظلّه.

و الظاهر: أنّ الأخبار و إن وردت في عنوان القتل لكنّهم قدس سرهم فهموا حكم الجرح أيضاً منه بالأولوية؛

فإنّه إذا قبلت شهادتهم في القتل مع أنّ التهجّم علي الدماء بخبر الواحد خطر كما في «الشرائع» فقبولها في الشجاج و الجراح أولي، فهذه الأولوية القطعية وجه انفهام قبول شهادتهم في غير القتل من الشجاج و الجراح.

و أمّا احتمال إعراض الأكثر عن هذه الأخبار بالبيان الذي مرّ ذكره فيدفعه ما أفاده في «الرياض» بقوله: لكن يستفاد من سياق كلمات السيّدين أنّهما أرادا بالجرح ما يعمّ القتل؛ حيث ذكرا علي وجه الاستناد ما

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 472

______________________________

يدلّ عليه، فقالا: و قد اشتهر عند الناس أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قضي في ستّة غلمان دخلوا الماء، فغرق أحدهم فشهد ثلاثة منهم علي اثنين أنّهما غرّقاه، و شهد اثنان علي الثلاثة أنّهم غرّقوه، أنّ علي الاثنين ثلاثة أخماس الدية و علي الثلاثة الخمسان «1»، انتهي.

و بالجملة: فاستنادهما إلي حديث الغلمان شاهد علي أنّهما أرادا من الشجاج و الجراح ما يعمّ القتل، و قد ادّعيا إطباق الطائفة و إجماعهم علي هذا الذي أفاداه.

فملخّص عبارتهما: أنّ الطائفة قد اتّفقت علي قبول شهادة الصبيان في القتل و الجراح، و مع ذلك فكيف يقال بإعراض أكثر الأصحاب عن تلك الأخبار!؟ هذا.

فالحقّ: أنّ إعراض المشهور أو الأكثر غير ثابت، و خبر الثقة حجّة؛ فيجب الأخذ به ما لم يقم حجّة أقوي توجب عدم حجّيته.

لكن التحقيق: أنّ إلغاء الخصوصية عن مورد الأخبار بالأولوية و سراية الحكم إلي الجراح و الشجاج غير صحيح؛ لاحتمال اختصاص القبول بالقتل فقط.

و يكون السرّ فيه شبيه ما ورد في قبول قسامة المدّعي في باب القتل و الجرح و عدم قبولها في غيرهما؛ ففي صحيح بريد بن معاوية عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألته

عن القسامة، فقال

الحقوق كلّها البيّنة علي

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة 29: 235، كتاب الديات، أبواب موجبات الضمان، الباب 2، الحديث 1، و هو موثّق بنقل السكوني و صحيح في نقل محمّد بن قيس، فراجع.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 473

نعم لا إشكال في عدم اعتبار شهادة الصبية مطلقاً (5).

______________________________

المدّعي و اليمين علي المدّعيٰ عليه، إلّا في الدم خاصّة.

إلي أن قال

قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم: إنّما حقِن دماء المسلمين بالقسامة لكي إذا رأي الفاجر الفاسق فرصة من عدوّه حجزه مخافة القسامة أن يقتل به فكفّ عن قتله و إلّا حلف المدّعي عليه. «1»

الحديث.

فكما أنّ القسامة قد شرّعت للمدّعي لكي يدفع الفاسق الفاجر عن قتل النفوس المحترمة فلا يقدم علي قتلها، فكذلك يحتمل هنا أن يجعل الشارع شهادة الصبيان حجّة في خصوص القتل لكي يحجز الفسّاق عن الإقدام بقتل النفوس مخافة شهادة الصبيان عليه، و لا يجعلها حجّة في الجراح و الشجاج لعدم كونها في حدّ عظمة قتل النفس و حرمته، و إن كان القتل و الجرح سواء في باب القسامة. و مع هذا الاحتمال العقلائي لا مجال لدعوي القطع بالأولوية في شهادتهم بغير القتل، بل تبقي تحت عمومات عدم الحجّية. فالأنسب بالقواعد: أنّ شهادة المميّزين من الصبيان حجّة في خصوص القتل دون الشجّة و الجرح، و اللّٰه العالم.

(5) و ذلك لاختصاص أدلّة الحجّية كلّها بعنوان الصبي أو جمعه الصبيان، و هو لا يشمل الصبية و الصبايا بل يختصّ بالذكور، و الأصل عدم الحجّية.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 29: 152، كتاب القصاص، أبواب دعوي القتل و ما يثبت به، الباب 9، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 474

[الثاني: العقل]

الثاني: العقل،

فلا تقبل شهادة المجنون حتّي الأدواري منه حال جنونه (6)،

______________________________

و يمكن أن يقال: إنّ ملاك العقلاء في الحجّية أن يكون الشاهد مميّزاً ثقة، من غير فرق عندهم بين البالغين و غيرهم و لا بين الذكور و الإناث، فعندهم يكون خبر الصبية المميّزة الثقة حجّة، فالأصل هو الحجّية. نعم حيث إنّ الإناث البالغات قاصرات إجمالًا في الشهادة عن الرجال البالغين فيمكن استظهار عدم حجّية شهادة الصبايا فيما لم يكن شهادة الصبيان حجّة، لكن لا دليل علي عدم حجّيتها فيما كانت شهادة الصبيان حجّة و كانت شهادة النساء و البالغات أيضاً فيها حجّة. اللهمّ إلّا أن يستدلّ بأدلّة اعتبار العدالة علي عدم حجّيتها؛ لفقدان هذه الصفة في غير من بلغ حدّ التكليف، و لعلّه يأتي الكلام فيه إن شاء اللّٰه تعالي.

(6) قد نقل علي اعتبار العقل في الشاهد دعوي الإجماع، و يشهد له قبله: أنّ العقلاء لا يشكّون في عدم حجّية إخبارات المجنون حتّي الأدواري منه في دور جنونه كما لا يشكّون في عدم حجّية من غلب عليه السهو أو النسيان و أمثالهما، و يعتبرون في حجّية خبر الثقة العقل و التحفّظ علي المطلب تحمّلًا و أداءً بما هو حاصل لأغلب الناس و جلّهم.

و أدلّة اعتبار شهادة الشهود و إخبار الثقات لا تدلّ علي أنّ موضوع الحجّية في الشرع أعمّ ممّا عند العرف، بل الشارع بشهادة الأخبار قد زاد في شرائط قبول شهادة الشهود أُموراً لا يعتبرونها العقلاء أنفسهم، و معلوم أنّ

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 475

و أمّا حال عقله و سلامته فتقبل منه إذا علم الحاكم بالابتلاء و الامتحان حضور ذهنه و كمال فطنته، و إلّا لم تقبل (7). و يلحق به في

عدم القبول من غلب عليه السهو أو النسيان أو الغفلة أو كان به البله، و في مثل ذلك يجب الاستظهار علي الحاكم حتّي يستثبت ما يشهدون به. فاللازم الإعراض عن شهادتهم، إلّا في الأُمور الجلية التي يعلم بعدم سهوهم و نسيانهم و غلطهم في التحمّل و النقل.

______________________________

الأصل في الظنون عدم الحجّية. و لعلّه كان الوجه لذهاب جلّ المجمعين إلي اعتبار العقل في الشاهد، فلا يكشف الإجماع المنقول عن غير الوجه المذكور.

و عليه: فلو فرض اختصاص جنون مجنون بغير إخباراته و كان فيها كسائر الناس بل أوثق فلا دليل علي عدم حجّية شهادته، لكنّ الكلام في تحقّق الفرض المذكور.

(7) يعني: لا بدّ من إحراز عقل من يدور عليه الجنون، و أنّ خبره و شهادته واقع وقت سلامته. و وجهه: أنّ الحجّة الشرعية و العقلائية هو خبر العاقل و شهادته، فمن يشكّ فيه يشكّ في حجّية خبره، و الأصل عدم الحجّية.

و الأصل العقلائي و إن كان البناء علي سلامة كلّ إنسان من الجنون و سائر العاهات و الآفات و هو أصل معتبر محرز للموضوع إلّا أنّ مجراه ما لم يعلم سبق الشخص بآفة مثل الجنون، و إلّا فلا يجري الأصل عندهم،

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 476

______________________________

و لا بدّ من إحراز سلامته بعلم أو طريق آخر معتبر.

و ممّا مرّ يظهر وجه ما أفاده دام ظلّه من اعتبار أن لا يغلب علي الشاهد السهو و النسيان و نحوهما، و أنّه يجب الاستظهار حتّي يستثبت ما يشهدون به، فتنبّه.

و عن التفسير المنسوب إلي العسكري عن أمير المؤمنين عليهما السلام في قوله تعالي وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ

الشُّهَدٰاءِ، قال

ممّن ترضون دينه و أمانته و صلاحه و عفّته و تيقّظه فيما يشهد به و تحصيله و تمييزه، فما كلّ صالح مميّزاً و لا محصّلًا، و لا كلّ محصّل مميّز صالح «1».

فهذا الخبر يدلّ علي اعتبار كون الشاهد متيقّظاً محصّلًا مميّزاً فيما يشهد به علاوة عن كونه صالحاً عادلًا، فالظاهر أنّ كون الشاهد ممّن يرضي دينه و أمانته و صلاحه و عفّته عبارة أُخري عن كونه معروفاً بالستر و العفاف و اجتناب الكبائر الذي هو عين العدالة، و كونه متيقّظاً محصّلًا مميّزاً أيضاً عبارة عن كونه بحيث يميّز الواقع عند الإشهاد و التحمّل غير غالط في الشهادة و الأداء.

فالخبر لا يدلّ علي اعتبار أزيد ممّا يعتبره العقلاء في حجّية الأخبار و الشهادات لكي يقال: لعلّه محمول علي مراعاة الكمال، و إلّا لزم إلغاء شهادة الغالب و لو من جهة عدم إحراز وجدان هذه الصفات غالباً، كما في

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 399، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 23.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 477

[الثالث: الإيمان]

الثالث: الإيمان، فلا تقبل شهادة غير المؤمن (8)،

______________________________

«جامع المدارك»؛ فإنّ هذه الصفات يعتبرونها العقلاء أيضاً، و لا يلزم عندهم إلغاء شهادة الغالب لبنائهم علي أصالة السلامة التي عرفت، إلّا فيما كان الشاهد مسبوقاً بأحد العيوب، ففيه يلتزمون إحراز السلامة. نعم الخبر لكونه غير معتبر السند يصلح مؤيّداً للمطلوب، و إلّا فالدليل ما ذكرناه.

(8) المراد به هو المعتقد من الشيعة بإمامة الأئمّة الاثني عشر صلوات اللّٰه عليهم أجمعين و وجه هذا الإطلاق: أنّ الإيمان و إن كان بحسب اللغة هو الاعتقاد القلبي بشي ء، و لا محالة يكون في الشريعة هو الاعتقاد القلبي الجازم بما يجب الاعتقاد به، إلّا أنّ الذي

يجب الاعتقاد به في أمر الولاية و الإمامة يختلف بحسب الأزمان؛ ففي زمن الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم إنّما كان يجب الاعتقاد بولايته و إمامته، ثمّ بعده يزيد عليه الاعتقاد بإمامة أمير المؤمنين عليه السلام، و بعد شهادته عليه السلام يجب الإيمان بإمامة ابنه السبط الأكبر، و هكذا إلي أن وجب في زماننا الاعتقاد بإمامة القائم المنتظر و من سبقه من الأئمّة المعصومين صلوات اللّٰه عليهم أجمعين فلذلك كان المصداق المنحصر للمؤمن في زماننا هو الشيعة الاثني عشرية.

و لم يكن يجب علي كلّ مؤمن أن يعرف جميع الأئمّة تفصيلًا و يعتقد بإمامتهم و لو قبل صيرورة الإمامة إليه؛ ففي صحيح محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: بلغنا شكواك و أشفقنا، فلو أعلمتنا (أو علّمتنا) من؟

قال

إنّ علياً عليه السلام كان عالماً و العلم يتوارث، فلا يهلك عالم إلّا بقي

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 478

______________________________

من بعده من يعلم مثل علمه أو ما شاء اللّٰه.

قلت: أ فيسع الناس إذا مات العالم أن لا يعرفوا الذي بعده؟

فقال

أمّا أهل هذه البلدة يعني المدينة فلا، و أمّا غيرها من البلدان فبقدر مسيرهم، إنّ اللّٰه يقول وَ مٰا كٰانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.

قال: قلت: أ رأيت من مات في ذلك؟

فقال: هو بمنزلة من خرج من بيته مهاجراً إلي اللّٰه و رسوله ثمّ يدركه الموت فقد وقع أجره علي اللّٰه.

قال: قلت: فإذا قدموا بأيّ شي ء يعرفون صاحبهم؟

قال: يعطي السكينة و الوقار و الهيبة «1».

فإنّه صريح في أنّ أمر الإمامة بعد الصادق عليه السلام لم

يكن واضحاً لمثل محمّد بن مسلم الذي كان وجه أصحابنا بالكوفة فقيهاً ورعاً صاحب أبا جعفر و أبا عبد اللّٰه عليهما السلام و روي عنهما و كان من أوثق الناس، و هو من أفقه الأوّلين الذين أجمعت العصابة علي تصحيح ما يصحّ عنهم، فلم يكن الإمام بعده عليه السلام له واضحاً؛ حتّي أنّه سأله أن يعلّمه، و قال في جوابه ما قال. إلي غير ذلك من الأخبار.

و كيف كان: فقد ادّعي علي اعتبار الإيمان بالمعني المذكور في الشاهد

______________________________

(1) الكافي 1: 379/ 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 479

______________________________

الاتّفاق و الإجماع، بل قال في «الجواهر»: لعلّه من ضروري المذهب في هذا الزمان، و استدلّ عليه في «الشرائع» بأنّ الخلوّ عنه فسق و ظلم و لا يقبل شهادة الفسّاق، و أورد علي الاستدلال به في «المسالك» بأنّ الفسق إنّما يتحقّق بفعل المعصية المخصوصة مع العلم بكونها معصية، أمّا مع عدمه فلا، و إنّما يتّفق ذلك ممّن يعاند الحقّ مع علمه به لا فيمن يعتقد اجتهاداً أو تقليداً أنّ اعتقاده حقّ، فلا يقوم هذا الاستدلال بإثبات اعتبار الإيمان بنحو الإطلاق، لكن ظاهر الأصحاب الاتّفاق علي اشتراطه في الشاهد، و ينبغي أن يكون هو الحجّة، انتهي. و هو كلام متين لا إشكال فيه و لا غبار عليه.

و يمكن الاستدلال علي اعتباره: بأنّه لا ريب في أنّ شهادة الكفّار غير مقبولة كما يأتي و إن كانوا في كفرهم معذورين، و قد وردت أدلّة معتبرة بأنّ عدم معرفة الإمام في كلّ زمان كفر و ضلال، فيترتّب عليه آثاره التي منها عدم قبول الشهادة.

اللهمّ إلّا أن يدلّ دليل علي الخلاف و لا دليل هاهنا علي خلافه، بل الأصحاب متّفقون علي

وفاقه؛ ففي صحيح الحارث بن المغيرة قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم

من مات لا يعرف إمامه مات ميتةً جاهلية

؟ قال

نعم.

قلت: جاهلية جهلاء أو جاهلية لا يعرف إمامه؟ قال

جاهلية كفر و نفاق و ضلال «1»

، فقد فسّر كلامه صلي الله عليه و آله و سلم و جعل عدم معرفة الإمام في كلّ زمان و الجهل به مساوقاً للجهل الذي

______________________________

(1) الكافي 1: 377/ 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 480

______________________________

يستلزم الكفر و النفاق و الضلال، فلا محالة يترتّب عليه آثاره.

و في صحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام

كلّ من دان اللّٰه بعبادة يجهد فيها نفسه و لا إمام له من اللّٰه فسعيه غير مقبول، و هو ضالّ متحيّر و اللّٰه شانئٌ لأعماله.

إلي أن قال

و اللّٰه يا محمّد! من أصبح من هذه الأُمّة لا إمام له من اللّٰه عزّ و جلّ ظاهراً عادلًا أصبح ضالّاً تائهاً، و إن مات علي هذه الحال مات ميتة كفر و نفاق. «1»

الحديث. فالموت ميتة كفر لا يكون إلّا لأنّ جهله و عدم معرفته بإمامه مساوق للكفر، فيكون موته ميتة كفر، إلي غير ذلك من الأخبار.

و مآل هذا الوجه إلي أنّه يستفاد من هذه الأخبار ما عليه اتّفاق الإمامية من أنّ الاعتقاد بإمامة إمام كلّ زمان و من سبقه من أركان الإيمان، فالخروج عنه خروج عن الإيمان بل الإسلام؛ إذ لا فرق بين الإسلام و الإيمان إلّا أنّ الإيمان صفة القلب و الإسلام هو التسليم العملي و القولي، قال اللّٰه تعالي قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ آمَنّٰا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا وَ لَمّٰا يَدْخُلِ الْإِيمٰانُ فِي قُلُوبِكُمْ «2».

فلا محالة

يكون الجاهل و غير العارف بإمامة إمامه غير مسلم، و يترتّب عليه أحكام غير المسلمين إلّا ما دلّ الدليل علي عدم ترتّبه، و كما

______________________________

(1) الكافي 1: 374/ 2.

(2) الحجرات (49): 14.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 481

______________________________

أنّ حكم عدم قبول الشهادة مترتّب و إن كان الكافر جاهلًا قاصراً معذوراً في جهله فكذلك هنا حرفاً بحرف.

و أمّا الاستدلال لعدم قبول شهادة غير العارف بإمامه إجمالًا بموثّقة السكوني

أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان لا يقبل شهادة فحّاش و لا ذي مخزية في الدين «1»

ببيان أنّ غير العارف إذا كان عالماً بالحقّ معانداً أو جاهلًا مقصّراً فهو مخزي في دينه فلا يقبل شهادته، كما في «مباني التكملة».

فيمكن منع دلالته بناءً علي أنّ الخزي كما عن «القاموس» هو الوقوع في بلية و شهرة توجب الذلّ عند الناس، فالمخزية هي الصفة الموجبة لذلك، و لا تكون موجبة له إلّا إذا كان كونها معصية واضحاً علي الناس و الشخص معروفاً بها عندهم. و معلوم أنّ عدم الاعتقاد بالإمامة ليس من هذا القبيل.

كما أنّ توهّم اقتضاء إطلاق مثل صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام

لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس. «2»

قبول شهادة غير العارف أيضاً، مندفع بأنّه ليس في مقام البيان من ناحية جميع الشرائط، بل في صدد بيان الاكتفاء بشهادة رجل واحد مع يمين الخصم، قبال عدم الاكتفاء إلّا بشهادة رجلين مثلًا.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 377، كتاب الشهادات، الباب 32، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 394، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 8.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 482

فضلًا عن غير المسلم مطلقاً (9)

______________________________

(9) و

هو موضع وفاق علي ما قيل و يشهد له أخبار إمّا مفهوماً و إمّا منطوقاً:

فأمّا ما يدلّ عليه بالمفهوم: فمثل موثّقة السكوني عن الصادق عن أبيه عن علي عليهم السلام

إنّ شهادة الصبيان إذا شهدوا و هم صغار جازت إذا كبروا ما لم ينسوها، و كذلك اليهود و النصاري إذا أسلموا جازت شهادتهم «1»

فإنّ تعليق قبول شهادتهم في كلامه عليه السلام بما إذا أسلموا يدلّ بمفهومه عرفاً علي أنّ شهادتهم قبل أن يسلموا غير مقبولة. و نحوها موثّقته الأُخري «2».

و مثل صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الذمّي و العبد يشهدان علي شهادة ثمّ يسلم الذمّي و يعتق العبد، أ تجوز شهادتهما علي ما كانا اشهدا عليه؟ قال

نعم إذا علم منهما بعد ذلك خير جازت شهادتهما «3»

فإنّ ذكر قيد كون الشهادة بعد الإسلام في كلام الراوي و إن لم يكن فيه حجّة إلّا أنّ تقييد صدور الخير منهما بذلك الزمان في كلام المعصوم عليه السلام مع عدم الحاجة إليه يدلّ علي أنّ القبول مقيّد بما بعد الإسلام، فتدبّر.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 389، كتاب الشهادات، الباب 39، الحديث 8.

(2) وسائل الشيعة 27: 388، كتاب الشهادات، الباب 39، الحديث 5.

(3) وسائل الشيعة 27: 387، كتاب الشهادات، الباب 39، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 483

______________________________

و أمّا ما يدلّ عليه بالمنطوق: فهي موثّقة سماعة قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن شهادة أهل الملّة، قال: فقال

لا تجوز إلّا علي أهل ملّتهم، فإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم علي الوصيّة؛ لأنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد «1».

بيان الدلالة: أنّ الملّة هي الطريقة، فأهل الملّة هم أهل طريقة و مذهب واحد، فقد

أفاد عليه السلام أنّه لا تجوز شهادة أهل كلّ مذهب إلّا علي أهل مذهبهم، و ظاهر السؤال أنّه عن شهادة أهل المذاهب الأُخر غير الإسلام؛ فتدلّ الموثّقة علي عدم اعتبار شهادة غير المسلم من سائر أهل المذاهب إلّا فيما استثناه. و دلالتها علي عدم الجواز منطوقية.

و في صحيحة أبي عبيدة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

تجوز شهادة المسلمين علي جميع أهل الملل، و لا تجوز شهادة أهل الذمّة (الملل خ. ل) علي المسلمين «2»

، فهي تدلّ علي اعتبار الإسلام و عدم اعتبار شهادة أهل الذمّة إذا كان المشهود عليه مسلماً.

و هذه الأخبار و إن كانت واردة في أهل الذمّة أو خصوص اليهود و النصاري إلّا أنّه لمّا كان المفهوم منها عرفاً عدم قبول شهادتهم لمكان كفرهم فيفهم منها عدم قبول شهادة المجوس الذين هم أضعف في كونهم أهل الكتاب من اليهود و النصاري، و الكفّار المشركين أو الملحدين بطريق أولي؛ فلذلك يفهم من مجموعها أنّه لا اعتبار بشهادة غير المسلم مطلقاً.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 390، كتاب الشهادات، الباب 40، الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة 27: 386، كتاب الشهادات، الباب 38، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 484

علي مؤمن أو غيره أو لهما (10). نعم تقبل شهادة الذمّي العدل في دينه في الوصية بالمال إذا لم يوجد من عدول المسلمين من يشهد بها (11)،

______________________________

و هنا أخبار أُخر ربّما يأتي ذكرها أثناء البحث يستفاد منها أيضاً عدم اعتبار شهادة غير المسلم، إلّا أنّ في ما ذكرناه كفاية.

(10) فإنّ ما سوي صحيحة أبي عبيدة مطلقة دالّة علي عدم اعتبار شهادة غير المسلم في جميع تلك الصور، و إن كان مفاد الصحيحة مختصّة بما إذا كانت

شهادتهم علي المسلمين، و لا بأس به بعد دلالة الأخبار الأُخر؛ إذ لا دلالة للصحيحة علي قبول شهادتهم فيما لم تكن علي المسلمين حتّي يكون منافاة.

(11) في «شرح الإرشاد» للمقدّس الأردبيلي قدس سره: و أمّا قبول شهادة الذمّي في الوصيّة فهو المشهور عندهم، و في «الجواهر»: أنّ عليه الإجماع بقسميه.

و الأصل فيه قوله تعالي يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهٰادَةُ بَيْنِكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنٰانِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصٰابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمٰا مِنْ بَعْدِ الصَّلٰاةِ فَيُقْسِمٰانِ بِاللّٰهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لٰا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبيٰ وَ لٰا نَكْتُمُ شَهٰادَةَ اللّٰهِ إِنّٰا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ «1».

______________________________

(1) المائدة (5): 106.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 485

______________________________

و ذلك أنّ المخاطب بالآية و المراد بضمير الخطاب في قوله: «بينكم» و «أحدكم» هم المؤمنون. و بالظهور القوي الناشئ من وحدة السياق يكون المراد بضمير الخطاب في قوله: «منكم» و «غيركم» أيضاً المؤمنين؛ فالمعنيّ ب «غيركم» غير المؤمنين؛ و هم الكفّار كما وردت به أخبار مستفيضة.

و احتمال أنّ المقصود بضميري الخطاب الأخيرين هو الشخص المشرف علي الموت و أقرباؤه لكي يراد ب «غيركم» من كان أجنبياً ليس بينه و بين الميّت قرابة كما عن «الخلاف» احتماله خلاف الظاهر جدّاً و مخالف للأخبار قطعاً.

كما أنّ الظاهر: أنّ القيد المستفاد من قوله تعالي إِنْ أَنْتُمْ. إلي آخر الآية راجع إلي إشهاد هذين الآخرين؛ إذ إشهاد اثنين ذوي عدل من المؤمنين أمر متعارف و مستند معروف في جميع الموضوعات الشخصية لا جهة لتقييده بالقيد المذكور.

فحاصل الاشتراط تجويز إشهاد غير المسلم إذا مسّت الحاجة إليه و لم يكن طريق

إلي إشهاد المسلم. فاحتمال دلالة الآية علي تخيير الشخص من أوّل الأمر بين إشهاد المسلم و غيره استناداً إلي استعمال لفظة

أو

خلاف الظاهر جدّاً.

و في صحيح هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في قول اللّٰه عزّ و جلّ أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ فقال

إذا كان الرجل في أرض غربة و لا يوجد فيها مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم في (علي) الوصية «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 390، كتاب الشهادات، الباب 40، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 486

______________________________

و في صحيح ضريس الكناسي قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن شهادة أهل الملل هل تجوز علي رجل (مسلم خ. ل) من غير أهل ملّتهم؟ فقال

لا، إلّا أن لا يوجد في تلك الحال غيرهم، و إن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم في الوصية؛ لأنّه لا يصلح ذهاب حقّ امرئ مسلم و لا تبطل وصيته «1»

، إلي غير ذلك ممّا مرّ أو يأتي من الأخبار.

فأصل جواز إشهاد غير المسلم في الوصية ممّا لا ريب فيه، و مورد الآية و الأخبار المذكورة كون الموصي مسلماً، و حينئذٍ فلا بدّ من البحث عن خصوصياته التي ربّما تعرّض لها في المتن أيضاً؛ و هي أُمور:

الأوّل: هل يعتبر أن يكون الكافر الشاهد من أهل الذمّة، أو يكفي كونه من أهل الكتاب و إن كان في بلاد الحرب، أو يعمّ الحكم كلّ كافر و إن كان ملحداً أو مشركاً وثنياً؟

ظاهر عنوان المتن اختيار الوجه الأوّل، و مختار بعض الأعاظم في «مباني تكملته» هو الثاني؛ استناداً إلي إطلاق الآية المباركة و الأخبار المفسّرة لها بأهل الكتاب.

و التحقيق: أنّك قد عرفت دلالة الأخبار و لو بالأولوية القطعية علي عدم قبول شهادة

مطلق الكفّار، إلّا أنّه لمّا كانت في غير أهل الكتاب دلالة مفهومية و هي هنا من قبيل الملازمات الواقعة بين المعاني فلا محالة إذا جازت شهادة أهل الكتاب في مورد كالوصية مثلًا فلا يمكن بعد

______________________________

(1) وسائل الشيعة 19: 309، كتاب الوصايا، الباب 20، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 487

______________________________

ذلك التخصيص و التقييد الوارد علي عموم الأدلّة استفادة المنع في الحربيين غير أهل الكتاب؛ لعدم بقاء معني الملزوم في واقع الإرادة لكي يستفاد منه لازمه و الملازمة بين المعنيين، و تفصيل الكلام موكول إلي محلّه.

فبالجملة: لا بدّ من تبيّن الأمر في مقدار دلالة الأدلّة الواردة في خصوص مورد إشهاد غير المسلم علي الوصية حتّي يتّضح أنّ مقتضاها جواز الاعتماد علي شهادة الكافر الحربي غير أهل الكتاب أيضاً أو خصوص الذمّي أو مطلق الكتابي؟

فنقول: إنّ الأصل في إشهاد الكافر علي الوصية الآية المباركة، و قد يقال: إنّ المأخوذ فيها بالنسبة إلي الكفّار هو عنوان أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ، و مطلق الكفّار مصداق لعنوان «غيركم»، فإطلاق الآية دليل جواز إشهاد الكفّار و لو غير أهل الكتاب، فضلًا عن الحربيين من أهل الكتاب.

و لكن التأمّل الوافي في الآية المباركة يرشد إلي أنّ المراد من «غيركم» خصوص أهل الذمّة، و ذلك أنّ هذين الشاهدين قد بيّنت الآية كيفية أدائهما للشهادة بقوله تعالي تَحْبِسُونَهُمٰا مِنْ بَعْدِ الصَّلٰاةِ. إلي آخر الآية، فيفهم منه أنّهما تحت أيدي المسلمين يمكنهم حبسهما بعد الصلاة، و ليس هذا إلّا صفة الكفّار الذين يعيشون في ذمّة الإسلام و المسلمين و يعطون الجزية عن يد و هم صاغرون، و إلّا فمن يكون كافراً حربيّا و لو من أهل الكتاب فجزاؤه القتل إن لم يقبل

عقد الذمّة و أداء الجزية، و لا يترك ملقي العنان في داخل البلاد الإسلامية. نعم إن عاش في بلدة ليست ببلدة الإسلام فلا محالة

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 488

______________________________

قد يخلّي و نفسه، لكنّه ليس بحيث يصل إليه يد الإسلام لكي يحبسه لأداء الشهادة من بعد الصلاة، فلا أقلّ من أن لا يكون للآية إطلاق يشمل كلّ كافر و ينصرف إلي خصوص أهل الذمّة منهم.

و منه تعرف عدم صحّة الاستناد إلي إطلاقها لشمول الحكم للحربي من أهل الكتاب أيضاً، فتنبّه. هذا بالنسبة إلي الآية.

و أمّا الأخبار الواردة في إشهاد الكافر علي الوصية فيؤخذ فيها ما قد يقال بإطلاقه لمطلق الكفّار:

1 ففي صحيحة هشام بن سالم (الحكم خ. ل) عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في قوله عزّ و جلّ أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ، قال

إذا كان الرجل في بلد ليس فيه مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم علي الوصية «1»

، و نحوها صحيحة هشام بن الحكم الماضية آنفاً في عداد أخبار أصل هذه المسألة، و لعلّهما واحدة.

2 و في صحيحة أبي الصباح الكناني عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألته عن قول اللّٰه عزّ و جلّ يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهٰادَةُ بَيْنِكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنٰانِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ، قلت ما آخران من غيركم؟ قال

هما كافران.

قلت: ذَوَا عَدلٍ مِنكُم؟ قال: «مسلمان» «2». و بيان الدلالة فيهما واضح حيث جعل عنوان من يستشهد من

______________________________

(1) وسائل الشيعة 19: 310، كتاب الوصايا، الباب 20، الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة 19: 309، كتاب الوصايا، الباب 20، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 489

______________________________

ليس بمسلم أو الكافر، و هما

مطلقان يعمّ كلّ كافر؛ كتابياً كان أو غير كتابي، و ذمّيا كان الكتابي أو غير ذمّي.

و هذا الإطلاق أقوي في صحيحة هشام؛ لأنت المفروض فيها بلد ليس فيه مسلم، فهذا البلد إن كان في حيطة الإسلام كان أهله ذمّيا، و إلّا كان حربياً كتابياً أو غير كتابي، و عنوان «بلد ليس فيه مسلم» شامل لجميع الأقسام الثلاثة بلا ريب و لا إشكال.

و يمكن منع إرادة الإطلاق في الصحيحتين ببيان أنّهما وردتا في تفسير المراد بقوله تعالي: «من غيركم» و أنّه غير المسلم، و أمّا الشرائط المعتبرة فيه فليستا بصدد بيانه.

بل يفهم من الآية علي ما عرفت لزوم أن يكون الكافر الشاهد في حيطة حكومة الإسلام و ذمّته حتّي يمكن حبسه بعد الصلاة لأداء الشهادة، فالخبران إنّما هما في مقام بيان أنّه قد يعتني بشهادة الكفّار و أنّه المراد بالآية، قبال أن يراد بها الأجانب مقابل أقرباء الموصي، لا في مقام بيان تمام موضوع هذا الحكم، فلا إطلاق فيهما.

مضافاً إلي أنّه قد فسّر بخصوص أهل الكتاب و يلزمه خروج سائر الكفّار؛ ففي صحيح أحمد بن عمر الذي الظاهر أنّه ابن أبي شعبة الحلبي من أصحاب الكاظم و الرضا عليهما السلام قال: سألته عن قول اللّٰه عزّ و جلّ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ، قال

اللذان منكم مسلمان، و اللذان من غيركم من أهل الكتاب، فإن لم يجد من أهل الكتاب فمن المجوس؛ لأنّ رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم قال: سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب، و ذلك إذا

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 490

______________________________

مات الرجل بأرض غربة فلم يجد مسلمين يشهدهما فرجلان من أهل الكتاب «1».

و إضماره لا يضرّ؛ لجلالة

المضمِر. فقد فسّر آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ بخصوص أهل الكتاب، فلو كان في صحيح هشام و الكناني إطلاق لقيّد بقرينة هذه الصحيحة.

و مثل هذه الصحيحة خبر يحيي بن محمّد عن الصادق و خبر محمّد بن الفضيل عن الكاظم عليهما السلام، فراجع «2».

فلا ينبغي الإشكال في عدم جواز شهادة الحربيين غير أهل الكتاب؛ عملًا بمفهوم صحيح أحمد بن عمر الوارد في مقام تفسير الآية و إعطاء ضابطة من يقبل شهادته من الكفّار، و أنّه لا يتعدّي المجوس إلي غير أهل الكتاب. و نحوه الخبران الآخران اللذان مرّت إليهما الإشارة.

و حينئذٍ فقد يقال: إنّ مقتضي إطلاق هذه الأخبار الثلاثة أن تجوز شهادة كلّ كتابي علي الوصية، و لا يختصّ بخصوص أهل الذمّة منهم.

و مثلها صحيحة ضريس الكناسي التي أوردناها في عداد أدلّة أصل هذه المسألة؛ فإنّ موضوع السؤال و الجواب أهل الملل من دون تقييد بأن يكونوا أهل ذمّة، و أهل الملل بمعني أهل المذاهب؛ و هم أهل الكتاب سواء كانوا في ذمّة الإسلام أم لا.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 390، كتاب الشهادات، الباب 40، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة 19: 311، كتاب الوصايا، الباب 20، الحديث 6.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 491

______________________________

و يوافقها صحيحة الحلبي و محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألته هل تجوز شهادة أهل ملّة من غير أهل ملّتهم؟ قال

نعم إذا لم يوجد من أهل ملّتهم جازت شهادة غيرهم، إنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد «1»

، فإنّها بإطلاقها تدلّ علي جواز شهادة غير أهل ملّة المشهود له إذا لم يوجد من أهل ملّته، و هو شامل لكلّ كتابي يصير شاهداً علي الوصية إذا لم يوجد مسلم مثلًا؛ سواء كان

هذا الكتابي أهل ذمّة أم لا، هذا.

و في قبال هذه الإطلاقات ما رواه حمزة بن حمران عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألته عن قول اللّٰه عزّ و جلّ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ، فقال

اللذان منكم مسلمان، و اللذان من غيركم من أهل الكتاب

فقال

(و إنّما ذلك خ. كايب) إذا مات الرجل المسلم بأرض غربة فطلب رجلين مسلمين يشهدهما علي وصيته فلم يجد مسلمين، فليشهد علي وصيته رجلين ذمّيين من أهل الكتاب مرضيين عند أصحابهما «2»

، فإنّ تقييد الشاهدين من أهل الكتاب في كلامه عليه السلام بأن يكونا ذمّيين ظاهر في وجوب رعاية وجدان هذا القيد فيهما، فيدلّ دلالةً واضحة علي اشتراط الذمّية.

و حمزة بن حمران و إن لم يصرّح بتوثيقه إلّا أنّه فيمن يروي عنه محمّد بن أبي عمير و صفوان بن يحيي اللذان لا يرويان إلّا عن ثقة، و الخبر

______________________________

(1) وسائل الشيعة 19: 310، كتاب الوصايا، الباب 20، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة 19: 312، كتاب الوصايا، الباب 20، الحديث 7.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 492

______________________________

مذكور في «التهذيب» و «الكافي»؛ فلا ينبغي الإشكال في اعتبار سنده و لا في قصور دلالته. فبه يقيّد تلك الإطلاقات.

لا سيّما و إنّ الإطلاقات المذكورة ليس لها تلك القوّة؛ لأنّها واردة ذيل الآية الشريفة أو ناظرة إلي ما تضمّنته الآية، و قد عرفت أنّ التعرّض لحبس الشاهدين إلي بعد الصلاة قرينة ظاهرة علي أنّ المراد بهما خصوص ذمّيين من أهل الكتاب. فرواية حمزة بن حمران واردة علي وفاق ظاهر الآية، و سائر الأخبار أيضاً لا بعد في دعوي أنّها بصدد بيان مجرّد أنّه قد تجوز شهادة الكفّار، فلا إطلاق لها. و لو سلّم فلا

ريب في أنّه ليس لها إطلاق قوي، فهي تقيّد بها و لا يعتبر إلّا شهادة أهل الذمّة.

الثاني: يعتبر في الذمّي الشاهد علي الوصية أن يكون عدلًا في دينه، كما نبّه بقوله دام ظلّه-: «العدل في دينه»؛ و ذلك أنّ الآية الشريفة و إن كانت ساكتة عن الدلالة عليه فإنّ قوله تعالي ذَوٰا عَدْلٍ صفة لقوله اثْنٰانِ، و قوله أَوْ آخَرٰانِ عطف علي قوله اثْنٰانِ، و لا يقتضي القواعد الأدبية العربية أن يتّصف المعطوف أيضاً بما جعل وصفاً و نعتاً للمعطوف عليه إلّا أنّه لا ينبغي الإشكال أيضاً في أنّ أدلّة جواز شهادته أيضاً لا إطلاق لها يقتضي قبول شهادة الفاسق في دينه منهم، فإنّها في مقام بيان أنّه لا يعتبر هنا الإسلام، فلا منافاة أن يعتبر في غير المسلم أيضاً سائر الشرائط المعتبرة في المسلم.

و حينئذٍ: فيمكن الاستدلال لاشتراط العدالة فيه بوجهين:

أحدهما: قوله عليه السلام في معتبرة حمزة بن حمران الماضية آنفاً

فليشهد

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 493

______________________________

علي وصيته رجلين ذمّيين من أهل الكتاب مرضيين عند أصحابهما

، فإنّ كونهما مرضيين عند أصحابهم لا يكون إلّا إذا التزما برعاية الوظائف المقرّرة لهما في شريعتهما، و هي عبارة أُخري عن العدالة في دينهما.

ثانيهما: استفادة اعتبار ذلك فيه من أدلّة اعتبار العدالة في الشاهد المسلم؛ إمّا بإلغاء الخصوصية عرفاً بعناية أنّ العرف يفهم منها أنّ الاتّصاف بالعفاف و التقوي، و ظهور الصلاح شرط في جواز الشهادة و قبولها و إن اختلفت مصاديقهما في كلّ دين. و إمّا بالأولوية القطعية فإنّ المسلم مع شرافته بالإسلام إذا لم يقبل شهادته فيما لم يكن عدلًا فعدم القبول في الكافر غير العادل أولي.

الثالث: هل يختصّ قبول شهادة الذمّي بما إذا

كانت الوصية وصية بالمال، أو يعمّ ما إذا كانت الوصية عهدية محضة، كأن أوصي إلي أحد بأن يكون هو القيّم علي صغاره؟

ظاهر تقييده المتن في قوله: «في الوصية بالمال» الاختصاص، كما صرّح به في «الرياض» و «المسالك»، قال في «المسالك»: وقوفاً فيما خالف الأصل علي مورده.

و الحقّ: أنّ مفهوم الوصية و هو التقدّم إلي الغير بما يعمل به كما في «مفردات الراغب»، أو العهد إلي الغير فيه كما في غيرها يعمّ ما إذا تعلّقت بغير الأُمور المالية أيضاً، و الاستعمالات القرآنية أيضاً شائعة في هذا المعني العامّ؛ قال تعالي؛

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 494

و لا يعتبر كون الموصي في غربة، فلو كان في وطنه و لم يوجد عدول المسلمين تقبل شهادة الذمّي فيها (12).

______________________________

وَ وَصّٰي بِهٰا إِبْرٰاهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يٰا بَنِيَّ إِنَّ اللّٰهَ اصْطَفيٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلٰا تَمُوتُنَّ إِلّٰا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «1». فاستعملت الوصية في العهد إليهم في رعاية الدين، و قال تعالي وَ أَوْصٰانِي بِالصَّلٰاةِ وَ الزَّكٰاةِ مٰا دُمْتُ حَيًّا «2». فاستعمل الإيصاء في الوصية بالصلاة إلي غير ذلك، فمفهومها عامّ للوصية بغير المال، و استعمالها شائع في هذا المعني العامّ، و ليس في الأخبار الخاصّة أيّة قرينة علي الاختصاص، فإطلاقها يقتضي جواز شهادتهم في الوصية بالأُمور غير المالية أيضاً.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ كثرة الوصية بالأموال قرينة موجبة لانصراف المطلق إلي خصوص المالي منها، لكنّ الوصية في غير الأموال كنصب القيّم علي الصغار أيضاً كثيرة فلا موجب للانصراف، و اللازم الأخذ بالإطلاق. و جواز شهادة الكافر و إن كان خلاف الأصل إلّا أنّه لا بأس به بعد دلالة الإطلاق الحجّة عليه.

(12) هذا هو الأمر الرابع، قال في «الشرائع»:

و لا يشترط كون الموصي في غربة و باشتراطه رواية مطرحة. و في «المسالك»: و ظاهر الآية كون الموصي مسافراً، و بظاهرها أخذ الشيخ في «المبسوط» و ابن الجنيد

______________________________

(1) البقرة (2): 132.

(2) مريم (19): 31.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 495

______________________________

و أبو الصلاح، و الأشهر عدم الاشتراط، انتهي.

و كيف كان: فوجه الاشتراط ظاهر الآية إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصٰابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ «1» حيث قيّد شهادة آخرين من غير المسلمين بضرب الموصي في الأرض. و مثله روايات واردة في ذيلها تضمّنت أنّ ذلك إذا مات الرجل بأرض غربة فلم يجد مسلمين يشهدهما فرجلان من أهل الكتاب، كما مرّ في صحيحة هشام بن الحكم و مضمر أحمد بن عمر، و في معتبر حمزة بن حمران و خبر يحيي بن محمّد و خبر محمّد بن الفضيل «2».

لكن يحتمل في جميعها أن يكون تمام الملاك لجواز إشهادهم عدم وجدان المسلمين، و لمّا كان الغالب أن يوجد مسلمان في بلاد الإسلام فلذا فرضت أرض الغربة و السفر، و إلّا فلا خصوصية للسفر و أرض الغربة، فهذا الاحتمال بنفسه قوي. و إن لم يمكن الأخذ بإطلاقها بنفسها، لكنّها بحيث لا تقاوم الدليل الدالّ علي أنّ الملاك هو عدم وجدان المسلم مطلقاً، و هذا الدليل هو صحيح ضريس الكناسي و موثّق سماعة الماضيان:

ففي الأوّل: سألت أبا جعفر عليه السلام عن شهادة أهل الملل هل تجوز علي رجل (مسلم خ. ل) من غير أهل ملّتهم؟ فقال

لا، إلّا أن لا يوجد في

______________________________

(1) المائدة (5): 106.

(2) مرّت الإشارة إليها ذيل الأمر الأوّل، فتذكّر.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 496

______________________________

تلك الحال غيرهم، و إن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم في الوصية؛

لأنّه لا يصلح ذهاب حقّ امرئٍ مسلم و لا تبطل وصيته «2»

؛ فتري أنّه جعل ملاك جواز شهادة غير المسلم أن لا يوجد في تلك الحال مسلم، و جعل سرّه: أنّه لا يصلح ذهاب حقّ المسلم و لا تبطل وصيته، و ذكر هذا السرّ مناسب جدّاً لإرادة الإطلاق و مؤكّد له.

و نحوه الموثّق: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن شهادة أهل الذمّة، فقال

لا تجوز إلّا علي أهل ملّتهم، فإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم علي الوصية؛ لأنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد «1»

و بيان إرادة الإطلاق و تأكيده نظير ما مرّ في صحيح الكناسي.

و ممّا يؤيّد بل ربّما يشهد لعدم اعتبار السفر قول الصادق عليه السلام في صحيح هشام بن سالم ذيل قوله تعالي أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ

إذا كان الرجل في بلد ليس فيه مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم علي الوصية «2»

فإنّه جعل موضوع الجواز كون الرجل في بلد ليس فيه مسلم، و هو صادق فيما إذا استوطن المسلم بلد الكفّار، و لا يتوقّف صدقه علي كونه مسافراً.

و كيف كان: فالحقّ ما عليه الأكثر من عدم الاشتراط.

______________________________

(2) وسائل الشيعة 19: 309، كتاب الوصايا، الباب 20، الحديث 1.

(1) وسائل الشيعة 19: 311، كتاب الوصايا، الباب 20، الحديث 5.

(2) وسائل الشيعة 19: 310، كتاب الوصايا، الباب 20، الحديث 4.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 497

و لا يلحق بالذمّي، الفاسق من أهل الإيمان (13)، و هل يلحق به المسلم غير المؤمن إذا كان عدلًا في مذهبه؟ لا يبعد ذلك (14).

______________________________

(13) فإنّ أدلّة اشتراط العدالة مطلقة تشمل ما إذا يشهد علي الوصية، و إسقاط اشتراط الإسلام عند عدم وجدان المسلم لا يلازم إسقاط شرط العدالة

فيما إذا لم يجد عادلًا؛ لاحتمال أن يكون تأكيد الشارع و عنايته بعدالة الشاهد أكثر من إسلامه، فلا حجّة علي رفع اليد عن مطلقات اشتراط العدالة.

(14) و ذلك أنّه بعد ما كان المفروض اتّصافه بالعدالة في مذهبه فهو أولي بجواز الشهادة من أهل الكتاب؛ فإنّه يفضل عليه باعتقاده نبوّة نبي الإسلام و خاتميته و بحقّية القرآن و ما يعرفه من الأحكام، فقصوره عن المؤمن الحقيقي و المسلم الاثني عشري أقلّ ممّن لا يعتقد بالإسلام. فإذا قبلت شهادة غير المسلم العادل في دينه يقبل شهادة المسلم العادل غير الاثني عشري بالأولوية قطعاً.

و يؤيّده: ما كتبه الصادق عليه السلام إلي مفضل بن عمر علي ما في خبر «بصائر الدرجات» في تفسير الآية

و ذلك إذا كان مسافراً فحضره الموت أشهد اثنين ذوي عدل من أهل دينه، فإن لم يجد فآخران ممّن يقرأ القرآن من غير أهل ولايته «1»

، فإنّ الظاهر أنّ المراد ب

من يقرأ القرآن من غير

______________________________

(1) وسائل الشيعة 19: 313، كتاب الوصايا، الباب 20، الحديث 8.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 498

و تقبل شهادة المؤمن الجامع للشرائط علي جميع الناس من جميع الملل (15)، و لا تقبل شهادة الحربي مطلقاً (16). و هل تقبل شهادة كلّ ملّة علي ملّتهم؟ به رواية، و عمل بها الشيخ قدس سره (17).

______________________________

أهل ولايته

هو المسلم الذي ليس باثني عشري؛ إذ قوله

يقرأ القرآن

كناية عن إسلامه، و كونه

غير أهل الولاية

عبارة أُخري عن كونه غير اثني عشري؛ فقد فسّر قوله آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ بغير الاثني عشريين من المسلمين، فلا محالة أُريد من ضمير الخطاب خصوص الاثني عشريين الذين قد عرفت أنّهم المسلمون المؤمنون بالحقيقة، فغيرهم شامل للكفّار و سائر فرق الإسلام.

(15) كما في

صحيحة أبي عبيدة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام

تجوز شهادة المسلمين علي جميع أهل الملل. «1»

الحديث، و جواز شهادتهم علي أهل الملل يلزمه جواز شهادتهم علي الكفّار و الملاحدة بطريق أولي قطعاً.

(16) لما مرّ من أنّ عدم قبول شهادة أهل الملل غير المسلمين و أهل الذمّة يلزمه عدم قبول شهادة المشركين و الملحدين بأولوية قطعية، كما مرّ من دلالة الأخبار الخاصّة علي أنّه لا تقبل في الوصية إلّا شهادة الذمّي العدل خاصّة، فتذكّر.

(17) قال في «الخلاف» (كتاب الشهادات، المسألة 22) قال قوم:

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 386، كتاب الشهادات، الباب 38، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 499

______________________________

لا يجوز قبول شهادة أهل الذمّة بعضهم علي بعض؛ سواء اتّفقت ملّتهم أو اختلفت. و قال آخرون: تقبل شهادة بعضهم علي بعض؛ سواء اتّفقت ملّتهم أو اختلفت. ذهب إليه قضاة البصرة الحسن و سوار و عثمان البتّي. و به قال في الفقهاء حمّاد بن أبي سليمان و الثوري و أبو حنيفة و أصحابه. و ذهب الشعبي و الزهري و قتادة إلي أنّه إن كانت الملّة واحدة كاليهود علي اليهود قبلت، و إن اختلفت ملّتهم لم تقبل كاليهود علي النصاري، و هذا هو الذي ذهب إليه أصحابنا و رووه. إلي أن قال: و هذا الذي اخترناه، و الوجه فيه إذا اختاروا الترافع إلينا، فأمّا إن لم يختاروا فلا يلزمهم ذلك، انتهي.

و قال في «نهايته»: و يجوز شهادة بعضهم علي بعض و لهم و كلّ ملّة علي أهل ملّتهم خاصّة و لهم، و لا يجوز أن تقبل شهادة أهل ملّة منهم لغير أهل ملّتهم و لا عليهم إلّا المسلمين خاصّة، انتهي.

و حكي القول بمثل ذلك في «المختلف» عن

القاضي ابن البرّاج، كما أنّه حكي فيه عن ابن الجنيد جواز شهادة أهل العدالة في دينهم من الكفّار و إن اختلفت الملّتان.

و مع ذلك فعن العمّاني و المفيد في «المقنعة» و الشيخ في «مبسوطه» و ابن إدريس و الحلبي عدم قبول شهادة بعضهم علي بعض فيما اتّفقت الملّتان أيضاً، و عن «الدروس» نسبته إلي الأكثر، و عن «المسالك» و غيره نسبته إلي المشهور.

و كيف كان: فدليل المشهور إطلاق مفهوم الأخبار الماضية الدالّة علي عدم قبول شهادة أهل الذمّة مطلقاً، و في قبالها موثّقة سماعة قال: سألت

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 500

______________________________

أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن شهادة أهل الملّة (الذمّة)، فقال

لا تجوز إلّا علي أهل ملّتهم. «1»

الحديث، و هي رواية موثّقة يقيّد بها إطلاق غيرها من الأخبار.

و عمل الشيخ بها و نسبة العمل بها إلي أصحابنا يخرجها عن حدّ إعراض الأصحاب عنها، مع احتمال أنّ كثيراً ممّن لم يعمل بها رأوها قاصرة السند؛ لا سيّما و قد نقلها محمّد بن عيسي العبيدي عن يونس، و القميون استثنوا مثلها عن روايات «نوادر الحكمة». فلمّا كان الحقّ وثاقة العبيدي و حجّية أخباره و لم يثبت إعراض الأصحاب عن هذه الموثّقة، فاللازم أن يعمل بمفادها؛ و هو حجّية شهادة أهل الذمّة علي أهل ملّتهم، و إن كان المدّعي من غير أهل ملّتهم. فالملاك اتّفاق ملّة الشاهد و المشهود عليه لا المشهود له.

ثمّ إنّه قد يستدلّ لقبول شهادتهم علي ملّتهم بوجهين آخرين:

الأوّل: قاعدة الإلزام؛ فعن «كشف اللثام» تقوية مختار الشيخ قدس سره إلزاماً لأهل كلّ ملّة بما تعتقده و إن لم يثبت عندنا.

و الأصل في قاعدة الإلزام هو الأخبار الواردة في باب الطلاق و الإرث؛ ففي

خبر علي بن أبي حمزة أنّه سأل أبا الحسن عليه السلام عن المطلّقة علي غير السنّة أ يتزوّجها الرجل؟ فقال

ألزموهم من ذلك ما ألزموه

______________________________

(1) الكافي 7: 398/ 2، وسائل الشيعة 27: 390، كتاب الشهادات، الباب 40، الحديث 4.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 501

______________________________

أنفسهم و تزوّجوهنّ فلا بأس بذلك «1».

و في خبر عبد اللّٰه بن طاوس عن الرضا عليه السلام في من طلّق امرأته ثلاثاً في مجلس واحد

إنّه من دان بدين قوم لزمته أحكامهم «2».

و في موثّقة عبد الرحمن البصري عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: قلت له: امرأة طلّقت علي غير السنّة، قال

تتزوّج هذه المرأة، لا تترك بغير زوج «3».

و بيان الاستدلال بهذه القاعدة لما نحن فيه أن يقال: إنّ مفاد القاعدة ليس خصوص إلزام المعتقد بدين بأحكام ذلك الدين في أعماله، بل مفادها علاوة عليه أن يجعل غيره أيضاً ما يعتقده هذا المعتقد معياراً و ملاكاً في أعماله، فالمطلّقة علي غير السنّة كما أنّها ليست بزوجة للمعتقد بصحّة هذا الطلاق عنده و يجب عليه بقاعدة الإلزام ترتيب آثار البائنة عليها، فكذلك يجب علي المؤمن الاثني عشري أيضاً أن يراها بائنة منه منفصلة عنه بطلاقه، و أن يرتّب علي طلاقه آثار الطلاق الصحيح الواقعي؛ و لذلك قال في موثّق عبد الرحمن

تتزوّج هذه المرأة

و نحوه غيره.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 22: 73، كتاب الطلاق، أبواب مقدماته و شرائطه، الباب 30، الحديث 5.

(2) وسائل الشيعة 22: 75، كتاب الطلاق، أبواب مقدماته و شرائطه، الباب 30، الحديث 11.

(3) وسائل الشيعة 22: 73، كتاب الطلاق، أبواب مقدماته و شرائطه، الباب 30، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 502

______________________________

ففيما نحن فيه إذا اعتقد أهل الذمّة

حجّية شهادة أهل ملّته أو مطلقاً فشهد عليه عند القاضي المؤمن الاثني عشري فكما يجب علي الذمّي أن يري المشهود به ثابتاً بالنسبة إلي إعماله، فكذلك يجب علي القاضي أن يرتّب علي ما شهدوا عليه آثار المشهود به شهادة صحيحة. فكما أنّه إذا شهد به مسلمان عدلان كان يحكم بتحقّقه و يقضي به، فكذلك هنا يجب عليه أن يقضي و يحكم بثبوته. و الحكم بثبوته مع قطع النظر عن قاعدة الإلزام و إن كان حكماً بغير ما أنزل اللّٰه لكونه حكماً بما لم يثبت عنده بوجه معتبر إلّا أنّ قاعدة الإلزام توجب عليه أن يحكم و يرتّب علي المشهود به حينئذٍ آثار المشهود به شهادة صحيحة معتبرة.

فما في «الجواهر» من أن ليس الحكم بخلاف ما أنزل اللّٰه من أحكام الذمّة، و لا من إلزامهم بما ألزموا به أنفسهم فيما بينهم؛ ضرورة كون الأحكام مشتركة بين الجميع وضعيها و تكليفيها، فمتي ترافعوا إلينا وجب إقامة الحكم الثابت لشرعنا عليهم؛ فإنّ خلافه حكم بغير ما أنزل اللّٰه، و إنّما مقتضي الذمام عدم التعرّض لهم في أحكامهم فيما بينهم، كما أنّ مقتضي الإلزام بما ألزموا به أنفسهم الإذن لنا في تناول ما يقتضيه دينهم فيهم إلزاماً لهم بذلك، لا الحكم فيما بينهم بما هو في دينهم المنسوخ، الذي هو في زمان نبينا صلي الله عليه و آله و سلم حكم بغير ما أنزل اللّٰه، انتهي.

مندفع بأنّ الذمام و إن لم يقتض ذلك إلّا أنّه مقتضي قاعدة الإلزام؛ لما عرفت من أنّه يجب علينا ترتيب آثار الواقع علي ما يعتقدونه إذا وقع أمر عندهم و كانوا يعتقدون ترتّب أثر عليه لا نعتقده، فعلينا أيضاً أن نرتّب هذا

مباني تحرير الوسيلة

- القضاء و الشهادات، ص: 503

______________________________

الأثر. فإذا أقاموا الشهادة علي أمر بحسب ما يقتضيه مذهبهم فالأمر و إن لم يثبت عند الحاكم إلّا أنّه غير محتاج إليه.

و ذلك أنّ ثبوته علي المشهود عليه بحسب دينه يوجب علي الحاكم أيضاً ترتيب آثار الثابت الواقعي عليه، فلا محالة يكون كما لو ثبت عند الحاكم بطريق معتبر عنده؛ و لذلك لا ينبغي الإشكال في أنّه لو اختلف أحد من العامّة و زوجته في أنّه هل طلّقها أم لا، و كان الطلاق علي فرض إيقاعه طلاقاً علي غير السنّة، ثمّ ثبت عند الحاكم المؤمن الاثني عشري أنّه طلّقها بذلك الطلاق، فلا ينبغي الإشكال في أنّه يقضي الحاكم بثبوت الانفصال و ترتّب آثار الطلاق الواقعي، فهكذا فيما نحن فيه.

لكنّ التحقيق مع ذلك: أنّه إنّما يصحّ فيما إذا كان المشهود عليه شاكّاً فيما يدّعي عليه الخصم؛ إذ حينئذٍ كانت شهادة الشاهدين من أهل ملّته حجّة عليه و طريقاً عنده، فيجب علينا أيضاً ترتيب آثار الطريق الواقعي عليها. و أمّا إذا كان منكراً له مظهراً للقطع بخلافه فحينئذٍ ليست شهادة الشهود طريقاً و حجّة عليه أيضاً؛ إذ لا ريب عند العقلاء أنّ حجّية الطرق مشروطة بعدم القطع بالخلاف، فإذا ادّعي القطع بالخلاف فليس شهادة الشهود طريقاً معتبراً عليه حتّي يجب علينا أيضاً ترتيب آثار الطريق المعتبر الواقعي عليه، و الفرض أنّ شهادتهم ليست حجّة و طريقاً معتبراً عند القاضي ابتداءً حتّي يرتّب الأثر عليها و إن لم تكن حجّة علي المشهود عليه، بل الحاكم هنا تابع للمشهود عليه و إنّما عليه أن يرتّب الآثار التي يثبت عليه بحسب اعتقاده.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 504

______________________________

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ القطع

بالخلاف في مؤدّي الأمارات إنّما يمنع عن اعتبارها إذا لم تكن الأمارة قائمة علي مورد مختلف فيه، و أمّا إذا قامت أمارة علي هذا المورد فهي أمارة متّبعة يستند إليها المدّعي لمؤدّاه علي خصمه و يثبت بها مدّعاه، كما أنّ الأمر كذلك في جميع البيّنات التي يستند إليها في باب القضاء. و العقلاء يرونها حينئذٍ حجّة، و الشرع قد أمضي طريقتهم. و عليه فحجّية شهادة واجد الشرائط عند أهل ملّة حجّة تامّة عندهم و يجب علي قاضي المسلمين أيضاً الحكم بها لهم و عليهم، و هذا هو الحقّ.

هذا كلّه إذا كان شهودهم واجدين للشرائط عندهم لا عند القاضي.

و أمّا إذا كان الشهود واجدين للشرائط المعتبرة عند القاضي فهناك تكفي حجّية شهادتهم عند القاضي و إن ادّعي المشهود عليه القطع بالخلاف؛ إذ الملاك حينئذٍ الثبوت عند القاضي لا الثبوت عند المشهود عليه و يتبعه القاضي، فإذا ثبت للقاضي بشهادة الشهود شي ء يحكم به مطلقاً، بخلافه فيما نحن فيه كما لا يخفي.

و بالجملة؛ فقاعدة الإلزام لا تفي بإثبات قبول شهادة أهل كلّ ملّة علي ملّتهم، هذا تمام الكلام في الوجه الأوّل.

الوجه الثاني: ما عن الفاضل المقداد في «التنقيح» فإنّه علي ما حكي قال بعد ما حكيناه عن الشيخ في «الخلاف»: و هذا في الحقيقة قضاء بالإقرار؛ لما تقدّم أنّه إذا أقرّ الخصم بعدالة الشاهدين حكم عليه.

و تقريبه: أنّ إقراره بعدالة الشاهدين يلزمه الإقرار بثبوت ما شهدا به

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 505

______________________________

في الشرع، و فيما نحن فيه اعتقاده بحجّية شهادة الشاهدين من أهل ملّته يلزمها الاعتراف بثبوت ما شهدا به عليه في شريعته، فهو مقرّ بثبوت ما يشهدان به عليه بحسب مذهبه، فيقرّ بأنّ

اللّٰه تعالي قد حكم عليه بما يشهد به الشاهدان، و إقرار العقلاء علي أنفسهم جائز؛ فلا بدّ و أن يحكم القاضي عليه بما أقرّ به.

و فيه أوّلًا: أنّ لازمه وجوب قضاء القاضي بشهادة فاسقين يعلم القاضي فسقهما إذا اعتقد الخصم عدالتهما و أقرّ بها، و هو ممّا لا يمكن الالتزام به. و إن شئت قلت كما في «الرياض» إنّ حكم الحاكم بشاهدين اعترف الخصم بعدالتهما إنّما هو حيث جهلها و لم يعلم بفسقهما، و إلّا فلو علم به لم يجز له الحكم و إن اعترف الخصم بعدالتهما، و ما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ الفرض علم الحاكم بفساد مذهبهما و إيجابه فسقهما، انتهي.

و لا أقلّ من أن يكون ما نحن فيه نظير العلم بفسقهما؛ إذ القاضي بمقتضي الأدلّة يعلم بعدم حجّية شهادتهما لكونهما كافرين، كما علم بعدم حجّية شهادة الفاسق لأنّه فاسق، و هذا الجواب شبيه بالنقض أو هو هو، فتدبّر.

و ثانياً: أنّ حجّية الإقرار مختصّة بما إذا تعلّق بمورد شخصي و شبهة موضوعية، و أمّا إذا تعلّق بأمر كلّي قانوني فليست حجّة عقلائية. و ما نحن فيه من قبيل الثاني؛ إذ إقراره بقبول شهادة أهل ملّته إنّما هو بمعني اعتقاده بهذا الأمر الكلّي الذي هو من أحكام دينه و قوانينه، و من البديهي عدم جريان قاعدة الإقرار في معتقدات أهل الأديان المختلفة، فنحن و إن قلنا

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 506

[الرابع: العدالة]

اشارة

الرابع: العدالة (18).

______________________________

بجواز حكم القاضي بشهادة شاهدين يقرّ الخصم بعدالتهما و لكن لما جاز القول بجوازه هنا؛ فإنّ الإقرار بالعدالة من قبيل الإقرار بالموضوع الجزئي بخلاف ما نحن فيه.

و ثالثاً: أنّ الملازمة بين الإقرار بقبول شهادة أهل ملّته و

الإقرار بحجّيتها عليه إنّما هي فيما إذا كان المشهود عليه شاكّاً في صدق المدّعي، و أمّا إذا كان قاطعاً في إنكاره و مظهراً لبطلان دعواه و كذبها فهو مع أنّه معتقد بحجّية قول أهل ملّته إلّا أنّه يري عدم قيمة لشهادتهم عليه في خصوص المورد؛ لأنّه معتقد و قاطع بالخلاف، و يصرّح بأنّ الأمر ليس كما يشهدون به؛ فليس لازم اعتقاده باعتبار شهادة الشهود من أهل ملّته أن يقرّ بثبوت ما شهدوا به عليه في هذه الموارد، و هي الغالبة في المرافعات كما لا يخفي.

و هذا الجواب كما تري جارٍ في الإقرار بالعدالة أيضاً، و تقدّم نظيره في الجواب عن الوجه الأوّل أيضاً، فتذكّر.

(18) ادّعيت علي اعتبارها دلالة الأدلّة الأربعة. و الحقّ أنّ الإجماع المدّعي يحتمل قوياً استناده إلي الكتاب أو السنّة، فلا حجّة فيه مستقلا قبالهما. و سيرة العقلاء التي هي حكم العقل هنا لا تقتضي أزيد من أن يكون الشاهد المخبر ثقة في إخباره و إن كان عاصياً للّٰه تعالي فاسقاً في سائر أعماله. فالعمدة هي الكتاب و السنّة.

و البحث عن أدلّة اشتراطها تارة عمّا تضمّنت منها عنوان العدالة،

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 507

______________________________

و أُخري عمّا دلّت علي عدم حجّية خبر الفاسق أو شهادته:

أمّا الكتاب: فعنوان العدالة إنّما وقع في الكتاب في آية الإشهاد علي الوصية من قوله تعالي يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهٰادَةُ بَيْنِكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنٰانِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ «1»، فدلّ علي اعتبار العدالة في شهادة شاهدي الوصية. و إضافة الشهادة إلي بينكم و جعلها مسنداً إليه و جعل قوله اثْنٰانِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ خبراً و مسنداً، ممّا تشعر قوياً إلي أنّ الشهادة المعتبرة

بين المسلمين ما كانت شهادة رجلين عدلين مطلقاً، لكنّ تقييدها بقوله إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ موجب لعدم انعقاد الإطلاق لها و عدم وصوله إلي حدّ الدلالة المعتبرة.

فالمتيقّن اعتبار العدالة في خصوص شاهدي الوصية، و إن كان فيه إشعار قوي باعتبارها في مطلق الشاهد.

و قال تعالي في سورة الطلاق فَإِذٰا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فٰارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ. «2» إلي آخر الآية.

و الظاهر: أنّ المراد به الإشهاد عند الطلاق، كما أُشير إليه في الأخبار المعتبرة و قد رواها في «الوسائل» في أبواب مقدّمات الطلاق فدلّت علي اعتبار العدالة في شاهدي الطلاق، كما صرّح به في الأخبار أيضاً كما سيأتي.

______________________________

(1) المائدة (5): 106.

(2) الطلاق (65): 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 508

______________________________

و أمّا السنّة: فطائفة منها دلّت علي اعتبار العدالة في بعض أصناف الشهود، و طائفة اخري علي اعتبارها في الشاهد علي بعض الموضوعات نظير ما عرفت في الآية و طائفة ثالثة علي اعتبارها في مطلق الشهود و مطلق الموارد:

فمن الطائفة الأُولي: صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام

قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلًا «1»

، و خبر جابر عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال

شهادة القابلة جائزة علي أنّه استهلّ أو برز ميّتاً إذا سئل عنها فعدّلت «2»

فإنّ تقييد جواز شهادة المملوك و القابلة بما إذا كانا عدلًا دليل واضح علي عدم قبول شهادتهما إذا لم يكونا عدلًا علي ما لا يخفي.

و من الطائفة الثانية: ما ورد في اعتبار العدالة في شاهد الهلال؛ ففي صحيح ابن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

كان رسول اللّٰه صلي الله عليه

و آله و سلم يجيز في الدين شهادة رجل واحد و يمين صاحب الدين، و لم يجز في الهلال إلّا شاهدي عدل «3»

، و في صحيح حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

لا تقبل شهادة النساء في رؤية الهلال، و لا يقبل في الهلال إلّا رجلان عدلان «4»

، و في صحيح داود بن الحصين عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام

لا تجوز

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 345، كتاب الشهادات، الباب 23، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 362، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 38.

(3) وسائل الشيعة 27: 264، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 1.

(4) وسائل الشيعة 27: 355، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 17.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 509

______________________________

شهادة النساء في الفطر إلّا شهادة رجلين عدلين. «1»

الحديث، فإنّ دلالتها علي اعتبار العدالة في شاهدي الهلال و الفطر واضحة.

و منها أيضاً ما ورد في اعتبار العدالة في شاهدي الطلاق؛ ففي صحيح داود بن الحصين عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام

إنّ اللّٰه أمر في الطلاق بشهادة رجلين عدلين.

إلي أن قال

و كان أمير المؤمنين عليه السلام يجيز شهادة المرأتين في النكاح عند الإنكار، و لا يجيز في الطلاق إلّا شاهدين عدلين. «2»

الحديث.

و في صحيح محمّد بن مسلم و زرارة و بكير و بريد و فضيل و إسماعيل الأزرق و معمّر بن يحيي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّٰه عليهما السلام في حديث

و إن طلّقها في استقبال عدّتها طاهراً من غير جماع و لم يشهد علي ذلك رجلين عدلين فليس طلاقه إيّاها بطلاق «3»

، إلي غير ذلك من الأخبار الدالّة علي اعتبار شاهدين عدلين في صحّة الطلاق.

و في خبر زيد بن علي

عن أبيه عن آبائه عليهم السلام

سئل رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم عن الساحر، فقال: إذا جاء رجلان عدلان فيشهدان عليه فقد حلّ دمه «4»

، بناءً علي ثبوت المفهوم، و هو مشكل بل ممنوع. و لعلّ المتتبّع يظفر بروايات

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 361، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 36.

(2) وسائل الشيعة 27: 360، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 35.

(3) وسائل الشيعة 22: 26، كتاب الطلاق، أبواب مقدماته و شرائطه، الباب 10، الحديث 3.

(4) وسائل الشيعة 27: 411، كتاب الشهادات، الباب 51، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 510

______________________________

أُخر من أخبار هذه الطائفة، فتتبّع.

و أمّا الطائفة الثالثة: فهي أيضاً أخبار:

فمنها: صحيحة عبد اللّٰه بن أبي يعفور المروية في «الوسائل» عن «الفقيه» قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: بِمَ تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتّي تقبل شهادته لهم و عليهم؟ فقال

أن تعرفوه بالستر و العفاف و كفّ البطن و الفرج و اليد و اللسان، و يعرف باجتناب الكبائر التي أوعد اللّٰه عليها النار من شرب الخمر و الزنا و الربا و عقوق الوالدين و الفرار من الزحف و غير ذلك. و الدلالة علي ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه حتّي يحرم علي المسلمين ما وراء ذلك من عثراته و عيوبه و تفتيش ما وراء ذلك، و يجب عليهم تزكيته و إظهار عدالته في الناس، و يكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهنّ و حفظ مواقيتهنّ بحضور جماعة من المسلمين، و أن لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلّاهم إلّا من علّة، فإذا كان كذلك لازماً لمصلّاه عند حضور الصلوات الخمس، فإذا سئل عنه في قبيلته و محلّته قالوا: ما

رأينا منه إلّا خيراً مواظباً علي الصلوات متعاهداً لأوقاتها في مصلّاه؛ فإنّ ذلك يجيز شهادته و عدالته بين المسلمين، و ذلك أنّ الصلاة ستر و كفّارة للذنوب، و ليس يمكن الشهادة علي الرجل بأنّه يصلّي إذا كان لا يحضر مصلّاه و يتعاهد جماعة المسلمين. «1»

الحديث.

بيان الدلالة: أنّ تفريع قبول شهادة الرجل علي معرفة عدالته في

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 391، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 511

______________________________

سؤال السائل فيه دلالة واضحة علي أنّ المرتكز في ذهنه اعتبار العدالة شرعاً في قبول شهادة الشاهد، و ارتكاز ذهن مثل هذا الثقة الجليل علي هذا المعني لا يكون إلّا إذا كان اشتراطها في الشاهد شرعاً، واضحاً؛ فلا مجازفة لو ادّعي دلالته علي اعتبارها شرعاً.

و مع الإغماض عنه فهو عليه السلام بعد ذكر ما به يتحقّق عدالة الرجل بقوله

أن تعرفوه.

إلي قوله

و غير ذلك

قد ذكر أمارة شرعية علي وجود العدالة؛ هي ما يعبّر عنه في كلمات الأصحاب بحسن الظاهر، و هو قوله عليه السلام

و الدلالة علي ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه

ثمّ ذكر كيفية الحصول علي وجود هذه الأمارة فيه بقوله عليه السلام

فإذا سئل عنه في قبيلته و محلّته قالوا: ما رأينا منه إلّا خيراً مواظباً علي الصلوات متعاهداً لأوقاتها في مصلّاه؛ فإنّ ذلك يجيز شهادته و عدالته بين المسلمين

فتفريع جواز شهادته علي وجود أمارة العدالة و إحرازها في كلامه عليه السلام فيه دلالة واضحة علي إمضاء ذلك الارتكاز، و أنّه في محلّه، و أنّ العدالة شرط في قبول شهادة الشاهد بحيث كان إحرازها من طريق العثور علي أمارتها موجباً لجواز شهادته و ترتّب سائر آثار عدالته بين المسلمين.

ثمّ إنّ حاصل المستفاد من

الصحيحة أنّ العدالة أمر واقعي؛ و هو كون الشخص ذا ستر و عفاف و كفّ البطن و الفرج و اليد و اللسان مجتنباً عن الكبائر كلّها، و علي هذا الأمر الواقعي، أمارة شرعية هي حسن الظاهر المذكور في الصحيحة.

و منه تعرف: أنّ العناوين الأُخر الواقعة في الأدلّة بتعابير مختلفة

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 512

______________________________

ليست إلّا اختلافاً في التعبير فقط، و إلّا فهي راجعة إمّا إلي ما يرادف أو يلازم ذلك الأمر الواقعي، و إمّا إلي ما يلازم الأمارة الشرعية؛ فلا معارضة و لا منافاة بينهما و بين الصحيحة أصلًا.

فمن اجتنب الكبائر و كفّ البطن و الفرج و الأعضاء عن المعصية و إذا سئل عنه في قبيلته و محلّته قالوا: لا نعلم منه إلّا خيراً فلا محالة يكون مرضياً عند المسلمين، فيكون مصداقاً لما في قوله تعالي وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدٰاءِ «1»، و لما في قوله عليه السلام في موثّقة السكوني

إنّ شهادة الأخ لأخيه تجوز إذا كان مرضياً و معه شاهد آخر «2»

، و لا محالة يكون من الصالحين و يعرف بالصلاح، فيكون مصداقاً لما في قول الصادق عليه السلام في خبر العلاء بن سيّابة قلت: فالمكاري و الجمّال و الملّاح؟ فقال

و ما بأس بهم، تقبل شهادتهم إذا كانوا صلحاء «3»

، و لما في قول الرضا عليه السلام في صحيح عبد اللّٰه بن المغيرة قال: قلت له: رجل طلّق امرأته و أشهد شاهدين ناصبيّين، قال

كلّ من ولد علي الفطرة و عرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته «4»

، و لا محالة يكون ظاهره مأموناً و يكون مصداقاً لما في مرسل يونس عن

الصادق عليه السلام

فإذا كان ظاهر الرجل ظاهراً مأموناً جازت شهادته،

______________________________

(1) البقرة (2): 282.

(2) وسائل الشيعة 27: 368، كتاب الشهادات، الباب 26، الحديث 5.

(3) وسائل الشيعة 27: 381، كتاب الشهادات، الباب 34، الحديث 1.

(4) وسائل الشيعة 27: 393، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 5 و 21.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 513

______________________________

و لا يسأل عن باطنه «1»

، و لا محالة فهو عفيف صائن ينطبق عليه قول أبي عبد اللّٰه عليه السلام في موثّق أبي بصير

لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفاً صائناً «2»

، و لا محالة يكون خيراً و يعلم منه خير، فينطبق عليه قول الصادق عليه السلام في صحيح عمّار بن مروان في الرجل يشهد لابنه و الابن لأبيه و الرجل لامرأته فقال

لا بأس بذلك، إذا كان خيراً جازت شهادته لأبيه و الأب لابنه و الأخ لأخيه «3»

، و قول أبي جعفر الباقر عليه السلام في صحيح محمّد بن مسلم

لو كان الأمر إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس. «4»

الحديث، و قوله أيضاً في صحيحه الأُخري: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الذمّي و العبد يشهدان علي شهادة ثمّ يسلم الذمّي و يعتق العبد، أ تجوز شهادتهما علي ما كانا اشهدا عليه؟ قال

نعم، إذا علم منهما بعد ذلك خير جازت شهادتهما «5».

و إذا كان الشاهد امرأة و اعتبر فيها ما استفيد من الصحيحة فلا محالة ينطبق عليها ما في خبر عبد الكريم بن أبي يعفور عن أبي جعفر عليه السلام قال

تقبل شهادة المرأة و النسوة إذا كنّ مستورات من أهل البيوتات،

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 392، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة 27: 395،

كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 10.

(3) وسائل الشيعة 27: 367، كتاب الشهادات، الباب 26، الحديث 2.

(4) وسائل الشيعة 27: 268، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 12.

(5) وسائل الشيعة 27: 387، كتاب الشهادات، الباب 39، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 514

______________________________

معروفات بالستر و العفاف، مطيعات للأزواج، تاركات للبذاء و التبرّج إلي الرجال في أنديتهم «1».

فحاصل الكلام: أنّ ما دلّت عليه الصحيحة لا تنافيه هذه الأدلّة كما عرفت، و المستفاد منها أنّ العدالة شرط جواز شهادة الشاهد، و حسن الظاهر أمارة شرعية و طريق إليها.

و من أخبار هذه الطائفة: مرسلة يونس المضمرة قال

استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل و امرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجل و يمين المدّعي، فإن لم يكن شاهد فاليمين علي المدّعي عليه. «2»

الحديث، و هي تدلّ بالصراحة علي اعتبار العدالة في الرجلين، و ظاهرها اعتبارها في مطلق الشاهد، و إنّما التفاوت بكونه رجلين أو رجلًا و امرأتين أو رجلًا واحداً مع يمين الخصم، و هي و إن وردت في خصوص ما إذا أُريد استخراج الحقّ بإقامة الشاهد لكنّه لا يبعد دعوي أنّ المفهوم منه عرفاً اعتبار صفة العدالة في مطلق الشاهد؛ و لذا قال

فإن لم يكن شاهد.

إلي آخره، فتدبّر.

و منها: ما عن التفسير المنسوب إلي الإمام عليه السلام

إنّ رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم قال في ذيل قوله تعالي وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ ليكونوا من المسلمين منكم؛ فإنّ اللّٰه إنّما شرّف المسلمين العدول بقبول شهادتهم

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 398، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 20.

(2) وسائل الشيعة 27: 241، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7،

الحديث 4.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 515

______________________________

و جعل ذلك من الشرف العاجل لهم و من ثواب دنياهم «1»

، و دلالة قوله

فإنّ اللّٰه.

إلي آخره علي اعتبار الإسلام و العدالة في قبول شهادة الشاهد واضحة، و إن كان سندها في كمال الضعف.

و منها: خبر علقمة عن الصادق عليه السلام قال: قلت له: يا ابن رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم أخبرني عمّن تقبل شهادته و من لا تقبل؟ فقال

يا علقمة! كلّ من كان علي فطرة الإسلام جازت شهادته.

قال: فقلت له: تقبل شهادة مقترف بالذنوب؟ فقال

يا علقمة! لو لم تقبل شهادة المقترفين للذنوب لما قبلت إلّا شهادة الأنبياء و الأوصياء عليهم السلام؛ لأنّهم المعصومون دون سائر الخلق، فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة و الستر و شهادته مقبولة، و إن كان في نفسه مذنباً. «2»

الحديث.

وجه الدلالة: أنّه عليه السلام و إن حكم أوّلًا بقبول شهادة كلّ من كان علي فطرة الإسلام، و ربّما يتوهّم منه مقبولية شهادة جميع المسلمين، إلّا أنّ قوله عليه السلام في مقام تبيين هذا المطلب

فمن لم تره.

إلي آخره يوجب تقييد المسلم بكونه لم ير منه ذنب و لم يشهد عليه شاهدان بأنّه يذنب؛ فإمّا أن يراد بالكون علي فطرة الإسلام هذا المعني، و إمّا أن يشترط زيادة علي كونه علي الفطرة أن لا يري منه ذنب.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 399، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 22.

(2) وسائل الشيعة 27: 395، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 13.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 516

______________________________

و كيف كان: فالحكم علي مثله بأنّه من أهل العدالة و الستر دليل واضح علي

أنّ المعيار في قبول الشهادة أن يكون الشاهد من أهل العدالة و الستر، و إنّما جعل عدم رؤية الذنب و عدم قيام الشاهد علي صدوره عنه أمارة و طريقاً إلي الاتّصاف بالعدالة.

و حينئذٍ فقوله عليه السلام

و شهادته مقبولة، و إن كان في نفسه مذنباً

يراد به أنّه بعد إحراز عدالته يرتّب عليه آثارها، و لا يصغي و لا يلتفت إلي احتمال أن يكون مذنباً في الواقع، و إلّا فإن علم بأنّه أذنب لما كان من أهل العدالة و لما قبلت شهادته. فيكون هذا الخبر أيضاً من أدلّة اعتبار صفة العدالة في الشاهد، لكنّه ضعيف السند أيضاً.

و كيف كان: ففي صحيحة ابن أبي يعفور لإثبات اشتراط العدالة في مطلق الشاهد كفاية، مع أنّها متضمّنة لتفسير حقيقتها و بيان الأمارة الشرعية عليها و غير ذلك، و إليها يرجع سائر أخبار الباب ممّا مرّت إليه الإشارة.

فالحاصل: أنّ دلالة صحيحة ابن أبي يعفور علي اشتراط العدالة في مطلق الشاهد واضحة، و الأخبار و الأدلّة الواردة في الموارد الخاصّة لها معاضدة، و مرسل يونس و رواية التفسير و خبر علقمة أيضاً متّحدة المضمون لها و مؤكّدة لمفادها.

إلّا أنّه قد يقال كما في «مباني تكملة المنهاج» بأنّه يستفاد من بعض الروايات عدم اعتبار العدالة في الشاهد، و نفوذ شهادة المسلم و إن كان فاسقاً كصحيحة حريز عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في أربعة شهدوا علي رجل

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 517

______________________________

محصن بالزنا فعدل منهم اثنان و لم يعدل الآخران، فقال

إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور أُجيزت شهادتهم جميعاً و أُقيم الحدّ علي الذي شهدوا عليه، إنّما عليهم أن يشهدوا بما أبصروا و علموا. و علي

الوالي أن يجيز شهادتهم إلّا أن يكونوا معروفين بالفسق «1».

و يقال في الجواب أيضاً: لكن هذه الصحيحة شاذّة و غير قابلة لمعارضة الروايات التي تقدّمت جملة منها. علي أنّها مطلقة فتقيّد بالروايات الآنفة الذكر، انتهي.

و مراده دام عمره بالروايات المتقدّمة هي ما تدلّ علي اعتبار شرط العدالة و علي قبول قول العادل و شهادته، و قد مرّ ذكر أكثرها.

أقول: إنّ مفاد الصحيحة كما تري أزيد من اعتبار شهادة كلّ مسلم ليس معروفاً بالفسق، و هذا و إن أمكن أن يقال: بأنّ مقتضي إطلاقه اعتبار شهادته و إن كان فاسقاً واقعاً و عليه مبني الاستفادة المذكورة إلّا أنّه لا يبعد أن يدّعي أنّ ملاحظة مثل صحيحة ابن أبي يعفور معها الدالّة علي اشتراط العدالة في الشاهد المسلم، و علي أنّ حسن الظاهر أمارة عليها تهدي إلي أنّ مفاد هذه الصحيحة بيان أصل عملي؛ و هو أنّ كلّ مسلم بحث عن عدالته و لم يعدّل و لم يعرف بالفسق فهو مقبول الشهادة؛ و ذلك أنّ مورد سؤال هذه الصحيحة أنّه قد فحص عن عدالة الشهود و لم يعدّل اثنان منهم، و جوابه عليه السلام أيضاً ناظر إليهم، و الضمير راجع إليهم.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 397، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 18.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 518

______________________________

فلا محالة يكون مدلولها ما ذكرناه من مقبولية شهادة كلّ مسلم فحص عن عدالته و لم يعرف بالفسق، فنفس هذا الفحص أمارة علي أنّه عليه السلام يعتبر واقع العدالة و الفسق؛ و لذلك يفحص عنهما. لكنّه إذا فحص و لم يعرف بالفسق فعلي الحاكم و الوالي أن يجيز شهادته.

فالمتحصّل من مجموع الأخبار: أنّ العدالة شرط في قبول الشهادة، و

حسن الظاهر أمارة و طريق إلي وجودها، و إذا فحص و لم يظفر بها و لو من طريق حسن الظاهر و لا بخلافها فالأصل العملي هو ترتّب آثارها. و هذا كما أنّ الطهارة شرط في ماء الوضوء و البيّنة و قول ذي اليد مثلًا طريق إلي إحرازها، و مع عدم إحرازها بطريق معتبر فأصالة الطهارة أصل عملي يقتضي ترتّب آثارها، فكما أنّ أصالة الطهارة لا تعارض اشتراطها في ماء الوضوء و الغسل فكذلك قبول الشهادة هنا، نعم موضوع أصالة الطهارة مطلق الجهل و موضوع أصالة قبول الشهادة هو الجهل الثابت بعد الفحص.

و ممّا ذكرنا تعرف: أنّ القول بقبول شهادة هذا المسلم ليس مآله إلي أنّ حقيقة العدالة هي ظهور الإسلام مع عدم ظهور الفسق كما أوّل به صاحب «الرياض» قول الشيخ المفيد و شيخ الطائفة 0 بالقبول بل القول به يجتمع مع تفسير العدالة بالملكة أيضاً، كما لا يخفي.

و لعلّ انفهام دلالتها علي عدم اشتراط العدالة كما في «مباني التكملة» أو انفهام دلالتها علي أنّ حقيقة العدالة هي ظاهر الإسلام و عدم ظهور الفسق كما في «الرياض» أوجب عدّ الصحيحة شاذّة معرضاً عنها؛ لذهاب الكلّ علي اشتراط عدالة الشاهد، و كون المعروف بين العلماء

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 519

______________________________

و الظاهر من صحيحة ابن أبي يعفور أنّ العدالة ملكة نفسانية، و إلّا فلو فسّرت الصحيحة كما فسّرناه لما كانت منافية لمذهب المعروف و لا الكلّ.

ثمّ إنّ الصحيحة كما عرفت إنّما تدلّ علي ثبوت الأصل المذكور بعد الفحص و التفتيش، كما هو ظاهر العبارة المنقولة عن الشيخ المفيد قدس سره حيث قال: و إذا شهد عند الحاكم من لا يخبر حاله و لم تقدّم

معرفته به و كان الشاهد علي ظاهر العدالة تقدم يكتب شهادته ثمّ ختم عليها، و لم ينفذ الحكم بها حتّي يستثبت أمره و يتعرّف أحواله من جيرانه و معامليه، و لا يؤخّر ذلك. فإن عرف له ما يوجب جرحه أو التوقّف في شهادته لم يمض الحكم بها، و إن لم يعرف شيئاً ينافي عدالته و إيجاب الحكم بها أنفذ الحكم و لم يتوقّف، انتهي.

و ليس مفاد الصحيحة قبول شهادة مجهول الحال و عدم وجوب الفحص و التفتيش كما هو صريح مذهب الشيخ في «الخلاف» حيث قال قدس سره في كتاب آداب القضاء (مسألة 10): إذا شهد عند الحاكم شاهدان يعرف إسلامهما و لا يعرف فيهما جرح حكم بشهادتهما، و لا يقف علي البحث إلّا أن يجرح المحكوم عليه. إلي أن قال: دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم، و أيضاً الأصل في الإسلام العدالة و الفسق طارئ عليه يحتاج إلي دليل، و أيضاً نحن نعلم أنّه ما كان البحث في أيّام النبي صلي الله عليه و آله و سلم و لا أيّام الصحابة و لا أيّام التابعين، و إنّما هو شي ء أحدثه شريك بن عبد اللّٰه القاضي، فلو كان شرطاً ما أجمع أهل الأعصار (الأمصار خ. ل) علي تركه، انتهي.

و هو كما تري صريح في عدم إيجاب الفحص و أنّه شي ء أحدثه

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 520

______________________________

شريك بن عبد اللّٰه، و هو خلاف ما أفاده المفيد قدس سره و خلاف ما عن تفسير الإمام عليه السلام من كيفية قضاء النبي صلي الله عليه و آله و سلم، و أنّه إذا كان لا يعرف الشهود يبعث من يسأل عنهما فيعمل بمقتضي الفحص، فراجع «الوسائل» الباب

السادس من أبواب كيفية الحكم.

و بالجملة: فقد تبيّن اختلاف مسلك الشيخ، و المفيد و أنّ مذهبهما لا ينافي اشتراط العدالة في الشاهد و لا تفسير العدالة بالملكة. و بالتأمّل فيما ذكرناه تعرف الخلط الكثير الواقع في كتب كثير من أعاظم الأصحاب قدس سرهم و شكر اللّٰه سعيهم.

ثمّ إنّه قد يعدّ من معارضات أخبار اشتراط العدالة معتبرة العلاء بن سيّابة قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن شهادة من يلعب بالحمّام، قال

لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق. «1»

الحديث، بمثل البيان الذي مرّ ذكره ذيل صحيحة حريز من أنّ عدم عرفانه بالفسق يجتمع مع كونه فاسقاً، فلا يشترط العدالة في مقبولية الشهادة.

و لكن الحقّ: أنّ الظاهر منه أنّ مجرّد اللعب بالحمام غير مضرّ، فيقبل شهادة اللاعب به إذا لم يعرف منه فسق، فإذا كان الرجل بحيث لا يعرف منه أيّ فسق فلا محالة يكون ظاهر الصلاح خيراً مأموناً و يكون فيه أمارة العدالة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 394، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 6، و الباب 54، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 521

______________________________

و السرّ في هذا الظهور وقوع النكرة هنا تلو أداة النفي، بخلاف صحيحة حريز؛ إذ فيها مضافاً إلي تصديرها بقول السائل و لم يعدّل قد عبّر الإمام عليه السلام بعبارة

و لم يكونوا معروفين بالفسق

فكان ظاهرها ما ذكرناه.

فقد ظهر بحمد اللّٰه تعالي دلالة الأدلّة علي اشتراط العدالة في الشاهد و لم يعارضه شي ء من الأخبار. هذا كلّه في الطائفة الأُولي الواردة علي عنوان العدالة.

و أمّا الكلام عن الأدلّة الواقعة علي عنوان الفسق: فقد قال اللّٰه تبارك و تعالي يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ

فَتُصْبِحُوا عَليٰ مٰا فَعَلْتُمْ نٰادِمِينَ «1» فأمره تعالي بالتبيّن و التحقيق عن مفاد خبر الفاسق عبارة أُخري عن عدم الاعتناء بإخباره في الكشف عن الواقع و عدم كونه حجّة عليه.

و في صحيح عبيد اللّٰه بن علي الحلبي قال: سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام عمّا يردّ من الشهود، فقال

الظنين و المتّهم و الخصم.

قال: قلت: فالفاسق و الخائن؟ فقال

هذا يدخل في الظنين «2»

، و نحوه صحيح عبد اللّٰه بن سنان و سليمان بن خالد و أبي بصير «3»، فراجع.

و الظاهر: أنّ المراد بالظنين من يظنّ به ظنّ السوء، و يحتمل فيه احتمالًا

______________________________

(1) الحجرات (49): 6.

(2) وسائل الشيعة 27: 374، كتاب الشهادات، الباب 30، الحديث 5.

(3) وسائل الشيعة 27: 373، كتاب الشهادات، الباب 30، الحديث 1 و 2 و 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 522

و هي الملكة الرادعة عن معصية اللّٰه تعالي (19)،

______________________________

قوياً عقلائياً عدم مراعاة الحقّ؛ و لذلك فقد فسّره اللغة بالمتّهم، و الفاسق إنّما يدخل في الظنين بملاحظة أنّه إذا كان فاسقاً لا يراعي حدود اللّٰه فإن يكذب في شهادته لبعض الدواعي النفسانية كان قريباً جدّاً؛ فإنّ من ارتكب المعصية و خرج عن طاعة اللّٰه تعالي فليس قابلًا للاعتماد عليه؛ إذ لا رادع له عن معصية اللّٰه، فكما عصي اللّٰه في الموارد الأُخر فلعلّه يعصي اللّٰه في شهادته، فكان ظنيناً فلا يقبل شهادته.

و كيف كان: فلا ريب في عدم حجّية شهادة الفاسق، لكن الكلام في مساوقته لمطلق من لم يتّصف بالعدالة؛ إذ قد فسّر الفسق بالخروج عن طاعة اللّٰه، و لا يبعد استظهار الثبوت و الاستمرار من عنوان المشتقّ؛ فالفاسق من كان في طبعه عدم المبالاة بأوامر اللّٰه تعالي و نواهيه، و

لعلّه لا يعمّ من كان ارتكابه للمعصية قليلًا نادراً، فهو مع أنّه ليس بعادل لا يصدق عليه الفاسق أيضاً. و لذلك كان الاستدلال بهذه الطائفة من الأدلّة لإثبات اشتراط عنوان العدالة في الشاهد في غاية الإشكال، إلّا أنّ في الطائفة السابقة منها غني و كفاية، و الحمد للّٰه.

(19) الملكة هي حالة و كيفية نفسانية راسخة في النفس تبعث النفس علي ما يناسب هذه الملكة، و توصيفها بقوله «الرادعة.» إلي آخره و إن لم يكن له ظهور في الردع الفعلي المطلق، بل هو ظاهر في بيان ما يقتضيه هذه الملكة قبال سائر الملكات الأُخر، و من الواضح أنّه ليس اقتضاء فعلياً

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 523

______________________________

مطلقاً و في جميع الموارد، إلّا أنّ تفريع عدم قبول شهادة الفاسق عليه و تفسيره بمن ارتكب معصية و لو كانت صغيرة دليل علي أنّ مراده الردع الفعلي المطلق، فهي الملكة الموجبة للاجتناب الفعلي المساوقة للاجتناب عن ملكة.

و كيف كان: فالعدالة و إن اقتضت بحسب اللغة معني المساواة، و العدل في اللغة و إن كان كما عن «المبسوط» أن يكون الإنسان متعادل الأحوال متساوياً، إلّا أنّها كما في «شرح الإرشاد» في بحث صلاة الجمعة تعريفها بين علماء العامّة و الخاصّة في الأُصول و الفروع مشهور بأنّها ملكة راسخة في النفس علي ملازمة التقوي و المروّة، و قال في بحث الشهادات بعد تعريفها عن المشهور بالملكة: و ضمّ في البعض المروّة أيضاً.

و عمدة الدليل و أوضحه في تعريفها صحيحة ابن أبي يعفور؛ فإنّه قد سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام فقال: بِمَ تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتّي تقبل شهادته لهم و عليهم؟ فقال

أن تعرفوه بالستر و العفاف و

كفّ البطن و الفرج و اليد و اللسان و يعرف باجتناب الكبائر التي أوعد اللّٰه عليها النار. «1»

الحديث، فقوله عليه السلام

أن تعرفوه بالستر و العفاف و كفّ البطن.

إلي آخره ظاهره أن يكون مستمرّاً علي هذه المعاني، و لا يحصل الاستمرار عليها إلّا أن يكون له ملكة راسخة نفسانية تمنعها عن ارتكاب جميع أنواع المعاصي، فلا محالة يشترط في العدالة حصول هذه الملكة

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 391، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 524

فلا تقبل شهادة الفاسق؛ و هو المرتكب للكبيرة أو المصرّ علي الصغيرة، بل المرتكب للصغيرة علي الأحوط إن لم يكن الأقوي (20)،

______________________________

النفسانية و الاستمرار العملي علي مقتضاها، و هو مساوق لما عن المشهور بالنسبة إلي ملازمة التقوي.

و أمّا الاجتناب عن منافيات المروّة إذا لم يكن شرط حصول التقوي فلا دلالة في الصحيحة علي اعتباره، بل مقتضي إطلاقها أنّ من عرف بالاستمرار علي هذه الصفات فهو عادل و إن كان مرتكباً لما ينافي المروّة أيضاً.

فالحاصل: أنّ الصحيحة دليل واضح علي ما في المتن يثبت بها اعتبار معني الملكة و الاستمرار علي مقتضاها، كما استظهرناه من المتن أيضاً.

ثمّ إنّ العناوين الأُخر المأخوذة في الأخبار التي مرّت و عرفتها من قبيل المرضي و الصالح و من عرف بالصلاح في نفسه و العفيف الصائن و الخير و المستورات المعروفات بالعفاف أيضاً تدلّ بالملازمة علي اعتبار تحقّق الملكة في حصول الوصف المعتبر في قبول الشهادة الذي كان هو العدالة، فتذكّر.

(20) إنّ الظاهر من كلامه دام ظلّه تسلّم انقسام المعاصي إلي صغيرة و كبيرة، و أنّ اجتناب الصغيرة أيضاً كاجتناب الكبيرة معتبر علي الأحوط لو لم يكن أقوي في حقيقة العدالة.

أمّا انقسام

المعاصي إلي صغيرة و كبيرة فقال في «المسالك» هنا: قد

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 525

______________________________

اختلف الأصحاب و غيرهم في ذلك؛ فذهب جماعة منهم المفيد و ابن البرّاج و أبو الصلاح و ابن إدريس و الطبرسي صاحب «مجمع البيان» بل نسبه في التفسير إلي أصحابنا مطلقاً إلي أنّها كلّها كبائر؛ نظراً إلي اشتراكها في مخالفة أمره تعالي و نهيه، و جعلوا الوصف بالكبر و الصغر إضافياً؛ فالقُبلة المحرّمة صغيرة بالنسبة إلي الزنا و كبيرة بالنسبة إلي النظر. إلي أن قال: و ذهب المصنّف و هو المحقّق و أكثر المتأخّرين إلي الثاني؛ و هو أنّها تنقسم إلي كبائر و صغائر، انتهي.

و الحقّ: ما ذهب إليه المتأخّرون كما هو ظاهر المتن؛ إذ الذنوب و إن كان كلّها كبيرة باللحاظ الذي ذكروه، و قد ورد في موثّقة زرارة عن الباقر عليه السلام أنّه قال

الذنوب كلّها شديدة، و أشدّها ما نبت عليه اللحم و الدم؛ لأنّه إمّا مرحوم أو معذّب، و الجنّة لا يدخلها إلّا طيّب «1»

، و في صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث القنوت في الوتر

و استغفر لذنبك العظيم

، ثمّ قال

كلّ ذنب عظيم «2».

كما أنّ الوصف بالصغر و الكبر أيضاً صحيح علي ما ذكروه، و يشير إليه إجمالًا قوله عليه السلام في موثّقة زرارة

و أشدّها

، إلّا أنّه لا ريب أيضاً في أنّ للشرع في الكتاب و السنّة اصطلاحاً آخر تنقسم فيه المعاصي إلي صغيرة و كبيرة، و لكلّ منهما أثر شرعاً و خاصّة:

______________________________

(1) وسائل الشيعة 15: 299، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 40، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة 15: 322، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 46، الحديث 5.

مباني تحرير الوسيلة

- القضاء و الشهادات، ص: 526

______________________________

أمّا الكتاب: فإنّ ظاهر قوله تعالي إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً «1» أنّ فيما نهي اللّٰه عنه، كبائر إن اجتنب عنها المكلّف، كفّر اللّٰه عنه سيّئاته الأُخر.

كما أنّ صريح صحيحة ابن أبي عمير أيضاً ذلك؛ قال: سمعت موسي بن جعفر عليه السلام يقول

من اجتنب الكبائر من المؤمنين لم يسأل عن الصغائر، قال اللّٰه تعالي إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً. «2»

الحديث.

و في صحيح ابن محبوب قال: كتب معي بعض أصحابنا إلي أبي الحسن عليه السلام يسأله عن الكبائر كم هي و ما هي؟ فكتب

الكبائر من اجتنب ما وعد اللّٰه عليه النار، كفّر عنه سيّئاته إذا كان مؤمناً. «3»

الحديث، إلي غير ذلك من الأخبار الدالّة منطوقاً أو مفهوماً علي هذا التقسيم.

و بالجملة: فلا ينبغي الريب في انقسام الذنوب إلي هذين القسمين بحسب اصطلاح الشرع و في ترتّب أثر خاصّ و حكم مخصوص علي كلّ منهما، و الكلام في حدود تفسير الكبيرة و تعدادها موكول إلي محلّ آخر، هذا بالنسبة إلي أصل انقسام المعاصي إلي القسمين.

______________________________

(1) النساء (4): 31.

(2) وسائل الشيعة 15: 335، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 47، الحديث 11.

(3) وسائل الشيعة 15: 318، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 46، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 527

______________________________

و أمّا الدليل علي اعتبار الاجتناب عن الصغائر كالكبائر في حقيقة العدالة فهو استظهار ذلك من الأخبار:

فمن هذه الأخبار صحيحة ابن أبي يعفور، و بيان دلالتها أنّ الراوي قد سأل عمّا يعرف به كون الشخص عادلًا، و هذا السؤال و إن كان يجتمع مع العلم

بحقيقة العدالة و كون السؤال عن خصوص الطريق إليها كما يجتمع مع الجهل بحقيقتها، إلّا أنّ قوله عليه السلام في الجواب

أن تعرفوه بالستر و العفاف و كفّ البطن و الفرج و اليد و اللسان

ظاهر في اعتبار إحراز هذه الصفات و وجودها فيه حتّي يكون عادلًا، و الستر و العفاف و الكفّ مطلق بالنسبة إلي جميع المعاصي المتعلّقة بها؛ سواء كانت كبيرة أم صغيرة، فيكفّ لسانه عن إهانة ولي اللّٰه و هي معصية كبيرة، و عن السلام علي الكافر و هي صغيرة، و هكذا.

و لا ينافي هذا الإطلاق قوله عليه السلام بعده بلا فصل

و يعرف باجتناب الكبائر التي أوعد اللّٰه عليها النار.

إلي آخره؛ و ذلك أنّ الظاهر أنّه من قبيل التوضيح و التتميم لما ذكره قبله؛ فإنّه إن كان «يعرف» بصيغة الغائب، كما في «الوسائل»، فهو عطف علي قوله «تعرفوه» و يكون بالعطف مدخول «أن» الناصبة، و لا محالة يرجع الضمير إلي الرجل و يكون من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ. و إن كان «تعرف» بالتاء و بصيغة الغائبة فالظاهر أنّ الضمير راجع إلي العدالة، و الجملة بحسب التركيب الأدبي ابتدائية.

إلّا أنّ الأظهر: أنّها بحسب المعني متّحدة مع نسخة الغائب؛ فإنّ احتمال أن يكون اجتناب الكبائر طريقاً شرعياً إلي العدالة خلاف ظاهر

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 528

______________________________

قوله

و الدليل علي ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه

؛ فإنّ لفظة «كلّه» كالصريح في أنّ ستر العيوب طريق إلي أنّه عفيف يكفّ أعضاءه عن المعاصي و يجتنب الكبائر منها كغيرها.

و لا يناسبه أنّ ستر العيوب طريق مع ذلك إلي الاجتناب عن الكبائر، و الاجتناب عنها طريق إلي الكفّ و العفّة. كما أنّ احتمال أنّ قوله

و تعرف

باجتناب الكبائر

عدول أو تقييد لما أفاده بنحو الإطلاق أوّلًا بقوله

أن تعرفوه بالستر و العفاف.

إلي آخره، خلاف الظاهر جدّاً.

فالحاصل: أنّ قوله

أن تعرفوه بالستر و العفاف و كفّ البطن و الفرج و اليد و اللسان

ظاهر في الإطلاق و يناسبه عموم العيوب في قوله

و الدليل علي ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه

، و لا قرينة علي خلاف إطلاقه في شي ء من فقرأت الصحيحة عند العرف أصلًا.

و يؤيّد الصحيحة قوله عليه السلام في خبر علقمة

فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً و لم يشهد عليه شاهدان فهو من أهل العدالة و الستر. «1»

إلي آخره؛ فإنّ لفظة «ذنباً» و هي نكرة تلو النفي ظاهرة في مطلق الذنب صغيراً أو كبيراً و مفهومه: أنّ من رأيته ارتكب ذنباً و لو صغيراً فليس من أهل العدالة، و هو لا يتمّ إلّا بأخذ الاجتناب عن الصغائر أيضاً في حقيقة العدالة.

إن قلت: إنّ مقتضي تكفير الصغائر باجتناب الكبائر كما هو ظاهر الكتاب و صريح السنّة هو دوران العدالة مدار خصوص اجتناب الكبائر،

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 395، كتاب الشهادات، الحديث 13.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 529

______________________________

لا لمجرّد دعوي أنّ الظاهر أنّ الضائر بالعدالة هو البعد الحاصل من المعصية عن المولي، و هو لا يحصل بالصغيرة مع تكفيرها، حتّي يجاب بمنع الظهور استناداً إلي أنّ ظاهر الصحيحة اعتبار الاستقامة الفعلية و عدم ارتكاب شي ء من المعاصي في حقيقة العدالة و إن لم توجب بعداً فعلياً. بل لدعوي أنّ التكفير بحسب اللغة هو التغطية و جعل الشي ء مستوراً، و قد وعد اللّٰه تعالي تكفير السيّئات إذا اجتنب الكبائر، و التكفير المطلق أن يكون الشي ء مستوراً بجميع لوازمه و آثاره، و إلّا فإن ظهر منه

أثرٌ ما فلم يكن مستوراً هناك. فإطلاق التكفير إنّما هو بأن لا يمنع ارتكاب الصغيرة عن قبول الشهادة، و إلّا كانت الصغيرة هاهنا ظاهرة غير مستورة و لا مكفّرة.

قلت: ظاهر تكفير السيّئة أن لا يترتّب عليه المؤاخذة المترتّبة عليها و العقاب الموعود بها، و إلّا فلا ينافي أن لا يكون شي ء معصية أصلًا، و يعتبر عدمه في قبول الشهادة، كما أنّ طيب المولد شرط القبول و الرجولية أيضاً شرط في بعض الموارد، و التولّد من الزنا ليس معصية لولد الزنا، و كونها مرأة ليس عصياناً للمرأة، فهكذا صفة العدالة قوامها بعدم الانحراف عن جادّة الشرع، و حقيقتها عدم ارتكاب شي ء من المعاصي عن ملكة إلّا إذا تاب بعد الارتكاب. فمن ارتكب معصية و لو صغيرة فلا محالة ليس بعادل بالمعني المذكور؛ فلا تقبل شهادته و إن كان ذنبه هذا مكفّراً مغفوراً.

لكن مع ذلك كلّه: فلاحتمال أنّ حقيقة العدالة الاجتناب عن المعصية غير المكفّرة أو احتمال عدم الإطلاق في صدر الصحيحة، لعلّه دام ظلّه عبّر بقوله: «علي الأحوط إن لم يكن الأقوي». و الحقّ ما عرفت.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 530

فلا تقبل شهادة مرتكب الصغيرة (21)،

______________________________

(21) قد يستشكل في زوال العدالة بمجرّد ارتكاب المعصية و لو كانت كبيرة فضلًا عن الصغيرة بأنّ حقيقة العدالة ملكة نفسانية و كلّ ملكة فهي من قبيل المقتضي؛ فصدور خلافها عن المتّصف بها لا ينافي وجودها، فارتكاب الكبيرة أحياناً عمّن له ملكة العدالة لا ينافي اتّصافه بالعدالة و لا يوجب زوالها.

و الحقّ: أنّ الأمر بالنسبة إلي بقاء الملكة في النفس و إن كان كما ذكر إلّا أنّ الظاهر من صحيحة ابن أبي يعفور اعتبار الاستمرار العملي علي الستر

و العفاف و الكفّ في الاتّصاف بالعدالة، فمن لم يعفّ أو لم يكفّ بطنه أو يده أو فرجه أو لسانه و لو في مورد واحد فليس مشمول الصحيحة و لا محكوماً عليه بقبول الشهادة و لا بالعدالة. فالعدالة لا تتحقّق إلّا باجتناب المعاصي عن ملكة، و مرتكب المعصية ليس بعادل و إن كان به ملكة العدالة.

مضافاً إلي دلالة بعض آخر من الأخبار علي عدم قبول شهادة مرتكب المعصية، و لازمه أنّه و إن كان عادلًا إلّا أنّه محكوم بعدم قبول الشهادة، فهو ليس بعادل حكماً.

ففي معتبرة العلاء بن سيّابة قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن شهادة من يلعب بالحمام، قال

لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق. «1»

الحديث، فإنّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 413، كتاب الشهادات، الباب 54، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 531

إلّا مع التوبة و ظهور العدالة (22).

______________________________

تقييد قبول شهادته بما إذا لم يعرف بفسق، مفهومُه أنّ شهادته غير مقبولة إذا انتفي القيد، و حيث إنّ الفسق هو الخروج عن طاعة اللّٰه و مجرور الباء نكرة واقعة تلو النفي فهو ظاهر في الإطلاق، فالقيد هو أن لا يعرف منه أيّ فرد من الفسق، فإذا ارتكب معصية و لو صغيرة و خرج بها عن طاعة اللّٰه فقد عرف منه فسق و انتفي القيد؛ فلا محالة لا تكون شهادته مقبولة و إن كان عادلًا.

و نحو هذه المعتبرة الأخبار الواردة في قبول شهادة مرتكب المعصية بعد التوبة؛ فإنّ مفهومها عدم قبولها قبلها، فارتقب.

(22) بعد ما عرفت من دلالة صحيحة ابن أبي يعفور علي تقوّم العدالة بعدم ارتكاب المعصية فمع ارتكابها يخرج عن العدالة، فمقتضاها أنّه لا تقبل شهادته حتّي مع التوبة إلّا

إذا مضي عليه زمان يستمرّ فيه علي اجتناب المعاصي و يصدق عليه أنّه عادل بالمعني المأخوذ في الصحيحة، فقبول شهادته بمجرّد التوبة قبل مضي الزمان المذكور محتاج إلي الدليل.

و ما يمكن الاستدلال له به أخبار:

منها: موثّقة السكوني عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

قال أمير المؤمنين عليه السلام: ليس يصيب أحد حدّا فيقام عليه ثمّ يتوب إلّا جازت شهادته «1»

، و دلالتها علي قبول شهادة التائب عن المعصية الكبيرة الموجبة

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 384، كتاب الشهادات، الباب 36، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 532

[مسألة 1 لا تقبل شهادة كلّ مخالف في شي ء من أُصول العقائد]

مسألة 1 لا تقبل شهادة كلّ مخالف في شي ء من أُصول العقائد (23)،

______________________________

للحدّ واضحة بالمنطوق، فيقبل شهادة غيره ممّن ارتكب كبيرة لا حدّ عليها، أو ارتكب صغيرة ثمّ تاب بالأولوية القطعية.

و منها: موثّقته الأُخري عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام

إنّ أمير المؤمنين عليه السلام شهد عنده رجل و قد قطعت يده و رجله شهادة، فأجاز شهادته و قد كان تاب و عرفت توبته «1»

و دلالتها علي قبول شهادة السارق التائب بالمنطوق، و في غيره من مرتكبي الذنوب الصغيرة أو الكبائر التي لا حدّ عليها أو الأضعف بالنسبة إلي السرقة بالأولوية القطعية.

و منها: الأخبار الواردة في قبول شهادة القاذف التائب، و سيأتي إن شاء اللّٰه ذيل المسألة الثانية.

(23) المراد بأُصول العقائد ما يجب عقد القلب عليها كالتوحيد و العدل و النبوّة و الإمامة الخاصّتين و المعاد، و لا محالة يكون وجوب الاعتقاد بها من ضروريات الإسلام أو المذهب، فالمخالفة في شي ء منها و عدم الاعتقاد و إن كان عن شبهة و قصور قد يوجب الكفر و قد يوجب الخروج عن زمرة الطائفة المحقّة و إن انتحل و انتمي

إلي الإسلام أو الشيعة.

فإن أوجب الخروج عن الإسلام فمثل صحيحة أبي عبيدة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام

تجوز شهادة المسلمين علي جميع أهل الملل، و لا تجوز شهادة أهل الذمّة (الملل خ. ل) علي المسلمين «2»

يقتضي عدم قبول

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 385، كتاب الشهادات، الباب 37، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة 27: 386، كتاب الشهادات، الباب 38، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 533

بل لا تقبل شهادة من أنكر ضرورياً من الإسلام كمن أنكر الصلاة أو الحجّ أو نحوهما، و إن قلنا بعدم كفره إن كان لشبهة (24)،

______________________________

شهادته، و لو بإلغاء الخصوصية العرفية و انفهام أنّ ملاك القبول أن يكون الشاهد مسلماً، و معلوم أنّ المراد مَن كان من المسلمين واقعاً لا من ينتمي إلي الإسلام.

و إن أوجب إنكار الإمامة فأدلّة عدم قبول شهادة غير العارف بإمامتهم تشمله و توجب عدم قبول شهادته.

و إن لم يوجب شيئاً من الأمرين كإنكار العدل فهو مشمول موثّقة السكوني عن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال

لا تقبل شهادة ذي شحناء أو ذي مخزية في الدين «1»

؛ فإنّ «المخزي» هو ما يوجب الخزي و الذلّ و الهوان، فالمخزية في الدين هي كلّ ما يوجب علي صاحبه ذلّاً و هواناً، و هو يصدق علي كلّ مخالفة عملية أو اعتقادية لما هو معروف عند المسلمين أو أهل مذهبه الحقّ بحيث يكون ارتكاب خلافه مصداقاً واضحاً عندهم لمعصية اللّٰه، فيوجب لمرتكبه خزياً و هواناً و ذلّاً عند أهل الدين، و الأُصول الاعتقادية مصداق قطعي له، كما لا يخفي.

(24) لدلالة الموثّقة المذكورة؛ فإنّ إنكار الضروري من الإسلام بل المذهب و إن لم يوجب الكفر و لا الفسق إذا كان لشبهة إلّا أنّه

موجب

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 378، كتاب الشهادات، الباب 32، الحديث 5.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 534

و تقبل شهادة المخالف في الفروع و إن خالف الإجماع لشبهة (25).

[مسألة 2 لا تقبل شهادة القاذف]

مسألة 2 لا تقبل شهادة القاذف (26)،

______________________________

للخزي و الذلّ في الدين و عند أهله.

(25) و ذلك أنّه إذا كان مخالفته مستندة إلي اجتهاده فلم يرتكب معصية، و حيث إنّ الحكم الفرعي الذي خالف فيه ليس ضرورياً فليس إنكاره مخزياً، فيعمّه أدلّة قبول الشهادة، و لا مخصّص لها.

(26) فإنّ القذف معصية كبيرة يخرج القاذف بارتكابه عن كفّ اللسان، فيخرج عن العدالة المشروطة في الشاهد. مضافاً إلي تصريح الكتاب به في قوله تعالي وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً وَ لٰا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1».

نعم، هو وارد في خصوص رمي الرجال للمحصنات من النساء.

و في صحيح حريز المروي في «الوسائل» عن تفسير علي بن إبراهيم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

القاذف يجلد ثمانين جلدة، و لا تقبل له شهادة أبداً إلّا بعد التوبة أو يكذب نفسه. «2»

الحديث، فهو كما تري معلّق

______________________________

(1) النور (24): 4 5.

(2) وسائل الشيعة 28: 177، كتاب الحدود و التعزيرات، أبواب حدّ القذف، الباب 2، الحديث 5.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 535

مع عدم اللعان أو البيّنة أو إقرار المقذوف (27).

______________________________

علي عنوان القاذف يعمّ جميع مصاديقه و يدلّ علي عدم قبول شهادتهم، مضافاً إلي ما سيجي ء من الأخبار الأُخر.

(27) تقييد عدم قبول شهادته بعدم كلّ من الثلاثة ظاهر في قبولها مع وجود واحد منها.

و الدليل عليه: أمّا في

اللعان فظاهر القرآن الشريف؛ فإنّه تعالي بعد الآيتين المذكورتين قال وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوٰاجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدٰاءُ إِلّٰا أَنْفُسُهُمْ فَشَهٰادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهٰادٰاتٍ بِاللّٰهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصّٰادِقِينَ. وَ الْخٰامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللّٰهِ عَلَيْهِ إِنْ كٰانَ مِنَ الْكٰاذِبِينَ. وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذٰابَ. «1» الآية.

و ظاهره: أنّ إقدامه علي الشهادات الخمس يثبت ما رمي به زوجته و يوجب عليها العذاب و الحدّ، إلّا أن تدرأه عن نفسها بشهادات خمس أُخر علي ما في الآيات التالية. و حينئذٍ فقد رمي زوجته بالزنا و أثبته عليها، فهو غير مشمول للآية السابقة المتضمّنة لعدم قبول الشهادة، و لا دليل علي حرمة الرمي هاهنا إذا كان رمياً مجرّداً عن التعيير و سائر العناوين المحرّمة، فلا توجب الفسق و لا عدم قبول الشهادة.

ثمّ إنّ ظاهر الآية ثبوت الزنا بشهادات الرجل و عدم ارتكابه للحرام،

______________________________

(1) النور (24): 6 8.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 536

______________________________

و إن لم تدرأ المرأة الحدّ عن نفسها و لم يتحقّق لعان. و لعلّ مراد الماتن و غيره من اللعان أيضاً مجرّد شهادات الزوج، و إطلاق اللعان عليها بملاحظة أنّها هي التي يأتي بها الرجل في لعانه؛ سواء أتت المرأة أيضاً بشهاداتها الخمس حتّي يحصل اللعان و يرتّب آثاره أم لا. هذا بالنسبة إلي اللعان.

و أمّا مع قيام البيّنة فهو أيضاً مستثني من الأوّل في الآية بقوله تعالي ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فمن أتي بالشهود الأربعة فليس مشمولًا للحكم بالفسق و عدم قبول الشهادة. و لا دليل حينئذٍ أيضاً علي الحرمة، بل الأدلّة الكثيرة الدالّة علي ثبوت الزنا بالبيّنة و إجراء حدّ القذف علي الشهود مع عدم إكمال العدد دالّة علي أنّ انطباق عنوان

القذف المحرّم علي شهادتهم موقوف علي عدم الإكمال، و إلّا فيثبت الزنا أو اللواط و يجري حدّه.

و أمّا في إقرار المقذوف فلا يبعد دعوي أنّه من استثناء الملاعن و من أتي بالبيّنة يفهم عرفاً أنّ مبغوض الشرع و الموجب للفسق إنّما هو هتك المستور، و أمّا المقرّ المعلن بفسقه فالأدلّة منصرفة عنه، و معه فلا دليل آخر علي حرمة الرمي.

مضافاً إلي ما روي مرسلًا عن «الفقيه» قال: قال الصادق عليه السلام في رجل قال لامرأته يا زانية، قالت: أنت أزني منّي، فقال

عليها الحدّ فيما قذفت به، و أمّا إقرارها علي نفسها فلا تحدّ حتّي تقرّ بذلك عند الإمام أربع مرّات «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة 28: 196، كتاب الحدود و التعزيرات، أبواب حدّ القذف، الباب 13، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 537

______________________________

وجه الدلالة: أنّ تعرّضه عليه السلام في المسألة المفروضة المتضمّنة لرمي كلّ من الزوجين الآخر لخصوص محكومية المرأة بحدّ القذف دليل واضح علي عدم جريان حكم الحدّ في الرجل، و ليس قطعاً إلّا لإقرارها الضمني بما رماها به.

و روي إسماعيل الهاشمي، عن الصادق و الكاظم عليهما السلام أنّه سألهما عن امرأة زنت فأتت بولد و أقرّت عند إمام المسلمين بأنّها زنت و أنّ ولدها ذلك من الزنا، فأُقيم عليها الحدّ، و أنّ ذلك الولد نشأ حتّي صار رجلًا فافتري عليه رجل هل يجلد من افتري عليه؟ فقال

يُجلد و لا يُجلد.

فقلت: كيف يجلد و لا يجلد؟ فقال

من قال له: يا ولد الزنا لم يجلد و يعزّر و هو دون الحدّ، و من قال له: يا ابن الزانية جلد الحدّ كاملًا.

قلت له: كيف (صار) جلد هكذا؟ فقال

إنّه إذا قال له يا ولد الزنا كان

قد صدق فيه و عزّر علي تعييره أُمّه ثانية و قد أُقيم عليها الحدّ، فإن قال له: يا ابن الزانية جلد الحدّ تامّاً لفريته عليها بعد إظهارها التوبة و إقامة الإمام عليها الحدّ «1».

بيان الدلالة: أنّه عليه السلام حكم بانتفاء حدّ القذف فيما لم يزد علي نسبة ما أقرّت به نفسها من الزنا، فيدلّ علي انتفاء حدّ القذف مع إقرار المقذوف. و إنّما عزّر في مورد الرواية لاشتماله علي التعيير،

______________________________

(1) وسائل الشيعة 28: 188، كتاب الحدود و التعزيرات، أبواب حدّ القذف، الباب 7، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 538

إلّا إذا تاب (28)،

______________________________

فلو خلا عنه لما كان لتعزيره أيضاً وجه.

لكن يمكن دعوي احتمال اختصاص الجواز المستفاد من الرواية بما ثبت عند القاضي؛ لاختصاص موردها به و عدم عموم فيها. و العمدة ما عرفت من دعوي الانصراف و عدم الدليل علي الحرمة مع إقرار المقذوف.

(28) لا خلاف بين فقهائنا في قبول شهادته إذا تاب، و لا في وجوب إكذاب نفسه في مقام التوبة إذا كان كاذباً واقعاً. و إنّما الخلاف في كيفية توبته و إكذابه إذا كان صادقاً؛ فعن الصدوقين و العماني و الشيخ في «نهايته» و «خلافه» و ابن زهرة في «الغنية» و المحقّق و الشهيدين في «الدروس» و «المسالك»، بل عن المشهور بين المتأخّرين وجوب إكذاب نفسه، بل عن «الخلاف» ادّعاء اللاخلاف و عن «الغنية» ادّعاء الاتّفاق عليه.

و في قبالهم حكي عن الشيخ في «مبسوطه» و عن ابن إدريس و العلّامة و ولده قدس سرهم أنّه يكتفي بمثل قوله: القذف باطل حرام و أنا أخطأت لا أعود إليه.

و كيف كان: فقد عرفت أنّه بارتكاب القذف يخرج عن العدالة، فإذا تاب و

صار بعد التوبة ممّن يكفّ نفسه عن المعاصي و لم يعلم منه إلّا خير فيعمّه صحيحة ابن أبي يعفور «1»؛ لعدم اختصاصها بمن لم يعرض عليه

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 391، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 539

______________________________

الفسق، بل تدلّ علي اعتبار شهادة كلّ من كان بالفعل متّصفاً بالعدالة.

نعم اتّصافه بها بمجرّد التوبة بعيد، بل يحتاج إلي ظهور الصلاح منه و استمراره علي كفّ النفس عن المعاصي، كما كان هذا هو مقتضي العمومات.

و أمّا الأخبار الخاصّة فيدلّ علي قبول شهادته بعد التوبة مضافاً إلي ما سيجي ء من الأخبار الواردة في بيان كيفية التوبة خصوص ما مرّ من قوله عليه السلام في صحيح حريز

و لا تقبل له شهادة أبداً إلّا بعد التوبة

، و خصوص خبر القاسم بن سليمان قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل يقذف الرجل فيجلد حدّا ثمّ يتوب و لا يعلم منه إلّا خير أ تجوز شهادته؟ قال

نعم، ما يقال عندكم؟

قلت: يقولون توبته فيما بينه و بين اللّٰه، و لا تقبل شهادته أبداً، فقال

بئس ما قالوا، كان أبي يقول: إذا تاب و لم يعلم منه إلّا خير جازت شهادته «1»

، و عموم قول أمير المؤمنين عليه السلام في موثّقة السكوني

ليس يصيب أحد حدّا فيقام عليه ثمّ يتوب إلّا جازت شهادته «2».

و هذه الأخبار قرينة علي رجوع الاستثناء في الآية المباركة إلي جملة وَ لٰا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً أيضاً، لا إلي خصوص جملة وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 383، كتاب الشهادات، الباب 36، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة 27: 384، كتاب الشهادات، الباب 36، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 540

______________________________

و

أمّا ما في موثّقة الآخر المحكي في «التهذيبين» عن كتابه عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السلام قال

ليس أحد يصيب حدّا فيقام عليه ثمّ يتوب إلّا جازت شهادته، إلّا القاذف فإنّه لا تقبل شهادته، إنّ توبته فيما كان بينه و بين اللّٰه تعالي «1»

، فمحمول علي التقية؛ إذ لم يعمل به كما عرفت أحد من الأصحاب، بل اتّفقوا علي خلافه؛ قال في «التهذيب» بعد نقله: قال محمّد بن الحسن هذا الخبر موافق لبعض العامّة، فلسنا نعمل به «2».

و قال في «الوافي» بعد إيراد بيان: حمله في «التهذيبين» علي التقية لموافقته العامّة، و احتمل في «الاستبصار» امتناع توبته؛ لاشتراطها بتكذيب نفسه الممتنع مع صدقه «3»، انتهي.

و في «الجواهر» تبعاً لصاحب «الرياض»: علي أنّ الاستثناء المزبور قد اختصّ به بعض نسخ «التهذيب»، و قد خلا عنه البعض الآخر و «الكافي» الذي هو أضبط من «التهذيب» انتهي.

أقول: الظاهر اشتباه الأمر عليهما 0؛ فإنّ الشيخ في «تهذيبه» تارة روي حديث السكوني عن كتاب علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني موافقاً لما عن «الكافي» بدون الاستثناء؛ و لذا لم يتعرّض ذيله لتوجيه الحمل علي التقية، و هذا في أوائل باب البيّنات من «التهذيب» الحديث 24. و أُخري رواه عن كتاب السكوني مع زيادة الاستثناء،

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 384، كتاب الشهادات، الباب 36، الحديث 6.

(2) تهذيب الأحكام 6: 285، ذيل الحديث 786.

(3) الوافي 16: 1005، ذيل الحديث 9.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 541

و حدّ توبته أن يكذّب نفسه (29)

______________________________

و تعرّض فيه و في «استبصاره» لتوجيهه بما عرفت، و هذا في أواخر الباب المذكور الحديث 191. و نقل كليهما عنه في «الوافي» و «الوسائل». و

تعرّضه قدس سره لتوجيه الحديث في الكتابين ينفي احتمال اشتباهه و كون الاختلاف ناشئاً عن قلّة ضبطه و أضبطية ثقة الإسلام في «الكافي»، و لا داعي إليه.

(29) كما دلّت عليه الأخبار؛ ففي صحيحة عبد اللّٰه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن المحدود إذا تاب أتقبل شهادته؟ فقال

إذا تاب، و توبته أن يرجع ممّا قال و يكذّب نفسه عند الإمام و عند المسلمين، فإذا فعل فإنّ علي الإمام أن يقبل شهادته بعد ذلك «1»

، و دلالتها علي أنّ توبته هي إكذاب نفسه واضحة، كما أنّ شمول إطلاقها لما إذا رأي نفسه صادقاً أيضاً واضح.

و التكذيب متقوّم بإبراز كلمات حاكية عن كذبه، و هو قليل المئونة ليس بممتنع مع صدقه، كما في «الوافي» عن «الاستبصار». و الكذب و إن كان حراماً إلّا أنّه لا مانع من جواز بعض مصاديقه إذا قام عليه الدليل، و قد قام عليه هنا كما في موارد إصلاح ذات البين.

و بالجملة: ما تضمّنه الصحيحة ممّا لا بأس في القول به، كما عرفت

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 385، كتاب الشهادات، الباب 37، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 542

______________________________

حكاية القول به عن مشهور المتأخّرين.

و مثلها ما رواه الكناني قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن القاذف بعد ما يقام عليه الحدّ ما توبته؟ قال

يكذّب نفسه.

قلت: أ رأيت إن أكذب نفسه و تاب أتقبل شهادته؟ قال

نعم «2».

و دلالة هذه الرواية كإطلاقها واضحة لا تخفي.

و نحوهما ما أرسله يونس عن بعض أصحابه عن أحدهما عليهما السلام قال: سألته عن الذي يقذف المحصنات تقبل شهادته بعد الحدّ إذا تاب؟ قال

نعم.

قلت: و ما توبته؟ قال

يجي ء فيكذّب نفسه عند الإمام و يقول:

قد افتريت علي فلانة، و يتوب ممّا قال «1».

و بقرينة هذه الأخبار المفسّرة لتوبة القاذف يعلم المراد بتوبته بقول مطلق المعلّق عليها قبول الشهادة فيما مرّ من روايات الكناني و القاسم بن سليمان و السكوني، فتذكّر.

نعم، ظاهر ما مرّ من قوله عليه السلام في صحيح حريز

و لا تقبل له شهادة أبداً إلّا بعد التوبة أو يكذّب نفسه

ربّما ينافي هذه الأخبار؛ بملاحظة أنّ لفظة «أو» ظاهرة في الاكتفاء بأحد الأمرين من التوبة و إكذاب نفسه، فمقتضاه الاكتفاء بالتوبة المجرّدة عن إكذابه أيضاً.

اللهمّ إلّا أن يحمل هذه اللفظة علي التوسعة في التعبير؛ بأن يراد منه

______________________________

(2) وسائل الشيعة 27: 383، كتاب الشهادات، الباب 36، الحديث 1.

(1) وسائل الشيعة 27: 384، كتاب الشهادات، الباب 36، الحديث 4.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 543

عند من قذف عنده أو عند جمع من المسلمين أو عندهما (30)

______________________________

أنّه لا تقبل شهادة القاذف إلّا بعد أن يتوب، أو بعبارة أُخري بعد إكذاب نفسه؛ إذ توبته هو إكذاب نفسه.

و ممّا يدلّ علي لزوم كون التوبة بصورة الإكذاب موثّقة سماعة التي لا يضرّها الإضمار قال: قال

إنّ شهود الزور يجلدون جلداً ليس له وقت، و ذاك إلي الإمام، و يطاف بهم حتّي يعرفهم الناس. و أمّا قول اللّٰه عزّ و جلّ وَ لٰا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً. إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا قلت: كيف تعرف توبته؟ قال: يكذب نفسه حيث يضرب و يستغفر ربّه، فإذا فعل ذلك فقد ظهرت توبته «1».

و ظاهرها: أنّه لا تعرف و لا تظهر توبته إلّا إذا أكذب نفسه. و روي هذا الحديث عن عبد اللّٰه بن سنان عن الصادق عليه السلام علي عنوان شاهد الزور، و فيه بعد قوله عليه السلام

حتّي يعرفهم

الناس

و تلا قوله تعالي وَ لٰا تَقْبَلُوا. إلي آخر الآية مكان قوله

و أمّا قول اللّٰه.

إلي آخره. و حينئذٍ فشموله للقاذف و إن كان واضحاً إلّا أنّه بعنوان شاهد الزور، فتأمّل و راجع «الوسائل» الباب 15 من كتاب الشهادات.

(30) و ذلك أنّ مثل صحيح حريز و معتبر الكناني قد تضمّن إكذاب

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 6: 263/ 699، وسائل الشيعة 27: 334، كتاب الشهادات، الباب 15، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 544

و إن كان صادقاً واقعاً يورّي في تكذيبه نفسه (31)،

______________________________

نفسه الشامل لجميع الأنحاء بعد استظهار أنّ المراد به إكذاب نفسه عند الناس لا عند خصوص المقذوف. و موثّقة سماعة و خبر عبد اللّٰه بن سنان تضمّن تكذيب نفسه حيث يضرب فهو بحضور جمع من المسلمين.

و حينئذٍ: فما في صحيحة عبد اللّٰه بن سنان من إكذاب نفسه عند الإمام و عند المسلمين يراد به طريقية الإكذاب عند الإمام لثبوت توبته عنده حتّي يصير مقبول الشهادة، و إلّا فلا يجب الإكذاب بمحضره بدليل خلوّ الأخبار الأُخر عنه. بل يكفي الإكذاب عند المسلمين، و هو صادق بإيقاعه عند جمع منهم؛ سواء المقذوف عندهم أو لا.

(31) لا يبعد أن يكون قوله «يورّي» خبراً ثانياً ل «كان»، و يكون «إن» وصلية، و يكون مراده دام ظلّه تجويز التورية في التكذيب كما يجوز بلا تورية أيضاً.

و حينئذٍ: فالوجه له أنّ هذه الأدلّة قد تضمّنت وجوب تكذيبه لنفسه الظاهر في وجوب أن ينسب نفسه إلي الكذب و يرجع عمّا قال، و حيث إنّ قوام القذف و ثبوت حدّه ليس علي أن يكون القاذف كاذباً في الواقع، بل ربّما يكون صادقاً لا يثبت ما قذفه به، كيف؟! و قد ورد: «أنّه

لو شهد أربعة بالزنا أحدهم ولد الزنا حدّوا جميعاً» «1»، و «أنّه لو شهد ثلاثة و قالوا الآن

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة 27: 376، كتاب الشهادات، الباب 31، الحديث 4.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 545

فإذا كذّب نفسه و تاب تقبل شهادته إذا صلح (32).

______________________________

يأتي الرابع حدّت ثلاثتهم، و كان عليه السلام يخشي أن يكون أوّل الشهود مخافة أن ينكل بعضهم فيحدّ هو عليه السلام» «1» فحيث إنّ بناء حدّ القذف علي هذه الوسعة فلا محالة يكون وجوب إكذاب القاذف نفسه عامّاً للصادق منهم أيضاً. و قد عرفت ظهوره في وجوب نسبة نفسه إلي الكذب، فلا ينبغي الإشكال في دلالة هذه الأخبار علي جواز هذا الكذب، بل وجوبه للقاذف في مقام التوبة. و بها تخصّص عموم أدلّة حرمة الكذب كما لا يخفي.

و أمّا الدليل علي جواز التورية مع ذلك: فهو استظهار أنّ المراد في الأدلّة من تكذيب النفس هو حيثيته الإثباتية؛ بأن يظهر كلاماً يستفاد منه عرفاً التكذيب حتّي يذهب أثر القذف و يذلّ به نفسه و يعود الأمر كما كان، و هذا الأمر كما يحصل مع عدم التورية و هو أيضاً جائز و مصداق للواجب، فكذلك يحصل بالتورية أيضاً و هي أوفق بالاحتياط.

(32) قد عرفت أنّ مقتضي القاعدة في فاعل المعصية صغيرة أو كبيرة خروجه عن العدالة، و أنّ عوده إليها بحيث يعمّه مثل صحيحة ابن أبي يعفور موقوف علي أن يرجع إلي ما كان و يستمرّ منه كفّ النفس عن المعاصي. لكنّ الأخبار الخاصّة التي مرّت قد علّقت قبول شهادته علي

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة 28: 194، كتاب الحدود و التعزيرات، أبواب حدّ القذف، الباب 12.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص:

546

[مسألة 3 اتّخاذ الحمام للأُنس و إنفاذ الكتب و الاستفراخ و التطيير و اللعب ليس بحرام]

مسألة 3 اتّخاذ الحمام للأُنس و إنفاذ الكتب و الاستفراخ و التطيير و اللعب ليس بحرام (33)، نعم اللعب بها مكروه (34)،

______________________________

مجرّد التوبة، و ظهورها و إطلاقها يقتضي عدم الحاجة معها إلي ظهور الصلاح منه أزيد من ظهور توبته.

و حينئذٍ: فلا يبعد أن يكون مراده دام ظلّه من قوله «إذا صلح» أن يكون صالحاً عادلًا من الجهات الأُخر، و أنّ شهادة القاذف لا تقبل بمجرّد توبته من القذف، و إنّما تقبل إذا كان لا يعلم منه إلّا خير.

(33) لعدم الدليل عليه، بل قد ورد الترغيب إلي اتّخاذه؛ و لا سيّما الراعبية منها؛ ففي موثّقة السكوني عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام

اتّخذوا الحمام الراعبية في بيوتكم فإنّها تلعن قتلة الحسين بن علي عليهما السلام «1»

، و في صحيحة حفص بن البختري عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

إنّ أصل حمام الحرم بقيّة حمام كانت لإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام اتّخذها كان يأنس بها «2».

(34) لما ورد من مرجوحية مطلق اللعب للمؤمن؛ ففي خبر عبد الواحد عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألته عن اللعب بالشطرنج، فقال

إنّ المؤمن لمشغول عن اللعب «3»

و السؤال و إن كان من اللعب بالشطرنج إلّا أنّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة 11: 519، كتاب الحجّ، أبواب أحكام الدواب، الباب 33، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة 11: 514، كتاب الحجّ، أبواب أحكام الدواب، الباب 31، الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة 17: 320، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 102، الحديث 11.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 547

فتقبل شهادة المتّخذ و اللاعب بها (35).

______________________________

الجواب عامّ يقتضي مرجوحية كلّ لعب.

(35) فإنّ مقتضي القاعدة حجّية قول و شهادة كلّ ثقة عدل، و العادل كما عرفت من

استمرّ علي ترك الذنوب علي ما عرفت، فإذا لم يكن اتّخاذ الحمام و اللعب بها حراماً كان مقتضي القاعدة قبول شهادته، هذا.

مضافاً إلي ما روي بالخصوص من معتبرة العلاء بن سيّابة؛ فقد روي الصدوق بسنده المعتبر عنه قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن شهادة من يلعب بالحمام، قال

لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق.

قلت: فإنّ من قبلنا يقولون: قال عمر: هو شيطان، فقال

سبحان اللّٰه! أما علمت أنّ رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم قال: إنّ الملائكة لتنفر عند (عن خ. ل) الرهان و تلعن صاحبه، ما خلا الحافر و الخفّ و الريش و النصل فإنّها تحضره الملائكة، و قد سابق رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم أُسامة بن زيد و أجري الخيل «1»

، و نحوه من غير الذيل المذكور ما رواه الشيخ عنه «2»، فراجع.

و دلالتها علي قبول شهادة من يلعب بالحمام واضحة، لكن في «الرياض»: ربّما يتأمّل في الدلالة بما نقله بعض الأجلّة من أنّ لعب الحمام عند أهل مكّة هو لعب الخيل، و عليه فيحتمل ورود الخبر علي مصطلحهم.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 413، كتاب الشهادات، الباب 54، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة 27: 412، كتاب الشهادات، الباب 54، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 548

و أمّا اللعب بالرهان فهو قمار حرام (36) لا تقبل شهادة من فعل ذلك.

[مسألة 4 لا تردّ شهادة أرباب الصنائع المكروهة]

مسألة 4 لا تردّ شهادة أرباب الصنائع المكروهة (37)، كبيع الصرف و بيع الأكفان و صنعة الحجامة و الحياكة و نحوها، و لا شهادة ذوي العاهات الخبيثة كالأجذم و الأبرص.

[الخامس: طيب المولد]

الخامس: طيب المولد، فلا تقبل شهادة ولد الزنا و إن أظهر الإسلام و كان عادلًا (38).

______________________________

و ربّما أشعر به ما في ذيل المعتبرة ممّا مرّ؛ إذ لولا أنّ المراد باللعب بالحمام ما اصطلحوا عليه لما كان لردّ الإمام علي ما نقل عن عمر بقول النبي الوارد في الرهان و لا لذكره سباقه مع أُسامة في الخيل وجه، فتأمّل، انتهي.

و كيف كان: فالعمومات كافية في إثبات قبول شهادته، و إن كان الظاهر أنّ وجه التعرّض له بخصوصه وروده في هذه الأخبار الخاصّة.

(36) و إثباته موكول إلي محلّه. و بعد حرمته كان مقتضي أدلّة اشتراط العدالة أن لا تقبل شهادة من فعل ذلك.

(37) لعدم اعتبار الاجتناب عن المكروهات في تحقّق صفة العدالة علي ما ظهر، و مقتضي القواعد حجّية شهادة الواجد للصفات علي ما مرّ غير مرّة.

(38) يعني أنّ طيب المولد شرط مستقلّ برأسه، فلا تقبل شهادة ولد الزنا و إن اجتمعت فيه الصفات الأُخر. و فيه أيضاً إشارة إلي قبول إسلامه ظاهراً و باطناً و إمكان اتّصافه بالعدالة.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 549

______________________________

و كيف كان: فمقتضي القواعد الأوّلية قبول خبر ولد الزنا و شهادته؛ إذ لا يعتبر في بناء العقلاء في حجّية خبر الواحد أو شهادته سوي كونه ثقة، و هو حجّة إلّا فيما ورد المنع عنه شرعاً.

و قد اتّفق الأصحاب علي عدم قبول شهادة ولد الزنا و ادّعي عليه الإجماع؛ ففي «الخلاف»: شهادة ولد الزنا لا تقبل و إن كان عدلًا. إلي

أن قال: دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم.

و لكن العمدة فيه الأخبار الخاصة؛ ففي صحيح محمّد بن مسلم قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام

لا تجوز شهادة ولد الزنا «1».

و في صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألته عن شهادة ولد الزنا، قال

لا، و لا عبد «2»

، و اشتماله علي عدم جواز شهادة العبد مع أنّ مقتضي المذهب جوازها و لا بدّ من حمل عدم الجواز علي التقية لا يضرّ بحجّية صدره كما لا يخفي.

و في معتبر أبي بصير قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن ولد الزنا أ تجوز شهادته؟ فقال

لا.

فقلت: إنّ الحكم بن عتيبة يزعم أنّها تجوز، فقال

اللهمّ لا تغفر ذنبه، ما قال اللّٰه للحكم وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ «3».

و في موثّق زرارة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول

لو أنّ أربعة شهدوا عندي بالزنا علي رجل و فيهم ولد زنا لحددتهم جميعاً؛ لأنّه لا تجوز

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 375، كتاب الشهادات، الباب 31، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة 27: 376، كتاب الشهادات، الباب 31، الحديث 6.

(3) وسائل الشيعة 27: 374، كتاب الشهادات، الباب 31، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 550

و هل تقبل شهادته في الأشياء اليسيرة؟ قيل: نعم، و الأشبه لا (39).

______________________________

شهادته و لا يؤمّ الناس «2».

و دلالة هذه الأخبار المعتبرة المفتي بها علي عدم الجواز واضحة، فلا بدّ من الأخذ بها.

و أمّا خبر علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: سألته عن ولد الزنا هل تجوز شهادته؟ قال

نعم، تجوز شهادته و لا يؤمّ الناس «3»

فهو مروي عن «قرب الإسناد» بسند فيه ضعف و لم يعمل به أحد، فلا يقوي علي معارضة هذه الأخبار المعتبرة

المعمول بها. مضافاً إلي أنّ علي بن جعفر قد روي في كتابه جواب الإمام بما لفظه

لا يجوز شهادته و لا يؤمّ «1»

، فقد اختلف في نقله النسختان و لا حجّة في إحداهما بالخصوص.

(39) لا ريب في أنّ إطلاق الأدلّة المانعة يقتضي عدم جواز شهادته في الأشياء اليسيرة أيضاً، و المشهور علي عدم جوازها هنا. و نقل عن الشيخ في «نهايته» و عن ابن حمزة قبول شهادته في الأشياء اليسيرة.

و ما يمكن الاستدلال به علي الجواز خبر عيسي بن عبد اللّٰه قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن شهادة ولد الزنا، فقال

لا تجوز إلّا في الشي ء اليسير إذا رأيت منه صلاحاً «2»

، و دلالته علي الجواز واضحة،

______________________________

(2) وسائل الشيعة 27: 376، كتاب الشهادات، الباب 31، الحديث 4.

(3) وسائل الشيعة 27: 376، كتاب الشهادات، الباب 31، الحديث 7.

(1) وسائل الشيعة 27: 377، كتاب الشهادات، الباب 31، الحديث 8.

(2) وسائل الشيعة 27: 376، كتاب الشهادات، الباب 31، الحديث 5.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 551

______________________________

كوضوح أنّ مقتضي الجمع بينه و بين تلك الأخبار تخصيص تلك به. و الشي ء اليسير هو القليل بقول مطلق عند العرف لا ما يكون بالمقايسة إلي شي ء آخر قليلًا.

و القلّة و إن كانت مفهوماً إضافياً لكن الشي ء القليل و اليسير عندهم بقول مطلق هو ما لا يعتني به العقلاء لمكان قلّته، و لا محالة يكون له مصاديق مبيّنة و أُخري محتملة كسائر المفاهيم المردّدة بين الأقلّ و الأكثر، فلا يرد علي الحديث بأنّ القليل المطلق هو ما لا يتصوّر أقلّ منه و مثله لا مالية له، فلا يتصوّر فيه ملكية و لا اختصاص حتّي يراد إثباته بالشهادة، فكأنّه عليه السلام أفاد

عدم جواز شهادة ولد الزنا مطلقاً بهذه العبارة. مضافاً إلي أنّ تفسير الحديث هكذا يجعله من قبيل الألغاز، فتأمّل.

نعم يمكن الإيراد علي الاستدلال بالحديث بوجهين:

أحدهما: أنّ عيسي بن عبد اللّٰه مشترك بين الأشعري القمي الثقة، و الهاشمي العلوي، و الوابشي الكوفي اللذين لم يرد فيهما توثيق، فليس الخبر حجّة لكي يكون مخصّص العمومات.

و قد يجاب: بأنّه روي هذا الحديث عنه أبان، و قد جعله الشيخ في رجاله راوياً عن عيسي بن عبد اللّٰه الأشعري.

ثانيهما: أنّ هذا الحديث مروي في «التهذيب» و هو بأيدي الأصحاب، و مع ذلك لم يعملوا به، فقد أعرضوا عنه، و الرواية المعرض عنها لا حجّة فيها.

إن قلت: لعلّ الأصحاب لم يتفطّنوا إلي أنّ الراوي هو القمي الثقة

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 552

و أمّا لو جهلت حاله فإن كان ملحقاً بفراش تقبل شهادته (40) و إن أنالته الألسن،

______________________________

فلم يعملوا به لذلك، فإذا تبيّن لنا اعتبار الحديث فلا وجه لترك العمل به باحتمال الإعراض.

قلت: كيف يخفي عليهم كونه ثقة لو كان مميّزية أبان أمراً مفروغاً عنه و كتاب رجال الشيخ أيضاً بأيديهم؟! بل يمكن الخدشة في أصل المميّزية؛ إذ ليس الأمر زائداً علي أنّ الشيخ قدس سره قال في رجاله: روي عنه أبان و وجدنا روايات قد صرّح فيها بأنّ أبان بن عثمان قد روي عن عيسي بن عبد اللّٰه القمي، و لا حجّة شرعية فيه علي أنّ أبان لا يروي عن الهاشمي و لا الكوفي، مع أنّ الثلاثة من أصحاب الصادق عليه السلام.

و لعلّه لذلك كلّه قال مدّ ظلّه-: «و الأشبه لا».

(40) فإنّ لحوقه بالفراش يخرجه عن كونه ولد زنا، بل هو ولد ذلك الفراش بحكم الشرع، فيترتّب عليه

أثره؛ و منه قبول شهادته إذا اجتمعت فيه الشرائط الأُخر.

ثمّ إنّ المراد بالفراش هو الرجل الذي يكون المرأة التي ولدت هذا الولد محلّلة له بزوجية أو ملك و احتمل كون الولد منه، و إن احتمل كونه من الزنا فيلحق حينئذٍ بهذين الرجل و المرأة و يعدّ ولداً لهما شرعاً.

و الدليل عليه أخبار متعدّدة:

منها: صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

أيّما رجل وقع علي وليدة قوم حراماً ثمّ اشتراها، فادّعي ولدها فإنّه لا يورث منه، فإنّ

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 553

و إن جهلت مطلقاً و لم يعلم له فراش ففي قبولها إشكال (41).

______________________________

رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم قال: الولد للفراش و للعاهر الحجر. «1»

الحديث. و استدلاله عليه السلام بقول الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم فيما علم زنا الامّ و أنّ الولد معها أيضاً ملحق بالفراش قرينة سعة إطلاق الدليل، و أنّ شموله لموارد عدم ثبوت الزنا بطريق أوضح و أولي.

(41) وجهه: أنّه إذا احتمل كونه ولد زنا و لم يعلم له فراش يلحق به، فيستقرّ احتمال كونه ولد الزنا فلم يعلم أنّه ولد الحلال فلا يعلم جواز شهادته، و مشكوك الحجّية ليس حجّة بحكم العقل. و أدلّة حجّية قول الثقة قد خصّصت بأخبار عدم جواز شهادة ولد الزنا، فمع الشكّ يكون الرجوع إليها من قبيل التمسّك بالعموم في شبهة مخصّصة المصداقية، و هو غير جائز. و حيث إنّه لا ريب في أنّ موضوع جواز الشهادة بعد التخصيص هو الشخص الموجود الذي ليس بولد الزنا، و مع احتماله فليس هنا حالة سابقة متيقّنة يحكم ببقائها بحكم الاستصحاب، فلا يفيد استصحاب العدم الأزلي، كما حقّقناه

في محلّه.

و مع ذلك فيمكن أن يقال: إنّ بناء العقلاء علي الحكم بكون كلّ أحد ولد حلال إلّا من علم خلافه، فكما أنّه يحكم بكون كلّ أحد حرّا إلّا إذا

______________________________

(1) وسائل الشيعة 21: 193، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد و الإماء، الباب 74، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 554

______________________________

ثبت خلافه، فهكذا الأمر إذا لم يعرف فراش لشخص، فهذا البناء كسائر البناءات العقلائية حجّة؛ إذ لم يعلم ردع الشارع عنها و كانت بمرآة و منظره.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ احتمال الولادة من الزنا فيما لم يعلم للشخص فراش أصلًا. و مورده نادر في غير اللقيط؛ إذ ينحصر في من دخل بلدة و كان بها غريباً لا يعرف قبيلته و أقرباءه، فهاهنا و إن لا يبعد دعوي بناء العقلاء علي أنّه ولد حلال إلّا أنّه لقلّة مورده و قلّة الأحكام المبتلي بها المشروطة بطيب المولد؛ فلذلك لم يعلم تحقّق مورد له في زمن الشارع لم يردع عنه لكي يكون عدم ردعه دليل الإمضاء و الرضا.

و أمّا اللقيط فمضافاً إلي ندرته أيضاً بنفسه فالظاهر أنّه ليس بناء العقلاء فيه الحمل علي التولّد من الحلال بعد كون الداعي الغالب في وضعه في ناحية من الشوارع هو الفرار من عار تولّده من الحرام. و ما ورد من إجراء حدّ القذف علي قاذف اللقيط لا ينافي عدم ثبوت أنّه ولد الحلال و عدم محكوميته بأحكامه، كما لا يخفي.

فحاصل الكلام: عدم قبول شهادة اللقيط؛ لعدم بناء من العقلاء فيه.

و ثبوت الإشكال في غيره ممّن احتمل ولادته من الزنا؛ لبعد توقّف الشارع في الحكم بطيب ولادة مثله، مع أنّه يحكم بلحوق الولد بفراش امرأة تزني مراراً. بل يمكن دعوي

استفادة الحكم بطيب ولادة مجهول الفراش من قوله عليه السلام

الولد للفراش

بالطريق الأولي.

فممّا ذكرنا تعرف وجه استشكاله و قوله دام ظلّه-: «ففي قبولها إشكال».

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 555

[السادس: ارتفاع التهمة]

اشارة

السادس: ارتفاع التهمة لا مطلقاً (42).

______________________________

(42) و عبّر في «الجواهر» بقوله: ارتفاع التهمة في الجملة، ثمّ قال: بلا خلاف أجده فيه نصّاً و فتوي، بل الإجماع بقسميه عليه. و في «المسالك» شرحاً علي قول المحقّق: الخامس ارتفاع التهمة، و يتحقّق المقصود ببيان مسائل، قال: نبّه بقوله: و يتحقّق المقصود علي أنّ مطلق التهمة غير قادح في الشهادة، بل التهمة في مواضع مخصوصة، و هي التي يذكرها، انتهي.

و كيف كان: ففي صحيحة عبيد اللّٰه بن علي الحلبي سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام عمّا يردّ من الشهود، فقال

الظنين و المتّهم و الخصم.

قلت: فالفاسق و الخائن؟ فقال

هذا يدخل في الظنين «1»

، و مثله معتبر أبي بصير «2»، و نحوهما صحيحة عبد اللّٰه بن سنان «3» لكنّها مشتملة علي خصوص الظنين و المتّهم.

و في موثّق سماعة الذي لا يضرّه الإضمار قال: سألته عمّا يردّ من الشهود، قال

المريب و الخصم و الشريك و دافع مغرم و الأجير و العبد و التابع و المتّهم، كلّ هؤلاء تردّ شهاداتهم «4».

فهذه الأخبار المعتبرة المستفيضة تدلّ دلالة واضحة علي عدم

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 374، كتاب الشهادات، الباب 30، الحديث 5.

(2) وسائل الشيعة 27: 373، كتاب الشهادات، الباب 30، الحديث 3.

(3) وسائل الشيعة 27: 373، كتاب الشهادات، الباب 30، الحديث 1.

(4) وسائل الشيعة 27: 378، كتاب الشهادات، الباب 32، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 556

______________________________

قبول شهادة المتّهم؛ و هو من أُوقعت عليه التهمة. و إنّما الكلام في المراد بالتهمة

في الحديث فهل أُريد بها مطلق ما يقع في الخيال و الوهم بالنسبة إلي الشاهد من رعاية جانب المشهود له بداعٍ من الدواعي فيؤول معناه إلي المتّهم في شهادته، أم يراد بها مطلق الأمر السوء و المعصية التي يحتمل ارتكاب الشاهد لها؟

و لا بعد في دعوي إرادة الاحتمال الثاني. بيانه: أنّ الظنين أُريد منه معني يدخل فيه الفاسق و الخائن الواقعيان، و مع حفظ إرادة معني مادّة الظنّ لا محالة يراد به من يظنّ به السوء و المعصية، فالفاسق أو الخائن حيث ثبت و فرض فيهما الخيانة و الفسق فهو ظنين بالقول المطلق، فارتكاب المعصية منهما أوجب ظنّ ذلك بهما.

و أمّا المتّهم فهو في مرحلة نازلة من احتمال المعصية لا تصل حدّ الظنّ، قضية عدّ المتّهم قبال الظنين.

و ممّا يشهد في الجملة لإرادة مطلق السوء من التهمة موثّق السكوني عن أمير المؤمنين عليه السلام قال

من عرض نفسه للتهمة فلا يلومنّ من أساء به الظنّ (ظنّه خ. ل). «1»

الحديث، فجعل النفس في معرض التهمة إنّما يوجب سوء الظنّ إذا كان المراد بالتهمة مطلق السوء الذي يتوهّم فيه.

و بالجملة: فإطلاق لفظي «الظنين» و «المتّهم» و عدم تقييدهما بخصوص الشهادة يقتضي بطلان احتمال إرادة الظنين و المتّهم في خصوص

______________________________

(1) وسائل الشيعة 12: 36، كتاب الحجّ، أبواب أحكام العشرة، الباب 19، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 557

بل الحاصلة من أسباب خاصّة؛

[و هي أُمور]
اشارة

و هي أُمور:

[منها: أن يجرّ بشهادته نفعاً له]

منها: أن يجرّ بشهادته نفعاً له (43) عيناً أو منفعة أو حقّا،

______________________________

ما يشهد به، و عدّ المتّهم عنواناً خاصّاً مقابل الظنين يقتضي إرادة مرتبة من الاحتمال في المتّهم أضعف ممّا في الظنين. و حينئذٍ فحيث إنّ الشارع جعل بمقتضي صحيحة ابن أبي يعفور حسن الظاهر دليلًا علي تحقّق العدالة و قبول الشهادة فلا محالة يراد بالظنين و المتّهم من لم تقم فيه أمارة العدالة و الصلاح؛ فالمتّهم من يحتمل فيه معصية و سوء ممّن لم يثبت عدالته. لكن من الواضح عدم صدق المتّهم إلّا فيما إذا عثر علي أمر من الشخص أوجب احتمال ذلك السوء فيه، و إلّا فليس مجرّد من يحتمل فيه احتمال ارتكاب السوء بلا قرينة و لا سابقة بمتّهم، كما لا يخفي.

فهذه المعتبرة المستفيضة تدلّ علي عدم قبول شهادة المتّهم، إلّا أنّ المتّهم المذكور فيها من مصاديق من لم يثبت عدالته، فلا تدلّ علي مطلب جديد و شرط زائد.

و أمّا المراد بالتهمة المذكورة في عبارة المتن كعبارة الفقهاء العظام، فالمراد بها اتّهام رعاية جانب المشهود له علي خلاف الواقع و إن كان الشاهد ممّن ثبتت عدالته. و هذا المعني بإطلاقه ممّا لا دليل علي كونها تضرّ بقبول الشهادة، و إنّما قام الدليل علي عدم القبول في بعض مصاديقه.

(43) جرّ النفع إلي الشاهد بشهادته علي قسمين: فتارة في عرض حصول ذلك النفع إلي المشهود له كشهادة الشريك لشريكه فيما هو شريك

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 558

______________________________

فيه، و أُخري في طوله و مترتّباً عليه كسائر الموارد المذكورة في المتن.

فإن كان في عرضه فمقتضي القواعد قبول شهادته بالنسبة إلي نصيب الغير و عدم قبولها في نصيب نفسه؛ إذ الشاهد

حينئذٍ يكون في الحقيقة مدّعياً و خصماً للمنكر، و ظاهر قولهم عليهم السلام

البيّنة علي المدّعي «1»

أن يكون البيّنة غير المدّعي، كما أنّ عدم قبول شهادة الخصم الوارد في المستفيضة المذكورة آنفاً يقتضي عدم قبولها هنا.

و لو استشكل صدق الخصم و المدّعي علي الشاهد في نصيب نفسه هنا، فلا ريب في إلغاء الخصوصية عن الخصم و انفهام معني عامّ يعمّ ما نحن فيه. و هكذا الأمر في ظهور المفهوم من أدلّة وجوب البيّنة علي المدّعي.

و أمّا إن كان جرّ النفع إليه في طول حصوله للغير فالمنكر و إن كان ينكر أوّلًا ثبوت حقّ المدّعي إلّا أنّه يؤول ثانياً إلي إنكار تعلّق حقّ للشاهد بمورد الدعوي، و في الحقيقة يكون الشاهد بمنزلة طرف النزاع و الدعوي، فيدلّ أدلّة ردّ شهادة الخصم و وجوب كون البيّنة غير المدّعي علي عدم قبول شهادته و لو بإلغاء الخصوصية كما عرفت.

فمقتضي القواعد عدم قبول شهادته أصلًا في النفع الطولي؛ لعدم الانفكاك. و التفكيك بين نصيبه فلا تقبل و نصيب الغير فتقبل في النفع العرضي. هذا هو مقتضي القواعد. و أمّا الأدلّة الخاصّة فسيأتي التعرّض لها.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 233، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 559

كالشريك فيما هو شريك فيه (44). و أمّا في غيره فتقبل شهادته،

______________________________

(44) قد عرفت: أنّ مقتضي القواعد في مثله قبول شهادته في نصيب شريكه و اختصاص الردّ بنصيب نفسه، إلّا أنّ هنا أخباراً خاصّة معتبرة السند معمولًا بها تدلّ علي ردّ شهادة الشريك مطلقاً:

منها: مضمرة سماعة المذكورة آنفاً في أدلّة ردّ شهادة المتّهم.

و منها: معتبر أبان المروي في «الفقيه» قال: سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام عن شريكين

شهد أحدهما لصاحبه، قال

تجوز شهادته، إلّا في شي ء له فيه نصيب «1».

و منها: صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن ثلاثة شركاء شهد اثنان عن واحد، قال

لا تجوز شهادتهما «2»

، و لا يبعد دعوي ظهور هذه الصحيحة كمضمرة سماعة و لو بالانصراف في عدم قبول شهادة الشريك مطلقاً في ما هو شريك فيه. و لا يعمّ ما إذا شهد لشريكه فيما هو مختصّ بشريكه. و لو احتمل العموم فيهما فمعتبرة أبان أوضحت المطلب، و هي قرينة للمراد منهما أيضاً.

نعم، في خبر عبد الرحمن المروي عن «التهذيبين» قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن ثلاثة شركاء ادّعي واحد و شهد الاثنان، قال

يجوز «3»

،

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 370، كتاب الشهادات، الباب 27، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة 27: 369، كتاب الشهادات، الباب 27، الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة 27: 370، كتاب الشهادات، الباب 27، الحديث 4.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 560

و صاحب الدين إذا شهد للمحجور عليه بمال يتعلّق دينه به (45)، بخلاف غير المحجور عليه، و بخلاف مال لم يتعلّق حجره به، و الوصي و الوكيل إذا كان لهما زيادة أجر بزيادة المال (46)، بل و كذا فيما كان لهما الولاية عليه و كانا مدّعيين بحقّ ولايتهما (47)،

______________________________

و حمله علي إرادة شهادتهما لشريكهما فيما يختصّ بالشريك نفسه بقرينة المعتبرة و إن كان جمعاً عقلائياً إلّا أنّه يقوي احتمال وحدته مع صحيحته المذكورة؛ لوحدة الراوي و المروي عنه و الراوي عن الراوي و وحدة عبارة السؤال، فيحتمل قوياً وحدتهما، فيؤول الأمر إلي اختلاف النُّسخ فلا حجّة في شي ء منهما.

اللهمّ إلّا أن يقال باعتبار سند الصحيحة و عدم

اعتبار سند الخبر؛ لاشتماله علي القاسم الظاهر أنّه ابن محمّد الجوهري، فتأمّل.

و كيف كان؛ ففي غيرهما من الأخبار كفاية.

(45) لما عرفت من اقتضاء القواعد، كما أنّ القبول في سائر الصور أيضاً ممّا يقتضيه العمومات.

(46) لما عرفت أيضاً من اقتضاء القواعد.

(47) فإنّ كلّا منهما حينئذٍ مدّعٍ، و قد عرفت أنّ ظاهر قولهم عليهم السلام

البيّنة علي المدّعي «1»

وجوب كون البيّنة غير المدّعي فلا يجوز و لا يقبل شهادتهما.

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة 27: 233، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 561

و أمّا عدم القبول مطلقاً منهما ففيه تأمّل (48)، و كشهادة الشريك لبيع الشقص الذي فيه له الشفعة، إلي غير ذلك من موارد جرّ النفع.

______________________________

(48) ينشأ من أنّ شهادتهما توجب إثبات حقّ إعمال الوصاية و الوكالة لهما فيما يشهدان به، فهما حينئذٍ بمنزلة المدّعي، و قد عرفت أنّ مقتضي القواعد فيه عدم القبول، و من أنّ إعمال الوصاية و الوكالة فيه إذا لم يكن في مقابل أجر فليس إلّا كلفة زائدة علي الوصي و الوكيل، فيعمّهما عمومات القبول.

مضافاً إلي مكاتبة الصفّار المروية في «الكافي» و «الفقيه» و «التهذيب» بسند صحيح؛ ففيها: كتب محمّد بن الحسن يعني الصفّار إلي أبي محمَّد عليه السلام: هل تقبل شهادة الوصي للميّت بدين له علي رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع

إذا شهد معه آخر عدل فعلي المدّعي يمين.

و كتب: أ يجوز للوصي أن يشهد لوارث الميّت صغيراً أو كبيراً، و هو القابض للصغير و ليس للكبير بقابض؟ فوقّع

نعم، و ينبغي للوصي أن يشهد بالحقّ و لا يكتم الشهادة. «1»

الحديث.

وجه الدلالة: أنّ الفقرة الاولي من المكاتبة أو المكاتبة الأُولي و إن تضمّن جوابها أنّ علي المدّعي

يميناً بعد شهادة عدلين أحدهما الوصي، و ربّما يعدّ هذا دليلًا علي عدم الاعتناء بشهادة الوصي. فكان المورد ممّا شهد به

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 371، كتاب الشهادات، الباب 28، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 562

[و منها: إذا دفع بشهادته ضرراً عنه]

و منها: إذا دفع بشهادته ضرراً عنه (49)، كشهادة العاقلة بجرح شهود الجناية خطأ، و شهادة الوكيل و الوصي بجرح الشهود علي الموكّل و الموصي في مثل الموردين المتقدّمين.

______________________________

عدل واحد فيضمّ إليه اليمين، إلّا أنّ قوله عليه السلام

نعم

في الفقرة الثانية في جواب السؤال عن شهادة الوصي للوارث الصغير شاهد علي قبول شهادته له. و احتمال أنّ جواز الشهادة له لا يلازم قبولها مندفع بأنّ غرض السائل أنّه هل يجوز شهادة الوصي كشهادة غيره؟

و بعبارة أُخري: السؤال عن الحكم الوضعي لا الجواز التكليفي، فالجواب دليل علي قبولها بلا إشكال، و حينئذٍ فضمّ اليمين في المسألة الأُولي تعبّد استحبابياً أو وجوبياً.

و منه تعرف: أنّ الأظهر الأولي هو القول بقبول شهادة الوصي فيما له الولاية عليه و مثله الوكيل، إلّا أنّ في «الجواهر»: و أمّا الوصي بل و الوكيل فالمشهور عدم قبول شهادتهما فيما لهما الولاية عليه، بل في «الرياض»: أنّها شهرة عظيمة كادت تكون إجماعاً كما هو ظاهر جماعة انتهي. فذهاب المشهور إلي عدم القبول مع أنّ الأظهر في المكاتبة الدلالة علي القبول ربّما كان قرينة إعراضهم عنها. و لهذه الأُمور المذكورة فللتأمّل في الحكم بالجواز مجال.

(49) لما عرفت من الوجه فيما يجرّ بها نفعاً من اقتضاء القواعد، مضافاً إلي قوله عليه السلام في مضمرة سماعة الماضية في عداد ما يردّ من الشهود:

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 563

[و منها: أن يشهد ذو العداوة الدنيوية علي عدوّه]

و منها: أن يشهد ذو العداوة الدنيوية علي عدوّه (50)، و تقبل شهادته له إذا لم تستلزم العداوة الفسق. و أمّا ذو العداوة الدينية فلا تردّ شهادته له أو عليه حتّي إذا أبغضه لفسقه و اختصمه لذلك.

______________________________

أو دافع مغرم

فإنّه يدلّ علي ردّ شهادته إذا يدفع بها

غرامة عن الشاهد، كجرح شهود الجناية خطأ أو الشهادة للشريك بأداء الدين المشترك و أمثالها.

(50) ففي موثّق السكوني عن الصادق عليه السلام عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال

لا تقبل شهادة ذي شحناء أو ذي مخزية في الدين «1»

و الشحناء هي العداوة التي امتلأت منها النفس، و هي منصرفة إلي الدنيوية منها، لا الدينية التي كانت عملًا بأمر اللّٰه تعالي في بغض العاصين، كما أنّها منصرفة إلي ما إذا كانت الشهادة عليه، فيبقي ما عداها تحت العمومات فتقبل الشهادة فيها، و سرّ التقييد بعدم استلزامها للفسق واضح.

و أمّا الاستدلال لعدم القبول بما ورد في ردّ شهادة الخصم ممّا مرّ فلعلّه غير مقبول؛ إذ الخصومة هي المنازعة، و العداوة أعمّ منها فإنّها حالة بغض و غضب نفسانية و إن لم يكن لها مظهر خارجي، و الخصومة هي مقابلة كلّ للآخر و منازعته بالمرافعة إلي الحاكم أو بتعلّق كلّ منهما بالآخر خارجاً.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 378، كتاب الشهادات، الباب 32، الحديث 5.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 564

[و منها: السؤال بكفّه]

و منها: السؤال بكفّه (51) و المراد منه من يكون سائلًا في السوق و أبواب الدور و كان السؤال حرفة و ديدناً له، و أمّا السؤال أحياناً عند الحاجة فلا يمنع من قبول شهادته.

______________________________

(51) قال في «الجواهر»: بلا خلاف أجده فيه، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه، انتهي. ففي موثّق محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال

ردّ رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم شهادة السائل الذي يسأل في كفّه

، قال أبو جعفر عليه السلام

لأنّه لا يؤمن علي الشهادة؛ و ذلك لأنّه إن اعطي رضي، و إن منع سخط «1».

و في صحيح علي بن

جعفر عن أخيه موسي بن جعفر عليهما السلام قال: سألته عن السائل الذي يسأل بكفّه هل تقبل شهادته؟ فقال

كان أبي لا يقبل شهادته إذا سأل في كفّه «2».

و نحوه خبره المروي عن «قرب الإسناد» «3».

و دلالتها علي عدم قبول شهادته واضحة، و تعليق الحكم بعنوان السائل الظاهر في استمرار ثبوت المبدأ له و تفسيره بالذي يسأل بكفّه ظاهر في أنّ المراد به من كان السؤال حرفة و ديدناً له، فلا يعمّ من يسأل أحياناً عند الحاجة فيبقي تحت عموم القبول.

كما أنّ الظاهر أنّ قوله

لأنّه لا يؤمن علي الشهادة.

إلي آخره،

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 382، كتاب الشهادات، الباب 35، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة 27: 382، كتاب الشهادات، الباب 35، الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة 27: 383، كتاب الشهادات، الباب 35، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 565

[و منها: التبرّع بالشهادة في حقوق الناس]

و منها: التبرّع بالشهادة في حقوق الناس (52)، فإنّه يمنع عن القبول في قول معروف، و فيه تردّد،

______________________________

من قبيل بيان الحكمة لعدم القبول، فلا تقبل شهادته حتّي في الفرد النادر الذي يؤمن عليها؛ و ذلك أنّ جعل الحكم بالنحو المطلق و بيان السرّ المختصّ ببعض مصاديقه في غاية الكثرة في الأخبار المروية عنهم عليهم السلام، فلا يضرّ بإطلاق صدر الموثّق فضلًا عن إطلاق صحيح علي بن جعفر.

(52) قال في «الرياض»: بلا خلاف أجده، و به صرّح في «الكفاية»، و يظهر من «المسالك» و غيره، و احتمله إجماعاً بعض الأجلّة، قالوا: لتطرّق التهمة بذلك فيدخل في عموم الأدلّة الدالّة علي كونها مانعة عن قبول الشهادة، و للنبوي في معرض الذمّ

ثمّ يجي ء قوم يعطون الشهادة قبل أن يسألوها

، و في لفظ آخر

ثمّ يفشو الكذب حتّي يشهد الرجل قبل أن يستشهد

،

انتهي.

أقول: لكنّك عرفت أنّ الظاهر أنّ المراد بالمتّهم من يحتمل فيه ارتكاب المعصية احتمالًا عقلائياً لأجل قرينة قامت عليه، و لم يكن له حسن ظاهر يثبت به عدالته، و لا يعمّ من ثبتت عدالته بين الناس، فلا يصحّ الاستدلال بها هنا أصلًا. مضافاً إلي أنّه ربّما يعلم أنّ التبرّع بها ليس فيه احتمال الانحراف عن طريق الحقّ؛ لكون المشهود له عدوّ الشاهد أو المشهود عليه صديقاً له و أمثال ذلك ممّا لا يتطرّق فيه التهمة، مع أنّ إطلاق كلامهم يعمّه.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 566

______________________________

و أمّا النبويان فمضافاً إلي عدم حجّية سندهما و عدم تمامية دلالتهما لاحتمال أن يراد بهما ما إذا علم كون الشهادة كذباً؛ و لذلك يؤتي بها قبل الاستشهاد يعارضهما نبوي آخر

خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها

، و في نبوي آخر مذكور في «شرح الإرشاد» للمقدّس الأردبيلي

أ لا أُخبركم بخير الشهود؟

قالوا: بلي يا رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم، قال

أن يشهد الرجل قبل أن يستشهد

فمدحُ الشاهد في كلامه صلي الله عليه و آله و سلم بأنّه خير الشهداء إذا بادر إلي الشهادة قبل سؤالها دالّ بالوضوح علي قبول شهادته و الترغيب إلي المبادرة فيه. و لو فرض حجّية سند الجميع لكان الأخيران قرينة علي إرادة ما إذا علم كونها كذباً من الأوّلين كما احتملناه فيهما. و بالجملة: فلا حجّة في النبويين لكي يستدلّ بهما.

و ربّما يستدلّ بمثل قولهم عليهم السلام

البيّنة علي المدّعي و اليمين علي من ادّعي عليه «1»

ببيان أنّ حقّ إقامة الدعوي للمدّعي و إقامة البيّنة علي عهدته، فهو المكلّف و المختار في إقامتها، فلا يسمع إلّا إلي بيّنة أقامها المدّعي.

لكن فيه: أنّ

أمر إقامة البيّنة و إقامة الدعوي و إنشاء حكم القاضي و إن كان إلي المدّعي لكنّه إذا تبرّع الشاهد بالشهادة قبل السؤال و ثبت المدّعيٰ بمقتضي عمومات القبول عند القاضي و طلب المدّعي من الحاكم إنشاء الحكم، فأيّ دليل علي عدم جواز استناده إلي شهادة البيّنة

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة 27: 233، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 567

و أمّا في حقوق اللّٰه كشرب الخمر و الزنا و للمصالح العامّة، فالأشبه القبول (53).

[مسألة 5 النسب لا يمنع عن قبول الشهادة]

مسألة 5 النسب لا يمنع عن قبول الشهادة، كالأب لولده و عليه، و الولد لوالده، و الأخ لأخيه و عليه (54) و سائر الأقرباء بعضها لبعض و عليه.

______________________________

المتبرّعة؟! و مجرّد كون «البيّنة علي المدّعي» إنّما يقتضي إلزامه بإقامتها لا عدم جواز استناده إلي الموجود منها، كما لا يخفي.

فلا دليل لفظي في البين يقتضي عدم قبول شهادة المتبرّع و مع ذلك فذهاب المشهور إلي عدم القبول مع أنّ الإجماع قد ادّعي علي قبول شهادة الصديق لصديقه و إن كان بينهما كمال الموادّة و ليست التهمة في التبرّع أكثر منها هناك، شاهد علي أنّ الأصحاب لم يستندوا إلي شمول عنوان المتّهم للمتبرّع، فهذا لا يبعد أن يكشف عن أنّ بيدهم دليلًا لم يصل إلينا؛ فلذلك كان الإغماض عن فتوي المشهور مع وضوح شمول عمومات القبول للتبرّع مشكلًا جدّاً.

(53) قال في «الجواهر»: وفاقاً للمشهور شهرة عظيمة، انتهي. و الدليل عليه يظهر ممّا عرفت؛ فإنّ عمومات القبول شاملة و فتوي المشهور هاهنا مؤيّدة و مؤكّدة، و الاستناد إلي عمومات التهمة غير صحيح، فالأشبه فيها القبول.

(54) قال في «الرياض»: بإجماعنا المصرّح به في صريح «الانتصار»

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و

الشهادات، ص: 568

______________________________

و «الغنية» و ظاهر «المسالك» و غيره، و في «الجواهر»: بل الإجماع بقسميه عليه.

أقول: مقتضي عمومات قبول الشهادة قبولها و لو للأقرباء النسبية و السببية أو عليهم، و أدلّة ردّ شهادة المتّهم قد عرفت أنّها لا تعمّ مثل شهادة الأقرباء بعضهم بالنسبة إلي بعض.

و الأدلّة الخاصّة قد وردت بقبولها في الوالد لولده و الولد لوالده و الأخ لأخيه؛ ففي صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

تجوز شهادة الولد لوالده و الوالد لولده و الأخ لأخيه «1»

، و مثلها صحيحته الأُخري و موثّقة أبي بصير «2» و موثّقة سماعة المضمرة «3»، و في صحيح عمّار بن مروان قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام (أو قال: سأله بعض أصحابنا) عن الرجل يشهد لأبيه أو الأب لابنه أو الأخ لأخيه، فقال

لا بأس بذلك إذا كان خيراً جازت شهادته لأبيه و الأب لابنه و الأخ لأخيه «4».

و عنوان الولد في المعتبرات المقدّمة يشمل الابن و البنت، فيجوز بمقتضاها شهادتهما للأب و شهادة الأب لهما. و التعرّض لخصوص الابن في صحيحة عمّار لا مفهوم له حتّي ينافي إطلاقها، كما لا مفهوم لجميعها في شهادة سائر الأقرباء.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 367، كتاب الشهادات، الباب 26، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 368، كتاب الشهادات، الباب 26، الحديث 3.

(3) وسائل الشيعة 27: 368، كتاب الشهادات، الباب 26، الحديث 4.

(4) وسائل الشيعة 27: 367، كتاب الشهادات، الباب 26، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 569

و هل تقبل شهادة الولد علي والده؟ فيه تردّد (55)،

______________________________

بل الظاهر: أنّ التعرّض لخصوص الموارد المذكورة لمكان أنّ اقتضاء هذه النسب للوقوع موضع التهمة في الشهادة لهم شديد، فيمكن استفادة جواز شهادة

الأقرباء الأُخر بعضهم لبعض منها بالأولوية القطعية، و لا أقلّ من أنّ عمومات القبول تشملها، و هذه الأخبار الخاصّة تؤكّد عمومها، كما أنّ عمومها شامل للشهادة من بعضهم علي بعض آخر.

و كيف كان: ففي موثّقة السكوني عن جعفر عن أبيه عليهما السلام

إنّ شهادة الأخ لأخيه تجوز إذا كان مرضياً و معه عدل آخر «1»

، و التعرّض فيها لخصوص الأخ لا مفهوم له كما عرفت، كما أنّ الظاهر أنّ التقييد بكونه مع عدل آخر إنّما هو لأنّ قيام البيّنة متوقّف علي شهادة العدلين.

(55) قال في «المسالك»: و استثني أكثر الأصحاب من شهادة القريب شهادة الولد علي والده فحكموا بعدم قبولها حتّي نقل الشيخ في «الخلاف» عليه الإجماع. إلي أن قال: و قد خالف في ذلك المرتضي، و كثير من المتقدّمين كابن الجنيد و ابن أبي عقيل لم يتعرّضوا للحكم بنفي و لا إثبات، انتهي.

و ما نسبه إلي الشيخ في «الخلاف»، فهو ما ذكره في كتاب الشهادات منه، قال قدس سره: مسألة 45: شهادة الولد علي والده لا تقبل بحال، و قال

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 368، كتاب الشهادات، الباب 26، الحديث 5.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 570

______________________________

الشافعي: إن تعلّق بالمال أو بما يجري مجري المال كالدين و النكاح و الطلاق قبلت، و إن شهد عليه بما يتعلّق بالبدن كالقصاص و حدّ الفرية فيه وجهان: أحدهما لا تقبل (تقبل خ. ل) و الثاني و هو الأصحّ أنّها تقبل (لا تقبل خ. ل). دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم فإنّهم لا يختلفون فيه.

و في «الجواهر»: بل عن «موصليات» المرتضي و «الغنية» و «السرائر» أيضاً الإجماع عليه. هذا موضع المسألة بحسب الأقوال.

و أمّا بحسب الأدلّة: فقد استدلّ لعدم

القبول بالكتاب و السنّة:

أمّا الكتاب: فقوله تعالي وَ إِنْ جٰاهَدٰاكَ عَليٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلٰا تُطِعْهُمٰا وَ صٰاحِبْهُمٰا فِي الدُّنْيٰا مَعْرُوفاً «1» فهو تعالي أوجب مصاحبة الوالدين مصاحبة معروفة حسنة، و شهادة الولد علي الوالد مقابلة منه عليه و قيام قباله، و هو خلاف المعروف المأمور به، بل من العقوق الذي من أكبر الكبائر.

و فيه أوّلًا: أنّ مجرّد الشهادة عليه إذا لم يقترن بسوء الكلام و خشونته بل قارنت مثلًا حسن اللقاء و بشاشة الوجه فضلًا عن الاعتذار إليه و التماس العفو عنه ليست خلاف المعروف. نعم سوء الكلام و عبوس الوجه مع الوالدين محرّم و منافٍ لقوله تعالي فَلٰا تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ «2» يجب الاجتناب عنه مطلقاً، و مورد الكلام مجرّد الشهادة.

______________________________

(1) لقمان (31): 15.

(2) الإسراء (17): 23.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 571

______________________________

و ثانياً: لو دلّت الآية علي عدم قبول شهادة الولد علي الوالد لدلّت علي عدم قبولها علي الأُمّ أيضاً؛ لدخولها في ضمير التثنية، و لم يذكر القول به من أحد من الأصحاب، هذا.

و أمّا السنّة: فمرسلة الصدوق حيث قال بعد إيراد صحيح عمّار بن مروان: و في خبر آخر

أنّه لا تقبل شهادة الولد علي والده «1»

و دلالتها علي عدم القبول واضحة. و أمّا سندها فهي و إن كانت مرسلة و لم يسندها الصدوق قدس سره إلي المعصوم بنحو الجزم بمثل «قال»، بل ذكره بتعبير «و في خبر آخر» لكنّ الظاهر أنّ الأصحاب اعتمدوا عليها و استندوا إليها، و إلّا لما كان وجه للعدول عن مقتضي عمومات القبول. و احتمال استنادهم إلي آية المعروف في غاية البعد، كيف و لازمه القول بعدم قبول شهادة الولد

علي الوالدة أيضاً؟ و لم يقل به أحد منهم، بل الشهادة عليها مشمولة لعموم فتواهم بقبول شهادة الأقرباء بعضهم لبعض. و عليه فمن هنا تطمئنّ النفس باستناد الأصحاب إليها، و عمل الأصحاب ينجبر به ضعف السند، هذا.

و في قبال الاستدلال بالكتاب و السنّة علي عدم القبول ربّما يستدلّ بهما علي قبول شهادة الولد علي والده:

أمّا الكتاب: فبقوله تعالي:

______________________________

(1) الفقيه 3: 26/ 71، وسائل الشيعة 27: 369، كتاب الشهادات، الباب 26، الحديث 6.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 572

______________________________

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدٰاءَ لِلّٰهِ وَ لَوْ عَليٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوٰالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّٰهُ أَوْليٰ بِهِمٰا فَلٰا تَتَّبِعُوا الْهَويٰ أَنْ تَعْدِلُوا. «1» الآية، بيان الاستدلال أنّه تعالي أمر المؤمنين بأن يكونوا مراعين لجانب أوامر اللّٰه و طلباته في شهادتهم، فيكونوا شهداء بالحقّ و العدل و لو علي والديهم و أقربائهم. و حيث إنّ حجّية شهادة الشاهد العدل أمر مرتكز في ذهن العقلاء و الشهادة أمر يؤتي به و تقام لإثبات المشهود به عندهم، فحقيقتها أنّها طريق إلي المشهود به، فإذا أمر اللّٰه تعالي بإقامتها علي الوالدين و الأقربين يفهم منه بلا شكّ حجّية شهادة الولد علي والديه و قبولها. و لا يصغي في مثل هذا المورد الذي فيه بناء العقلاء إلي دعوي أنّ الأمر بإقامة الشهادة لا يلازم قبولها، فإنّ العقلاء في مثله يفهمون أنّ الشارع يمضي بكلامه بناءهم.

و أمّا السنّة فبخبرين:

أحدهما: خبر داود بن الحصين الذي لا يبعد كونه صحيح السند بإسناد الصدوق قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول

أقيموا الشهادة علي الوالدين و الولد، و لا تقيموها علي الأخ في الدين الضير (للضير خ.

ل).

قلت: و ما الضير؟ قال

إذا تعدّي فيه صاحب الحقّ الذي يدّعيه قبله خلاف ما أمر اللّٰه به و رسوله، و مثل ذلك أن يكون لآخر علي آخر دين و هو معسر و قد أمر اللّٰه بإنظاره حتّي ييسر، فقال تعالي فَنَظِرَةٌ إِليٰ مَيْسَرَةٍ، و يسألك أن تقيم الشهادة و أنت تعرفه بالعسر، فلا يحلّ لك أن

______________________________

(1) النساء (4): 135.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 573

______________________________

تقيم الشهادة في حال العسر «1».

و كيفية الاستدلال به يعلم ممّا بيّناه في الاستدلال بالآية. و يؤكّد ظهوره جعل الشهادة علي الوالدين في عداد الشهادة علي الأخ، و لا ريب في أنّ الشهادة علي الأخ تقبل و يثبت بها ما عليه فتوقعه في تحمّل العسر؛ فلذلك قد نهي عنها، فكذلك الشهادة علي الوالدين و الولد يثبت بها المشهود به عليهم، و الخبر يدلّ علي ثبوته عليهم بإمضاء بناء العقلاء علي حجّيتها. مضافاً إلي أنّ مفروض كلامه عليه السلام هو الشهادة القائمة عند القاضي التي يثبت بها شرعاً المشهود به.

و ثانيهما: خبر علي بن سويد السائي عن أبي الحسن عليه السلام في حديث قال

كتب أبي في رسالته إليّ و سألته عن الشهادة لهم: فأقم الشهادة للّٰه و لو علي نفسك أو الوالدين و الأقربين فيما بينك و بينهم، فإن خفت علي أخيك ضيماً فلا «2»

، و تقريب الاستدلال به أيضاً يعرف ممّا مرّ في الآية و الحديث السابق.

و قد يقال: إنّ غاية مفاد الآية و الخبرين المتّحدين مضموناً للآية قبول شهادة الولد فيما كان من حقوق اللّٰه تعالي؛ و ذلك لاشتمال الآية و ثاني الخبرين علي التقييد بكون إقامة الشهادة للّٰه تعالي، و هو يتأتّي فيما كان من حقوقه تعالي،

فبها يقيّد إطلاق مرسل الصدوق الدالّ علي عدم القبول

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 340، كتاب الشهادات، الباب 19، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة 27: 315، كتاب الشهادات، الباب 3، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 574

______________________________

مطلقاً. و نتيجته التفصيل بين حقّ الناس فلا تقبل، و حقّ اللّٰه فتقبل فيه شهادة الولد علي الوالد.

أقول: يكفي في كون إقامة الشهادة للّٰه تعالي أمره تعالي بإقامة الشهادة بالعدل في جميع الموارد و لو كان في حقوق الناس، كما يرشد إليه قوله تعالي في ذيل الآية فَلٰا تَتَّبِعُوا الْهَويٰ أَنْ تَعْدِلُوا. و يرشد إليه أيضاً التمثيل في مورد الاستثناء بالشهادة علي الأخ المعسر، و معلوم أنّها من قبيل الشهادة في حقوق الناس، فلا ينبغي الريب في إطلاق الآية و الخبرين، و قد عرفت بيان دلالتهما.

لكن مع ذلك كلّه: فالمشهور بين الأصحاب بل ادّعي عليه الإجماع كما عرفت عدم القبول، و الظاهر استنادهم إلي المرسل المذكور فينجبر به سنده، و يحمل الآية و الخبران في مورد الشهادة علي الوالد علي إرادة معني أعمّ منها؛ بأن يقال: إنّ الغرض الأصيل من الآية الحثّ علي رعاية جانب أوامر اللّٰه و طلباته و تقديمها علي الأحاسيس العاطفية في الوالدين و الأقربين، فضلًا عن الأصدقاء؛ بأن لا يشهد لوالديه شهادة كذباً و زوراً و هكذا، و هذا المعني و إن كان خلاف الظاهر إلّا أنّه لا بأس بالمصير إليه بعد اقتضاء الجمع بينها و بين المرسل الحجّة له.

اللهمّ إلّا أن يحتمل استناد جمع من الأصحاب إلي آية المصاحبة بالمعروف و أنّ الباقين لم يصلوا حدّ الشهرة الكافية في انجبار سند المرسل؛ لا سيّما و مثل السيّد المرتضي في «انتصاره» قائل بالقبول، بل يظهر

منه أنّ عدم القبول ليس بمشهور.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 575

و كذا تقبل شهادة الزوج لزوجتها و عليها، و شهادة الزوجة لزوجها و عليه (56).

______________________________

قال فيه: مسألة: و ممّا انفردت به الإمامية في هذه الأعصار و إن روي لها وفاق قديم القول بجواز شهادة ذوي الأرحام و القربات بعضهم لبعض إذا كانوا عدولًا، من غير استثناء لأحد، إلّا ما يذهب إليه بعض أصحابنا معتمداً علي خبر يرويه من أنّه لا يجوز شهادة الولد علي الوالد و إن جازت شهادته له، انتهي.

و دلالته علي أنّ مذهبه الجواز بلا استثناء و أنّ الاستثناء مذهب بعض أصحابنا واضح. و حينئذٍ فلا يبعد القول بعدم ثبوت جبر ضعف سند المرسل، و بلزوم الأخذ بظاهر الآية و الخبرين الموافقة لعمومات القبول. و التردّد بين الوجهين و عدم ترجيح أحدهما علي الآخر عند الماتن دام ظلّه أوجب أن يقول: «و فيه تردّد»، و قد عرفت أنّ الأقرب هو القبول.

(56) لصحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: قال

تجوز شهادة الرجل لامرأته و المرأة لزوجها إذا كان معها غيرها «1».

و يدلّ علي جواز شهادة كلّ منهما للآخر موثّقة سماعة، و علي شهادة الزوج صحيحة عمّار بن مروان، و سيأتي كلاهما.

و أمّا شهادة كلّ منهما علي الآخر فجوازها مقتضي عمومات القبول،

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 366، كتاب الشهادات، الباب 25، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 576

و لا يعتبر في شهادة الزوج الضميمة (57)

______________________________

و الظاهر أنّ التعرّض في الأخبار لخصوص الشهادة له و لها لأنّها في معرض احتمال عدم الجواز؛ لتطرّق تهمة رعاية جانب المشهود له لعلاقة الزوجية، و هذا الاحتمال غير متطرّق في الشهادة عليه؛ فالعمومات

جارية بلا ريبة.

(57) يعني لا يشترط قبول شهادته بانضمام شاهد آخر بل شهادته شهادة واحدة مقبولة، كما لو شهد لها رجل عدل أجنبي. و الدليل عليه مضافاً إلي اقتضاء إطلاق الأدلّة العامّة صحيحة الحلبي المذكورة آنفاً فإنّ حكمه عليه السلام بجواز شهادته لامرأته بلا قيد و ذكر قيد إذا كان معها غيرها في جانب شهادة المرأة دليل واضح علي عدم اشتراط اعتبار شهادته بالضميمة المذكورة.

و مثلها موثّقة سماعة المضمرة قال: سألته عن شهادة الرجل لامرأته، قال

نعم.

و المرأة لزوجها، قال

لا، إلّا أن يكون معها غيرها «1».

و في صحيحة عمّار بن مروان قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام أو قال: سأله بعض أصحابنا عن الرجل يشهد لامرأته، قال

إذا كان خيّراً (آخر) جازت شهادته (معه) لامرأته «2».

و هذه الصحيحة بناءً علي نسخة «خيراً» و عدم اشتمالها علي كلمتي «آخر» و «معه» تتّحد مع سابقتيها و تكون

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 367، كتاب الشهادات، الباب 25، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة 27: 366، كتاب الشهادات، الباب 25، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 577

و في اعتبارها في الزوجة وجه، و الأوجه عدمه (58).

______________________________

بإطلاقها دليلًا علي عدم اعتبار الضميمة، و هي نسخة «الكافي» «1» و «التهذيب» «2» المطبوعين جديداً التي بأيدينا. و أمّا علي النسخة المشتملة عليهما «3» فربّما يستدلّ بها علي اعتبارها في شهادته أيضاً، لكنّها مضافاً إلي عدم حجّيتها بعد اختلاف النسخ فلا تقوم حجّة قبال الصحيحة و الموثّقة يمكن أن يراد بالجواز المذكور فيها جواز الشهادة بحيث يثبت بها بالفعل حقّ امرأته، و واضح أنّه بانضمام آخر معه يتحقّق قيام البيّنة و يثبت حقّ امرأته. و لا بأس بإرادة الجواز الفعلي بالمعني المذكور و لو

بقرينة الصحيحة و الموثّقة جمعاً عقلائياً.

(58) وجه اعتبار الضميمة فيها: أنّ طبيعي جواز الشهادة الذي جعلت مطلقة بالنسبة إلي الرجل في صحيحة الحلبي قد قيّدت في المرأة بما إذا كان معها غيرها، و لا يمكن إرجاع هذا القيد فيها إلي توقّف ثبوت الحقّ بالفعل بشهادتها علي انضمام الغير إليها؛ إذ لو أُريد هذا المعني جي ء بالقيد في شهادة الرجل أيضاً؛ للاحتياج إلي الضميمة لثبوت الحقّ بالفعل في ناحية الرجل أيضاً.

______________________________

(1) الكافي 7: 393/ 2.

(2) تهذيب الأحكام 6: 247/ 628.

(3) راجع وسائل الشيعة 18: 369، كتاب الشهادات، الباب 25، الحديث 2، (ط دار الكتب الإسلاميّة).

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 578

______________________________

فالحاصل: أنّ الكلام سيق لأصل اعتبار الشهادة من الرجل و المرأة بما أنّها شهادة شاهد واحد، فكان مطلقاً في الرجل و مشروطاً بأن يكون معها غيرها في المرأة.

و منه تعرف دلالة موثّقة سماعة أيضاً فإنّه في الصدر سأل عن شهادة الولد و الوالد و الأخ، فأجاب بقوله

نعم

من غير قيد، و هكذا أجاب في شهادة الرجل لامرأته، فلمّا وصلت نوبة السؤال عن شهادة المرأة لزوجها أفاد في الجواب قوله

لا، إلّا أن يكون معها غيرها.

و احتمال إرادة محتملات أُخري مذكورة في «الجواهر» و غيره فيها خلاف الظاهر جدّاً. فبهذه الأدلّة الخاصّة يخصّص عمومات القبول بما إذا شهد معها غيرها.

و يكفي لأن يكون الأوجه عدمه، احتمال أنّه أُريد من الخبرين الصحيحة و الموثّقة الجواز الفعلي و ترتّب الأثر من غير حاجة إلي شهادة اخري، فهذا الجواز محقّق في شهادة الرجل؛ إذ يمكن إثبات الحقّ بها إذا حلف المدّعي. و أمّا في شهادة المرأة فلا يكتفي بها إلّا إذا كانت معها شهادة اخري. و مجي ء هذا الاحتمال فيهما

يهدم ظهورهما في المعني المذكور المبني عليه اشتراط الضميمة؛ إذ مع إجمالهما الراجع إلي إجمال المخصّص يكفي العمومات لنفي الاشتراط.

و لكنّ الأظهر ما عرفت في وجه الاشتراط؛ و لذا كان الأوجه اعتبار الضميمة.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 579

و تظهر الفائدة فيما إذا شهدت لزوجها في الوصية؛ فعلي القول بالاعتبار لا تثبت، و علي عدمه يثبت الربع (59).

[مسألة 6 تقبل شهادة الصديق علي صديقه]

مسألة 6 تقبل شهادة الصديق علي صديقه و كذا له (60) و إن كانت الصداقة بينهما أكيدة و الموادّة شديدة، و تقبل شهادة الضيف (61) و إن كان له ميل إلي المشهود له.

______________________________

(59) هذا مبني علي ثبوت الوصية علي حساب دخالة الشهادة في إثباتها، و هو علي عهدة ما سيجي ء إن شاء اللّٰه تعالي ذيل المسألة السابعة من مسائل القول في أقسام الحقوق.

(60) ادّعي عليه في «الجواهر» الإجماع بقسميه، و إنّما نقل القول بعدم الجواز في خصوص صورة شدّة الموادّة و تأكّد الصداقة عن بعض الشافعية.

و الدليل عليه بعد الإجماع عمومات القبول، و لا غبار عليها أصلًا؛ أمّا في الشهادة عليه فواضح، و أمّا في الشهادة له فلأنّ المانع المتوهّم من شمولها صدق عنوان المتّهم، و قد عرفت أنّ المراد منه المتّهم بالمعصية الذي لم يثبت عدالته، فلا يصدق فيما نحن فيه بعد فرض العدالة.

(61) ادّعي عليه اللاخلاف في «المسالك»، و يدلّ عليه مضافاً إلي العمومات قوله عليه السلام في موثّقة أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفاً صائناً. «1»

الحديث، و إطلاقه شامل لما إذا

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 372، كتاب الشهادات، الباب 29، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 580

و هل تقبل شهادة الأجير

لمن آجره؟ قولان (62) أقربهما المنع (63).

______________________________

كان له ميل إلي المشهود له، و احتمال المسامحة مندفعة بالعدالة.

(62) فالمحقّق قائل بالقبول و حكي القول به عن ابن إدريس و المتأخّرين، و القول بعدم القبول منقول عن الصدوقين و «نهاية» الشيخ و أبي الصلاح و القاضي و ابن حمزة و ابن زهرة و جماعة.

(63) لعدّه في موثّقة سماعة التي مرّ ذكرها عند إيرادنا لأخبار ردّ شهادة المتّهم في عداد من يردّ شهادته، و لقول أبي عبد اللّٰه عليه السلام في معتبر العلاء بن سيابة

كان أمير المؤمنين عليه السلام لا يجيز شهادة الأجير «1»

، و ظهورهما في عدم القبول واضح. و المنصرف من عدم قبول شهادة الأجير بتناسب الحكم و الموضوع هو أن يشهد لصاحبه طمعاً في أن يرافق معه و ربّما يزيد في أُجرته. اللهمّ إلّا أن يمنع الانصراف؛ إذ ربّما كان بغضه له و عدم الإحسان إليه يوجب في قلبه عداوة منه. فالحقّ أن يؤخذ بالإطلاق كما هو مفاد المتن.

و أمّا قول أبي عبد اللّٰه عليه السلام في ذيل موثّقة أبي بصير

و يكره شهادة الأجير لصاحبه، و لا بأس بشهادته لغيره، و لا بأس به له بعد مفارقته «2»

فالتعبير بالكراهة لا يدلّ علي الجواز؛ إذ لم يعلم إرادة الكراهة الاصطلاحية

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 372، كتاب الشهادات، الباب 29، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة 27: 372، كتاب الشهادات، الباب 29، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 581

و لو تحمّل حال الإجارة و أدّاها بعدها تقبل (64).

[مسألة 7 من لا يجوز شهادته لصغر أو فسق أو كفر]

مسألة 7 من لا يجوز شهادته لصغر أو فسق أو كفر إذا عرف شيئاً في تلك الحال، ثمّ زال المانع و استكمل الشروط فأقام تلك الشهادة تقبل (65).

______________________________

و هي

لغة أعمّ منها، فلا محالة يراد منها الكراهية في مصداق المنع الحتمي بقرينة موثّقة سماعة و معتبر العلاء.

(64) كما هو مقتضي العمومات، مضافاً إلي ما مرّ آنفاً في موثّقة أبي بصير، فتذكّر. و نحوها صدر صحيحة صفوان «1».

(65) لاقتضاء العمومات له فإنّ المستفاد من أدلّة اشتراط البلوغ و الإسلام و الإيمان و العدالة تحقّقها في الشاهد حين الأداء، و لا دليل علي اعتبار تحقّقها فيه حين التحمّل أيضاً، و العمومات تدفعه. مضافاً إلي ورود أخبار خاصّة بالقبول في الصغير و الكافر إذا تحمّلا حال الصغر و الكفر و أدّياها بعد البلوغ و الإسلام.

أمّا في الصغير ففي صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال في الصبي يشهد علي الشهادة، فقال

إن عقله حين يدرك أنّه حقّ جازت شهادته «2»

، فإنّها ظاهرة في جواز شهادة ما تحمّله و هو صبي

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 371، كتاب الشهادات، الباب 29، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 342، كتاب الشهادات، الباب 21، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 582

______________________________

إذا علم بأنّه حقّ بعد ما كبر و بلغ.

و في موثّقة السكوني عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

قال أمير المؤمنين عليه السلام: إنّ شهادة الصبيان إذا أشهدوهم و هم صغار جازت إذا كبروا ما لم ينسوها «2»

، و ظهورها في جواز الشهادة في محلّ الكلام واضح لا يخفي، و نحوها موثّقته الأُخري التي ستجي ء، و موثّقة عبيد بن زرارة أيضاً «3»، فراجع.

و أمّا في الكافر الذي يسلم ففي صحيحة صفوان بن يحيي أنّه سأل أبا الحسن عليه السلام عن رجل أشهد أجيره علي شهادة ثمّ فارقه أ تجوز شهادته بعد أن يفارقه؟ قال

نعم.

قلت: فيهودي اشهد علي شهادة ثمّ

أسلم أ تجوز شهادته؟ قال

نعم «1».

و في صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: سألته عن نصراني أشهد علي شهادة ثمّ أسلم بعد أ تجوز شهادته؟ قال

نعم، هو علي موضع شهادته «2».

و في موثّقة السكوني عن الصادق عليه السلام عن أبيه عن علي عليهم السلام

أنّ شهادة الصبيان إذا شهدوا و هم صغار جازت إذا كبروا ما لم ينسوها،

______________________________

(2) وسائل الشيعة 27: 342، كتاب الشهادات، الباب 21، الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة 27: 343، كتاب الشهادات، الباب 21، الحديث 3.

(1) وسائل الشيعة 27: 387، كتاب الشهادات، الباب 39، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة 27: 388، كتاب الشهادات، الباب 39، الحديث 6.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 583

______________________________

و كذلك اليهود و النصاري إذا أسلموا جازت شهادتهم «1».

و ظهور الأخبار الثلاثة في جواز شهادة اليهودي و النصراني بعد إسلامه بما تحمّله حال كفره واضح؛ و لا سيّما صحيحة صفوان و موثّقة السكوني؛ إذ مقارنتها لشهادة الأجير و الصبي بعد ارتفاع المانع عنهما بما تحمّلاه قبلًا قرينة أُخري تؤكّد الظهور، و نحوها أخبار أُخر واردة في الباب 39 من شهادات «الوسائل»، فراجع.

نعم، في صحيحة جميل قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن نصراني اشهد علي شهادة ثمّ أسلم بعد أ تجوز شهادته؟ قال

لا «2»

و مورد سؤاله بعينه ما ورد في مثل صحيحة ابن مسلم الماضية و صفوان بن يحيي و غيرهما، فحمل مورد السؤال علي مورد آخر غير مسموع عرفاً.

بل الحقّ أنّها تعارض الأخبار الأُخر ممّا مرّ ذكرها أو الإشارة إليها؛ و هي كثيرة مشهورة رواية و فتوي، حتّي أنّه قال في «الجواهر»: بلا خلاف أجده، بل الإجماع بقسميه عليه. و حينئذٍ فيجب الأخذ بما اشتهر

بين الأصحاب و ترك الشاذّ النادر؛ فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه كما في مقبولة عمر بن حنظلة «3» من الأخبار العلاجية.

ثمّ إنّ أخبار إسلام الكافر و إن وردت في اليهودي و النصراني إلّا أنّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 389، كتاب الشهادات، الباب 39، الحديث 8.

(2) وسائل الشيعة 27: 389، كتاب الشهادات، الباب 39، الحديث 7.

(3) وسائل الشيعة 27: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 584

و كذا لو أقامها في حال المانع فردّت ثمّ أعادها بعد زواله (66)، من غير فرق بين الفسق و الكفر الظاهرين و غيرهما.

[مسألة 8 إذا سمع الإقرار مثلًا صار شاهداً]

مسألة 8 إذا سمع الإقرار مثلًا صار شاهداً و إن لم يستدعه المشهود له أو عليه (67)، فلا يتوقّف كونه شاهداً علي الإشهاد و الاستدعاء،

______________________________

الحكم جارٍ في غيرهما أيضاً بعد اقتضاء العمومات.

(66) عملًا بإطلاق العمومات و الأخبار الخاصّة. و احتمال المسامحة مندفع باشتراط العدالة و إحرازها.

(67) في «الجواهر» عن «غاية المراد»: لا خلاف عندنا أنّ المختبئ شهادته مقبولة. و ذهب شريح إلي عدم قبولها، و هو منقول عن مالك. و يقال: إنّه قول ضعيف للشافعي. إلي أن قال: و يظهر من كلام ابن الجنيد ذلك حيث قال: أو كان من خدع فستر عنه لم يكن له أن يشهد عليه، و قد سبقه الإجماع و تأخّر عنه، انتهي. فتراه أنّه ادّعي اللاخلاف أوّلًا ثمّ الإجماع في الردّ علي ابن الجنيد، و مورد كلامه قدس سره و إن كان خصوص المختبئ الذي يختفي بغاية سماع إقرار المشهود عليه إلّا أنّه يعلم منه حجّية شهادة الحاضر أو العابر الذي يسمع كلامهما أو حسابهما أو معاملتهما و أمثال ذلك بطريق أولي.

و

كيف كان: فالدليل علي حجّيتها، مضافاً إلي عمومات القبول؛ فإنّ العقلاء لا يعتبرون في حجّية قول الثقات أزيد من كونهم ثقات سواء دعوا إلي تحمّل ما يخبرون به و يشهدون به، أم اتّفق علمهم به بوجه آخر-

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 585

فحينئذٍ إن لم يتوقّف أخذ الحقّ علي شهادته فهو بالخيار بين الشهادة و السكوت (68)،

______________________________

و الشارع بحسب الأدلّة لم يزد في شرائطه أزيد من العدالة و الإيمان و طيب المولد مثلًا، و لا دليل علي اعتبار الدعوة إلي التحمّل، فسيرة العقلاء متّبعة و ممضاة في عدم اعتبارها.

فمضافاً إليها يدلّ علي عدم الاعتبار الأخبارُ الخاصّة الدالّة علي تخيير من سمع الشهادة و لم يشهد عليها بين إقامتها و عدمها؛ فإنّ مفروضها أنّه لو أقامها و أدّاها فهي مسموعة مقبولة لكنّه مخيّر بين الإقامة و العدم، إلّا أن يعلم بإيراد الظلم علي المشهود له بترك الإقامة فتجب حينئذٍ، و سيأتي هذه الأخبار.

(68) لصحيح هشام بن سالم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

إذا سمع الرجل الشهادة و لم يشهد عليها فهو بالخيار إن شاء شهد و إن شاء سكت

و قال

إذا أُشهد لم يكن له إلّا أن يشهد «1».

و دلالته علي التفصيل بين ما إذا أشهد و دعي إلي تحمّل الشهادة فيجب عليه إقامتها و أداؤها، و بين ما سمع المشهود به من غير إشهاد فهو مخيّر بين الإقامة و عدمها واضحة. و بمثلها يخصّص العمومات الدالّة علي وجوب إقامتها مطلقاً.

و في صحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال

إذا سمع الرجل

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 318، كتاب الشهادات، الباب 5، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 586

و إن توقّف

وجبت عليه الشهادة بالحقّ (69)، و كذا لو سمع اثنين يوقعان عقداً كالبيع و نحوه أو شاهد غصباً أو جناية، و لو قال له الغريمان أو أحدهما: «لا تشهد علينا» فسمع ما يوجب حكماً، ففي جميع تلك الموارد يصير شاهداً.

______________________________

الشهادة و لم يشهد عليها فهو بالخيار إن شاء شهد و إن شاء سكت «1».

و في صحيحته الأُخري عن الباقر عليه السلام في الرجل يشهد حساب الرجلين ثمّ يدعي إلي الشهادة، قال

إن شاء شهد و إن شاء لم يشهد «2»

إلي غير ذلك من الأخبار.

(69) فإنّ إطلاق الصحاح المذكورة و إن اقتضي تخييره بين الأداء و السكوت حتّي مع التوقّف إلّا أنّ هنا بعض الصحاح يدلّ علي الوجوب معه؛ ففي صحيحة أُخري لمحمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال

إذا سمع الرجل الشهادة و لم يشهد عليها فهو بالخيار إن شاء شهد و إن شاء سكت، إلّا إذا علم مَن الظالم فيشهد، و لا يحلّ له إلّا أن يشهد «3».

و مثلها بعينها مرسل يونس عن بعض رجاله عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام إلّا أنّ في آخره

و لا يحلّ له أن لا يشهد «4».

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 317، كتاب الشهادات، الباب 5، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 319، كتاب الشهادات، الباب 5، الحديث 6.

(3) وسائل الشيعة 27: 318، كتاب الشهادات، الباب 5، الحديث 4.

(4) وسائل الشيعة 27: 320، كتاب الشهادات، الباب 5، الحديث 10.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 587

[مسألة 9 المشهور بالفسق إن تاب لِتقبل شهادته لا تقبل]

مسألة 9 المشهور بالفسق إن تاب لِتقبل شهادته لا تقبل، حتّي يستبان منه الاستمرار علي الصلاح و حصول الملكة الرادعة (70)،

______________________________

و بيان دلالتها: أنّها و إن صرّحت بالخيار كما في الصحاح السابقة إلّا أنّها

استثنت صورة؛ و هي ما إذا علم هذا السامع للمشهود به من الظالم، و لا محالة إنّما يتحقّق هذه الصورة فيما يتحقّق ظلم من المشهود عليه بشهادته علي المشهود له لو لم يشهد، و هو إنّما يكون فيما لم يكن للمظلوم طريق لإثبات حقّه سوي شهادة السامع، و إلّا لالتجأ إليه عادة، و هو عبارة أُخري عن توقّف إحقاق حقّه علي شهادته، فإذا توقّف عليها و علم السامع بذلك فهاهنا يصدق ما في الصحيحة من قوله

إذا علم مَن الظالم فيجب عليه أن يشهد، و لا يحلّ له أن لا يشهد.

و حيث إنّ الظاهر أنّ العلم بالواقعة شرط تنجّز التكليف عليه و إلّا كان مرفوعاً فلذلك أُخذ العلم في الصحيحة. و التعبير بواقع التوقّف في عبارة المتن دون العلم بالتوقّف مبني علي استظهار كونه هنا أيضاً شرط التنجّز، و إلّا فلو احتمل موضوعيته لكان مقتضي إطلاق صدر الصحيحة عدم وجوبه واقعاً إلّا إذا علم التوقّف.

(70) و ذلك لما عرفت ذيل البحث عن اشتراط العدالة في الشاهد: أنّ ظاهر قوله عليه السلام في صحيح ابن أبي يعفور الوارد في تعريف العدالة

أن تعرفوه بالستر و العفاف و كفّ البطن و اليد و اللسان و يعرف باجتناب

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 588

و كذا الحال في كلّ مرتكب للكبيرة بل الصغيرة (71). فميزان قبول الشهادة هو العدالة المحرزة بظهور الصلاح؛ فإن تاب و ظهر منه الصلاح يحكم بعدالته و تقبل شهادته.

______________________________

الكبائر التي أوعد اللّٰه عليها النار «1»

استمرار هذه المعاني فيه، و هو لا يكون إلّا بالاستمرار علي الصلاح الملازم لحصول الملكة الرادعة عن مطلق المعاصي كما عرفت. و حينئذٍ فمن كان مشهوراً بالفسق و استمرّ عليه ثمّ

تاب واقعاً و عزم علي ترك المعاصي جدّاً فبمجرّد هذا العزم لا يدخل في مفهوم

أن تعرفوه بالستر و العفاف.

إلي آخره، إلّا أن يستمرّ علي ترك المعاصي مدّة و يعرف بذلك و يلزمه حصول الملكة الرادعة قهراً.

(71) بناءً علي ما عرفت من أنّ ظاهر الصحيحة الاستمرار علي ترك المعاصي كبيرة كانت أو صغيرة فإذا ارتكب معصية فلا محالة قد انقطع منه هذا الاستمرار، فلا تقبل شهادته؛ لعدم صدق ميزان قبول الشهادة فيه؛ و هو

أن تعرفوه بالستر و العفاف.

إلي آخره. و بعد انقطاعه فلا محالة لا يترتّب عليه أثر الاستمرار علي العفاف و الكفّ عن المعاصي إلّا إذا رجع إليه ثانياً؛ بأن يستمرّ علي الصلاح إلي أن يعرف فيه أنّه ممّن يكفّ نفسه عن المعاصي.

فلا فرق بحسب الصحيحة بين المشهور بالفسق و العادل الذي ارتكب

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 391، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 589

______________________________

معصية واحدة في لزوم الاستمرار المذكور منهما بعد التوبة.

و لا يبعد أن يقال: إنّهما و إن لم يفترقا بحسب مضمون الصحيحة إلّا أنّ المستفاد من الأخبار الاكتفاء بمجرّد التوبة في العادل المرتكب للمعصية؛ و ذلك لما في موثّقة السكوني عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

قال أمير المؤمنين عليه السلام: ليس يصيب أحد حدّا فيقام عليه ثمّ يتوب إلّا جازت شهادته «1»

، فتراه أنّه عليه السلام حكم بجواز شهادة المحدود و هو مرتكب لكبيرة لا محالة بمجرّد التوبة، و واضح أنّ الحكم بالجواز حيثي؛ بمعني أنّه لا يردّ شهادته بعد توبته لمكان أنّه ارتكب ما يوجب الحدّ؛ بداهة أنّه عليه السلام لا يريد بكلامه هذا إلغاء سائر الشرائط. و حينئذٍ فإذا لم يكن مانع و

وجه لردّ الشهادة إلّا أنّه ارتكب ما أوجب حدّا فيرتفع هذا المانع بمقتضي الموثّقة بمجرّد التوبة، و لازمه ما ذكرناه من قبول شهادة العادل إذا ارتكب معصية ثمّ تاب عنه بلا حاجة إلي الاستمرار علي الصلاح بعد التوبة.

كان ختام التحرير يوم الأحد 3 رجب 1403 28 فروردين 1362 هجري. ش

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 384، كتاب الشهادات، الباب 36، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 591

[القول فيما به يصير الشاهد شاهداً]

اشارة

القول فيما به يصير الشاهد شاهداً

[مسألة 1 الضابط في ذلك العلم القطعي و اليقين]

مسألة 1 الضابط في ذلك العلم القطعي و اليقين (1)،

______________________________

(1) الاكتفاء باليقين في الجملة ممّا لا إشكال فيه و لا خلاف بين الأصحاب، و عن «كشف اللثام» نسبة العمل بخبر عمر بن يزيد «1» المتضمّن لجواز الاستناد في الشهادة بخطّه الذي لا يذكر مفاده إذا شهد به المدّعي و كان ثقة و رجل آخر ثقة إلي الشيخين و الصدوقين و سلّار و ابني الجنيد و البرّاج، و عن «الدروس» أنّه قال: و لا عبرة بالخطّ و إن أمن التزوير عند الحلبيين، و قال الأكثر: إذا كان المدّعي ثقة و شهد آخر ثقة أقامها، انتهي، و عن «المختلف» أيضاً نسبة العمل بخبر عمر بن يزيد إلي المشهور من القدماء، و لكن نسب الاعتماد إلي خصوص العلم إلي المشهور بين المتأخّرين.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 321، كتاب الشهادات، الباب 8، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 592

______________________________

و الظاهر: أنّ منشأ الاختلاف، الأدلّة التي استدلّ بها؛ فالمهمّ تفهّم مداليلها.

فنقول: إنّ البيّنة عبارة عن أخبار أكثر من واحد كلّ منهم واجد لشرائط قبول الخبر عند العقلاء، غاية الأمر أنّ الشارع اعتبر فيهم شرائط أزيد من شرائطهم، و واضح أنّ كلّ من أحرز أمراً بطريق معتبر فلا بأس عندهم بإخباره به، و إخباره هذا طريق معتبر عندهم لإحراز ما أخبر به، نعم لا بدّ من أن يكون الإخبار بنحو لا يكون فيه إغراء بالجهل فإنّه تدليس و خلاف مقتضي العدالة و الوثاقة.

فبحسب سيرة العقلاء كما يصحّ استناد الشهود إلي العلم من أيّ طريق حصل يجوز استنادهم إلي سائر الطرق أو الأُصول الشرعية. نعم في الاستناد إلي العلم الحاصل من طريق غير عادي

كلام سيأتي التعرّض له إن شاء اللّٰه تعالي.

و أمّا الأدلّة النقلية: فربّما يستدلّ لاعتبار الاستناد إلي خصوص العلم الحاصل بلا واسطة عن الطرق المحسوسة حتّي لا يكفي الاعتماد إلي العلم الحاصل بالتواتر مثلًا فيما يمكن فيه مشاهدته و هكذا، بأنّه لا ريب في أنّ البيّنة في لسان الشرع عبارة أُخري عن الشهود، و يصدق علي كلّ منهم عنوان الشاهد، و المفهوم الأوّلي من الشهادة هو الحضور كما في قوله تعالي فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ «1» و قوله تعالي:

______________________________

(1) البقرة (2): 185.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 593

______________________________

عٰالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهٰادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعٰالِ «1»، إلي غير ذلك من الآيات المباركة.

فالشاهد علي شي ء إنّما يصدق عليه هذا العنوان إذا كان حاضراً عنده، و الحضور الحقيقي إنّما هو بأن يحضر بجسمه عنده و يحسّه بإحدي حواسّه، فإذا علم به بواسطة تواتر الأخبار أو القرائن و الآثار من دون أن يحضره فلا يصدق عليه عنوان الشاهد و لا علي إخباره عنوان أداء الشهادة.

لكنّ الحقّ: عدم اختصاص صدق عنوانه بخصوص موارد الحضور، بل استعملت مادّة الشهادة بلا تأويل فيما لم يكن حضور جسماني أيضاً، كما في قوله تعالي وَ شَهِدَ شٰاهِدٌ مِنْ أَهْلِهٰا «2»، و معلوم أنّ الشاهد لم يكن حاضر مجلس القدّ، و قولنا: أشهد أن لا إله إلّا اللّٰه و أشهد أنّ محمّداً رسول اللّٰه، فلا دليل في مفهوم الشاهد إلّا أن يكون المشهود به حاضراً و لو في اعتقاده. فالإخبار بما أحرزه و اعتقد به بطريق حجّة معتبرة يصدق عليه عنوان الشهادة، و لو كان إحرازاً علمياً مع الواسطة، بل إحرازاً معتبراً غير علمي.

و ربّما يستدلّ بقوله تعالي وَ لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ

بِهِ عِلْمٌ «3» فإنّه تعالي نهي عن اتّباع مطلق ما ليس لنا به علم و لو كان عليه طريق و حجّة معتبرة، فالشاهد إذا استند في شهادته إلي غير العلم فقد اتّبع

______________________________

(1) الرعد (13): 9.

(2) يوسف (12): 26.

(3) الإسراء (17): 36.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 594

______________________________

غير العلم و عصي نهيه تعالي.

و فيه: أنّ النهي عن اتّباع غير العلم ظاهر عرفاً في عدم حجّية غير العلم فلا يجوز اتّباعه، و حيث إنّ المفروض أنّ الشاهد يستند إلي طريق أو أصل معتبر فاستناده إليه في شهادته ليس فيه أكثر من اتّباع هذا الأصل أو الطريق و العمل به، و المفروض أنّه معتبر شرعاً.

و بعبارة اخري: أنّ التعارض لو كان فهو بين إطلاق نهي الآية و أدلّة حجّية الطرق و الأُصول التي يستند الشاهد إليها، و حيث إنّ المفروض هنا حجّيتها فكان المفروض تقديم أدلّة حجّيتها علي إطلاق الآية بورود أو حكومة أو غيرهما، و أداء الشهادة استناداً إليها ليس فيه أمر زائد حديث أزيد من العمل بأدلّة حجّية هذه الأُصول و الأمارات، و المفروض أنّه لا بأس به.

فالاستدلال لاعتبار العلم و اليقين بالمشهود به في حجّية الشهادة بالسيرة أو مادّة الشهادة أو أدلّة النهي عن اتّباع غير العلم أو الظنّ غير صحيح.

فلا بدّ من تبيّن مفاد الأدلّة الخاصّة التي وردت في مقام إفادة اعتبار العلم بالمشهود به:

فممّا يستدلّ به علي اعتبار العلم بالمشهود به من الآيات قوله تعالي إِلّٰا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ، و لعلّ بيان الاستدلال به: أنّه تعالي جعل المستثني في الآية المباركة الذي يعتني بشهادة من شهد بالحقّ و كان عالماً بما يشهد به، فالعلم بالمشهود به معتبر.

مباني تحرير

الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 595

______________________________

و فيه: أنّ الآية المباركة من آيات سورة الزخرف و تمامها هكذا وَ لٰا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفٰاعَةَ إِلّٰا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ «1»، فتري أنّ صدرها في مقام نفي مالكية الشفاعة عنده تعالي عن آلهة المشركين، و إنّما استثني خصوص من شهد بالحقّ و هم يعلمون، و لعلّ هؤلاء شهداء الأعمال.

و كيف كان: فقد اعتبر تعالي فيمن يملك الشفاعة أن يكون من شهد بالحقّ و هم يعلمون، فاعتبر العلم بالمشهود به في الشفعاء، و هو لا يلازم اعتباره في كلّ من يشهد عند القاضي أو غيره علي أمر جزئي. اللهمّ إلّا أن يفهم منه: أنّه اقتضاء الشهادة مطلقاً و هو ممنوع.

نعم، قد ورد في ذيل ما رواه «المستدرك» عن «دعائم الإسلام» عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام

لا تشهد حتّي تعلم أنّك أشهدت، قال اللّٰه تعالي إِلّٰا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ «2»، لكن الآية بنفسها غير ظاهرة و الرواية لا حجّة فيها.

و منها: النبوي المذكور في متن «الشرائع»، و المروي في «المستدرك» عن «غوالي اللآلي» من أنّه صلي الله عليه و آله و سلم سئل عن الشهادة، فقال: هل تري الشمس؟ علي مثلها فاشهد أو دع «3»

، دلّ علي أنّه إنّما تجوز الشهادة علي ما كانت بيّنة واضحة للشاهد مثل الشمس التي يراها، و إلّا فعليه أن يترك

______________________________

(1) الزخرف (43): 86.

(2) مستدرك الوسائل 17: 413، كتاب الشهادات، الباب 5، الحديث 2.

(3) مستدرك الوسائل 17: 422، كتاب الشهادات، الباب 15، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 596

______________________________

الشهادة، بل ربّما يحتمل أن لا تجوز الشهادة إلّا علي ما كانت معلومة بالرؤية؛ فإنّه

صلي الله عليه و آله و سلم أتي ابتداءً بقوله

هل تري الشمس؟

ثمّ أمر بالشهادة علي مثلها، فيقال: إنّ مثلها ما كانت معلومة بالرؤية، غاية الأمر أن يلغي الخصوصية و يراد ما كانت معلومة بإحدي الحواسّ، فلا يشمل ما إذا علم بمثل التواتر.

و أنت خبير بضعف هذا الاحتمال؛ فإنّه جوّز الشهادة بما كانت مثل الشمس و لم يصرّح بجهة المماثلة المنظورة، فلعلّ المقصود ما كان مثلها في الوضوح و عدم الإبهام و احتمال الخلاف، لا في كونها معلومة بالرؤية.

و يؤيّد إرادة المماثلة في الوضوح أوّلًا اشتهار التشبيه بمثل الشمس في رابعة النهار، و بمثل الشمس في المطالب التي يراد إظهار وضوحها.

و ثانياً بأنّ بعض الأُمور ممّا لا يحسّ بالحواسّ الظاهرة كعدالة الشخص إذا علم بها، بل و كون هذا الشي ء ملكاً لأحد؛ فإنّ الملكية أو العدالة ليست ممّا يحسّ بنفسها بالحواسّ، و من البديهي جواز الشهادة بهما إذا علم بها.

و بالجملة: فظاهر النبوي التشبيه في الوضوح، و أن يجب أن يكون المشهود به معلوماً و ظاهراً عند الشاهد لا يحتمل فيه الخلاف أصلًا كما يري الشمس، فدلالة النبوي علي اعتبار اليقين بالمشهود به واضحة، لكنّه مرسل غير معلوم السند فلا حجّة فيه.

و منها: ما في «المستدرك» عن أصل زيد الزرّاد قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول

لا تشهد علي ما لا تعلم، و لا تشهد إلّا علي ما تعلم

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 597

______________________________

و تذكر.

قلت: فإن عرفت الخطّ و الخاتم و النقش و لم أذكر شيئاً أشهد؟ فقال

لا، الخطّ يفتعل و الخاتم قد يفتعل، لا تشهد إلّا علي ما تعلم و أنت له ذاكر «1».

و دلالته علي اعتبار العلم و الذكر بما

يشهد عليه واضحة، لكن سنده ضعيف؛ لعدم اعتبار نسخة أصل زيد و عدم وجود الخبر في المجاميع المعتبرة، و لم يثبت وثاقة زيد، و قال الصدوق: كان محمّد بن الحسن بن وليد يقول: وضع أصل زيد محمّد بن موسي الهمداني، فراجع.

و منها: ما رواه علي بن غياث و برواية الصدوق علي بن غراب عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

لا تشهدنّ بشهادة حتّي تعرفها كما تعرف كفّك «2».

و دلالتها علي اعتبار العلم بالمشهود به واضحة، و التشبيه بكونها معروفة كما تعرف كفّك يراد به أن يكون ممّا لا يحتمل فيه الخلاف أصلًا كما مرّ في نبوي «الشرائع»، إلّا أنّ في جميع إسناده إدريس بن الحسن الذي قال فيه مثل صاحب «المستدرك» إنّه غير مذكور؛ و لذا قال في «المستدرك»: فالسند ضعيف، إلّا أن يقال: إنّ علي بن غراب ثقة و يروي كتابه عنه جماعة، فلا يضرّ جهالة إدريس؛ لكونه من مشايخ الإجازة في المقام فالخبر صحيح، انتهي.

و منها: مرسلة الصدوق قال: و روي

أنّه لا تكون الشهادة إلّا بعلم من شاء كتب كتاباً أو نقش خاتماً «3»

؛ يعني من شاء يفتعل الخطّ و الخاتم

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 17: 414، كتاب الشهادات، الباب 5، الحديث 6.

(2) وسائل الشيعة 27: 341، كتاب الشهادات، الباب 20، الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة 27: 341، كتاب الشهادات، الباب 20، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 598

______________________________

فلا يجوز الاستناد إلي مجرّدهما، إلّا إذا حصل منهما العلم. و يحتمل ضعيفاً أن يراد من شاء فليكتب و يختم عليه حتّي يكون مذكّراً له فيما يأتي من الأزمان.

و كيف كان: فسندها أيضاً ضعيف؛ لا سيّما و الصدوق ذكرها بمثل «روي» و لم يسندها إلي

المعصوم جزماً. اللهمّ إلّا أن تكون هي الموثّقة الآتية.

و منها: ما رواه الكليني و الشيخ عن السكوني في الموثّق عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم: لا تشهد بشهادة لا تذكرها؛ فإنّه من شاء كتب كتاباً و نقش خاتماً «1»

و هو يدلّ علي عدم جواز الشهادة بما لا يذكرها؛ لاحتمال الافتعال و الجعل فيها، فلا يجوز له أن يشهد بمجرّد رؤية خطّه و خاتمه ما لم يذكرها، فيدلّ علي أنّ ملاك جواز الشهادة هو الذكر و هو عبارة أُخري عن العلم، فيدلّ علي اعتبار العلم بالمشهود به.

اللهمّ إلّا أن يقال: غاية مدلوله عدم جواز الشهادة بما لا يذكره، و هو بقرينة ذيله مناسب لما وجد عليها خطّاً و خاتماً و مع ذلك لا يذكرها، و أمّا دلالته علي عدم جواز الاعتماد فيها بالأُصول و الطرق المعتبرة شرعاً فممنوعة، كما لا يخفي علي من تأمّل.

و حينئذٍ: فلا عموم فيه، بل هو مثل صحيحة الحسين بن سعيد قال: كتب إليه جعفر بن عيسي: جعلت فداك جاءني جيران لنا بكتاب زعموا

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 323، كتاب الشهادات، الباب 8، الحديث 4.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 599

______________________________

أنّهم أشهدوني علي ما فيه، و في الكتاب اسمي بخطّي قد عرفته و لست أذكر الشهادة، و قد دعوني إليها فأشهد لهم علي معرفتي أنّ اسمي في الكتاب و لست أذكر الشهادة أو لا تجب الشهادة عليّ حتّي أذكرها كان اسمي (بخطّي خ. ل) في الكتاب أو لم يكن؟ فكتب

لا تشهد «1»

؛ فإنّها دالّة علي عدم جواز الشهادة استناداً إلي مجرّد خطّه ما لم يذكر الشهادة، و أمّا عدم جواز الاعتماد

فيها علي الطرق أو الأُصول المعتبرة فلا تعرّض لها به. اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ تعليق الجواز هنا علي الذكر إنّما هو لاشتراط الشهادة بالعلم، و هو غير واضح كما عرفت.

و منها: صحيحة معاوية بن وهب التي لا يضرّها الإضمار قال: قلت له: إنّ ابن أبي ليلي يسألني الشهادة عن هذه الدار مات فلان و تركها ميراثاً، و أن ليس له وارث غير الذي شهدنا له، فقال

اشهد بما هو علمك.

قلت: إنّ ابن أبي ليلي يحلفنا الغموس، قال

احلف، إنّما هو علي علمك «2».

فمورد السؤال و إن كان الشهادة علي الدار التي مات صاحبها إلّا أنّ تعليق جواز الشهادة في الجواب بما يعلم في قوله

اشهد بما هو علمك

ظاهر عرفاً بلزوم استناد الشهادة إلي العلم و أن يشهد بما يعلم به؛ و لذلك فلا بأس بأن يحلفه القاضي؛ إذ هو يشهد بما هو علمه و يحلف علي علمه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 322، كتاب الشهادات، الباب 8، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة 27: 336، كتاب الشهادات، الباب 17، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 600

______________________________

فلا تختصّ الصحيحة بمورد السؤال، و المشهود به في مورد سؤاله و إن لم يبيّن هل هو ملكية الدار للميّت أو انحصار ورثته في أشخاص بعينه، و إن كان انحصار الورثة داخلًا في المشهود به علي أيّ حال، إلّا أنّه لا يضرّ بدلالته علي أنّ ميزان جواز الشهادة أن يكون مستندة إلي علمه.

و منها: صحيحة حريز عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في أربعة شهدوا علي رجل محصن بالزنا فعدّل منهم اثنان و لم يعدّل الآخران، فقال

إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور أُجيزت شهادتهم جميعاً و أُقيم الحدّ علي الذي

شهدوا عليه، إنّما عليهم أن يشهدوا بما أبصروا و علموا، و علي الوالي أن يجيز شهادتهم إلّا أن يكونوا معروفين بالفسق «1».

فقد جعل وظيفة الشهداء أن يشهدوا بما أبصروا و علموا، و الظاهر أنّ ذكر الإبصار لكونه طريقاً لحصول العلم، فهي و إن ورد في خصوص الشهادة بالزنا إلّا أنّه ليس دعوي إلغاء خصوصية المورد و أنّ المراد اعتبار العلم في مطلق الشهادة ببعيدة، و لا أقلّ من التأييد.

فتلخّص: أنّ الروايات المنقولة الدالّة علي اعتبار العلم بالمشهود به و إن كانت كثيرة إلّا أنّ ما يعتبر سنده و يتمّ دلالته منحصر في صحيح معاوية بن وهب، و هو و إن دلّ علي اعتبار العلم إلّا أنّ الظاهر أنّه لا يقاوم أدلّة اعتبار البيّنة و اليد، بل و الاستصحاب ممّا هو علم عرفاً أو تعبّداً، فكما أنّ أدلّة اعتبار هذه الأُمور مقدّمة علي مثل

رفع ما لا يعلمون

فكذلك

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 397، كتاب الشهادات، الباب 41، الحديث 18.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 601

فهل يجب أن يكون العلم مستنداً إلي الحواسّ الظاهرة فيما يمكن، كالبصر في المبصرات و السمع في المسموعات و الذوق في المذوقات و هكذا، فإذا حصل العلم القطعي بشي ء من غير المبادئ الحسّية حتّي في المبصرات من السماع المفيد للعلم القطعي، لم يجز الشهادة، أم يكفي العلم القطعي بأيّ سبب، كالعلم الحاصل من التواتر و الاشتهار؟ وجهان، الأشبه الثاني (2). نعم يشكل جواز الشهادة فيما إذا حصل العلم من الأُمور غير العادية (3) كالجفر و الرمل، و إن كان حجّة للعالم.

______________________________

علي هذه الصحيحة، و سيجي ء للكلام تتمّة عند التعرّض للمسألة الثالثة.

(2) لما عرفت من أعمّية موضوع الاعتبار عند العقلاء، و أنّ الأدلّة

الشرعية إنّما اعتبرت العلم بالمشهود به و لم تعتبر فيه حصوله من طريق خاصّ، فهو باقٍ علي عمومه كما عند العقلاء.

(3) و ذلك أنّه يمكن دعوي أنّ العقلاء إنّما يعتبرون أخبار الثقة و يرونه حجّة إذا استند إلي الطرق العادية. و أمّا غير العادية فلم يعلم اعتبار الخبر المستند إليها عندهم، و الأدلّة الشرعية إنّما قامت بصدد بيان اعتبار العلم بالمشهود به في قبال أن يستند إلي الظنّ مثلًا، و لا إطلاق لها يقتضي حجّية الاستناد إلي علم لا يرونه العقلاء كافياً في حجّية المستند إليه.

ثمّ إنّه ينبغي أن يعلم: أنّ الأُمور و الطرق العادية لا تنحصر فيما يعرفه كلّ الناس، بل تشمل ما إذا كان عرفانه محتاجاً إلي خبروية و تخصّص، كعلم الهندسة و علم خواصّ الأشياء و الرياضيات؛ فإنّها أُمور و علوم عادية

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 602

[مسألة 2 التسامع و الاستفاضة إن أفادا العلم يجوز الشهادة بهما]

مسألة 2 التسامع و الاستفاضة إن أفادا العلم يجوز الشهادة بهما، لا لمجرّد الاستفاضة، بل لحصول العلم. و حينئذٍ لا ينحصر في أُمور خاصّة، كالوقف و الزوجية و النسب و الولاء و الولاية و نحوها، بل تجوز في المبصرات و المسموعات إذا حصل منهما العلم القطعي (4) و إن لم يفدا علماً و إنّما أفادا ظنّاً و لو متآخماً للعلم لا يجوز الشهادة بالمسبّب (5).

______________________________

مبتنية علي مبادٍ قطعية، و إن كانت لا تنالها يد كلّ أحد بل يحتاج نيلها إلي تحصيل مقدّمات علمية، فالعالم بها إذا استند علمه بالمشهود به علي أحدها تقبل شهادته، كما تقبل الشهادة فيما لا يحتاج إلي الاستفادة من قواعد هذه العلوم و معلوماتها.

(4) لما عرفت من جواز استناد الشاهد في علمه إلي كلّ الطرق العادية، و حصول

العلم بالاستفاضة و التواتر أمر عادي تقبل الشهادة عن علم مستند إليه.

(5) لعدم ثبوته لا بالعلم و لا بطريق معتبر. نعم إذا وصل الظنّ مرتبة الاطمئنان الذي يعبّر عنه عند العقلاء بالعلم و يكون حجّة عندهم يجوز حينئذٍ الشهادة بالمسبّب، لكنّه في الحقيقة داخل في حصول العلم، و قد مرّ في المسألة العاشرة من مسائل القول في كتاب قاض إلي قاض ما تدلّ علي حجّية الاطمئنان عنده، دام ظلّه.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ التقييد بالقطعي هنا يقتضي عدم جواز استناد الشاهد إلي الاطمئنان، و حينئذٍ فمدركه الأخبار الظاهرة في اعتبار خصوص

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 603

نعم يجوز الشهادة بالسبب (6) بأن يقول: إنّ هذا مشهور مستفيض، أو إنّي أظنّ ذلك أو من الاستفاضة.

[مسألة 3 هل يجوز الشهادة بمقتضي اليد و البيّنة و الاستصحاب و نحوها]

مسألة 3 هل يجوز الشهادة بمقتضي اليد و البيّنة و الاستصحاب و نحوها من الأمارات و الأُصول الشرعية (7)؛ فكما يجوز شراء ما في يده أو ما قامت البيّنة علي ملكه أو الاستصحاب، كذلك تجوز الشهادة علي الملكية. و بالجملة يجوز الاتّكال علي ما هو حجّة شرعية علي الملك ظاهراً، فيشهد بأنّه ملك مريداً به الملكية في ظاهر الشرع؟ وجهان، أوجههما عدم الجواز إلّا مع قيام قرائن قطعية توجب القطع، نعم تجوز الشهادة بالملكية الظاهرية مع التصريح به؛ بأن يقول: هو ملك له بمقتضي يده أو بمقتضي الاستصحاب، لا بنحو الإطلاق. و وردت رواية بجواز الشهادة مستنداً إلي اليد، و كذا الاستصحاب.

______________________________

اليقين التي قد عرفت عدم حجّيتها سنداً، فتذكّر.

(6) فإنّ السبب أعني الشهرة و الاستفاضة وجوده و تحقّقه معلوم قطعي، و كذلك ظنّه الحاصل منه، فالشهادة بهما شهادة بما يعرفه كما يعرف كفّه.

(7) ادّعي الشيخ في «الخلاف» الإجماع علي

جواز الشهادة بملكية من كان في يده شي ء يتصرّف فيه بلا دافع و لا منازع بسائر أنواع التصرّف؛ طالت مدّة التصرّف أم قصرت. و في «الجواهر» قيل: إنّ المشهور قد اكتفوا بمجرّد اليد في جواز الشهادة بلا حاجة إلي التصرّف المذكور، بل قيل:

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 604

______________________________

لا خلاف فيه محقّق، انتهي. و عن الشيخ قدس سره في «المبسوط» أنّه قال: لو شهد عدلان فصاعداً صار السامع متحمّلًا و شاهد أصل لا شاهداً علي شهادتهما.

و التحقيق: أنّه بناءً علي الاستدلال لاعتبار العلم في صيرورة الشاهد شاهداً بمثل قوله عليه السلام في صحيحة معاوية بن وهب

اشهد بما هو علمك

فأدلّة اعتبار الطرق مقدّمة علمية و واردة و أدلّة حجّية الاستصحاب حاكمة؛ لعين ما يقال في وجه تقدّمها علي مثل حديث

رفع ما لا يعلمون

و قاعدة الطهارة كما عرفت.

و أمّا إن قلنا بأنّ خبر علي بن غراب عن الصادق عليه السلام

لا تشهدنّ بشهادة حتّي تعرفها كما تعرف كفّك «1»

معتبر؛ لأنّ الصدوق في «الفقيه» قد رواه عن كتابه، و كتابه من الكتب المشهورة؛ لما قال الصدوق في مقدّمة «الفقيه»: و جميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعوّل و إليها المرجع، فلا يضرّ باعتباره وقوع إدريس بن الحسن في سند الصدوق إليه.

فحينئذٍ فظاهر الخبر اعتبار العلم القطعي أو الاطمئنان الواضح العقلائي؛ ضرورة أنّه بدونهما لا يصدق أنّه يعرفها كما يعرف كفّه، و عليه فمجرّد قيام الطريق أو الأصل المعتبر علي شي ء لا يجوّز الشهادة به، إلّا أن يبلغ حدّ العلم معه حدّ عرفان كفّه. فصرف أنّ العقلاء يعبّرون في موارد قيام الطرق بأنّهم عالمون بما قام الطريق عليه أو مجرّد أنّ الشارع حكم تعبّداً ببقاء اليقين

السابق و عدم انتقاضه بالشكّ، لا يكفي في الاكتفاء بها في

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 341، كتاب الشهادات، الباب 20، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 605

______________________________

مقام الشهادة؛ إذ ملاكها أن يعرفها كما يعرف كفّه لا مطلق العلم و العرفان.

و عليه: فمقتضي القواعد عدم جواز الاعتماد و الاكتفاء في تحمّل الشهادة بالأمارات المعتبرة و الأُصول المحرزة الشرعية، إلّا أن يقوم دليل خاصّ علي جواز الاستناد إلي أمارة أو أصل مخصوص، و لعلّ بناء كلامه دام ظلّه علي اعتبار خبر ابن غراب، الذي لا يبعد اعتباره كما عرفت.

و أمّا الأدلّة الخاصّة: فبالنسبة إلي الاعتماد علي شهادة عدلين: فقد يستدلّ لجوازه بصحيحة عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: الرجل يشهدني علي شهادة فأعرف خطّي و خاتمي و لا أذكر من الباقي قليلًا و لا كثيراً، قال: فقال لي

إذا كان صاحبك ثقة و معه رجل ثقة فاشهد له «1»

، بيان الدلالة: أنّ مفروض السؤال أنّه قد عرف خطّ نفسه و خاتمه لا يشكّ في أنّهما له و مع ذلك لم يذكر أنّه أشهد علي ما في الورقة أصلًا، فالسؤال وارد عن فرض عدم التذكّر، فأجابه عليه السلام بأنّه إذا شهد صاحبه الثقة و ثقة آخر بأنّه أشهد عليه جاز له أن يشهد، و ليس ذلك إلّا لجواز الاعتماد في تحمّل الشهادة علي شهادة شاهدين بالشي ء و قيام البيّنة عليه.

و عن «الدروس» نسبة العمل بالصحيحة هذه إلي الأكثر، قال علي ما حكي: و لا تجوز الإقامة إلّا مع الذكر، و لا عبرة بالخطّ و إن أمن

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 321، كتاب الشهادات، الباب 8، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص:

606

______________________________

التزوير عند الحلبيين، و قال الأكثر: إذا كان المدّعي ثقة و شهد آخر ثقة أقامها، انتهي.

و عن «كشف اللثام»: أنّ الشيخين و سلّار و الصدوقين و ابني الجنيد و البرّاج عملوا بخبر عمر بن يزيد، هذا.

و لكنّ الحقّ: عدم إمكان التعدّي عن مورد الصحيحة؛ فإنّ المفروض فيه أنّه مع قطع النظر عن شهادة الثقتين كان السائل عارفاً بخطّ نفسه و خاتمه، و هو بنفسه طريق معتبر عقلائي، فلم يكتف الشارع به إلّا إذا انضمّ إليه شهادة الثقتين، فالاعتماد في الحقيقة بأمرين: بعرفان خطّه و خاتمه و بشهادة الثقتين، و لا وجه للتعدّي منه إلي ما لم يكن إلّا شهادة عدلين.

و ممّا يشهد لعدم إمكان التعدّي: أنّ أحد الثقتين هو المدّعي المشهود له و من المعلوم عدم حجّية شهادة الرجل لنفسه، فالاعتناء بشهادته هنا ليس إلّا لكونه ضميمة إلي شهادة ثقة آخر و عرفان خطّه و خاتمه، فلا يمكن التعدّي عنه.

و قد يستدلّ بصحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن الأوّل عليه السلام قال

لا بأس بالشهادة علي إقرار المرأة و ليست بمسفرة إذا عرفت بعينها أو حضر من يعرفها، فأمّا إذا كانت لا تعرف بعينها و لا يحضر من يعرفها فلا يجوز للشهود أن يشهدوا عليها و علي إقرارها دون أن تسفر و ينظرون إليها «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 402، كتاب الشهادات، الباب 43، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 607

______________________________

بيان الاستدلال: أنّه عليه السلام قد حكم بجواز الشهادة علي المرأة في فرض أنّها ليست بمسفرة و لم يعرفها الشاهد بعينها بشرط أن يحضر من يعرفها، و ليس ذلك إلّا لجواز الاعتماد في عرفانها و الشهادة عليها علي تعريف الحاضر الذي يعرفها. فأصل

الإقرار و إن كان معلوماً للشاهد بالسماع إلّا أنّ خصوصيته و انتسابه إلي هذه المرأة المعيّنة لا تعلم إلّا بإخبار هذا الحاضر، فشهادة الشاهد بأنّ هذه المرأة هي التي قد أقرّت مستندة إلي إخبار هذا الحاضر و شهادته، فجاز استناد التحمّل إلي شهادة الغير. بل الصحيحة مطلقة من حيث وحدة الحاضر و تعدّده، و نقيّدها بخصوص ما إذا عرّفها عدلان بناءً علي عدم ثبوت الموضوعات التي يقع فيها النزاع إلّا بالبيّنة، فتأمّل.

و بالجملة: فدلّت الصحيحة علي جواز الاستناد في الشهادة علي شهادة عدلين، و العرف يلغي الخصوصية عن موردها إلي جميع موارد شهادة العدلين، هذا.

و فيه: منع إلغاء الخصوصية؛ لاحتمال أنّ الشارع هنا رعايةً لجانب تأكيده علي تحفّظ المرأة علي التستّر أذن في الشهادة عليها إذا لم تكن مسفرة بتعريف البيّنة لها، و أمّا غير هذا المورد فليس فيه هذه الخصوصية، فلا يمكن التعدّي إليه.

و ربّما يشهد لعدم إمكان إلغاء الخصوصية ما ورد في صحيح الصفّار الوارد في نفس المورد من قوله عليه السلام

تتنقّب و تظهر للشهود إن شاء

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 608

______________________________

اللّٰه «1»

، فالأمر بالتنقّب و الظهور بمرأي الشهود لكي يروها مسفرة فيعرفوها و إن كان يحمل علي الاستحباب بقرينة صحيحة ابن يقطين إلّا أنّه شاهد علي أهمّية تحمّل الشهادة عند الشارع، حتّي أنّه أمر بظهور المرأة لكي يروها الشهود بأنفسهم.

فالحاصل: أنّ إلغاء الخصوصية عن المورد غير معلوم، و معه فلا بدّ من الرجوع إلي ما اقتضاه القواعد، و قد عرفت أنّ مقتضاها عدم جواز الاستناد إلي البيّنة.

هذا كلّه بالنسبة إلي شهادة العدلين.

و أمّا الاستناد في الشهادة بشي ء علي اليد: فقد عرفت أنّ المشهور جواز الشهادة بالملك لصاحب اليد، بل

نقل عدم الخلاف فيه.

و يشهد لما ذهب إليه المشهور معتبر حفص بن غياث عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: قال له رجل: إذا رأيت شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال

نعم.

قال الرجل: أشهد أنّه في يده و لا أشهد أنّه له فلعلّه لغيره، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام

أ فيحلّ الشراء منه؟

قال: نعم، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام

فلعلّه لغيره، فمن أين جاز لك أن تشتريه و يصير ملكاً لك ثمّ تقول بعد الملك: هو لي و تحلف عليه، و لا يجوز أن تنسبه إلي من صار ملكه من قبله إليك؟

ثمّ قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام

لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 401، كتاب الشهادات، الباب 43، الحديث 2.

(1) وسائل الشيعة 27: 292، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 25، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 609

______________________________

فقه الحديث: أنّ السائل سأل عن جواز الشهادة بملكية صاحب اليد بمجرّد كونه ذا يد، و ظاهره السؤال عن جواز الشهادة بمعناها المعروف عند المسلمين الذي يثبت بها حقوق الناس مثلًا عند القضاة، فإرادة نسبة الملك إلي صاحب اليد كما احتمله في «الجواهر» خلاف الظاهر جدّاً، فأجاب الإمام عليه السلام بقوله

نعم

و أفاد أنّه يجوز الشهادة بأنّه له بمجرّد يده. فلمّا امتنع الرجل السائل من الشهادة بملكيته باحتمال أنّه لعلّه لغيره، ردّه بقوله عليه السلام

أ فيحلّ الشراء منه.

إلي آخره، و حاصله أنّ جواز الشراء مثل جواز الشهادة كلاهما مترتّبان علي كون الشي ء ملكاً له، و ما لم يحرز ملكيته له لا يحكم بانتقاله بالشراء. فكما أنّ اليد تحرز الملك فيشتري منه كذلك تحرزه فيشهد له به.

ثمّ أكّده بقوله عليه السلام

ثمّ تقول بعد الملك: هو لي و تحلف عليه

، فكيف يجوز الحلف بالبتّ علي الملكية مع أنّها متفرّعة علي كونه ملكاً لذي اليد، فمنه يعلم أنّ اليد طريق يحرز به الملكية بنحو البتّ و القطع، و لو لم يجز هذا و لم يحرز الملك باليد لم يقم للمسلمين سوق، و الإحراز باليد كافٍ في جواز الشراء منه و في جواز الشهادة له بالملك.

هذا هو المعني الظاهر من الحديث، و دلالته علي جواز الاستناد باليد في الشهادة واضحة، و عمل به المشهور؛ فالقول به متعيّن.

لكنّه من الواضح: أنّه إنّما يجوز الاستناد إلي اليد في الشهادة فيما إذا كانت اليد حجّة، و معلوم أنّها إنّما تكون حجّة إذا لم تقم حجّة أُخري كالبيّنة تشرح كيفيتها و أنّها يد علي مال الغير. فإذا قامت البيّنة علي أنّ ما في يد زيد مثلًا فهو مسروق سرقه زيد نفسه أو اشتراه زيد ممّن سرقه

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 610

______________________________

- مثلًا فاليد حينئذٍ ليست حجّة عند العقلاء، و الشارع كما يظهر من الحديث لم يعتبر حجّة إلّا ما هو الحجّة في سوق العقلاء. فإذا علم الشاهد المعتمد علي اليد بقيام البيّنة المبيّنة لحال اليد فلا محالة لا يري اليد حينئذٍ حجّة، و لا يمكنه الشهادة له بالملك استناداً إليها. كما أنّه إذا لم يعلم حالها و شهد بالملك استناداً إليها ثمّ قامت بيّنة اخري عند الحاكم مثلًا و أوضحت حال اليد و أنّها علي مال الغير فهذه البيّنة علي الملك لا تقاوم تلك، كما لا يخفي.

و بالجملة: فكما أنّ اليد أمارة إذا لم يتّضح حالها و لم ينكشف خلافها و لو ببيّنة أُخري فكذلك

الشهادة المستندة إليها لا تكون أعلي قيمة منها.

و من تأمّل في ما ذكرناه تقدر علي رفع الشكوك الواردة:

فمنها: ما في «الشرائع» من قوله: و فيه إشكال من حيث إنّ اليد لو أوجبت الملك لم تسمع دعوي من يقول: الدار التي في يد هذا لي، كما لا تسمع لو قال: ملك هذا لي.

فإنّه يرد عليه: أنّ اليد ليست سبباً و علّة لحصول الملك ثبوتاً حتّي يكون وقوع اليد علي شي ء ملازماً في الواقع لكونه ملكاً له، فيؤول الدعوي المذكورة إلي تناقض الصدر و الذيل، بل إنّما هي طريق إثباتي غير قطعي معتبر شرعاً. و مآل الدعوي المذكورة إلي أنّ هذا الطريق قد أخطأ هنا و لم يصب الواقع، فما قام عليه هذا الطريق فهو ملك لي لخطأ الطريق، و خطأ الطرق المعتبرة علي الطريقية المحضة ليس أمراً بديعاً.

و منها: أنّ الشهادة بالملكية الظاهرة في الملكية الواقعية إغراء بالجهل

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 611

______________________________

و تدليس، و هو قبيح عقلًا بل و حرام شرعاً؛ لأنّ غاية ما يثبت باليد هي الملكية الظاهرية، فلا يجوز له أن يشهد إلّا بالملكية الظاهرية مصرّحاً بها.

و فيه: أنّ الملكية هي العلاقة الاعتبارية التي يعتبرها العقلاء و الشرع بين المالك و المال، و اليد كسائر الطرق المعتبرة طريق إليها و محرز لها، فللشاهد أن يشهد بنفس هذه الملكية؛ لأنّه أحرزها باليد، فكما أنّه إذا أحرزها بالقطع يشهد بها فكذلك إذا أحرزها باليد. غاية الأمر أنّ الإحراز تارة قطعي و أُخري غير قطعي، فالمحرز هو واقع الملكية و إن أخطأ الطريق فلا شي ء أصلًا في البين، لا أنّ هنا ملكية ظاهرية حينئذٍ. و تفصيل الكلام موكول إلي محلّه.

و منها: ما في

«الجواهر» من رجوعه إلي جواز الكذب و التدليس في أخذ أموال الناس فإنّ بيّنة التصرّف لا تقاوم بيّنة الملك؛ لأنّ سند بيّنة التصرّف ليس إلّا التصرّف و بيّنة الملك توضح حال التصرّف فلا تقاومها، مع أنّ لازم جواز الشهادة بالملك باستناد اليد أن تصير بيّنة التصرّف بيّنة الملك فتتعارضان، و إن هو إلّا كذب و تدليس محض، انتهي بمعناه.

و فيه: ما عرفت من أنّ الشهادة بالملك إذا استندت إلي اليد فلا يتصوّر لها معني إلّا فيما كانت اليد طريقاً إلي الملك، و فيما إذا قامت بيّنة اخري توضح حال اليد و التصرّف، فليس لليد حينئذٍ طريقية حتّي يستند الشاهد إليها و يشهد بالملك، فلا يجوز له الشهادة مع علمه بالبيّنة الأُخري، و لا قيمة لها إذا شهد به جهلًا ثمّ قامت بيّنة توضح حال اليد كما عرفت.

و منها: ما في «مباني التكملة» من أنّه لو جازت الشهادة بمجرّد كون

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 612

______________________________

المال في يد أحد لم يفرض مورد لا تكون لصاحب اليد بيّنة، فلا يكون أثر لإقامة المدّعي البيّنة علي أنّ المال له. و هذا ينافي ما تقدّم من أنّ المدّعي إذا أقام بيّنة و لم تكن لصاحب اليد بيّنة حكم له؛ إذ المفروض وجود البيّنة لذي اليد في جميع الموارد.

و فيه: ما عرفت من أنّ البيّنة المستندة إلي اليد إنّما تتصوّر فيما كانت طريقية اليد محفوظة، و طريقيتها متوقّفة علي عدم قيام بيّنة توضح حال اليد، و إلّا فمعه فلا طريقية لليد و لا يتصوّر حينئذٍ للبيّنة المستندة إليه وجود معتبر كما لا يخفي، و إنّما يتصوّر حينئذٍ لذي اليد بيّنة مستقلّة غير مستندة إلي نفس اليد، و هذه

البيّنة هو المراد بما تقدّم من أنّه إذا أقام المدّعي بيّنة و لم تكن لصاحب اليد بيّنة حكم له.

فالحاصل: أنّ بيّنة اليد في مقام الترافع إنّما تتصوّر في مقام بقاء طريقية اليد، و هو يتصوّر علي وجهين:

الأوّل: أن يكون شي ء خارجاً فعلًا عن تحت يد المترافعين فادّعاه كلاهما و قامت البيّنة علي أنّه ملك لأحدهما بالخصوص، و كان مستند البيّنة علمها بأنّه كان تحت يده، و بأنّه لم ينتقل منه بعد هذه اليد فيشهد له بالملك، و مستند هذه الشهادة اليد.

الثاني: أن نقول: إنّ البيّنة و إن كانت علي المدّعي إلّا أنّ للمدّعيٰ عليه أيضاً إقامة البيّنة، فلذي اليد أن يقيم البيّنة علي كون ما في يده ملكاً له، و يثبت بها ملكيته مع عدم المعارض، و تعارض بيّنة مدّعيه و تقدّم عليها أو تتساقطان و يرجع إلي الحلف. و حينئذٍ فلذي اليد أن يقيم البيّنة المستندة إلي

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 613

______________________________

يده و يثبت بها ملكه إن لم يكن لها معارض، كما أنّ له إقامة هذه البيّنة و يعارض بها بيّنة المدّعي إذا قامت بيّنته أيضاً علي مجرّد الملك من غير ذكر سببه؛ لما عرفت من أنّه مع ذكر السبب فلا يبقي لليد طريقية و لا للبيّنة المستندة إليها قيمة.

و إنّك لو تأمّلت تصدّق بأنّه لو لم يجز الشهادة باليد لما أمكنت شهادة بملكية أحد لشي ء إلّا فيما علم استنادها إلي مثل حيازة المباحات، و إلّا فلو انتقلت إليه بإحدي النواقل لاحتملت فيها أن لا تخلو في بعض المراتب من غصب و أكل لمال الغير، فينقطع أصل الملكية بالمرّة. فلا يمكن الشهادة في الغالب إلّا باستناد اليد بالأخرة، و معلوم أنّ

الشهادة بالملك عند العرف و المسلمين جائزة رائجة و لو فيما علم باشترائه أو إرثه مثلًا فهو دليل قطعي علي جواز استناد الشهادة إلي اليد.

و منه تعرف: أنّ ما ذكر عليه السلام ذيل الحديث

لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق

يراد به ما هو ظاهره العامّ من ترتيب أثر الشراء و الشهادة كليهما علي اليد، و أنّه لولاه لما قام للمسلمين سوق، و لا حاجة و لا وجه لصرفه إلي ترتيب خصوص أثر الاشتراء كما هو المعروف في كلمات القوم، فراجع. و الحمد للّٰه وحده.

هذا بالنسبة إلي اليد.

و أمّا بالنسبة إلي الاستصحاب: فربّما يستدلّ لجواز الاستناد في الشهادة إليه بموثّقة معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: الرجل يكون له العبد و الأمة قد عرف ذلك فيقول: أبق غلامي أو أمتي فيكلّفونه

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 614

______________________________

القضاة شاهدين بأنّ هذا غلامه أو أمته لم يبع و لم يهب، أ نشهد علي هذا إذا كلّفناه؟ قال

نعم «1».

وجه الدلالة: أنّ ظاهره أنّه لم يكن للشاهد دليل يستند إليه في إباق رقيقه و عدم بيعه وهبته إلّا قول السيّد: أبق غلامي أو أمتي، و حيث إنّ المفروض ثبوت أنّ له العبد أو الأمة قد عرف ذلك فلا محالة لا مستند للشهادة إلّا استصحاب بقاء الملك، و لا خصوصية للمورد عرفاً، فيلغي خصوصيته.

لكنّها يعارضها معتبرته الأُخري قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: الرجل يكون في داره ثمّ يغيب عنها ثلاثين سنة و يدع فيها عياله، ثمّ يأتينا هلاكه و نحن لا ندري ما أحدث في داره و لا ندري ما أحدث له من الولد، إلّا أنّا لا نعلم أنّه أحدث في داره

شيئاً و لا حدث له ولد، و لا تقسّم هذه الدار علي ورثته الذين ترك في الدار حتّي يشهد شاهدا عدل أنّ هذه الدار دار فلان بن فلان مات و تركها ميراثاً بين فلان و فلان، أو نشهد علي هذا؟ قال

نعم.

قلت: الرجل يكون له العبد و الأمة فيقول: أبق غلامي أو أبقت أمتي، فيؤخذ بالبلد فيكلّفه القاضي البيّنة أنّ هذا غلام فلان لم يبعه و لم يهبه، أ فنشهد علي هذا إذا كلّفناه و نحن لم نعلم أنّه أحدث شيئاً؟ فقال

كلّما غاب من يد المرء المسلم غلامه أو أمته أو غاب عنك لم تشهد به «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 337، كتاب الشهادات، الباب 17، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة 27: 336، كتاب الشهادات، الباب 17، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 615

[مسألة 4 يجوز للأعميٰ و الأصمّ تحمّل الشهادة و أداؤها]

مسألة 4 يجوز للأعميٰ و الأصمّ تحمّل الشهادة و أداؤها (8) إذا عرفا الواقعة، و تقبل منهما.

______________________________

فصدر الحديث الوارد في مسألة الورثة و الدار بالنسبة إلي الشهادة بأنّ الدار له لا يبعد استناد جوازها إلي اليد؛ فإنّ المفروض أنّها كانت في يد عياله بإذنه و فعله، و قد مرّ في مباحث اليد من كتاب القضاء أنّ كون الشي ء تحت يد الشخص لا يشترط فيه تصرّفه فيه بنفسه بل يكفي كونه تحت سلطته، فسكني عياله فيها هو كونها تحت يده و اليد أمارة الملك.

و أمّا بالنسبة إلي انحصار الوارث في عياله هؤلاء السكنة في الدار فلا مستند للشهادة به إلّا الاستصحاب. لكنّه مع ذلك قد صرّح بعدم جواز الشهادة بالنسبة إلي عبده و أمته؛ إذا أُخرجا عن يده أو غاب هو و لم يعلم حاله، مع أنّهما أيضاً من موارد الاستصحاب، فهي

بذيلها معارضة لموثّقته المتقدّمة و قرينة علي عدم إلغاء الخصوصية عن صدرها بالنسبة إلي الشهادة علي ورثته، و بالتعارض يتساقط الخبران و لا حجّة علي جواز الاعتماد في الشهادة علي الاستصحاب، و قد كان مقتضي القواعد عدم جوازه.

و ممّا ذكرنا تعرف وجه مختار الماتن دام ظلّه و أنّ الحقّ جواز الاعتماد علي اليد في الشهادة من بين الأُصول و الأمارات، و اللّٰه العالم.

(8) علي المشهور، كما في «الجواهر» فيهما و في «المسالك» في أوّلهما. و يدلّ علي الجواز عمومات قبول شهادة واجد الشرائط فإنّها تعمّهما إذا عرفا ما يشهدان به كغيرهما. مضافاً إلي ما رواه محمّد بن قيس قال: سألت

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 616

فلو شاهد الأصمّ الأفعال جازت شهادته فيها، و في رواية: «يؤخذ بشهادته في القتل بأوّل قوله، لا الثاني» و هي مطروحة (9). و لو سمع الأعميٰ و عرف صاحب الصوت علماً، جازت شهادته. و كذا يصحّ للأخرس (10) تحمّل الشهادة و أداؤها،

______________________________

أبا جعفر عليه السلام عن الأعمي تجوز شهادته؟ قال

نعم إذا أثبت «1»

، و الظاهر أنّ إثباته هو وقوفه علي الواقع و معرفته له كما هو حقّه.

(9) و هي رواية جميل عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن شهادة الأصمّ في القتل، فقال

يؤخذ بأوّل قوله و لا يؤخذ بالثاني «2».

قال في «الجواهر»: و هي مع الطعن في سندها نادرة لم يعرف القول بها إلّا من الشيخ في «النهاية» و تلميذه القاضي و ابن حمزة، انتهي. و طعن السند لاشتماله علي دُرُست و هو لم يوثق صريحاً.

و مقتضي القاعدة أن يؤخذ بما يشهد به و يقوم عليه جزماً. فقوله الثاني إن كان

تصحيحاً جزمياً منه لأوّل قوله يؤخذ بقوله الثاني، و إن كان تذبذباً منه و عدم ثبات فلا يعتني بشهادته أصلًا.

(10) لما عرفت من شمول إطلاق الأدلّة و عمومها له.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 400، كتاب الشهادات، الباب 42، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 400، كتاب الشهادات، الباب 42، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 617

فإن عرف الحاكم إشارته يحكم، و إن جهلها اعتمد فيها علي مترجمين عدلين (11)، و تكون شهادته أصلًا و يحكم بشهادته (12).

______________________________

(11) بناءً علي اعتبار العدلين في إثبات جميع الموضوعات المرتبطة بباب الترافع و القضاء، و إلّا كفي خبر ثقة واحدة.

(12) فإنّ المفروض أنّ الأخرس شهد بحضور الحاكم، غاية الأمر أنّ الحاكم لم يفهم بنفسه ما أراده فترجمة له العدلان. و ليست الترجمة إلّا تفسيراً لإشاراته لا من باب الشهادة علي الشهادة؛ إذ قوامها بأن يكون شهادة الأصل في غير حضور الحاكم كما يأتي إن شاء اللّٰه، فلا يترتّب علي الترجمة أحكام الشهادة علي الشهادة، بل هي تفسير و القاضي يحكم بشهادة الأخرس نفسه.

و كان ختام التحرير صبيحة الثلاثاء 12/ رجب 1403/ 6 ارديبهشت 62

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 619

[القول في أقسام الحقوق]

اشارة

القول في أقسام الحقوق

[مسألة 1 الحقوق علي كثرتها قسمان]

مسألة 1 الحقوق علي كثرتها قسمان: حقوق اللّٰه تعالي و حقوق الآدميين (1). أمّا حقوق اللّٰه تعالي: فقد ذكرنا في كتاب الحدود أنّ منها ما يثبت بأربعة رجال أو يثبت بثلاثة رجال و امرأتين، و منها برجلين و أربع نساء، و منها ما يثبت بشاهدين، فليراجع إليه.

______________________________

(1) المراد بحقّ الآدميين ما كان له اختصاص اعتباري بهم شرعاً؛ سواء بلغ حدّ الملك أم لا. فالدار التي يملكها كفسخ العقد لذي الخيار مثلًا من قبيل حقوق الناس.

و حقّ اللّٰه تعالي هو الفعل أو الترك المطلوب له تعالي لا بعناية رعاية حقّ الناس كوجوب أداء الأمانة، بل بملاحظة مصالح أو مفاسد تكون ملاكات الأحكام الشرعية المولوية كإجراء الحدّ و ترك شرب الخمر.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 620

______________________________

كما أنّ المراد بثبوت هذه الحقوق ثبوت ما كان له نحو تعلّق بها و لو كان مخالفة و تضييعاً لها أو موضوعاً و سبباً لثبوتها؛ فإنّ إثبات الزنا من قبيل إثبات حقوقه تعالي.

مع أنّه يثبت عصيانه و تضييع المكلّف لحقّه تعالي لو نسب إلي مفاد لٰا تَقْرَبُوا الزِّنيٰ «1»، أو يثبت موضوع وجوب الحدّ و سببه إذا نسب إلي مثل قوله تعالي الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ «2»، و كيف كان فالأمر سهل.

و الداعي إلي هذا التقسيم كما تري هو اختلاف أنحاء ثبوت الحقوق عند الحاكم كما فصّل في المتن، و العمدة هو تعيين قيمة شهادة النساء في إثبات هذه الحقوق.

و ليعلم: أنّ مقتضي القواعد الأوّلية اعتبار شهادة النساء أيضاً في إثبات جميع الحقوق؛ للّٰه تعالي كان أو للآدميين، فإنّ ملاك الاعتبار عند العقلاء أنّها إخبار الثقة، و لا فرق عندهم

قطعاً بين كونه ذكراً أو أُنثي؛ و لذا كان خبر المرأة الثقة أيضاً حجّة كخبر الثقات من الرجال في نقل الروايات، فما لم يرد من الشرع ردع عمّا عليه بناؤهم كان خبر المرأة و شهادتها حجّة معتبرة كخبر الرجل و شهادته.

______________________________

(1) الإسراء (17): 32.

(2) النور (24): 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 621

[مسألة 2 حقّ الآدمي علي أقسام]

مسألة 2 حقّ الآدمي علي أقسام:

منها: ما يشترط في إثباته الذكورة، فلا يثبت إلّا بشاهدين ذكرين، كالطلاق، فلا يقبل فيه شهادة النساء؛ لا منفردات و لا منضمّات (2).

______________________________

(2) لدلالة أخبار معتبرة مستفيضة عليه:

منها: صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام أنّه سئل عن شهادة النساء في النكاح، فقال

تجوز إذا كان معهنّ رجل، و كان علي عليه السلام يقول: لا أُجيزها في الطلاق.

قلت: تجوز شهادة النساء مع الرجل في الدين؟ قال

نعم. «1»

الحديث.

فإنّ ظاهر قول علي عليه السلام

لا أُجيزها

أنّه إرشاد و بيان للحكم الشرعي الإلهي، و ذكر عدم جوازها في قبال جواز شهادتها مع الرجل في النكاح دليل علي أنّها لا تقبل شهادتها؛ لا منفردة و لا منضمّة، كما أنّ ذكرها في عداد الشهادة في النكاح و الدين دليل علي أنّ المراد بها الشهادة التي تؤدّي عند القاضي لثبوت المشهود به لا خصوص الشهادة المعتبرة في إجراء صيغة الطلاق. و بالجملة فدلالة الصحيحة علي عدم قبول شهادتها في الطلاق مطلقاً واضحة.

و منها: معتبرة زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن شهادة النساء تجوز في النكاح؟ قال

نعم، و لا تجوز في الطلاق

، قال

و قال علي عليه السلام:

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 351، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 622

______________________________

تجوز شهادة النساء في الرجم إذا كان

ثلاثة رجال و امرأتان. «1»

الحديث. و بيان دلالتها يعلم ممّا مرّ في صحيحة الحلبي بعينه.

و منها: صحيحة داود بن الحصين عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألته عن شهادة النساء في النكاح بلا رجل معهنّ إذا كانت المرأة منكرة، فقال

لا بأس به

، ثمّ قال

ما يقول في ذلك فقهاؤكم؟

قلت: يقولون: لا تجوز إلّا شهادة رجلين عدلين، فقال

كذبوا لعنهم اللّٰه، هوّنوا و استخفّوا بعزائم اللّٰه و فرائضه، و شدّدوا و عظّموا ما هوّن اللّٰه، إنّ اللّٰه أمر في الطلاق بشهادة رجلين عدلين، فأجازوا الطلاق بلا شاهد واحد، و النكاح لم يجي ء عن اللّٰه في تحريمه (عزيمة)، فسنّ رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم في ذلك الشاهدين؛ تأديباً و نظراً لئلّا ينكر الولد و الميراث، و قد ثبتت عقدة النكاح و استحلّ الفروج و لا أن يُشهد، و كان أمير المؤمنين عليه السلام يجيز شهادة المرأتين في النكاح عند الإنكار، و لا يجيز في الطلاق إلّا شاهدين عدلين.

فقلت: فأنّي ذكر اللّٰه تعالي قوله فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ.

فقال

ذلك في الدين إذا لم يكن رجلان فرجل و امرأتان، و رجل واحد و يمين المدّعي إذا لم يكن امرأتان، قضي بذلك رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم و أمير المؤمنين عليه السلام بعده عندكم «2».

و حيث إنّ مصبّ جواز شهادة المرأة في هذه الصحيحة هو إنكار

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 354، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 11.

(2) وسائل الشيعة 27: 360، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 35.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 623

______________________________

المشهود عليه فهي كالصريحة في عدم جوازها عند القاضي في الطلاق، كما أنّ استبعاد الراوي و استناده إلي الآية ثمّ جوابه عليه

السلام بأنّ مفاد الآية غير جارٍ في الطلاق كالصريح في عدم جواز شهادتها و لو منضمّة إلي الرجال. فدلالة الصحيحة كسابقتيها علي المطلوب واضحة.

و مثلها خبر أبي بصير و خبر إبراهيم الحارثي و صحيحة محمّد بن الفضيل بناءً علي أنّه محمّد بن القاسم الفضيل، بقرينة رواية ابن محبوب عنه و صحيحة أبي الصباح الكناني «1»، فراجع.

كما أنّ في صحيحة محمّد بن مسلم المضمرة قال

لا تجوز شهادة النساء في الهلال و لا في الطلاق. «2»

الحديث.

و هي يدلّ بالإطلاق علي عدم جواز شهادتهنّ في الطلاق و لو منضمّة إلي الرجال.

و مثلها صحيحة حمّاد بن عثمان بالإسناد الثاني المذكور في «الوسائل» و خبر السكوني و رواية محمّد بن سنان «3» أيضاً، فراجع.

و هنا أخبار أُخر تنفي اعتبار شهادة النساء بعنوان شامل لما نحن فيه، و سيأتي ذكر بعضها إن شاء اللّٰه تعالي في المباحث الآتية.

و بالجملة: فدلالة هذه الأخبار المعتبرة علي عدم قبول شهادة النساء مطلقاً في الطلاق تامّة، و قد عمل الأصحاب بها، حتّي أنّه ادّعي في

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 351، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 4 و 5 و 7 و 25.

(2) وسائل الشيعة 27: 353، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 8.

(3) وسائل الشيعة 27: 355، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 17 و 42 و 50.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 624

و هل يعمّ الحكم أقسامه كالخلع و المباراة؟ الأقرب نعم إذا كان الاختلاف في الطلاق (3)،

______________________________

«الغنية» الإجماع عليه، قال فيها: و لا تقبل شهادتهنّ علي كلّ حال في الطلاق و لا في رؤية الهلال، بدليل إجماع الطائفة، انتهي.

و إن حكي عن «المبسوط» قبول شهادتهنّ في الطلاق مع الرجال، لكنّه لا ريب في ضعفه

و في تعيّن العمل بهذه الأخبار.

(3) فإنّ عدم الجواز في الأخبار كما عرفت معلّق علي الطلاق و هو عامّ؛ لجميع أقسامه التي منها الخلع و المباراة، كما دلّت عليه أخبار معتبرة كثيرة؛ ففي صحيح محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

الخلع و المباراة تطليقة بائن، و هو خاطب من الخطّاب «1»

، و نحوه خبر حمران عنه عليه السلام «2» فراجع، و في خبر إسماعيل الجعفي عن أحدهما عليهما السلام قال

المبارأة تطليقة بائن، و ليس فيها رجعة «3»

، و في صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام

و كان الخلع تطليقة «4»

، و في صحيح عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

عدّة المختلعة عدّة المطلّقة، و خلعها طلاقها. «5»

الحديث و في

______________________________

(1) وسائل الشيعة 22: 289، كتاب الخلع و المباراة، الباب 5، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة 22: 291، كتاب الخلع و المباراة، الباب 6، الحديث 4.

(3) وسائل الشيعة 22: 296، كتاب الخلع و المباراة، الباب 9، الحديث 2.

(4) وسائل الشيعة 22: 284، كتاب الخلع و المباراة، الباب 3، الحديث 2.

(5) وسائل الشيعة 22: 297، كتاب الخلع و المباراة، الباب 10، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 625

و أمّا الاختلاف في مقدار البذل فلا (4). و لا فرق في الخلع و المباراة بين كون المرأة مدّعية أو الرجل (5)،

______________________________

موثّقة أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

عدّة المختلعة مثل عدّة المطلّقة، و خلعها طلاقها «2»

، فإذا كان الخلع طلاقها فلا محالة يترتّب عليه آثار طلاقها التي منها عدم جواز شهادة النساء في إثباته. و هنا أخبار أُخر أيضاً بمضمون ما أوردنا، فراجع.

(4) يعني أنّهما متوافقان في إيقاع

طلاق الخلع أو المبارأة، و في أنّه كانت هناك فدية و بذل، و إنّما يختلفان في مقدار البذل. و حينئذٍ فاختلافهما مالي محض لا يعمّه أدلّة منع شهادتها في الطلاق، بل هي مشمولة لأدلّة جواز شهادتها في الحقوق المالية، و ستجي ء إن شاء اللّٰه تعالي.

(5) أمّا إذا كانت المرأة مدّعية فغرضها الأصيل هو الطلاق البائن لا أمر مالي، و إلّا فالمال ثابت عليه. و أمّا إذا كان الرجل مدّعياً فكذلك؛ إذ لا محالة يكون مفروض المسألة وقوع النزاع في أصل الطلاق؛ بأن يكون الأمر دائراً بين وقوع الطلاق و إن كان واقعاً فهو بصورة الخلع أو المبارأة مثلًا و عدم وقوعه أصلًا، و معه فالشاهد يشهد بالطلاق و إن لزمه أمر مالي. و شهادة النساء لا تقبل إذا كانت بالطلاق. و أمّا إذا كان وقوع الطلاق مفروغاً عنه و اختلفا في نوع الطلاق فهو غير مشمول لعبارة المتن، و إن كان

______________________________

(2) وسائل الشيعة 22: 298، كتاب الخلع و المباراة، الباب 10، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 626

علي إشكال في الثاني (6).

[مسألة 3 قيل: ما يكون من حقوق الآدمي غير المالية]

مسألة 3 قيل: ما يكون من حقوق الآدمي غير المالية و لم يقصد منه المال لا تقبل شهادة النساء فيها، لا منفردات و لا منضمّات (7). و مثّل لذلك بالإسلام و البلوغ و الولاء و الجرح و التعديل و العفو عن القصاص و الوكالة و الوصايا و الرجعة و عيوب النساء و النسب و الهلال،

______________________________

لا يبعد استفادة عدم جواز شهادة النساء هنا أيضاً؛ فإنّ قولهم عليهم السلام

لا تجوز شهادة النساء في الطلاق

مطلق يشمل ما إذا شهدن بنوع الطلاق؛ لكون الاختلاف فيه.

(6) و هو أنّ الرجل حينئذٍ يدّعي مالًا علي المرأة

و هي تنكره، و مقصودهما حينئذٍ أمر مالي. لكن الإشكال ضعيف كما عرفت؛ إذ المفروض أنّ أصل الدعوي هي الطلاق أو نوعه، و شهادة النساء غير مقبولة فيه بإطلاق الأدلّة الماضية؛ سواء استلزم مالًا أم لا.

(7) جعل الضابط ما ذكره، قد ذكره في «المسالك» و حكاه في «الجواهر» عن «الدروس»؛ قال عنه: ضبط الأصحاب ذلك بكلّ ما كان من حقوقهم ليس مالًا و لا المقصود منه المال. و الظاهر أنّ مرادهم ما كان منها ممّا لا يعسر اطّلاع الرجال عليه غالباً، و إلّا فشهادة النساء فيه وحدهنّ أيضاً مقبولة بلا خلاف أجده كما في «الجواهر»؛ و لذلك قال في «الخلاف» مسألة 4: لا يثبت النكاح و الخلع و الطلاق. و نحو ذلك ما لم يكن مالًا و لا المقصود منه المال و يطّلع عليه الرجال، إلّا بشهادة رجلين، انتهي.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 627

و ألحق بعضهم الخمس و الزكاة و النذر و الكفّارة. و الضابط المذكور لا يخلو من وجه (8)، و إن كان دخول بعض الأمثلة فيها محلّ تأمّل.

______________________________

و نحوه عبارته المنقولة عن «مبسوطه» كما تأتي عند البحث عن شهادتهنّ في النكاح.

و قال في «المختلف»: قال ابن إدريس: الحقوق ضربان: حقّ الآدمي و هو ثلاثة أقسام: الأوّل: لا يثبت إلّا بشاهدين ذكرين، و هو ما لم يكن مالًا و لا المقصود منه المال و يطّلع عليه الرجال، انتهي.

فقد قيّداه بأن يطّلع عليه الرجال، و الظاهر أنّه مراد الماتن أيضاً دام ظلّه و إلّا فسيأتي منه أيضاً في المسألة السادسة أنّ ما يعسر اطّلاع الرجال عليه غالباً فشهادة النساء فيها مقبولة مطلقاً.

(8) و هو شمول عموم عدم الجواز في خبر محمّد بن

سنان عن الرضا عليه السلام فيما كتب إليه من العلل

و علّة ترك شهادة النساء في الطلاق و الهلال لضعفهنّ عن الرؤية و محاباتهنّ النساء في الطلاق؛ فلذلك لا تجوز شهادتهنّ إلّا في موضع ضرورة، مثل شهادة القابلة و ما لا يجوز للرجال أن ينظروا إليه. «1»

الحديث؛ فإنّه و إن كان في مقام بيان حِكَم الأحكام إلّا أنّه استند بعموم

لا تجوز شهادتهنّ إلّا في موضع ضرورة

، و هو حجّة دالّة علي عدم جواز شهادتهنّ مطلقاً إلّا في موضع ضرورة، و معلوم أنّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 365، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 50.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 628

و تقبل شهادتهنّ علي الرضاع علي الأقرب (9).

______________________________

الشهادة علي غير ما لا يستطيع الرجال النظر إليه لا ضرورة في شهادة النساء عليه، و منه العنوان المذكور في الضابط المذكور. و عدم الجواز في الخبر مطلق يعمّ ما إذا انفردن بالشهادة و ما إذا انضممن إلي الرجال، لكنّ الكلام في سنده.

و مثله خبر السكوني الذي لا يبعد اعتباره بناءً علي وثاقة بنان بن محمّد بن عيسي الواقع في سنده ففيه

أنّ علياً عليه السلام كان يقول: شهادة النساء لا تجوز في طلاق و لا نكاح و لا في حدود، إلّا في الديون و ما لا يستطيع الرجال النظر إليه «1».

و شمول إطلاق عدم الجواز في المستثني منه لمورد الضابط المذكور واضح، كما أنّه يشمل الشهادة منفردة و مع الضميمة إلي الرجال، و اشتماله بالصراحة علي عدم جواز شهادتهنّ في النكاح مع أنّ الحقّ كما دلّت عليه أخبار معتبرة قبولها فيه غير مضرّ بحجّيته في بقية مفاده كما لا يخفي.

(9) كما عن المفيد و الإسكافي و الديلمي و ابن حمزة

و الشيخ في موضع من «المبسوط» و الفاضلين و الشهيدين و فخر الإسلام، بل قيل عليه عامّة المتأخّرين، لكن عن الشيخ في موضع آخر من «المبسوط» و في «الخلاف» عدم قبول شهادتهنّ فيه أصلًا، قال فيه في ضمن المسألة العاشرة من

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 362، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 42.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 629

______________________________

الشهادات: و لا تقبل يعني شهادة النساء في الرضاع أصلًا. إلي أن قال: دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم. و نسب عدم القبول في «المسالك» إلي مذهب الأكثر و إن لم يعرف عن غير الشيخ كما ذكرناه.

و بالجملة: فالدليل علي القبول أنّه مشمول عموم «ما لا يستطيع الرجال النظر إليه»؛ إذ الظاهر أنّ المراد به ما لا يمكنهم النظر إليه بحسب الوضع المتعارف فيه، و معلوم أنّ المتعارف في الرضاع وقوعه في غير محضر الرجال.

و ليس المراد به ما لا يمكنهم عقلًا؛ فإنّ مثل شهادة القابلة التي لا ريب في أنّها من مصاديق العموم يمكن للرجال أن يعلموا بولادة الولد حيّاً بأن يحضروا وقت التولّد مكاناً يحصل فيه علمهم بحياته.

مضافاً إلي أنّ الواقع في بعض هذه الأخبار عنوان ما لا ينظر الرجال إليه، و شموله لمثل المورد أوضح؛ ففي صحيحة داود بن سرحان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

أُجيز شهادة النساء في الغلام صاح أو لم يصح و في كلّ شي ء لا ينظر إليه الرجال تجوز شهادة النساء فيه «1»

، و هو مضافاً إلي دلالته بنفسه علي قبول شهادتهنّ في مثل الرضاع قرينة علي إرادة هذه المعني من العناوين الأُخر الواردة في سائر الأخبار.

و ربّما يستدلّ بمرسل عبد اللّٰه بن بكير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد

اللّٰه عليه السلام في امرأة أرضعت غلاماً و جارية، قال

يعلم ذلك غيرها؟

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 354، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 12.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 630

______________________________

قال: لا، قال: فقال

لا تصدّق إن لم يكن غيرها «1»

، ببيان أنّ تقييد عدم تصديقها بما إذا لم يكن معها غيرها يدلّ بمفهوم واضح علي أنّها تصدّق إذا كان معها غيرها، و إطلاقها شامل لما إذا كنّ النساء منفردات أو منضمّات إلي الرجال، هذا.

و الإنصاف: أنّ أصل المفهوم و إن كان غير بعيد إلّا أنّ إطلاقه مشكل، فلعلّ شهادتها إنّما تقبل إذا انضمّت إلي رجل و امرأة اخري. مضافاً إلي أنّه مرسل و ليس مراسيل ابن بكير كمراسيل ابن أبي عمير.

و بعد شمول عموم الأحاديث المشتملة علي عنوان «ما لا ينظر إليه الرجال» له فلا وجه لقول الشيخ في «الخلاف» و موضع من «مبسوطة»، إلّا الإجماع الذي لا قيمة له؛ خصوصاً بعد مصير مثل المفيد و أكثر المتأخّرين إلي خلافه و إلّا ما أرسله الشيخ نفسه في «مبسوطه»، قال في «المختلف»: و قال في «المبسوط» الثالث: ما يثبت بشاهدين و شاهد و امرأتين و أربع نسوة؛ و هو: الولادة و الرضاع و الاستهلال و العيوب تحت الثياب. و أصحابنا رووا أنّه لا يقبل شهادة النساء في الرضاع أصلًا، انتهي.

لكن الخبر مرسل لم يعلم عمل الأصحاب به و لا استنادهم إليه؛ إذ يحتمل استناد القائلين بعدم القبول إلي شمول عمومات عدم القبول كخبري محمّد بن سنان و السكوني له؛ حتّي أنّ الشيخ الناقل له لم يعمل بهذا

______________________________

(1) وسائل الشيعة 20: 401، كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالرضاع، الباب 12، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات،

ص: 631

[مسألة 4 من حقوق الآدمي ما يثبت بشاهدين و بشاهد و امرأتين]

مسألة 4 من حقوق الآدمي ما يثبت بشاهدين و بشاهد و امرأتين (10)،

______________________________

المرسل في الموضع الذي نقله كما عرفت.

نعم، في خبر صالح بن عبد اللّٰه الخثعمي قال: سألت أبا الحسن موسي عليه السلام عن أُمّ ولد لي صدوق زعمت أنّها أرضعت جارية لي أُصدّقها؟ قال

لا «1»

لكن سنده غير معتبر، و غاية مفاده عدم تصديق المرأة التي انفردت في الشهادة علي الرضاع. و لا ينافي تصديقهنّ مع اجتماع شرائط الشهادة.

فالأقرب كما في المتن قبول شهادتهنّ علي الرضاع منفردات، فضلًا عن الانضمام.

(10) ثبوت هذه الحقوق بشهادة الرجال ممّا لا إشكال فيه، لكنّ العبارة تضمّنت بالمنطوق جواز شهادة النساء منضمّة إلي الرجال، و بالمفهوم عدم جواز شهادة النساء منفردات:

أمّا عدم جواز شهادة النساء فيها منفردات: فتدلّ عليه صحيحة العلاء عن أحدهما عليهما السلام قال

لا تجوز شهادة النساء في الهلال.

و سألته هل تجوز شهادتهنّ وحدهنّ؟ قال

نعم في العذرة و النفساء «2».

و مثلها

______________________________

(1) وسائل الشيعة 20: 401، كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالرضاع، الباب 12، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة 27: 356، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 18.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 632

______________________________

صحيحة محمّد بن مسلم «1» التي لا يضرّها الإضمار.

بيان الدلالة: أنّه سأل عن موارد جواز شهادتهنّ منفردات، فأجاب بالإثبات و خصّه بخصوص العذرة و النفساء؛ فيدلّ دلالة واضحة علي اختصاصه بخصوصهما و عدم جوازها في غيرهما، و إلّا لما خصّه بهما بعد ما كان السؤال عامّاً.

و نحوهما خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألته عن المرأة يحضرها الموت و ليس عندها إلّا امرأة تجوز شهادتها؟ قال

تجوز شهادة النساء في العذرة و المنفوس

، و قال

تجوز شهادة النساء

في الحدود مع الرجال «2»

فإنّ مورد سؤاله شهادة النساء وحدهنّ، و قد أجاب عليه السلام بمفهوم ما نطق به من أنّ شهادة النساء وحدهنّ إنّما تجوز في خصوص العذرة و المنفوس فلا تجوز في مورد السؤال.

و نحوه خبره الآخر و صحيح ابن سنان أو خبر عبد اللّٰه بن سليمان «3»، فراجع.

و بالجملة: فهذه الأخبار التي بعضها معتبر السند تدلّ بالعموم علي عدم قبول شهادة النساء منفردات في غير الموردين، فيعمّ الحقوق المالية التي مورد بحث هذه المسألة، و بهذه الأخبار يقيّد إطلاق خبر السكوني المتقدّم في المسألة السابقة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 356، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 19.

(2) وسائل الشيعة 27: 356، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 21.

(3) وسائل الشيعة 27: 355، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 14 و 24.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 633

______________________________

نعم، في صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

إنّ رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم أجاز شهادة النساء في الدين و ليس معهنّ رجل «3»

، و هو صريح في قبول شهادتهنّ وحدهنّ في الدين، لكنّه لم يعمل بها أحد، قال في «الجواهر»: نعم لا تقبل شهادة النساء منفردات في شي ء من ذلك و إن كثرن بلا خلاف محقّق أجده، انتهي. فالرواية مع أنّها صحيحة موجودة في «أصل الحسين بن سعيد» و «تهذيب» الشيخ لم يعملوا بها، فقد أعرضوا عنها و تسقط به عن الحجّية.

هذا كلّه بالنسبة إلي عدم جواز شهادتهنّ في الأُمور المالية منفردات.

و أمّا جواز شهادتهنّ فيها منضمّات إلي الرجال: فقد دلّت عليه الآية المباركة يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا تَدٰايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِليٰ أَجَلٍ مُسَمًّي فَاكْتُبُوهُ. إلي قوله تعالي وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ

مِنْ رِجٰالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدٰاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدٰاهُمٰا فَتُذَكِّرَ إِحْدٰاهُمَا الْأُخْريٰ. الآية «1» فإنّ الأمر بالاستشهاد ظاهر عرفاً في جواز شهادة الشهداء المذكورين إذا مسّت الحاجة إليها.

و مثل الآية المباركة صحيحة داود بن الحصين عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام ففيها

و كان أمير المؤمنين عليه السلام يجيز شهادة المرأتين في النكاح عند الإنكار، و لا يجيز في الطلاق إلّا شاهدين عدلين.

فقلت: فأنّي ذكر اللّٰه

______________________________

(3) وسائل الشيعة 27: 356، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 20.

(1) البقرة (2): 282.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 634

______________________________

تعالي قوله فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ، فقال

ذلك في الدين، إذا لم يكن رجلان فرجل و امرأتان، و رجل واحد و يمين المدّعي. «1»

الحديث. و دلالتها علي قبول شهادتهنّ مثل الآية، و هي صريحة في جوازها مع الرجال.

و مثلهما صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام ففيها: قلت: تجوز شهادة النساء مع الرجل في الدين؟ قال

نعم. «2»

الحديث. و هذه الصحيحة كما تري مطلقة من جهة إمكان شهادة رجلين و عدمه.

و الظاهر: أنّ تفريع جواز شهادتهنّ علي أن لا يكون رجلان في الآية المباركة و صحيحة داود مبني علي ما هو المتعارف من عدم إشهاد النساء مع إمكان إشهاد الرجال، لا أنّ جواز شهادتهنّ مشروط بعدمه.

و بالجملة: فهذا المعني محتمل في الآية و الصحيحة قوياً بحيث ليس لهما ظهور في الاشتراط حتّي يمنع من الأخذ بإطلاق صحيحة الحلبي.

و مثل صحيحة الحلبي في الدلالة علي عدم الاشتراط المذكور خبر السكوني المتقدّم في المسألة السابقة؛ فإنّ قوله عليه السلام فيه

شهادة النساء لا تجوز في طلاق و لا نكاح و لا في حدود إلّا في الديون. «3»

الحديث، مطلق

في الاستثناء، و يدلّ علي قبول شهادتهنّ فيها و جوازها؛ سواء كان إمكان إشهاد الرجال أم لا. نعم هو مطلق من جهة الانضمام و الانفراد أيضاً، لكنّه لا بدّ من تقييده بصورة الانضمام كما عرفت.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 360، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 35.

(2) وسائل الشيعة 27: 351، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة 27: 362، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 42.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 635

______________________________

فدلالة الآية و الأخبار المذكورة علي جواز شهادة النساء مع الرجال واضحة، لكن موردها كما تري الشهادة في الدين، و هو لا يعمّ العين الشخصية. فاستفادة جواز شهادتهنّ في مطلق المال العين و الدين منها لا طريق إليها سوي إلغاء الخصوصية عرفاً عن الدين إلي مطلق الأموال، و هو علي عهدة مدّعيه.

نعم، يدلّ علي قبول شهادتهنّ في الأموال الشخصية أيضاً مرسلة يونس المضمرة قال

استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل و امرأتان. «1»

الحديث؛ فإنّ موضوعها الحقوق الشاملة للأموال الشخصية أيضاً، و هي و إن كانت تشمل غير المالية أيضاً إلّا أنّها تخصّص بمثل خبر السكوني المتقدّم.

و ربّما يؤيّد إلغاء الخصوصية ما رواه ابن أبي عمير عن الحسين بن خالد الصيرفي عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال: كتبت إليه في رجل مات و له أُمّ ولد، و قد جعل لها سيّدها شيئاً في حياته ثمّ مات، فكتب عليه السلام

لها ما أثابها به سيّدها في حياته معروف لها ذلك، تقبل علي ذلك شهادة الرجل و المرأة و الخدم غير المتّهمين «2».

بيان التأييد: أنّ ظاهر السؤال: «و قد جعل لها سيّدها شيئاً في حياته» أنّه جعل لها شيئاً و ملّكه

إيّاها في حياته لا أنّه أوصي لها به، و هذا الشي ء

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 241، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 7، الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة 27: 364، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 47.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 636

______________________________

يشمل ما إذا كان شخصياً لو لم يكن ظاهراً في خصوصه، فأفاد عليه السلام: أنّه تقبل علي ذلك شهادة المرأة أيضاً.

و الحسين بن خالد و إن لم يصرّح بتوثيقه إلّا أنّه روي هذا الخبر عنه ابن أبي عمير الذي قيل فيه: «إنّه لا يروي إلّا عن ثقة». و إنّما عبّرنا عنه بالتأييد لعدم دلالته علي العموم بالنسبة إلي جميع الموارد، فيحتمل اختصاصه بمورده.

و منه تعرف: أنّ أخبار ثبوت الوصية بشهادة النساء وحدهنّ أيضاً تؤيّد إلغاء الخصوصية، و سيأتي إن شاء اللّٰه تعالي ذكرها ذيل المسألة السابعة، فارتقب.

هذا كلّه بالنسبة إلي جواز شهادة النساء في نفس الأموال.

و أمّا جواز شهادتهنّ و قبولها بالنسبة إلي ما كان المقصود منه مالًا فلا يبعد أن يقال: إنّ عنوان الشهادة في الدين الوارد في صحيحة الحلبي و خبر السكوني ظاهر في تعلّق الشهادة بما يرتبط بالدين، و هو أعمّ ممّا إذا وردت علي الدين مستقيماً و بلا واسطة أو علي ما كان المقصود منه ثبوت الدين، بل أو علي حقّ آخر متعلّق بالأموال، كما يأتي في المسألة التالية. فإطلاق عنوان الشهادة في الدين ظاهر في الشهادة المرتبطة بالدين، و يشمل أقسامها الثلاثة المذكورة. و عليه فإذا ألغي الخصوصية عن الدين إلي جميع الأموال ديناً كانت أو عيناً فيدلّ علي قبول شهادتهنّ مع الرجال في الأموال و ما يقصد منه الأموال و في حقوق الأموال، كما لا يخفي. هذا كلّه

بالنسبة إلي قبول شهادتهنّ منضمّات إلي الرجال.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 637

و بشاهد و يمين المدّعي (11)، و بامرأتين و يمين المدّعي، و هو كلّ ما كان مالًا أو المقصود منه المال، كالديون بالمعني الأعمّ، فيدخل فيها القرض و ثمن المبيع و السلف و غيرها ممّا في الذمّة، و كالغصب و عقود المعاوضات مطلقاً و الوصية له و الجناية التي توجب الدية، كالخطإ و شبه العمد (12) و قتل الأب ولده و المسلم الذمّي و المأمومة و الجائفة و كسر العظام و غير ذلك ممّا كان متعلّق الدعوي فيها مالًا أو مقصوداً منها المال، فجميع ذلك تثبت بما ذكر حتّي بشهادة المرأتين و اليمين علي الأظهر.

______________________________

(11) قد مرّ البحث عن ثبوت الحقّ بشاهد أو امرأتين و يمين المدّعي مستوفي في كتاب القضاء عند القول في الشاهد و يمين المدّعي، و لا حاجة إلي الإعادة، فراجع.

(12) يدلّ علي قبول شهادتهنّ في القتل الموجب للدية مضافاً إلي ما عرفت صحيحة محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال

قضي أمير المؤمنين عليه السلام في غلام شهدت عليه امرأة أنّه دفع غلاماً في بئر فقتله، فأجاز شهادة المرأة بحساب شهادة المرأة «1»

فإنّ موردها شهادة المرأة علي قتل غلام بيد غلام آخر، و «الغلام» ظاهر في غير البالغ أو عامّ له.

و كيف كان: فلو لم تقبل شهادة المرأة في القتل بالنسبة إلي ثبوت الدية لما كان وجه لجواز شهادة المرأة الواحدة أصلًا.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 357، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 26.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 638

و تقبل شهادتهنّ في النكاح إذا كان معهنّ الرجل (13).

______________________________

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ قبولها تعبّد محض

في موردها، و إلّا فمقتضي القاعدة عدم تجزئة ثبوت المشهود به؛ فإمّا أن يثبت جميعه و إمّا أن لا يثبت شي ء منه أصلًا، كما سيجي ء بيانه ذيل المسألة السابعة.

لكنّك خبير: بأنّ التعبّد إنّما هو في الحكم بالتجزئة، و هو لا ينافي أن يكون أصل جواز شهادة النساء في ثبوت الدية مطابقاً للقواعد.

و منه تعرف الكلام في دلالة خبر عبد اللّٰه بن الحكم «1»، فراجع.

ثمّ إنّ في ثبوت القتل الموجب للدية بشهادة النساء إشكالًا ينشأ من تعارض الأخبار الخاصّة الأُخر، سيأتي بيانه إن شاء اللّٰه تعالي عند قوله في المسألة الآتية: «و لا تقبل شهادتهنّ فيما يوجب القصاص»، فانتظر.

(13) وفاقاً للشيخ قدس سره في «مبسوطه» فإنّه قال علي ما حكي: فأمّا حقّ الآدمي فإنّه ينقسم في باب الشهادات ثلاثة أقسام: أحدها لا يثبت ذلك إلّا بشاهدين ذكرين، و هو ما لم يكن مالًا و لا المقصود منه المال و يطّلع عليه الرجال، كالنكاح و الخلع و الطلاق و. و قال بعضهم: يثبت جميع ذلك بشهادة رجل و امرأتين و هو الأقوي، إلّا القصاص، انتهي. و حكي القول به عن ابن أبي عقيل. و عن الصدوقين و أبي الصلاح و ابن الجنيد ثبوته بشهادة النساء وحدهنّ. و في قبالهما حكي عن المفيد و ابن إدريس و سلّار و ابن

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 359، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 33.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 639

______________________________

حمزة المنع عن جواز شهادتهنّ حتّي مع الرجال أيضاً.

و التحقيق: أنّ النكاح ليس المقصود به مالًا، فيعمّه ضابط المنع المذكور في المسألة السابقة، بل هو مذكور بالخصوص في خبر السكوني الذي هو العمدة من أدلّة ذلك الضابط حيث قال عليه السلام

فيه

شهادة النساء لا تجوز في طلاق و لا نكاح و لا في حدود، إلّا في الديون.

الحديث، إلّا أنّه قد وردت أخبار معتبرة بجواز شهادتهنّ فيه، و هذه الأخبار علي أقسام:

فمنها: ما تدلّ علي جواز شهادتهنّ فيه من غير تقييد بانضمام الرجال؛ فمن ذلك معتبرة زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن شهادة النساء تجوز في النكاح؟ قال

نعم، و لا تجوز في الطلاق. «1»

الحديث. و دلالتها علي الجواز كإطلاقها واضحة.

و مثلها خبر أبي الصباح الكناني «2» و إبراهيم الحارثي «3»، فراجع.

و منها: ما تدلّ علي جوازها إذا كان معهنّ رجل؛ و من ذلك صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام أنّه سئل عن شهادة النساء في النكاح، فقال

تجوز إذا كان معهنّ رجل. «4»

الحديث. و تقييد الجواز في الجواب بما إذا كان معهنّ رجل مع أنّ السؤال عن مطلقها فيه دليل واضح علي اختصاص الجواز به و عدم الجواز إذا كنّ منفردات.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 354، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 11.

(2) وسائل الشيعة 27: 357، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 25.

(3) وسائل الشيعة 27: 352، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 5.

(4) وسائل الشيعة 27: 351، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 640

______________________________

و منه صحيحة محمّد بن الفضيل بناءً علي أنّه محمّد بن القاسم بن الفضيل بقرينة رواية ابن محبوب قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام قلت له: تجوز شهادة النساء في نكاح أو طلاق أو رجم؟ قال

تجوز شهادة النساء فيما لا تستطيع الرجال أن ينظروا إليه و ليس معهنّ رجل، و تجوز شهادتهنّ في النكاح إذا كان معهنّ رجل. و لا تجوز شهادتهنّ في الطلاق و

لا في الدم «1».

و دلالتها علي المطلوب واضحة فإنّه عليه السلام في الجواب قسّم شهادتهنّ ثلاثة أقسام: ما تجوز منفردات، و ما تجوز منضمّات لا منفردات، و ما لا تجوز أصلًا. و نحوهما خبر أبي بصير «2».

و بهذه الأخبار يقيّد إطلاق القسم الأوّل، فيختصّ بما انضمّت النساء إلي الرجال.

و من أخبار القسم الثاني خبر إسماعيل بن عيسي قال: سألت الرضا عليه السلام هل تجوز شهادة النساء في التزويج من غير أن يكون معهنّ رجل؟ قال

لا، هذا لا يستقيم «3»

فإنّه صريح في عدم جواز شهادتهنّ وحدهنّ و إن لم يتعرّض لشهادتهنّ إذا انضممن إلي الرجال.

و منها: صحيحة داود بن الحصين؛ فإنّ أبا عبد اللّٰه عليه السلام قال فيها

و كان أمير المؤمنين عليه السلام يجيز شهادة المرأتين في النكاح عند الإنكار،

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 352، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 7.

(2) وسائل الشيعة 27: 351، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 4.

(3) وسائل الشيعة 27: 362، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 39.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 641

______________________________

و لا يجيز في الطلاق إلّا شاهدين عدلين. «4»

الحديث، فقد يقال: إنّ ما نقله عن أمير المؤمنين عليه السلام مطلق يعمّ ما إذا انفردن النساء في الشهادة، بل لعلّ ظاهره خصوص صورة الانفراد؛ و لذا جعلنا الصحيحة قسماً مستقلا من الأخبار، هذا.

لكنّك تعلم: بأنّه لو سلّم أنّ ظاهره الانفراد فمضمونه ممّا لم يعمل به أحد؛ إذ مفاده الاكتفاء في ثبوت النكاح بمجرّد شهادة امرأتين، و الظاهر أنّه لا قائل به.

و الحقّ: أنّه لا ظهور له أزيد من أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يجيز شهادة المرأتين في النكاح، و هو في قبال ردّهما مطلقاً، فلا ينافي أن يكون إجازة

شهادتهما منوطة بأن يكون معهما رجل كما تضمّنه الأخبار الأُخر. فغاية الأمر أن يكون له إطلاق كإطلاق القسم الأوّل، و قد عرفت تقييد هذا الإطلاق بمفهوم القسم الثاني.

كما أنّه لا بدّ من حمل ما في خبر السكوني من عدم جواز شهادة النساء في النكاح علي صورة انفرادهنّ بالشهادة، و إلّا فلا يقاوم من حيث قوّة السند و اشتهاره هذه الأخبار الدالّة علي الجواز، و يقدّم هذه الأخبار عليه بلا إشكال. و بالجملة فما أفاده في المتن هو الصحيح كما عرفت.

______________________________

(4) وسائل الشيعة 27: 360، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 35.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 642

[مسألة 5 في قبول شهادتهنّ في الوقف وجه]

مسألة 5 في قبول شهادتهنّ في الوقف وجه (14) لا يخلو عن إشكال،

______________________________

(14) هو أنّ الجواز المذكور في المسألة السابقة و إن علّق علي الديون إلّا أنّه كما عرفت يلغي الخصوصية عنها إلي مطلق الأموال. و هاهنا نقول: إنّ إلغاء الخصوصية يعمّ كلّ شي ء ينتفع به انتفاع المالك عن ملكه و إن لم يكن ملكاً له.

لكنّك تعلم: أنّ إلغاء الخصوصية عن الديون إلي مطلق الأموال إنّما يكون برفع اليد فيه عن خصوصية الدين بإرادة مطلق المال منه عيناً كانت أم ديناً مع انحفاظ حقيقة المالكية في كلا القسمين، و هذا بمجرّده لا يكفي لشمول الجواز المذكور للموقوفات، بناءً علي أنّها ليست ملكاً لأحد، بل شموله لها محتاج إلي أن يلغي الخصوصية عن الأملاك أيضاً إلي أعمّ منها و ما يعامل معها معاملة الأملاك، فهذا إلغاء خصوصية أُخري، و هو علي عهدة مدّعيه؛ و لذلك قال: «لا يخلو عن إشكال».

ثمّ إنّه يستدلّ لقبول شهادتهنّ فيه بأنّ الوقف ينتقل إلي الموقوف عليهم و يصير ملكاً لهم، و حينئذٍ يكون

الشهادة به من مصاديق الشهادة علي ما كان مالًا، التي قد مرّ جوازها في المسألة السابقة. لكنّه مبني علي ما هو خلاف التحقيق و خلاف مبني السيّد الماتن دام ظلّه كما يظهر من مراجعة كتاب الوقف.

و ممّا ذكرنا تعرف: أنّ المراد بقبول شهادتهنّ فيه لو قيل به هو قبولها منضمّات إلي الرجال لا منفردات، كما لا يخفي.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 643

و تقبل شهادتهنّ في حقوق الأموال (15) كالأجل و الخيار و الشفعة و فسخ العقد المتعلّق بالأموال و نحو ذلك ممّا هي حقوق آدمي، و لا تقبل شهادتهنّ فيما يوجب القصاص (16).

______________________________

(15) لما عرفت من دخولها في إطلاق جواز شهادتهنّ في الأموال؛ إذ الشهادة في الشي ء عامّة للشهادة بنفسه و بما يرتبط بذلك الشي ء، و لو من قبيل الحقوق المرتبطة به، فتذكّر.

(16) قال في «المسالك»: اختلف كلام الشيخ في حكمه أيضاً؛ ففي «الخلاف» منع من قبول شهادتهنّ مع الرجال فيه، و قوّي في «المبسوط» و «النهاية» القبول، و عليه الأكثر. إلي أن قال ما معناه: و مقتضي حكمه بثبوت القصاص بشاهد و امرأتين ثبوت القود بذلك، و بهذا المعني صرّح كثير من الأصحاب، إلّا أنّه ذهب جماعة منهم الشيخ في «النهاية» إلي أنّه لا يثبت بشهادة المرأتين و الرجل إلّا الدية.

و نحوه عبارات «المختلف» من غير إسناد إلي الأكثر، و زاد فيه: و منع ابن إدريس من قبول شهادتهنّ مع الرجال، و الظاهر من كلام ابن أبي عقيل القبول، و ابن الجنيد وافق كلام شيخنا في «النهاية»، و كذا أبو الصلاح و ابن البرّاج، و هو المعتمد، انتهي.

ثمّ إنّ الجناية الموجبة للقصاص داخل في عنوان ما ليس مالًا و لا المقصود

منه المال، المذكور في المسألة الثالثة؛ و لذلك ذكرها المحقّق في «الشرائع» ذيل القسم الأوّل، و إن اختار فيه أنّ الأظهر ثبوت

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 644

______________________________

القصاص بشاهد و امرأتين. و كيف كان: فالمسألة كما عرفت خلافية منشأه اختلاف الأخبار.

فالأخبار الواردة في خصوص شهادتهنّ في القتل أو الدم علي طائفتين:

الطائفة الأُولي: ما تدلّ علي قبول شهادتهنّ فيه:

فمنها: صحيحة جميل بن درّاج و محمّد بن حمران عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: قلنا: أ تجوز شهادة النساء في الحدود؟ فقال

في القتل وحده، إنّ علياً عليه السلام كان يقول: لا يبطل دم امرئ مسلم «1»

، و ظاهر جواز شهادتهنّ في القتل أنّ القتل يثبت بشهادتهنّ، و بعد ثبوته يترتّب عليه حكمه الشرعي من القصاص أو الدية علي القاتل أو عاقلته حسب اختلاف الموارد. و الاستدلال بقول الأمير عليه السلام لا يقتضي أزيد من بيان سرّ حجّية شهادتهنّ في القتل، و هو كما يناسب ثبوت الدية يناسب ثبوت القصاص أيضاً، كلّ في مورده.

و منها: خبر أبي الصباح الكناني عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام فإنّ فيه أنّه عليه السلام قال

تجوز شهادة النساء في الدم مع الرجال «2».

و مثلها رواية الشحّام المضمرة ففيها: فقلت: أ فتجوز شهادة النساء مع الرجال في الدم؟ قال

نعم «3».

فهذان الخبران وردا في شهادتهنّ منضمّات، و مفهوم الأوّل منهما

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 350، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 357، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 25.

(3) وسائل الشيعة 27: 359، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 32.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 645

______________________________

عدم جوازها منفردات، و لو صحّ سنده لما كان بأس بتقييد إطلاق صحيحة جميل و

محمّد بن حمران به.

و جميعها كما تري مطلقة من حيث الجناية الموجبة للقصاص في النفس أو الدية، هذا.

الطائفة الثانية: ما دلّت علي عدم القبول؛ و هي علي عناوين مختلفة:

فمنها: صحيحة ربعي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

لا تجوز شهادة النساء في القتل «1».

و منها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

إذا شهد ثلاثة رجال و امرأتان لم يجز في الرجم، و لا تجوز شهادة النساء في القتل «2»

فإنّهما وردتا علي عنوان شهادتهنّ في القتل و حكمتا بعدم جوازها، و هي بعينها العنوان المأخوذ في صحيحة جميل و محمّد بن حمران، و قد حكم عليه فيها بالجواز.

و منها: معتبرة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام ففي ذيلها: قلت: تجوز شهادة النساء مع الرجال في الدم؟ قال

لا «3»

، و هي قد وردت علي عنوان شهادة النساء مع الرجال في الدم و حكمت عليه بعدم الجواز، و هذا العنوان بعينه قد أُخذ في خبر أبي الصباح و الشحّام و حكم عليه بالجواز.

و منها: صحيحة محمّد بن الفضيل بناءً علي أنّه ابن القاسم بن

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 358، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 27.

(2) وسائل الشيعة 27: 358، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 28.

(3) وسائل الشيعة 27: 354، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 11.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 646

______________________________

الفضيل الثقة قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام قلت له: تجوز شهادة النساء في نكاح أو طلاق أو رجم؟ قال

تجوز شهادة النساء فيما لا تستطيع الرجال أن ينظروا إليه و ليس معهنّ رجل، و تجوز شهادتهنّ في النكاح إذا كان معهنّ رجل، و تجوز شهادتهنّ في حدّ الزنا إذا كان ثلاثة رجال

و امرأتان، و لا تجوز شهادة رجلين و أربع نسوة في الزنا و الرجم، و لا تجوز شهادتهنّ في الطلاق و لا في الدم «1».

و هذه الصحيحة بقرينة تفصيلها بين الموارد التي تجوز فيها شهادة النساء منفردات و الموارد التي تجوز شهادتهنّ منضمّة إلي الرجال و بيان أنحاء الانضمام و الموارد التي لا تجوز شهادتهنّ فيها أصلًا كالطلاق و الدم، صريحة في عدم قبول شهادتهنّ في الدم منفردات و منضمّات، و الدم ظاهر في القتل و عبارة اخري عنه عرفاً، كما لا يخفي.

و مثلها في أخذ عنوان الدم و الحكم بعدم الجواز بالصراحة خبر أبي بصير و خبر إبراهيم الحارثي «2»، فراجع.

و منها: موثّقة غياث بن إبراهيم عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن علي عليهم السلام قال

لا تجوز شهادة النساء في الحدود و لا في القود «3».

و مثلها خبر موسي بن إسماعيل بن جعفر عن أبيه عن آبائه عن علي عليهم السلام «4»، فهما

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 352، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 7.

(2) وسائل الشيعة 27: 351، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 4 و 5.

(3) وسائل الشيعة 27: 358، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 29.

(4) وسائل الشيعة 27: 359، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 30.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 647

______________________________

قد وردا علي عنوان القود و هو بفتحتين: القصاص و دلّا علي عدم جواز شهادة النساء فيه.

هذه مجموع أخبار الطائفتين، و قد عرفت أنّ كلا قسمي أخبار الجواز مبتلي بمعارض دلّ علي عدم الجواز في نفس العنوان المحكوم عليه بالجواز، فعقد التعارض بين الطائفتين قوي.

لكنّه يمكن أن يقال: إنّ موثّقة غياث بن إبراهيم قد دلّت علي عدم جواز شهادتهنّ في القصاص،

و هو و إن كان أعمّ من قصاص النفس و الطرف؛ و لذلك كانت النسبة بينها و بين صحيحة جميل و محمّد بن حمران الدالّة علي جواز شهادتهنّ في القتل عموماً من وجه، إلّا أنّه لا يبعد أظهرية الموثّقة في شمول قصاص النفس من الصحيحة، فتخصّص بها الصحيحة.

و ابتلاء الصحيحة بما يعارضها بالتباين لا يمنع عن العمل بالموثّقة؛ فإنّ ابتلاءها بالمعارض لا يجعلها و لو بالأخرة أقوي ممّا لا معارض لها، و هي تخصّص بالموثّقة. و لازمه أن لا تقبل شهادتهنّ فيما يوجب القصاص مطلقاً في النفس و الطرف. و بعد ذلك يبقي التعارض بين سائر أخبار الطائفتين منعقدة.

و توهّم أنّه بعد تخصيص الصحيحة بالموثّقة يبقي تحت الصحيحة شهادة النساء في القتل الموجب للدية، فتصير أخصّ مطلقاً من أخبار الطائفة الثانية فتخصّص بها، و يختصّ المنع بما شهدن بالقتل الموجب للقصاص، مدفوع بما تقرّر في الأُصول من أنّ الاعتبار في الجمع المقبول العرفي إنّما هو بالظواهر الأوّلية و النسب الموجودة بلحاظها لا بالنسب المنقلبة بعد رفع اليد عن ظهورها.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 648

[مسألة 6 من حقوق الآدمي ما يثبت بالرجال و النساء]

مسألة 6 من حقوق الآدمي ما يثبت بالرجال و النساء منفردات و منضمّات، و ضابطه كلّ ما يعسر اطّلاع الرجال عليه غالباً (17) كالولادة و العذرة و الحيض و عيوب النساء الباطنة، كالقرن و الرتق و القرحة في الفرج،

______________________________

فالمعارضة بين الطائفتين مستقرّة، و لو لم تعالج فهي مانعة عن الأخذ بخصوص مفاد كلّ منهما؛ لعدم حجّية شي ء منهما في مفاده. و هذا ما أشرنا إليه من الإشكال في ثبوت القتل الموجب للدية بشهادتهنّ، فتذكّر.

و لا محيص عنه إلّا أن يقال: إنّ المشهور بل ربّما ادّعي عليه الإجماع قبول

شهادة النساء فيما كان مالًا أو المقصود منه المال، فصحيحة جميل و محمّد بن حمران موافقة لعمل المشهور، و هو أوّل المرجّحات في مقام العلاج، فيقدّم الصحيحة و يقال بقبول شهادتهنّ مع الرجال فيما أوجب الدية من الجنايات، و إن لا تقبل في ما يوجب القصاص كما عرفت، و اللّٰه العالم.

(17) فهذا العنوان و إن لم يقع في شي ء من أخبار الباب إلّا أنّ المتحصّل منها هو ما ذكره من الضابط تبعاً للفقهاء العظام قدس سرهم؛ قال صاحب «الجواهر»: ضابطه ما يعسر اطّلاع الرجال عليه غالباً، بلا خلاف أجده في ثبوت ذلك بشهادتهنّ منفردات، كما اعترف به في «كشف اللثام».

و كيف كان: فالأخبار الواردة في المقام علي عناوين ثلاثة:

أحدها: ما ورد بجواز شهادتهنّ فيما لا يجوز للرجال النظر إليه؛ ففي صحيحة عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث أنّه قال

تجوز

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 649

______________________________

شهادة النساء وحدهنّ بلا رجال في كلّ ما لا يجوز للرجال النظر إليه «1».

و نحوه خبر علل ابن سنان الذي أوردناه ذيل المسألة الثالثة.

و هذا العنوان لا يعمّ ما أمكن للرجال العلم به بطريق جائز شرعي و إن لم يتعارف حضورهم عنده و اطّلاعهم عليه، كالشهادة علي أنّ المولود صاح بعد ولادته حيث إنّه أمكن لهم أن يعلموا به بحضورهم عند الولادة في بيت مجاور لبيت المخاض و إن لم يتعارف ذلك. نعم الإنصاف: أنّه لا مفهوم له حتّي يدلّ علي عدم جواز شهادتهنّ وحدهنّ علي موضوع آخر و لو كان أعمّ، كما لا يخفي.

ثانيها: ما ورد علي عنوان ما لا يستطيع الرجال أن ينظروا إليه؛ ففي صحيح محمّد بن فضيل الذي أوردناه

في عداد روايات المنع عن جواز شهادتهنّ في القصاص أنّ الرضا عليه السلام قال

تجوز شهادة النساء فيما لا تستطيع الرجال أن ينظروا إليه و ليس معهنّ رجل «2».

و مثله خبر أبي بصير و إبراهيم الحارثي و السكوني «3» التي تقدّم إيرادها سابقاً، فراجع.

و الظاهر: أنّ عنوان عدم الاستطاعة هنا يفهم منه ما يعمّ عدم الاستطاعة الحاصل من تعارف النساء علي تخصيص الاطّلاع ببعض الأُمور بأنفسهنّ كالولادة و الحيض و جميع المذكورات في المتن، و إن جاز شرعاً و أمكن اطّلاعهم عليه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 353، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 10.

(2) وسائل الشيعة 27: 352، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 7.

(3) وسائل الشيعة 27: 351، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 4 و 5 و 42.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 650

______________________________

و ثالثها: ما ورد علي عنوان ما لا ينظر الرجال إليه؛ ففي معتبر داود بن سرحان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

أُجيز شهادة النساء في الغلام صاح أو لم يصح و في كلّ شي ء لا ينظر إليه الرجال تجوز شهادة النساء فيه «1».

و في موثّق ابن بكير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

تجوز شهادة النساء في العذرة و كلّ عيب لا يراه الرجل «2».

و الظاهر من التقييد ب

لا ينظر إليه أو لا يراه الرجال

أنّهم لا ينظرون إليه بحسب بنائهم العملي، و هو كلّ ما تعارف بين النساء إيكاله و إيكال الاطّلاع عليه إلي النساء.

و هذه الطائفة تفسّر ما قبلها من الطائفتين و تدلّ علي أنّ ملاك قبول شهادتهنّ أن تكون الشهادة بأمر موكول إلي النساء الاطّلاع عليه، و إن جاز للرجال و استطاعوا الاطّلاع عليه كما مرّ.

نعم، ربّما أوجب نفس هذا

التعارف و البناء حزازة علي الرجال إذا قاموا بصدد الاطّلاع عليه، فكان عليهم عسراً بهذا المقدار؛ و لهذا عبّر عنه في كلمات الفقهاء بما يعسر اطّلاع الرجال عليه غالباً. فسرّ عسر الاطّلاع عليه للرجال هو البناء المذكور.

و بالجملة: فالملاك و المدار هو ما تضمّنته هذه الطائفة الثالثة من الأخبار؛ إذ لا ينبغي الشكّ في أنّ الأخبار كان مستند الأصحاب؛ فبالأخبار تفسّر كلماتهم، و المدار علي مفاد الأخبار.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 354، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 12.

(2) وسائل الشيعة 27: 353، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 9.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 651

______________________________

ثمّ إنّه يوجد في أخبار الباب ما يخصّ جواز شهادة النساء وحدهنّ ببعض مصاديق العنوان المذكور؛ ففي صحيحة العلاء عن أحدهما عليهما السلام قال: سألته هل تجوز شهادتهنّ وحدهنّ؟ قال

نعم، في العذرة و النفساء «1»

، و نحوها غيرها. إلّا أنّها يراد بها و لو بقرينة ما أوردناه جواز شهادتهنّ في مثل العذرة و النفساء ممّا لا ينظر الرجال إليه، و يكون قوله عليه السلام

نعم، في العذرة و النفساء

من قبيل إعطاء الحكم الكلّي و القاعدة بالمثال.

كما يشهد لذلك أيضاً قوله عليه السلام في ذيل موثّقة السكوني عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

اتي أمير المؤمنين عليه السلام بامرأة بكر زعموا أنّها زنت، فأمر النساء فنظرن إليها فقلن هي عذراء، فقال: ما كنت لأضرب من عليها خاتم من اللّٰه، و كان يجيز شهادة النساء في مثل هذا «2»

؛ فإنّ قول الصادق عليه السلام

و كان.

إلي آخره شاهد علي عموم الحكم لمثل العذرة ممّا لا ينظر الرجال إليه و يوكل الاطّلاع عليه إلي النساء، هذا.

ثمّ إنّ هنا أخباراً وردت في قبول شهادتهنّ في بعض مصاديق

الضابط المذكور كالولادة و العذرة و كيفية الحيض، لا حاجة إلي ذكرها مع ما عرفت.

ثمّ إنّ هذه الأخبار و إن دلّت علي قبول شهادة النساء منفردات في الضابط المذكور سواء كانت بالصراحة كما فيما اشتمل منها علي التعبير ب

وحدهنّ

و ب

ليس معهنّ رجل

، أو بالملازمة؛ لاستلزام عدم جواز

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 356، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 18.

(2) وسائل الشيعة 27: 354، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 13.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 652

دون الظاهرة كالعرج و العمي (18).

[مسألة 7 كلّ موضع تقبل شهادة النساء منفردات لا يثبت بأقلّ من أربع]

مسألة 7 كلّ موضع تقبل شهادة النساء منفردات لا يثبت بأقلّ من أربع (19)،

______________________________

نظر الرجال أو عدم استطاعتهم للنظر أو عدم نظرهم إليه إن تنفرد النساء بالعلم به و النظر إليه إلّا أنّها مع ذلك لا مفهوم لها حتّي يدلّ علي عدم قبول شهادة الرجال فيها، بل تعليق الحكم علي عدم جواز النظر أو عدم الاستطاعة أو عدم النظر فيه إشعار بأنّ قبول شهادتهنّ لمكان الضرورة العرفية، كما صرّح بها في خبر علل ابن سنان، و إلّا فقبول شهادة الرجال بلا إشكال.

و حينئذٍ: فحيث إنّ مقتضي القواعد حجّية شهادة الرجال في كلّ الأُمور فلو اطّلعوا علي موارد الضابط المذكور بوجه جائز أو غير جائز تابوا عنه لما كان بأس في قبول شهادتهم منفردين عليه؛ فشهادة كلّ من الرجال أو النساء بالانفراد مقبولة، و لازمه قبول شهادة النساء و الرجال بالانضمام أيضاً، كما لا يخفي.

(18) لدخول مثلها فيما ليس بمال و لا المقصود منه المال، و قد عرفت عدم قبول شهادتهنّ فيه.

(19) ادّعي عليه الشيخ في «الخلاف» إجماع الفرقة و أخبارهم، و في «الرياض»: أنّه الأشهر، بل عليه عامّة من تأخّر. إلي أن قال: خلافاً للمفيد

و الديلمي فقالا: تقبل في عيوب النساء و الاستهلال و النفاس

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 653

______________________________

و الحيض و الولادة و الرضاع شهادة امرأتين مسلمتين، و إذا لم يوجد إلّا شهادة امرأة واحدة مأمونة قبلت شهادتها فيه. و للإسكافي فقبل شهادة الواحدة أيضاً في الأُمور المزبورة، انتهي.

و الأخبار التي يمكن استنتاج قاعدة كلّية منها ممّا قد ظفرنا بها روايات ثلاث:

منها: صحيحة ابن سنان قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول

تجوز شهادة القابلة في المولود إذا استهلّ و صاح في الميراث، و يورث الربع من الميراث بقدر شهادة امرأة واحدة.

قلت: فإن كانت امرأتين؟ قال

تجوز شهادتهما في النصف من الميراث «1».

بيان الدلالة: أنّ الحكم بتجزية المشهود به فوق الأثر المرتّب عليه و إن كان محتاجاً إلي التعبّد و علي خلاف القواعد الأوّلية كما يأتي إن شاء اللّٰه تعالي إلّا أنّ تذييل و تعليل إرث الربع بقوله عليه السلام

بقدر شهادة امرأة واحدة

فيه دلالة واضحة علي أنّ قيمة و قدر شهادة المرأة الواحدة إنّما هي ربع ما تشهد به، فلا محالة يحتاج ثبوت المشهود به كلّه إلي شهادة أربع منهنّ؛ حتّي أنّه إذا شهدت واحدة فبما أنّها ربع العدد المحتاج إليه يثبت بها ربع الميراث، و إن كانتا اثنتين يثبت الربعان أعني النصف فالصحيحة تدلّ علي قاعدة كلّية؛ هي ما ذكره الماتن دام ظلّه.

و من هذه الروايات: موثّقة سماعة التي لا يضرّها الإضمار قال:

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 364، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 45.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 654

______________________________

قال

القابلة تجوز شهادتها في الولد علي قدر شهادة امرأة واحدة «1»

فإنّها إذا انضمّت إلي ما دلّ علي ثبوت الربع بشهادة القابلة كانت دلالتها علي القاعدة

المزبورة تامّة.

و منها: صحيحة ربعي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في شهادة امرأة حضرت رجلًا يوصي، فقال

يجوز في ربع ما أوصي بحساب شهادتها «2»

فإنّ قوله عليه السلام

بحساب شهادتها

يدلّ علي أنّ تعيين الربع جاء من قبل المقايسة، و أنّ شهادة المرأة الواحدة ربع ما يحتاج إليه من العدد.

و منها: صحيحة محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال

قضي أمير المؤمنين عليه السلام في غلام شهدت عليه امرأة أنّه دفع غلاماً في بئر فقتله، فأجاز شهادة المرأة بحساب شهادة المرأة «3»

فإنّها أيضاً بضميمة خبر عبد اللّٰه بن الحكم قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن امرأة شهدت علي رجل أنّه دفع صبياً في بئر فمات، قال

علي الرجل ربع دية الصبي بشهادة المرأة «4»

تدلّ علي تلك القاعدة الكلّية بالبيان المذكور؛ فإنّ ظاهر قوله

بحساب شهادة المرأة

أنّ المقدار يعيّن و يقدّر في هذه المحاسبة المقايسة، و عدم العمل بالخبر في مورده لا ينافي حجّيته في هذا المعني الالتزامي الذي يقتضيه ذيله.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 357، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 23.

(2) وسائل الشيعة 27: 355، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 16.

(3) وسائل الشيعة 27: 357، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 26.

(4) وسائل الشيعة 27: 359، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 33.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 655

______________________________

و بالجملة: فالمستفاد من هذه الأخبار أنّ قيمة شهادة امرأة واحدة هي ربع المشهود به؛ لمكان احتياج ثبوته كلّا إلي أربع نسوة، و ظاهرها قاعدة كلّية لا يخرج عنها إلّا بدليل خاصّ.

ثمّ إنّ هاهنا روايات واردة في موارد جزئية لا يبعد إلغاء الخصوصية عنها و استفادة قاعدة كلّية منها؛ و هي أنّه في باب الشهادات يقوّم شهادة امرأتين بشهادة

رجل واحد، فإذا كان الشي ء يثبت بشهادة رجلين و كان هذا الشي ء ممّا يكتفي فيه بشهادة النساء منفردات فلا يثبت إلّا بشهادة أربع نسوة.

و هذه الروايات واردة في موضوعات متفرّقة:

منها: ما ورد في ثبوت الدعوي بشهادة امرأتين و يمين صاحب الحقّ، مع أنّها تثبت بشهادة رجل واحد و يمين المدّعي.

و منها: ما ورد في ثبوت ربع الوصية بشهادة امرأة واحدة.

و منها: ما ورد في ثبوت مثل الزنا بشهادة النساء؛ ففي صحيحة عبد اللّٰه بن سنان عن الصادق عليه السلام

و لا يجوز في الرجم شهادة رجلين و أربع نسوة، و يجوز في ذلك ثلاثة رجال و امرأتان. «1»

الحديث، و نحوها غيرها. فتري أنّ الرجم الذي يثبت بشهادة رجال أربع إذا أُريدت إقامة النسوة مقام الرجال أُقيمت امرأتان مقام رجل واحد، و أربع نسوة مقام رجلين.

و مثل هذه الروايات قوله تعالي وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 353، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 10.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 656

نعم تقبل شهادة المرأة الواحدة بلا يمين في ربع ميراث المستهلّ (20)،

______________________________

فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدٰاءِ «1».

فالحاصل: أنّ ملاحظة الآية المباركة و مجموع هذه الأخبار ممّا يوجب القطع بإلغاء الخصوصية عرفاً و انفهام قاعدة كلّية؛ و هي أنّ كلّ موضع تقبل شهادة النساء منفردات لا يثبت بأقلّ من أربع.

و ما نسب إلي المفيد و الديلمي و ابن الجنيد فهو مبني علي الأخذ بإطلاق بعض الأخبار الدالّة علي ثبوت مثل الولادة و المنفوس بشهادة امرأة واحدة أو اثنتين الظاهرة في ثبوت تمام الموضوع بشهادتها أو شهادتهما، لكنّها محمولة بقرينة سائر الأخبار علي ثبوت الموضوع بنسبة عدد الشاهد إلي العدد

المحتاج إليه، كما سيأتي إن شاء اللّٰه تعالي، فانتظر.

(20) في «الجواهر»: بلا خلاف أجده، بل عن «الخلاف» و «السرائر» الإجماع عليه.

أقول: إلّا أنّ خلاف المفيد و الديلمي و ابن الجنيد جارٍ هنا أيضاً.

و كيف كان: فمقتضي القواعد أنّه إذا أخبر مخبر بشي ء فإن كان إخباره حجّة و طريقاً معتبراً إلي هذا الشي ء كان اللازم ثبوت الشي ء المذكور، و لازمه أن يترتّب عليه جميع آثاره. و إن لم يكن خبره حجّة فلا طريق معتبر إلي ثبوته، و لازمه أن لا يكون حجّة لترتيب شي ء من آثاره.

______________________________

(1) البقرة (2): 282.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 657

______________________________

و حيث إنّه لا ريب أنّ باب الشهادة باب الإخبار، غاية الأمر أنّ الشارع اعتبر فيه عدداً معيّناً و شرائط خاصّة في الشهود، فشهادة العدد الخاصّ الواجد للشرائط طريق معتبر عرفاً و شرعاً إلي ثبوت المشهود به. فإذا لم يكمل العدد أو لم يجتمع شرائطه فلم يقم حجّة و طريق معتبر عليه فلا يثبت شرعاً، و لازمه أن لا يترتّب عليه شي ء من آثاره أصلًا.

و عليه: فالحكم بترتّب جزء منها كالربع و النصف و غيرهما خلاف هذه القواعد و محتاج إلي التعبّد و الدليل الخاصّ.

و هذا الدليل قائم في ميراث المستهلّ؛ فإنّ موثّقة سماعة الماضية دلّت علي ثبوت الميراث بقدر شهادة المرأة، و صحيحة ابن سنان الماضية أيضاً دلّت بالصراحة علي ثبوت الربع بشهادة واحدة و النصف بشهادة امرأتين. و تدلّ الصحيحة بمقتضي قوله

و يورث الربع من الميراث بقدر شهادة امرأة واحدة

و حكمها بالنصف إذا كانتا امرأتين علي أنّه يزيد المقدار بهذه النسبة، فيورث ثلاثة أرباع الميراث بشهادة ثلاث. و قد حكم بثبوت الربع بلا اشتمال علي التعليل صحيحة عمر

بن يزيد قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل مات و ترك امرأته و هي حامل، فوضعت بعد موته غلاماً، ثمّ مات الغلام بعد ما وقع إلي الأرض، فشهدت المرأة التي قبلتها أنّه استهلّ و صاح حين وقع إلي الأرض ثمّ مات، قال

علي الإمام أن يجيز شهادتها في ربع ميراث الغلام «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 352، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 6.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 658

______________________________

ثمّ إنّ هاهنا كما مرّت إليه الإشارة أخباراً تدلّ علي جواز شهادة القابلة الواحدة أو امرأتين في استهلال المولود، و ظاهرها ثبوت الموضوع بتمامه بهذه الشهادة.

ففي صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث سألته عن شهادة القابلة في الولادة، قال

تجوز شهادة الواحدة «1».

و في صحيح ابن سنان عنه عليه السلام

و تجوز شهادة القابلة وحدها في المنفوس «2».

و مثلها أخبار أُخر مذكورة في الباب الرابع و العشرين من أبواب شهادات «الوسائل»، فراجع.

و في خبر أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال

تجوز شهادة امرأتين في استهلال «3».

فجواز شهادة الواحدة أو امرأتين و إن كان ظاهراً في ثبوت الولادة و حياة المولود بها، و لازمه ترتّب الإرث كلّه عليها، إلّا أنّ هذا الظهور إنّما هو مقتضي إطلاق الجواز، و صحيحة ابن سنان و عمر بن يزيد و موثّقة سماعة قرينة علي تقييد هذا الجواز بمقدار الربع أو النصف، فيجوز شهادة الواحدة في الربع و شهادة الامرأتين في النصف من الميراث و لا إشكال.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 351، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة 27: 353، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 10.

(3) وسائل الشيعة 27: 362، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 41.

مباني

تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 659

و ربع الوصية (21) و الاثنتين في النصف، و الثلاث في ثلاثة أرباع، و الأربع في الجميع،

______________________________

ثمّ إنّ جميع الأخبار الدالّة علي ثبوت الميراث بالنسبة أو جواز شهادة الواحدة موضوعها شهادة القابلة، و تعميم الحكم المخالف للقواعد إلي مطلق المرأة كما هو ظاهر المتن مبني علي إلغاء الخصوصية عنها إلي كلّ امرأة. نعم موضوع الحكم في خبر أبي بصير الماضي آنفاً شهادة امرأتين، لكنّه غير نقي السند؛ فالعمدة في التعميم هو إلغاء الخصوصية، و هو علي عهدة مدّعيه.

(21) هذا أيضاً بحسب القواعد مثل ميراث المستهلّ، و قد ادّعي الشيخ في «الخلاف» عليه إجماع الفرقة، و نقل الإجماع عن «السرائر» أيضاً.

و الدليل عليه مضافاً إلي ما مرّ من صحيحة ربعي صحيحة محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال

قضي أمير المؤمنين عليه السلام في وصية لم يشهدها إلّا امرأة، فقضي أن تجاز شهادة المرأة في ربع الوصية «1»

، و الصحيحتان و إن كان مفادهما الصريح ثبوت الربع بشهادة الواحدة إلّا أنّه لا يبعد انفهام ثبوت النصف و ثلاثة أرباع بشهادة امرأتين و ثلاث من قوله عليه السلام في ذيل صحيحة ربعي

يجوز في ربع ما أوصي بحساب

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 355، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 15.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 660

______________________________

شهادتها

فإنّه يدلّ علي أنّ ثبوت الربع إنّما جاء من طريق المحاسبة و المقايسة إلي العدد المعتبر، فإذا كانتا اثنتين أو ثلاثاً فلا محالة يقتضي الحساب ثبوت النصف أو ثلاثة أرباع، مضافاً إلي إمكان إلغاء الخصوصية من هذه الجهة من أخبار ميراث المستهلّ.

و مثل صحيحة ربعي معتبرة أبان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام أنّه قال

في وصية لم يشهدها إلّا امرأة فأجاز شهادتها في الربع من الوصية بحساب شهادتها «1»، هذا.

و في قبال هذه الصحاح أخبار متعدّدة تدلّ علي عدم الاعتناء بشهادة الواحدة في ثبوت الوصية أصلًا، بل عدم ثبوت الوصية بشهادة النساء مطلقاً:

ففي خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه قال: سألته عن المرأة يحضرها الموت و ليس عندها إلّا امرأة، أ تجوز شهادتها أم لا تجوز؟ فقال

تجوز شهادة النساء في المنفوس و العذرة «2»

؛ فإنّ قوله عليه السلام

تجوز شهادة النساء في المنفوس و العذرة

في مقام الجواب عن سؤال جواز شهادة المرأة الواحدة وحدها دالّ بمفهوم واضح علي اختصاص جواز شهادة النساء بالعذرة و المنفوس و عدم قبولها في غيرهما، فلا تجوز شهادة المرأة الواحدة في الوصية.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 19: 317، كتاب الوصايا، الباب 22، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة 27: 355، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 14.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 661

______________________________

و نحوه المروي عن عبد الرحمن عنه بسند آخر و خبر عبد اللّٰه بن سنان (سليمان) «1».

و من هذه الأخبار صحيحة ابن بزيع «2» و خبر إبراهيم بن محمّد الهمداني «3»، فراجع.

إلّا أنّ هذه الأخبار لم ينقل من أحد الإفتاء بمضمونها فيما نحن فيه؛ إذ لم ينقل من أحد القول بعدم الاعتبار بشهادة المرأة الواحدة بالوصية، بل قد عرفت دعوي الشيخ في «الخلاف» الإجماع علي الاعتبار، و عن «السرائر» أيضاً دعواه.

فهذه الأخبار معرض عنها ليست حجّة بنفسها؛ فلا تقاوم الصحاح المذكورة. و مع الإغماض فالشهرة العملية أوّل المرجّحات في أخبار العلاج، فما اختاره الماتن ممّا لا محيص عنه.

ثمّ إنّ قوله في كلتا مسألتي القابلة و الوصية «بلا يمين» إشارة إلي ما عن «تحف العقول» عن

أبي الحسن الثالث عليه السلام في حديث قال

و أمّا شهادة المرأة وحدها التي جازت فهي القابلة، جازت شهادتها مع الرضا، فإن لم يكن رضاً فلا أقلّ من امرأتين تقوم المرأتان بدل الرجل للضرورة؛ لأنّ الرجل لا يمكنه أن يقوم مقامها، فإن كانت وحدها قبل قولها مع

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 356، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 21 و 24.

(2) وسائل الشيعة 27: 362، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 40.

(3) وسائل الشيعة 27: 360، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 34.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 662

و لا يلحق بها رجل واحد، و لا يثبت به أصلًا (22).

______________________________

يمينها «1»

، فتراه قيّد جواز شهادة الواحدة برضا سائر الورثة، و مع عدم رضاهم لا بدّ من شهادة امرأتين حتّي يثبت بها كيفية الولادة. فإن كانت واحدة فلا تقبل شهادتها إلّا مع يمينها.

لكن الرواية مرسلة لم ينقل الفتوي بها عن أحد، و هي خلاف إطلاق الأخبار المعتبرة الماضية بالنسبة إلي ثبوت الربع و خلاف القواعد، و تلك الأخبار بالنسبة إلي ثبوت موضوع الولادة حيّاً و ترتّب آثارها كلّها عليها، و بالجملة فمقتضي تلك الأخبار قبول شهادتها في الربع بلا يمين، و لا حجّة علي خلافها.

(22) لما عرفت من أنّ التجزئة المذكورة خلاف القواعد، و إنّما ذهبنا إليها في شهادة المرأة لقيام الدليل الخاصّ؛ ففي شهادة الرجل مقتضي القواعد محكّمة.

و أمّا ما في «المسالك» و «الرياض» من إلحاق الرجل الواحد بالمرأة الواحدة للقطع بأنّ شهادته لا تقصر عن شهادتها فيثبت بها ما ثبت بها بالأولوية القطعية، فالقطع به ممنوع بعد كون الحكم تعبّداً، و العقل لا يحيط بعلل الأحكام و ملاكاته.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 365، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث

51.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 663

[فروع]

اشارة

فروع:

[الأوّل: الشهادة ليست شرطاً في شي ء من العقود و الإيقاعات]

الأوّل: الشهادة ليست شرطاً في شي ء من العقود و الإيقاعات (23)، إلّا الطلاق و الظهار (24).

______________________________

(23) فإنّ كلّا من العقود و الإيقاعات حقيقة اعتبارية عقلائية تتحقّق بإنشائها ممّن له حقّ الإنشاء مراعياً للشرائط، و ليس منها الإشهاد عليها قطعاً، و الشارع أمضاها و جعلها موضوع الأحكام الشرعية، فحيث لا دليل علي اعتبار أمر زائد فيها يحكم علي الموضوع العرفي بتلك الأحكام، و قد تقرّر ذيل كلّ من تلك العقود و الإيقاعات عدم قيام دليل علي اعتبار الشارع للإشهاد في صحّتها، بل ورد في بعضها كالنكاح و غيره دليل خاصّ علي عدم اعتبار الإشهاد، و تفصيل المقام موكول إلي مقامه.

(24) لقيام الدليل علي اشتراطها فيهما، أمّا الطلاق فقد ورد في اشتراطه بإشهاد الشاهدين أخبار كثيرة:

منها: صحيحة داود بن الحصين المتقدّمة عند البحث عن عدم جواز شهادة النساء في الطلاق في المسألة الثانية من مسائل هذا الفصل.

و منها: قول أبي جعفر عليه السلام في صحيحة بكير بن أعين في حديث

و إن طلّقها للعدّة بغير شاهدي عدل فليس طلاقه بطلاق، و لا يجوز فيه شهادة النساء «1»

إلي غير ذلك من الأخبار الكثيرة الواضحة الدلالة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 22: 26، كتاب الطلاق، أبواب مقدماته و شرائطه، الباب 10، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 664

[الثاني: حكم الحاكم تبع للشهادة]

الثاني: حكم الحاكم تبع للشهادة، فإن كانت محقّقة نفذ الحكم ظاهراً و واقعاً، و إلّا نفذ ظاهراً لا واقعاً (25)، و لا يباح للمشهود له ما حكم الحاكم له مع علمه ببطلان الشهادة؛ سواء كان الشاهدان عالمين ببطلان شهادتهما أو معتقدين بصحّتها.

______________________________

و أمّا الظهار فيدلّ علي اشتراطه بالإشهاد صحيحة حمران بن أعين قال في حديث: قال أبو جعفر عليه السلام

و لا يكون

ظهار إلّا في (علي خ. ل) طهر من غير جماع بشهادة شاهدين مسلمين «1»

، و دلالتها علي الاشتراط واضحة.

(25) و قد نقل عليه إجماع أصحابنا، و به قال أكثر الجمهور، و حاصل المراد منه أنّ حكم القاضي و إن وقع علي موازين القضاء الشرعي ليس سبباً شرعياً واقعياً لنقل مال الغير إليه، و لا لتحليل ما ليس حلالًا واقعاً، و إن كان يجب اتّباعه حفظاً لنظام الجامعة الإسلامية و تعظيماً للقضاء الشرعي.

و الدليل عليه: صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم: إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان، و بعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار «2»

، فقوله في الذيل

فأيّما رجل.

إلي آخره صريح في أنّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة 22: 307، كتاب الظهار، الباب 2، الحديث 1 و 4.

(2) وسائل الشيعة 27: 232، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 2، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 665

______________________________

قضاء مثل رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم الذي روعي فيه جميع آداب القضاء إذا لم يطابق الواقع فلا يوجب حلّية مال الغير الذي كان حراماً، بل هو مع ذلك قطعة من النار.

نعم، لا ريب في أنّ القضاء واجب الاتّباع، بل البيّنة طريق و حجّة معتبرة لجميع الناس، فما لم يظهر الخلاف للمحكوم له يجوز له بل يجب عليه ترتيب الأثر عليه، و هو له كسائر الناس حجّة. و أمّا إذا علم بالخلاف فلا عذر له في اتّباع ما يعلم أنّه مخالف للواقع و دلّ الدليل علي أنّه لا يوجب

تغيير الواقع عمّا كان عليه.

إلّا أنّ هنا كلاماً قد تعرّضنا له سابقاً عند البحث عن الأخبار الدالّة علي عدم جواز المقاصّة للمدّعي بعد ما أحلف المنكر، ذيل البحث عن المسألة الاولي من مسائل المقاصّة؛ و هو أنّ ظاهر قوله عليه السلام في مقبولة عمر بن حنظلة

فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّٰه، و علينا ردّ، و الرادّ علينا الرادّ علي اللّٰه، و هو علي حدّ الشرك باللّٰه «1»

وجوب اتّباع حكم الحاكم الذي صدر علي موازين القضاء، و الظاهر أنّ هذا الوجوب إنّما هو لحفظ نظام الجامعة الإسلامية و لتعظيم القضاء، و إلّا لم تفصل الخصومات.

و لذلك فلا يبعد دعوي إطلاق وجوب الاتّباع حتّي فيما علم بالخلاف

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 666

[الثالث: الأحوط وجوب تحمّل الشهادة إذا دعي إليه من له أهلية لذلك]

الثالث: الأحوط وجوب تحمّل الشهادة إذا دعي إليه (26) من له أهلية لذلك،

______________________________

ما دام الحاكم لم ينقض حكمه، كأن اعتقد المدّعي مثلًا بعد أن حكم الحاكم بكذب الشاهدين و لو لاعتقادهما خلاف الواقع و كان الشاهدان باقيين علي اعتقادهما و شهادتهما، و الحاكم مصرّاً علي حكمه.

و حينئذٍ: فكما لا ينبغي الشكّ في أنّ وظيفة سائر الناس ترتيب الأثر علي حكم الحاكم، و أنّ قضاءه حجّة لهم و عليهم و مشمول لإطلاق المقبولة، فكذلك الظاهر أنّ إطلاقها حجّة علي المدّعي المحكوم له أيضاً، فلا يجوز له الإقدام علي عمل يكون مصداقاً لعدم قبول حكمه. فمع أنّه يحرم عليه مال أخيه الذي حكم القاضي بأنّه له، كذلك يحرم عليه عدم قبول حكم الحاكم، فعليه أن يتخلّص عن ارتكاب التصرّف في مال الغير بمثل الهبة الصورية و لو

بجعل المال في زمرة أموال المنكِر بحيث لا يلتفت.

و لزيادة التوضيح راجع ما قدّمناه فيما أشرنا إليه، و قد تقدّم أيضاً ما يناسب المقام عند البحث عن فروع الجواب بالإنكار من كتاب القضاء و عند البحث عن خصوص التقاصّ بعد تحليف المنكِر في (المسألة 21) من مسائل المقاصّة فراجع، و اللّٰه العالم.

(26) في «المسالك»: أنّ المشهور و المروي وجوبه. و ذهب ابن إدريس إلي عدم الوجوب، عملًا بالأصل و طعناً في الأخبار.

و استدلّ للوجوب بقوله تعالي وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 667

______________________________

بناءً علي أنّ المراد بالشهداء من يدعي إلي التحمّل. و إطلاق الشاهد عليه و إن كان مجازاً و من باب إطلاق المشتقّ علي من يتلبّس به في الاستقبال لأنّ المفروض أنّه لم يحضر الواقعة و لم يشهدها بعد إلّا أنّه لا بأس به بعد قيام القرينة المتّصلة و المنفصلة علي إرادته:

إمّا المتّصلة: فلمكان وقوع هذه الفقرة بعد الأمر بالاستشهاد بقوله تعالي وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ. «1» الآية، و قبل النهي عن الكتمان بقوله تعالي وَ لٰا تَكْتُمُوا الشَّهٰادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ «2»، فلو أُريد من الشهداء في هذه الفقرة من حضر مجلس الواقعة و شهدها، لآل المعني إلي النهي عن كتمان الشهادة الواردة في الآية التالية و كان تكراراً، بل المناسب في نسق الآية المفهوم منها عرفاً أنّه تعالي أمر المكلّفين باستشهاد الشهود، فإذا قاموا بصدد العمل بهذه الوظيفة فلمكان تسهيل الأمر لهم أمر من له الأهلية بإجابة دعوتهم إلي تحمّل الشهادة، و بعد ما تحمّلوها و مسّت الحاجة إلي إقامتها نهاهم عن كتمانها هذا.

و لا سيّما أنّ الإطلاق علي غير

الفرد الحقيقي من معني المشتقّ لازم علي كلّ حال؛ إذ المشتقّ حقيقة علي خصوص المتلبّس بالمبدإ، و حيث إنّ المبدأ هنا هي الشهادة و هي بمعني الحضور فلا محالة يكون الشاهد حقيقة في خصوص من كان حاضراً بالفعل في مجلس الشهادة و الواقعة ما دام

______________________________

(1) البقرة (2): 282.

(2) نفس المصدر: 283.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 668

______________________________

حاضراً فيه. فكما أنّ إطلاقه علي من لم يتحمّل إطلاق مجازي علي من يتلبّس به في الاستقبال، فكذلك إطلاقه علي من شهد و تحمّل إطلاق مجازي علي من تلبّس به فيما مضي و انقضي.

و أمّا القرينة المنفصلة: فهي الأخبار المستفيضة التي فيها المعتبرة، و قد فسّرتها بها قبل التحمّل:

فمنها: صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في قول اللّٰه عزّ و جلّ وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ، قال

قبل الشهادة

، و قوله وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ، قال

بعد الشهادة «1».

و نحوها، بل هي هي و قد رويت في «الكافي» بسند آخر صحيحته المروية متقطّعة، فراجع «2».

فتراه عليه السلام قد فسّر كلّا من الفقرتين كما استظهرنا منهما بعينه، و ليس في الصحيحة في الدلالة علي الوجوب أزيد من ذكر الآية. فملاك الاستدلال هو استظهار الحرمة من النهي الوارد في القرآن.

و الإيراد عليه باشتمال الآية علي أُمور مستحبّة قطعاً، يدفعه أنّها اشتملت علي أُمور واجبة إلزامية كالنهي عن البخس و الكتمان، فليس في الآية سياق الاستحباب حتّي يكون مانعاً عن الأخذ بمقتضي هيئة النهي من الحجّية علي الحرمة.

و في صحيحة داود بن سرحان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

لا يأب

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 309، كتاب الشهادات، الباب 1، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 311، كتاب الشهادات،

الباب 1، الحديث 8، و الباب 2، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 669

______________________________

الشاهد أن يجيب حين يدعي قبل الكتاب «1»

، و ظاهر النهي فيه أيضاً الحرمة، و التعبير ب

لا يأب

مشير إلي الآية و مأخوذ منها، فهي أيضاً من الأخبار المفسّرة.

و ممّا ذكرنا تعرف: أنّ ما استشكله ابن إدريس علي الاستدلال بالآية بقوله علي ما حكي: و الاستدلال بالآية ضعيف؛ لأنّه سمّاهم شهداء و إنّما يسمّي بعد التحمّل، ضعيف؛ لقيام القرينة علي المراد متّصلة و منفصلة.

و ممّا يستظهر منه وجوب إجابة دعوة التحمّل خبر جرّاح المدائني عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

إذا دعيت إلي الشهادة فأجب «2»

، و الاستدلال هنا أيضاً بمقتضي ظهور هيئة الأمر و لا إشكال فيه، إلّا أنّ الكلام في سنده.

و في قبال ظاهر الآية و هذه الأخبار أخبار معتبرة وردت في تفسير الآية بالتحمّل مثلها، إلّا أنّها ربّما كانت ظاهرة في الاستحباب؛ ففي صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في قوله تعالي وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا، قال

لا ينبغي لأحد إذا دعي لشهادة ليشهد عليها أن يقول: لا أشهد لكم عليها، و ذلك قبل الكتاب «3».

فهذه الصحيحة ظاهرة في تفسير الآية بالدعوة إلي التحمّل؛ فإنّ الشهادة هي الحضور، و الدعوة إليها دعوة إلي التحمّل. مضافاً إلي أنّ زيادة قوله عليه السلام

و ذلك قبل الكتاب

المراد منه قبل أن يتمّ أمر الكتابة المأمور بها

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 310، كتاب الشهادات، الباب 1، الحديث 6.

(2) وسائل الشيعة 27: 309، كتاب الشهادات، الباب 1، الحديث 3.

(3) وسائل الشيعة 27: 310، كتاب الشهادات، الباب 1، الحديث 4.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 670

______________________________

في الآية ممّا يجعلها

صريحة فيه.

لكنّ التعبير ب

لا ينبغي

لعلّه ظاهر في إرادة الاستحباب، و حيث إنّ عمدة دليل الوجوب هو الآية كما عرفت فيضعّف القول بالوجوب.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ البغي هو الطلب و الانبغاء هو المطلوبية، و عدم مطلوبية أن يقول: «لا أشهد عليها» يلائم أن يكون حراماً أيضاً، فلا ينهض هذا التعبير حجّة علي رفع اليد ممّا يقتضيه النهي عن الإباء من حرمة الإباء أو وجوب التحمّل.

و مثل هذه الصحيحة من دون تلك الزيادة خبر أبي الصباح بل صحيحه أيضاً، فراجع «1». و مثلها أيضاً بلا زيادة موثّقة سماعة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «2».

و في خبر محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه السلام في قول اللّٰه عزّ و جلّ وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا، فقال

إذا دعاك الرجل لتشهد له علي دين أو حقّ لم ينبغ لك أن تقاعس منه «3»

، و الكلام في جميعها سواء من حيث الاستشكال بها علي ظهور الآية في الوجوب و الجواب عنها. نعم في نسخة «المسالك» و «الجواهر» الموجودة عندي في نقل رواية محمّد بن الفضيل

لم يسع لك أن تقاعس عنه

، و عليه يكون ظاهراً في الحرمة و مؤكّداً لظهور الآية.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 309، كتاب الشهادات، الباب 1، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة 27: 310، كتاب الشهادات، الباب 1، الحديث 5.

(3) وسائل الشيعة 27: 310، كتاب الشهادات، الباب 1، الحديث 7.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 671

و الوجوب علي فرضه كفائي (27)، لا يتعيّن عليه إلّا مع عدم غيره ممّن يقوم بالتحمّل.

______________________________

و هنا أخبار أُخر مثلها يظهر عليها المراجع، هذا.

و بالجملة: فلعلّ ظهور مادّة الانبغاء في الرجحان الغير الإلزامي مضافاً إلي ما قيل و مرّ

من السياق أوجبا تردّد الماتن و التنزّل عن الفتوي بالوجوب إلي الاحتياط الواجب.

(27) في «الجواهر»: عند المتأخّرين كافّة، لكن استشكله هو و بعض الأعاظم دام ظلّه في «مباني تكملته» و قوّيا الوجوب العيني؛ مستدلّين بأنّه مقتضي ظهور الكتاب؛ قال في «الجواهر»: و لا قرينة علي إرادة الكفائية نحو تغسيل الميّت و دفنه اللذين لم يشرع فيهما التكرّر حتّي يراد وقوعه من كلّ مكلّف، بل المراد إيجاد أصل الطبيعة من أيّ مكلّف، بخلاف المقام الذي لا مانع فيه من وجوب التحمّل علي كلّ من يدعي إلي الشهادة، كما هو ظاهر قوله تعالي وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ و غيره من النصوص السابقة، بل فائدته ظاهرة؛ لاحتمال الغفلة و النسيان و الغيبة و الفسق و الموت و غير ذلك، انتهي.

أقول: ما ذكره و إن كان دقيقاً في نفسه فارقاً بين التحمّل و الأداء إلّا أنّه مع ذلك فالتحقيق: أنّ الوجوب كفائي؛ و ذلك أنّك قد عرفت أنّ العمدة في الوجوب هي الآية المباركة، و أنّ تعبير الأخبار مشير إليها و أكثرها تفسير لها.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 672

و لا إشكال في وجوب أداء الشهادة (28)،

______________________________

و الظاهر الواضح لمن تأمّل في الآية كما عرفت أنّ قوله تعالي وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا ورد في مقام بيان وظيفة الشهداء إذا دعاهم المشهود له أو عليه إلي تحمّل الشهادة. و حيث إنّه ورد بلا فصل بعد الأمر بالاستشهاد في قوله تعالي وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ فيكون حاصل المراد منه أنّه إذا دعي الشهداء إلي أن يشهد الشهيدان منهم عملًا بما كلّفه اللّٰه تعالي، فلا يجوز لهم الامتناع، و معلوم أنّ الوجوب حينئذٍ كفائي؛ إذ يرجع

حاصل المعني إلي إيجاب حضور رجلين لتحمّل الشهادة؛ إذ بحضورهما قد امتثل أمر استشهاد الشهيدين، فكان بمنزلة أن يقول: إذا دعي الشهداء إلي التحمّل فعلي رجلين منهم الحضور له، و ليس هو إلّا وجوباً كفائياً.

فلو قلنا بالوجوب العيني في الأداء لما كان محيص من كونه كفائياً في التحمّل علي عكس ما في «الجواهر»، فافهم و اغتنم.

(28) لا خلاف في وجوبه كما في «المسالك»، بل عليه الإجماع في كثير من العبائر ك «القواعد» و «التحرير» و «الدروس» و «الروضة» و غيرها علي ما في «الرياض»، بل الإجماع بقسميه عليه علي ما في «الجواهر».

و يدلّ عليه قوله تعالي وَ لٰا تَكْتُمُوا الشَّهٰادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ، فإنّ النهي عن كتمانها و تعقيبها بأنّه موجب لأن يأثم القلب ظاهر بل صريح في حرمة الكتمان و كونه معصية و إثماً. و إسناد الإثم إلي القلب لمكان

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 673

______________________________

أنّ الكتمان ليس إلّا بكفّ النفس عن أداء الشهادة، و لا يلزمه عمل جوارحي، فلا يحتاج إلّا إلي العزم علي الترك، و العزم و التصميم و إرادة الترك ناشئة عن مركز الأمر في الإنسان، و يعبّر عنه كثيراً ب «القلب». و بالجملة: فظهور الآية في كون التكليف إلزامياً ممّا لا ينكر.

و الظاهر: أنّ الشهادة الواقعة فيها مطلقة لا تختصّ بما كانت راجعة إلي خصوص الدين أو المبايعة الواقعتين في الآية؛ إذ التعرّض لخصوصهما فيها لا ينافي كون الحكم عامّاً لغيرهما أيضاً، فتدلّ علي حرمة الكتمان في كلّ ما يحتاج إليها.

نعم لعلّ عنوان الكتمان لا يصدق فيما لا حاجة إلي الإظهار، فإذا كان هناك مجلس قضاء و كان القاضي بصدد إقامة العدل في موضوعها وجب

علي الشاهد أداء الشهادة؛ سواء في ذلك حقوق الناس أو حقوقه تعالي.

نعم، قيام القاضي بإحياء حقوق الناس موقوف علي مطالبتهم، و قيامه بصدد إقامة الحدود الإلهية لا يحتاج و لا يتوقّف علي مطالبة أحد، فالحاجة تمسّ إلي إقامة الشهادة علي من ارتكب ذنباً فيه حدّ إلهي لكي يجري الحدود الإلهية.

و يمكن الاستدلال أيضاً بقوله تعالي في سورة الطلاق وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهٰادَةَ لِلّٰهِ «1»، فإنّ الأمر بإقامة الشهادة و إن وقع عقيب إيجاب الإشهاد في الطلاق إلّا أنّه لا يبعد دعوي استفادة

______________________________

(1) الطلاق (65): 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 674

إذا طلبت منه (29)،

______________________________

الإطلاق و أنّ المطلوب أن تقام الشهادة للّٰه تعالي مطلقاً، و الأمر حجّة علي الوجوب.

و قد تقدّم صحيحة هشام بن سالم الواردة في تفسيرها بما بعد التحمّل كما هو ظاهرها بنفسها أيضاً، فتذكّر.

و هنا أخبار يدلّ بعضها علي وجوب إقامة الشهادة مطلقاً، قد مرّ بعضها في المباحث السابقة و لا حاجة إلي نقلها بعد دلالة الآيات، و سيأتي التعرّض لبعض آخر منها في المباحث التالية إن شاء اللّٰه تعالي.

(29) لعلّ الدليل علي اشتراط الوجوب بالطلب هو قول الكاظم عليه السلام في حديث النصّ علي الرضا عليه السلام

و إن سئلت عن الشهادة فأدّها؛ فإنّ اللّٰه يقول إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِليٰ أَهْلِهٰا، و قال وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهٰادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّٰهِ «1»

، حيث قيّد وجوب أدائها بالسؤال، مضافاً إلي إمكان دعوي الانصراف؛ خصوصاً بعد انفهام أنّ الأمر بإقامتها لرعاية حقّ المشهود له، فإذا لم يطلبها بل منع مثلًا عن إقامتها فلا ينبغي الريب في انصراف وجوب الأداء عنه، هذا.

أقول: قد يكون عدم السؤال

لجهل المشهود له بإشهاد هذا الشاهد؛ لمكان أنّ الإشهاد وقع بيد مورّثه أو وكيله الميّت مثلًا و قد يكون

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 313، كتاب الشهادات، الباب 2، الحديث 5.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 675

______________________________

لنسيانه، و قد يكون لاعتقاده عدم حضور الشاهد في البلد، و قد يكون لترفّعه عن سؤال إقامة الشهادة من الشاهد، و قد يكون لاعتقاده عدم الحاجة إلي الشهادة و أنّ حقّه يثبت بمثل اليمين، و قد يمنع عن حضور الشاهد لبعض الدواعي. فالانصراف إنّما يسلّم في مثل الصورتين الأخيرتين، و إلّا فلو كان في نفسه طالباً لشهادة الشهود و إن لم يتعرّض لطلبها و لم يظهرها لبعض الجهات لما كان وجه لدعوي انصراف الأدلّة عنها، هذا.

و أمّا الحديث المذكور عن الكاظم عليه السلام فلم يعلم ظهوره في أزيد ممّا قلناه؛ إمّا لأنّه لا مفهوم له و إنّما تعرّض لمورد السؤال تعرّضاً للمتعارف من الموارد؛ إذ المتعارف أن يسأل المشهود له من الشهداء إقامة الشهادة. و إمّا لأنّ المفهوم من السؤال هو معني يعمّ الطلب النفساني، و يشهد له أنّ آية أداء الأمانة أيضاً تعمّ كلّ مورد لا يرضي المالك بكون المال تحت يد غيره و إن لم يطلبه لإحدي الجهات المذكورة.

و بالجملة: فإذا علم أو أُحرز بالطريق العقلائي رضي المشهود له بحضوره و إقامة الشهادة له عند القاضي فإقامتها عليه واجبة و كتمانها حرام بمقتضي إطلاق الآية. نعم لو لم يعلم بإقامة دعوي منه عند القاضي أصلًا فجهله عذر له في ترك الإقامة كما في سائر الموارد.

ثمّ إنّ وجوب الإقامة و لو بعد الطلب مشروط في حقوق الناس بما إذا أشهده المشهود له أو عليه، و إلّا فقد مرّ

في المسألة الثامنة من صفات الشهود عدم وجوب إقامتها عليه إلّا إذا علم بتوقّف أخذ حقّ المحقّ علي شهادته، فراجع.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 676

و الوجوب هاهنا أيضاً كفائي (30).

______________________________

(30) قال في «الجواهر»: إنّ ظاهر الأصحاب الإطباق علي الكفائية، بل استفاض في عباراتهم نقل الإجماع و نفي الخلاف علي ذلك، انتهي.

و مع ذلك فاختار في «جامع المدارك» و «مباني التكملة» عينية الوجوب؛ استناداً إلي أنّ إطلاق الأدلّة مقتض لها كما تقرّر في محلّه. و السرّ في عدم اعتناء مثلهما بالإجماعات المنقولة مستفيضاً: أنّ هذه الإجماعات لا ريب في كونها محتملة المدرك، فلا حجّة فيها.

و كيف كان: فالحقّ ما عليه الأصحاب من كون الوجوب كفائياً؛ إذ لا ينبغي الريب في أنّ العقلاء لا يفهمون من أدلّة إقامة الشهادة تكليفاً تعبّدياً محضاً بحيث طلب منهم الشارع إقامة الشهادة، كما طلب منهم إقامة الصلاة لمصالح خفية أو معلومة الشمول لكلّ فرد منهم، بل يفهمون بلا إشكال أنّ إقامة الشهادة إنّما هي لوصول ذي الحقّ إلي حقّه، فإذا تحقّقت الشهادة بهذا القدر فقد حصل المأمور به و سقط وظيفة الآخرين.

و هذا هو المراد بالوجوب الكفائي فإنّ التكليف في الواجبات الكفائية متوجّه إلي الكلّ، و حيث إنّ الواجب من قبيل المصالح العامّة فإذا وجّه التكليف بإتيانه إلي الكلّ كان إلي الامتثال أقرب؛ إذ لو عصي و سامح أحد

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 677

______________________________

امتثله الآخر، فإذا أتي به بعض المكلّفين سقط عن الكلّ؛ لحصول المأمور به بفعل من امتثله.

و هذا من غير فرق بين أن نعتقد بأنّ سنخ الوجوب في الكفائي سنخ آخر غير الوجوب العيني، أو قلنا بأنّهما سنخ واحد و الفرق بينهما في

مقام الامتثال.

و بالجملة: فمناسبة الحكم و الموضوع توجب أن يفهم العقلاء من أمثال هذا الوجوب الكفائية و فهمهم و استظهارهم هنا حجّة كسائر الموارد.

و الحمد للّٰه وحده تمّت كتابته يوم الأربعاء 12 شعبان المعظّم/ 1403 ه. ق 4/ خرداد/ 1362 ه. ش

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 679

[القول في الشهادة علي الشهادة]

اشارة

القول في الشهادة علي الشهادة (1)

______________________________

(1) لا ينبغي الريب في أنّ مقتضي القواعد قبول الشهادة علي الشهادة، و لو كانت الواسطة أكثر من واحدة؛ إذ حجّية الشهادة عند العقلاء كما مرّ غير مرّة إنّما هي من باب حجّية خبر الواحد، و إنّما زاد الشارع فيها شرائط زائدة علي ما يراه العقلاء، كالعدد و العدالة و طيب المولد. و من المعلوم أنّ خبر الواحد حجّة عندهم من باب الطريقية، من غير فرق بين أن يكون المخبر به خبراً لآخر أو أمراً آخر، فإذا قام الطريق المعتبر علي شهادة الرجل يترتّب عليها آثارها، كما لو حضر هو و شهد في المجلس و هكذا.

و لذلك كان الإخبار مع الواسطة أيضاً حجّة و طريقاً، و إن كانت الوسائط متعدّدة، فإذا قام عند القاضي طريق معتبر علي ما يدّعيه المدّعي مثلًا فيحكم علي طبقه لا محالة، فإنّه حكم اللّٰه الذي من لم يحكم به كان فاسقاً.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 680

______________________________

و هذا من غير فرق بين أن يكون شاهد الأصل أو الفرع رجلًا أو امرأة، و لا بين إمكان حضور شاهد الأصل و تعذّره، و لا بين أن يكون المشهود به متعلّق حقّ اللّٰه و حقّ الناس، و هكذا.

و أمّا الروايات الخاصّة في المسألة: ففي معتبرة غياث بن إبراهيم عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السلام

إنّ

علياً عليه السلام كان لا يجيز شهادة رجل علي شهادة رجل، إلّا شهادة رجلين علي شهادة رجل «1»

، و نحوها مرسلة الصدوق قال الصادق عليه السلام

إذا شهد رجل علي شهادة رجل فإنّ شهادته تقبل، و هي نصف شهادة، و إن شهد رجلان عدلان علي شهادة رجل فقد ثبتت شهادة رجل واحد «2».

فالمعتبرة كالمرسلة دلّت علي ثبوت شهادة الرجل بشهادة رجلين عدلين لا بشهادة عدل واحد، و هي مطلقة من حيث أقسام المشهود به في شهادة الأصل؛ حقّ الناس كان أم غيره مطلقاً.

بل لا يبعد أن يقال: إنّ إلقاءها علي العقلاء الذين يرون حجّية الشهادة علي الشهادة مطلقاً يوجب أن يفهموا منها أنّ الشارع الأقدس قد أمضي طريقتهم في حجّيتها مطلقاً، و ذلك بناءً علي أنّه إذا كان عند العقلاء قاعدة معمولة فلا حاجة لإمضائها إلي أن يقوم الشارع بصدد البيان

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 403، كتاب الشهادات، الباب 44، الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة 27: 404، كتاب الشهادات، الباب 44، الحديث 5.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 681

______________________________

الإطلاقي حتّي يستفاد إمضاؤها منه، بل وقوع هذه القاعدة في كلامه يوجب أن يحمل بقرينة ارتكاز العقلاء علي ما هو مرتكزهم. و لذلك قلنا في محلّه بأنّ قوله صلي الله عليه و آله و سلم

لا يحلّ دم امرء مسلم و لا ماله إلّا بطيبة نفسه «1»

يدلّ علي إمضاء القاعدة العقلائية؛ و هي كفاية طيب نفس المالك لجواز كلّ تصرّف في ماله، و كونه تمام السبب للجواز، و إن لم يحرز كونه صلي الله عليه و آله و سلم في مقام البيان بالنسبة إلي المستثني.

و ممّا ذكرنا تعرف إمكان استفادة إمضاء هذه القاعدة المطلقة شرعاً من سائر أخبار الباب،

فانتظر.

فيصحّ الاستدلال لها بمعتبر محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في الشهادة علي شهادة الرجل و هو بالحضرة في البلد، قال

نعم، و لو كان خلف سارية يجوز ذلك إذا كان لا يمكنه أن يقيمها هو؛ لعلّة تمنعه عن أن يحضره و يقيمها، فلا بأس بإقامة الشهادة علي شهادته «2».

بل لعلّ الاستدلال بهذه المعتبرة أوضح؛ إذ يمكن أن يقال في معتبرة غياث: إنّها لمّا كان عنوان الموضوع فيه شهادة رجلين فربّما لا يستفاد منها إمضاء قاعدة الشهادة علي الشهادة.

بخلاف معتبرة ابن مسلم؛ لاشتمالها علي نفس عنوان القاعدة في

______________________________

(1) وسائل الشيعة 29: 10، كتاب القصاص، أبواب القصاص في النفس، الباب 1، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة 27: 402، كتاب الشهادات، الباب 44، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 682

[مسألة 1 تقبل الشهادة علي الشهادة في حقوق الناس]

مسألة 1 تقبل الشهادة علي الشهادة في حقوق الناس (2)؛ عقوبة كانت كالقصاص أو غيرها كالطلاق و النسب، و كذا في الأموال كالدين و القرض و الغصب و عقود المعاوضات، و كذا ما لا يطّلع عليه الرجال غالباً كعيوب النساء الباطنة و الولادة و الاستهلال، و غير ذلك ممّا هو حقّ آدمي.

______________________________

قوله عليه السلام

فلا بأس بإقامة الشهادة علي شهادته

، و في قول الراوي: «في الشهادة علي شهادة الرجل» فهي أشبه بقوله

لا يحلّ مال امرء مسلم

من معتبرة غياث.

و كيف كان: فبناء العقلاء بنفسه كافٍ لحجّية القاعدة المذكورة ما لم يرد عن الشارع الردع عنها، و استفادة إمضائها من الروايات أيضاً غير بعيدة، كما عرفت.

(2) المراد بها بقرينة المسألة الثانية ما كان من حقوق الناس محضاً لا مثل حدّ القذف المشترك بينهم و بين اللّٰه تعالي. و كيف كان: فادّعي «المسالك» الإجماع علي قبول الشهادة علي

الشهادة في ما عدا الحدود؛ سواء كان حقّ الآدميين أم حقّ اللّٰه تعالي كالزكوات و أوقاف المساجد و الأهلّة كهلال رمضان. و في «الجواهر» بالنسبة إلي قبولها في حقّ الناس غير الحدّ: بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع أيضاً بقسميه عليه.

و الدليل علي قبولها في حقوق الناس مطلقاً القاعدة العقلائية الممضاة شرعاً، مضافاً إلي إطلاق معتبرة غياث بن إبراهيم الماضية آنفاً.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 683

[مسألة 2 لا تقبل الشهادة علي الشهادة في الحدود]

مسألة 2 لا تقبل الشهادة علي الشهادة في الحدود (3)،

______________________________

(3) ادّعي الإجماع عليه في «المسالك» في الحدود التي من قبيل حقوق اللّٰه محضاً، و نسب عدم القبول في المشترك منها إلي المشهور.

و الدليل عليه: أنّ القاعدة الأوّلية و إطلاق المعتبرة الماضية و إن اقتضتا القبول في الحدود أيضاً إلّا أنّ معتبرة اخري لغياث وردت بعدم قبولها فيها؛ فقد روي عن الصادق عن أبيه عليهما السلام قال

قال علي عليه السلام: لا تجوز شهادة علي شهادة في حدّ و لا كفالة في حدّ «1»

، و بها يرفع اليد عن القاعدة و يقيّد إطلاق تلك المعتبرة.

و لفظة «الحدّ» فيها مطلقة تشمل كلّ حدّ؛ سواء كان حقّ اللّٰه محضاً الذي ادّعي الإجماع علي عدم القبول فيها أو مشتركاً بينه و بين الآدمي، فلا بدّ في الحكم بالحدّ من شهادة الأصل كما أفاده دام ظلّه من غير فرق بين أقسامه.

فما عن ابن حمزة و عن الشيخ في موضع من «المبسوط» من جوازها في الحدّ المشترك بينه تعالي و بين الآدمي ضعيف جدّاً، و إن استجوده في «المسالك» ناقلًا عن الشهيد الأوّل أيضاً اختياره في شرحه؛ فإنّ هذه المعتبرة التي عمل بها مشهور الأصحاب حجّة صالحة لتقييد المطلقات و رفع اليد بها

عن القواعد.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 404، كتاب الشهادات، الباب 45، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 684

و يلحق بها التعزيرات علي الأحوط (4) لو لم يكن الأقوي، و لو شهد شاهدان بشهادة شاهدين علي السرقة لا تقطع. و لا بدّ في الحدود من شهادة الأصل؛ سواء كانت حقّ اللّٰه محضاً كحدّ الزنا و اللواط، أو مشتركة بينه تعالي و بين الآدمي كحدّ القذف و السرقة.

______________________________

و مثل المعتبرة المذكورة خبر طلحة بن زيد «1»، فراجع.

(4) وجه اللحوق بها: أنّه قد أُطلق الحدّ علي معني يعمّ التعزيرات أيضاً إطلاقاً شائعاً بلا عناية في عدّة من الروايات:

منها: موثّقة سماعة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

إنّ لكلّ شي ء حدّا، و من تعدّي ذلك الحدّ كان له حدّ «2»

، فظاهر كلامه عليه السلام أنّه تعالي جعل للأشياء حدّا فاصلًا لحلالها عن حرامها، فالحلال أُجيز تناولها، فمن تعدّي حدّ الجواز كان له حدّ. فالتعدّي عن الحدّ مطلق شامل لمثل شرب الخمر الذي هو تعدّ عن حدّ المشروبات المحلّلة و لمثل أكل مال الغير بدون طيب نفسه، كما أنّه شامل لنسبة السوء إلي الغير بالقول؛ سواء بلغ حدّ القذف أم لا.

فلا محالة: يراد من الحدّ في قوله

كان له حدّ

أعمّ من الثمانين جلدة حدّ الشرب و القذف و من تعزير المتصرّف في مال الغير بغير إذنه، و الناسب

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 404، كتاب الشهادات، الباب 45، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 28: 17، كتاب الحدود و التعزيرات، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 3، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 685

______________________________

له فحشاً لا يبلغ القذف، و هكذا. فالمراد بالحدّ هو التأديب أعمّ من الحدّ و التعزير.

و منها: صحيحة داود

بن فرقد قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول

إنّ أصحاب رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم قالوا لسعد بن عبادة: أ رأيت لو وجدت علي بطن امرأتك رجلًا ما كنت صانعاً به؟ قال: كنت أضربه بالسيف. قال: فخرج رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم فقال: ماذا يا سعد؟ فقال سعد: قالوا: لو وجدت علي بطن امرأتك رجلًا ما كنت صانعاً به؟ فقلت: أضربه بالسيف، فقال: يا سعد! فكيف بالأربعة الشهود؟ فقال: يا رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و سلم بعد رأي عيني و علم اللّٰه أن قد فعل؟! قال: أي و اللّٰه بعد رأي عينك و علم اللّٰه أن قد فعل، إنّ اللّٰه قد جعل لكلّ شي ء حدّا، و جعل لمن تعدّي ذلك الحدّ حدّا «1».

و بيان الدلالة فيها يعرف ممّا ذكرناه في الموثّقة، فلا حاجة إلي الإعادة.

و المتتبّع يظفر بروايات معتبرة أُخر، فراجع.

و بيان الاستدلال بمثلها علي لحوق التعزيرات بالحدود: أنّه أُطلق الحدّ بلا تكلّف علي مطلق ما جعله اللّٰه عقوبة لمن تعدّي ما حدّه اللّٰه، و قد قال الباقر عليه السلام في معتبرة غياث

لا تجوز شهادة علي الشهادة في حدّ

، فجعل المعتبرة جنب هذه الروايات موجب لانفهام أنّه لا تجوز شهادة علي الشهادة في الحدّ مطلقاً؛ كان حدّا باصطلاح آخر أم تعزيراً.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 28: 14، كتاب الحدود و التعزيرات، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 2، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 686

______________________________

بل ربّما يمكن أن يقال: بأنّ هذه الروايات تقتضي شمول الحدّ للعقوبات التي من قبيل حقوق الناس كالقصاص؛ إذ هي أيضاً عقوبة مجعولة مكافأة لتعدّي الجاني عمّا حدّه اللّٰه، فهي

تقتضي شمول معتبرة غياث لمثلها أيضاً؛ حتّي يختصّ القبول في حقوق الناس أيضاً بغير العقوبات، هذا.

و لكن يمكن أن يقال: كما أنّه أُطلق الحدّ في هذه الروايات علي معني أعمّ كذلك قد أُطلق في بعض الأخبار المعتبرة علي ما يقابل التعزير؛ ففي صحيحة حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: قلت له: كم التعزير؟ قال

دون الحدّ

، قال: قلت: دون ثمانين؟ قال

لا، و لكن دون أربعين؛ فإنّها حدّ المملوك.

قلت: و كم ذاك؟ قال

علي قدر ما يراه الوالي من ذنب الرجل و قوّة بدنه «1».

فكما أُطلق في تلك الأخبار علي المعني الأعمّ فكذلك أُطلق في مثل هذه الصحيحة علي ما يقابل التعزير، فلو كان لفظ «الحدّ» في معتبرة غياث غير ظاهر في المعني الأخصّ لكان إرادته منه محتملة، فيحصل فيها إجمال، و معه فالمرجع هي القاعدة العقلائية و إطلاقات القبول.

و لعلّ قوّة احتمال إرادة الأعمّ في المعتبرة و عدم وصولها حدّ الإجمال أوجبت أن يقول بالإلحاق علي الأحوط لو لم يكن الأقوي، هذا.

و أمّا احتمال شمول الحدّ للعقوبات التي من قبيل حقوق الناس فمندفع

______________________________

(1) وسائل الشيعة 28: 375، كتاب الحدود و التعزيرات، أبواب بقية الحدود و التعزيرات، الباب 10، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 687

[مسألة 3 إنّما لا تقبل الشهادة علي الشهادة في الحدود لإجراء الحدّ]

مسألة 3 إنّما لا تقبل الشهادة علي الشهادة في الحدود لإجراء الحدّ، و أمّا في سائر الآثار فتقبل (5)، فإذا شهد الفرع بشهادة الأصل بالسرقة لا تقطع، لكن يؤخذ المال منه. و كذا يثبت بها نشر الحرمة بأُمّ الموطوء و أُخته و بنته، و كذا سائر ما يترتّب علي الواقع المشهود به غير الحدّ.

______________________________

بأنّ ظاهر قوله عليه السلام

و من تعدّي ذلك الحدّ كان له حدّ

أنّ

جعل هذه العقوبة للمتعدّي إنّما هو لمكان تعدّيه عمّا جعل اللّٰه له حدّا، فهو إنّما يعاقب لتعدّيه عن جعل اللّٰه و حدوده، و هو مناسب للعقوبة علي معصية اللّٰه الموجودة في حدود اللّٰه تعالي المختصّة به أو المشتركة بينه تعالي و بين الآدمي، فتفطّن.

(5) وفاقاً للمحقّق في «الشرائع»، و قوّاه «المسالك» و «الرياض» و «الجواهر»، قال في «الرياض»: و اختاره الفاضلان في «الشرائع» و «التحرير» و «القواعد» و «الإرشاد» و الشهيدان في «الدروس» و «المسالك» و «اللمعتين»، من دون إشارة منهم إلي خلاف، انتهي.

و الدليل عليه: أنّ مقتضي القاعدة الأوّلية و إطلاق معتبرة غياث قبولها في جميع الموارد و بالنسبة إلي جميع الآثار، و قد دلّت معتبرة غياث الأُخري علي عدم جوازها في الحدّ، فليس مدلولها إلّا أنّ الحكم بإجراء الحدّ لا يجوز استناداً إلي الشهادة علي الشهادة، فقد منع عن ترتيب هذا الأثر بها، و هو لا ينافي أن يثبت بها موضوعات الحدود لترتيب سائر الآثار، و لا دليل علي وجوب الملازمة بين جميع آثارها في مقام الترتيب، كما لا يخفي.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 688

[مسألة 4 تقبل شهادة الفرع في سائر حقوق اللّٰه غير الحدّ]

مسألة 4 تقبل شهادة الفرع في سائر حقوق اللّٰه (6) غير الحدّ، كالزكاة و الخمس و أوقاف المساجد و الجهات العامّة، بل و الأهلّة أيضاً.

[مسألة 5 لا تقبل شهادة فرع الفرع]

مسألة 5 لا تقبل شهادة فرع الفرع (7) كالشهادة علي الشهادة علي الشهادة، و هكذا.

______________________________

(6) كما عرفت دعوي الإجماع علي القبول فيها عن «المسالك». و الدليل عليه هو اقتضاء القاعدة و إطلاق المعتبرة و اختصاص المقيّد بخصوص الحدّ، فلا دليل علي خروجها عن تحت القاعدة و الإطلاق.

و سرّ اختصاص الأهلّة بالذكر هو ما عن العلّامة في «التذكرة»: لا يثبت الهلال بالشهادة علي الشهادة عند علمائنا؛ لأصالة البراءة، انتهي.

و أنت خبير: بأنّه ليس إجماعاً حجّة؛ و لا سيّما بعد ما عرفت من «المسالك» تعداد الهلال في عداد ما قام عليه الإجماع علي القبول من حقوق اللّٰه. و أمّا ما استند إليه من أصالة البراءة فلا تقاوم أدلّة القبول، مضافاً إلي أنّ المورد من مجاري الاستصحاب لا أصل البراءة، و الأمر سهل.

(7) فإنّ القاعدة و إن اقتضت قبولها إلّا أنّ الصدوق روي بإسناده عن عمرو بن جميع عن أبي عبد اللّٰه عن أبيه عليهما السلام في حديث

و لا تجوز شهادة علي شهادة علي شهادة «1».

و سند الصدوق إليه و إن وقع فيه معاذ الجوهري إلّا أنّه لم يضعّف، و روي عنه ابن أبي عمير الذي لا يروي إلّا عن ثقة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 404، كتاب الشهادات، الباب 44، الحديث 6.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 689

[مسألة 6 يعتبر في الشهادة علي الشهادة ما يعتبر في شهادة الأصل]

مسألة 6 يعتبر في الشهادة علي الشهادة ما يعتبر في شهادة الأصل من العدد و الأوصاف، فلا تثبت بشهادة الواحد (8)،

______________________________

و عمرو بن جميع قاضي الري، و إن قيل فيه: إنّه ضعيف أو ضعيف الحديث، إلّا أنّ كونه صاحب الكتاب الذي روي عنه الصدوق في «الفقيه» كافٍ في الاعتماد علي كتابه؛ فإنّ قول الصدوق قدس سره في أوّل «الفقيه»:

و جميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة، عليها المعوّل و إليها المرجع، يدلّ علي عدم جواز الطعن في الروايات بمجرّد عدم معروفية صاحب الكتاب، و إلّا لما قبلت رواية منه في كتابه. و بالجملة: فظاهر هذه العبارة وثاقة صاحب الكتب عند الأصحاب، هذا.

مضافاً إلي أنّ المشهور قد عملوا بهذه الرواية؛ إذ لا دليل علي رفع اليد عن القاعدة الأوّلية سواها، و قد ادّعي في «الرياض» علي عدم سماع الشهادة الثالثة فصاعداً، أن لا خلاف أجده، بل عليه الإجماع في ظاهر «التحرير» و «المسالك» و صريح «الغنية»، انتهي. و في «الجواهر»: بلا خلاف أجده فيه، بل حكي غير واحد الإجماع عليه في بحث الشياع، انتهي.

فبعد ذلك كلّه: كان الخدشة في سنده خروجاً عن الإنصاف. و دلالته علي المدّعي واضحة؛ لصراحته في الشهادة الثالثة و انفهام غيرها منه بإلغاء الخصوصية، بل بالإطلاق أيضاً، فافهم.

(8) في «الرياض»: و لا يجزي في الشهادة إلّا اثنان عدلان علي شاهد الأصل إجماعاً. و في «الجواهر»: أنّ العدد معتبر بلا خلاف و إشكال، انتهي.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 690

______________________________

أمّا اعتبار الأوصاف فلأنّه لا ريب في أنّ الشاهد علي شهادة الغير أيضاً من أفراد كلّي الشاهد و مصاديقه حقيقة، فلا محالة يعمّه أدلّة اعتبار الشرائط في الشاهد، كما أنّ شهادة الأصل أيضاً من الموضوعات الجزئية التي قام الدليل علي إناطة ثبوتها للقاضي بالبيّنة، فلا محالة يعتبر في الشاهد عليها أيضاً التعدّد، مضافاً إلي ما مرّ من معتبرة غياث و مرسلة الصدوق، فتذكّر.

و ربّما يستدلّ و يعدّ من أخبار الباب خبر طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام عن أبيه عن علي عليهم السلام

أنّه كان لا يجيز شهادة

رجل علي رجل إلّا شهادة رجلين علي رجل «1»

، فيستدلّ به علي جواز الشهادة علي الشهادة و علي اعتبار التعدّد في الشاهد الفرع، لكنّه كما تري ورد في الشهادة علي نفس الرجل لا علي شهادته، فدلّ علي أنّ إثبات أمر علي أحد لا يكفي فيه شهادة رجل واحد، بل لا بدّ فيه من شهادة اثنين.

و نحوه موثّقة أُخري لغياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه

إنّ علياً عليه السلام قال: لا أقبل شهادة رجل علي رجل حيّ و إن كان باليمن (باليمين) «2»

، فإنّ ظاهره أنّه لا يقبل شهادة رجل واحد علي غيره مطلقاً، و إن كان المشهود عليه غائباً لا يدافع عن نفسه، أو و إن أكّدها الشاهد باليمين.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 403، كتاب الشهادات، الباب 44، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة 27: 403، كتاب الشهادات، الباب 44، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 691

فلو شهد علي كلّ واحد اثنان أو شهد اثنان علي شهادة كلّ واحد تقبل (9)، و كذا لو شهد شاهد أصل و هو مع آخر علي شهادة أصل آخر، و كذا لو شهد شاهدان علي شهادة المرأة فيما جازت شهادتها.

______________________________

فهذان خبران لا يعارضان غيرهما من الأخبار و لا يرتبطان ببحث الشهادة علي الشهادة، و لعلّ ذكر الشيخ لهما في «تهذيبه» في عداد أخبار الشهادة علي الشهادة أوجب لغيره هذا الوهم، حتّي ذكره غيره من أصحاب جوامع الحديث ك «الوافي» و «الوسائل» و «روضة المتّقين» في هذا الباب، و حتّي استدلّ بهما فقهاء الأصحاب هنا في عداد سائر الأخبار.

و الظاهر: أنّ جميع نسخ الحديث متّفقة علي نقلهما بلا وجود لفظة «شهادة» بين «علي» و مجرورها فيهما. و يشهد لهذا الاتفاق

أنّ المحدّث الكاشاني قدس سره قال في ذيل بيان أورده للحديثين ما لفظه: و يشبه أن يكون قد سقط لفظة «الشهادة» في الأخير مرّة و في الأوّل مرّتين، انتهي. فهذا الكلام منه قدس سره شاهد علي أنّه لم يجد في نسخة إثبات هذه اللفظة، كما لم نجده نحن أيضاً.

(9) و ذلك أنّ مقتضي القاعدة العقلائية و الأدلّة الشرعية أن يجوز لكلّ أحد أن يشهد علي كلّ شي ء بعد واجديته لشرائط الشهادة ما لم يمنع مانع و لم يقم دليل خاصّ كما قام في النساء، فاللازم أن يقبل و يصحّ الشهادة علي الشهادة بجميع أقسامها المذكورة في هذه المسألة، كما لا يخفي.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 692

[مسألة 7 لا تقبل شهادة النساء علي الشهادة فيما لا تقبل فيها شهادتهنّ]

مسألة 7 لا تقبل شهادة النساء علي الشهادة فيما لا تقبل فيها شهادتهنّ منفردات أو منضمّات (10)،

______________________________

(10) الظاهر: أنّ عدم القبول فيها ممّا لا خلاف فيه، و إنّما قال من قال بالجواز فيما كان شهادة الأصل علي ما تقبل شهادة النساء عليها؛ إمّا منفردات أو منضمّات.

و الدليل علي عدم القبول هو شمول أدلّة عدم قبول شهادتهنّ فيما ليس مالًا و لا المقصود منه المال، لما نحن فيه؛ فإنّ قوله عليه السلام في خبر السكوني

شهادة النساء لا تجوز في طلاق و لا نكاح و لا في حدود، إلّا في الديون و ما لا يستطيع الرجال النظر إليه «1»

شامل لشهادتهنّ علي شهادة الغير المتعلّقة بغير الديون و ما لا يستطيع الرجال النظر إليه؛ سواء كان هذا الغير رجلًا أم امرأة. كما أنّ ما دلّ علي عدم جواز شهادتهنّ منفردات في غير العذرة و النفساء يقتضي عدم جوازها هنا أيضاً منفردات، فلا ريب في شمول مثل عموم المفهوم من

جواب أحدهما عليهما السلام في صحيحة العلاء قال: و سألته هل تجوز شهادتهنّ وحدهنّ؟ قال

نعم في العذرة و النفساء «2»

؛ لشهادتهنّ منفردات بشهادة الغير؛ رجلًا كان أو امرأة بغير مثل العذرة و النفساء.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 362، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 42.

(2) وسائل الشيعة 27: 356، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 18.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 693

فهل تقبل فيما تقبل شهادتهنّ كذلك؟ (11) فيه قولان، أشبههما المنع (12).

______________________________

(11) يعني إمّا منفردات و منضمّات كما فيما يعسر اطّلاع الرجال عليه غالباً، و إمّا منضمّات فقط كما في النكاح و الحقوق المالية؛ بأن يشهدن منفردات أو منضمّات علي شهادة الغير بهذه الأُمور؛ رجلًا كان هذا الغير أم امرأة.

(12) وفاقاً لابن إدريس و المحقّق في الشرائع و العلّامة في «قواعده» و «تحريره» و فخر المحقّقين و الشهيد الأوّل في «نكته» و الثاني في «المسالك» و غيرهم من متأخّري الأصحاب كما في «الرياض». و خلافاً للشيخ في «الخلاف» مدّعياً عليه إجماع الفرقة و في موضع من «المبسوط» و لابن الجنيد و العلّامة في «المختلف».

و عمدة دليل الجواز أن يقال: إنّ المراد بشهادتهنّ في الشي ء الواقعة في أخبار الجواز المختلفة كالنكاح و الدين و ما لا ينظر إليه الرجال، أعمّ من أن يشهدن علي نفس هذه الأشياء و أن يشهدن علي ما يتعلّق بها، كأن يشهدن علي شهادة الغير بهذه الأشياء؛ و لذا قلنا بجواز شهادتهنّ منضمّة إلي الرجال بعقود المعاوضات و الغصب و أمثال ذلك، و إلّا فالعنوان المتعلّق به الجواز في الأدلّة هو الشهادة في هذه الأشياء، فلو انفهم منه تعلّقها بنفس هذه الأشياء لما كان لجواز شهادتهنّ في الأُمور المذكورة المتعلّقة بها سبيل.

كما

أنّ عمدة الوجه للمنع هو ظاهر قوله عليه السلام

إلّا في الديون «1»

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 362، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 42.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 694

[مسألة 8 الأقوي عدم قبول شهادة الفرع، إلّا لعذر يمنع حضور شاهد الأصل]

مسألة 8 الأقوي عدم قبول شهادة الفرع، إلّا لعذر يمنع حضور شاهد الأصل لإقامتها (13) لمرض أو مشقّة يسقط بهما وجوب حضوره، أو لغيبة كان الحضور معها حرجاً و مشقّة، و من المنع الحبس المانع عن الحضور.

______________________________

و

نعم في العذرة و النفساء «1»

و قوله عليه السلام و قد سئل عن شهادة النساء في النكاح

تجوز إذا كان معهنّ رجل «2»

و أمثال ذلك، فظاهرها هو تعلّق الشهادة بنفس هذه الأُمور، و المصير إلي قبولها في مثل الغصب و عقود المعاوضات إنّما هو لأجل أنّها عناوين عقلائية آلية لما يراد من الأموال في موردها، ليس لها حقيقة سوي هذه الآلية؛ فلذا كانت الشهادة بها شهادة بالأموال و الديون المتحقّقة في مواردها، و هذه المرتبة من الآلية ليست موجودة في مطلق الشهادة؛ و لا سيّما في الشهادة علي الشهادة؛ إذ المقصود فيها إثبات شهادة الأصل لكي تجعل حجّة علي ما شهد بها.

(13) وفاقاً للمشهور بين الأصحاب كما في «المسالك»، و قال في «الرياض»: إنّ نقل الشهرة مستفيض، بل لا يكاد يتحقّق خلاف إلّا عن والد الصدوق. و لعلّ المراد من خلافه هو ما يستفاد من العبارة التي نقلها عنه في «المختلف» حيث قال: و قال علي بن بابويه في رسالته: و لو أنّهما حضرا فشهد أحدهما علي شهادة الآخر و أنكر صاحبه أن يكون أشهده

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 356، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 18.

(2) وسائل الشيعة 27: 351، كتاب الشهادات، الباب 24، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و

الشهادات، ص: 695

______________________________

علي شهادته فإنّه يقبل قول أعدلهما، فإن استويا في العدالة بطلت الشهادة، و كذا قال ابنه الصدوق في «المقنع»، انتهي.

و كيف كان: فالقاعدة الأوّلية و إطلاق أدلّة الباب كما عرفت و إن اقتضت عدم اشتراط قبولها بالعذر إلّا أنّه روي الصدوق في «الفقيه» و الشيخ في «تهذيبه» عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في الشهادة علي شهادة الرجل و هو بالحضرة في البلد، قال

نعم، و لو كان خلف سارية يجوز ذلك إذا كان لا يمكنه أن يقيمها هو لعلّة تمنعه عن أن يحضره و يقيمها، فلا بأس بإقامة الشهادة علي شهادته «1».

و دلالة الحديث علي المطلوب أعني اشتراط الجواز بأن لا يمكن لشاهد الأصل الحضور و إقامة الشهادة واضحة.

و الظاهر: أنّ سند الصدوق معتبر، مضافاً إلي أنّ المشهور استندوا إليه، و إلّا فلا وجه للقول بالاشتراط بعد اقتضاء القاعدة الأوّلية و الإطلاقات لعدمه.

ثمّ إنّ الجواز في الحديث و إن اشترط بعدم إمكان إقامة شاهد الأصل إلّا أنّه ليس المراد من عدم الإمكان التعذّر العقلي، بل معناه العرفي الصادق فيما كان له في الحضور حرج و مشقّة، كما أفاده في المتن. نعم لا ينبغي الريب في أنّ الميزان هو عدم إمكان الحضور في مجلس القضاء و عند الحاجة إلي الشهادة، فلا يجب تأخير القضاء و المحاكمة استناداً إلي

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 402، كتاب الشهادات، الباب 44، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 696

[مسألة 9 لو شهد الفرع علي شهادة الأصل فأنكر شاهد الأصل]

مسألة 9 لو شهد الفرع علي شهادة الأصل فأنكر شاهد الأصل (14). فإن كان بعد حكم الحاكم فلا يلتفت إلي الإنكار (15)،

______________________________

إمكان حضور شاهد الأصل بعد يوم أو ساعة و ساعتين مثلًا بل يقبل هنا

شهادة الفرع و يقضي بها، و سيأتي إن شاء اللّٰه تعالي لهذا مزيد وضوح في المسألة الآتية.

(14) لا بدّ من فرض المسألة فيما كانت شهادة الفرع واجدة لشرائط قبولها حتّي يتمحّض ما يتصوّر مانعيته في إنكار شاهد الأصل، فلا بدّ أن يكون مفروضها تحقّق العذر لشاهد الأصل عن الحضور حتّي جاز به شهادة الفرع، ثمّ بعد مضي زمان معتدّ به زال عذره فحضر عند القاضي و أنكر، فإمّا أن يكون القاضي قد حكم بمقتضي شهادة الفرع، و إمّا أن لا يتيسّر له الحكم بعد لبعض العوارض.

و إنّما قيّدنا موضوع المسألة بواجدية الفرع لشرط القبول المذكور؛ لأنّ ظاهره ذلك و أنّ الإشكال إنّما جاء من ناحية إنكار الأصل فقط.

(15) بلا خلاف فيه، إلّا من ابن حمزة فإنّه حكم بتقديم أعدلهما كما في «المسالك»، و ظاهر المحقّق الأردبيلي نسبة عدم الالتفات حينئذٍ إلي إنكار الأصل إلي المشهور، و في «الرياض» استظهار دعوي اللاخلاف فيه عن جماعة من الأصحاب؛ و منهم العلّامة في جملة من كتبه.

و الوجه فيه: أنّ المفروض صدور الحكم مستنداً إلي شهادة جامعة للشرائط، فيدخل في عموم قوله عليه السلام

فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 697

و إن كان قبله فهل تطرح بيّنة الفرع أو يعمل بأعدلهما و مع التساوي تطرح الشهادة؟ وجهان (16).

______________________________

استخفّ بحكم اللّٰه. «1»

إلي آخره، و الروايات الواردة في الأخذ بشهادة الأعدل ثمّ طرح الفرع مختصّة بما قبل الحكم، و بيانه بعهدة ما سيجي ء.

(16) قال في «المسالك»: فإن كان حضوره قبل الحكم بشهادة الفرع فأنكر فالمشهور سقوط شهادة الفرع، و قال المحقّق الأردبيلي في «شرح الإرشاد»: قد تقرّر عندهم علي المشهور، بل الصحيح عندهم أنّه

يصير الفرع عند حضور الأصل معدوماً ما لم يكن الحاكم حكم بشهادته. و ظاهر الشيخ في «النهاية» اختيار الوجه الثاني، و عن القاضي ابن البرّاج تبعيته، و ظاهر العبارة المنقولة عن رسالة علي بن بابويه اختيار هذا الوجه حتّي فيما إذا كان شاهد الأصل من أوّل الأمر حاضراً و قد مرّ نقل عبارته هذه في صدر المسألة السابقة و عن الإسكافي ابن الجنيد عدم الالتفات إلي إنكار شاهد الأصل مطلقاً إذا كان شاهد الفرع اثنين.

و الأصل في المسألة صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في رجل شهد علي شهادة رجل، فجاء الرجل فقال: إنّي لم أشهده، قال

تجوز شهادة أعدلهما، و إن كانت عدالتهما واحدة لم تجز

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 698

______________________________

شهادته «1»

، و صحيحة عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في رجل شهد علي شهادة رجل، فجاء الرجل فقال: لم أشهده، قال: فقال

تجوز شهادة أعدلهما، و لو كان أعدلهما واحداً لم تجز شهادته

، و زاد في «الكافي»

لم تجز شهادته عدالة فيهما «2».

و الصحيحتان كما تري إنّما وردتا سؤالًا و جواباً في تبيين حكم وقوع التعارض بين شهادة الفرع و الأصل، و حيث إنّ من شرائط قبول شهادة الفرع عدم إمكان حضور الأصل لإقامتها فلا بدّ أن يكون هذا الشرط أيضاً كسائر شرائط الشهادة مفروضاً. و لو توهّم لهما إطلاق فلا ريب في تقييده بأدلّة اعتبار ذاك الشرط، و قد مرّ أنّ الشرط هو عدم إمكان حضور الأصل عند إقامة مجلس القضاء، و إن أمكن له الحضور بعداً. فهو

يجتمع مع مفروض الصحيحتين من أن يشهد الفرع ثمّ يجي ء الأصل و يقول: «لم أشهده»، فلا إشكال من هذه الجهة.

فالإشكال علي العمل بهما بأنّ الشرط في قبول الفرع عدم الأصل كما في الشرائع ضعيف. و مثله الإشكال بأنّ مستند الفرع شهادة الأصل، و هي مفقودة بعد إنكاره. و وجه الضعف: أنّ مستنده واقع شهادة الأصل و لم يثبت عدمها؛ إذ يحتمل كون إنكار الأصل لها علي خلاف الواقع لغلبة النسيان و نحوها.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 405، كتاب الشهادات، الباب 46، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 405، كتاب الشهادات، الباب 46، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 699

______________________________

ثمّ إنّه من تعبيره عليه السلام بقوله

تجوز شهادة أعدلهما

يفهم أنّها ما أُجيزت و لا أُمضيت شهادة واحد منهما بعد؛ يعني أنّه بعد ما شهد شاهد الفرع في غياب الأصل و ارتفع عذر الأصل ثمّ حضر و أنكر شهادته، فبعد هذه الأُمور ما حكم القاضي بشي ء من الشهادتين، و لا أمضي و أجاز بعد شيئاً منهما، فأفاد عليه السلام: أنّ ملاك الجواز شهادة الأعدل.

فالحاصل: أنّ التعبير المذكور إنّما يناسب عدم إجازة شي ء من الشهادتين بعد من ناحية الحاكم، و لا يناسب ما إذا كان القاضي قد حكم علي شهادة الفرع قبل حضور الأصل؛ إذ في مثلها أجاز و أمضي شهادة الفرع، و المناسب في مثله التعبير بما يناسب نقض الحكم السابق و رفع اليد عنه.

فالصحيحتان منصرفتان إلي ما قبل الحكم ظاهرتان فيه بحكم الانصراف، مضافاً إلي أنّ الشكّ في الشمول كافٍ للرجوع إلي أدلّة حرمة النقض.

و حينئذٍ فتفقّه الحديث فيهما: أنّه إذا شهد شاهد الفرع لكون الأصل معذوراً عن الإقامة، ثمّ زال عذره و حضر مجلس القضاء

قبل أن يقضي القاضي بمقتضي شهادة الفرع فأنكر شهادته، فهنا يجوز شهادة أعدلهما إن كان، و إلّا لما جازت شهادة شي ء منهما عدالة و تسوية بينهما. و هذا هو مختار «نهاية» الشيخ و أتباعها.

لكن مع ذلك كلّه: فهنا أمران آخران يشكل بملاحظتهما الفتوي علي الصحيحتين كما ذكر:

أحدهما: أنّ مفروضهما شهادة رجل علي شهادة آخر، و هي ظاهرة في أنّ الشاهد الفرع رجل واحد فقط، فهما مبنيتان علي حجّية شهادة

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 700

______________________________

الواحد، و هي خلاف معتبرة غياث و لم يقل بها الأصحاب هنا فيما نعلم؛ فقد أعرض الأصحاب عنهما و معه فلا حجّة فيهما. و حمل الرجل علي الجنس و تقييده بما كان اثنين كما قيل مشكل جدّاً، و لعلّه لذلك كان المشهور طرح شهادة الفرع.

ثانيهما: أنّ ظاهر قوله: «لم أشهده» أنّه من الإشهاد لا الشهادة بقرينة تذكير الضمير الراجع إلي الشاهد الفرع، و إلّا كان المناسب أن يقال: «لم أشهدها»؛ بمعني لم أشهد الشهادة، فتذكير الضمير قرينة علي إرادة أنّ الأصل لم يشهد الفرع، فليست الصحيحتان ظاهرتين في إنكار المشهود به، بل لعلّهما مبنيتان علي اعتبار الإشهاد في جواز الشهادة و قبولها.

فظاهرهما حينئذٍ متروك مخالف لما مرّ من عدم اعتبار الإشهاد في قبول الشهادة، و مع مجي ء احتمال هذا المعني يسقط الصحيحتان عن صحّة الاستدلال بهما لمختار الشيخ في «النهاية» و أتباعه، هذا.

إن قلت: غاية الأمر بعد ملاحظة هذين الأمرين أن لا تكون الصحيحتان حجّة علي جواز الاستناد إلي شهادة الفرع، و أمّا طرحها كما عليه المشهور فلا دليل عليه، بل ربّما كان مقتضي إطلاق أدلّة حجّية الشهادة علي الشهادة اعتبارها.

قلت: لا نسلّم انعقاد إطلاق لتلك الأدلّة شامل لما

جاء الأصل و أنكر الشهادة، و مقتضي القواعد حينئذٍ سقوط شهادتهما بالتعارض، و هو عبارة أُخري عن طرح بيّنة الفرع، الذي عليه المشهور.

و كيف كان: فلعلّه لأجل هذه الاحتمالات و عدم وضوح المراد تردّد الماتن دام ظلّه و اقتصر علي مجرّد قوله: «وجهان»، و اللّٰه العالم.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 701

[القول في اللواحق]

اشارة

القول في اللواحق

[مسألة 1 يشترط في قبول شهادة الشاهدين تواردهما علي الشي ء الواحد]

مسألة 1 يشترط في قبول شهادة الشاهدين تواردهما علي الشي ء الواحد (1)، فإن اتّفقا حكم بهما. و الميزان اتّحاد المعني لا اللفظ، فإن شهد أحدهما: بأنّه غصب، و الآخر: بأنّه انتزع منه قهراً، أو قال أحدهما: باع، و الآخر ملكه بعوض تقبل. و لو اختلفا في المعني لم تقبل، فإن شهد أحدهما بالبيع و الآخر بإقراره بالبيع (2)، و كذا لو شهد أحدهما بأنّه غصبه من زيد و الآخر بأنّ هذا ملك زيد لم تردا علي معني واحد؛ لأنّ الغصب منه أعمّ من كونه ملكاً له.

______________________________

(1) بلا خلاف و لا إشكال كما في «الجواهر» بداهة أنّ الشارع لمّا اعتبر تعدّد الشهود فما لم يرد شهادة العدد المعتبر علي أمر واحد لم يحصل موضوع الحجّية شرعاً و لم يكن طريق معتبر للحاكم يستند إليه في حكمه بثبوت المشهود به. نعم إذا حصلت شهادة العدد المعتبر علي الشي ء الواحد فقد قامت علي ثبوته الحجّة الشرعية، و إن كانت العبارات مختلفة.

(2) إن قلت: الإقرار بالبيع كاشف عن وقوع البيع، فينبغي أن يعدّ

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 702

[مسألة 2 لو شهد أحدهما بشي ء و شهد الآخر بغيره]

مسألة 2 لو شهد أحدهما بشي ء و شهد الآخر بغيره، فإن تكاذبا سقطت الشهادتان (3) فلا مجال لضمّ يمين المدّعي (4).

______________________________

هذا من قبيل المختلفين لفظاً المتّحدين معنيً.

قلت أوّلًا: إنّ الإقرار حجّة علي المقرّ، لا كاشف و طريق علي المقرّ به.

و ثانياً: أنّه لو سلّم طريقيته فالشاهد عليه إنّما شهد علي الطريق لا علي ذي الطريق، فلم يقم لا علي الطريق و لا علي ذي الطريق شهادة عدلين، بل شهادة عدل واحد و هي بنفسها غير كافية.

(3) و ذلك أنّ كلّا منهما طريق عقلائي إلي المشهود به، و التكاذب

و التعارض موجب عندهم للتساقط في كلا المتعارضين.

(4) الإتيان بالفاء في كلامه دام ظلّه دليل علي تفرّع قوله: «لا مجال لضمّ يمين المدّعي» علي سقوط الشهادة بالتكاذب.

و بيانه: أنّ الظاهر من أدلّة الاكتفاء بشاهد واحد مع يمين المدّعي مثل قول أبي جعفر الباقر عليه السلام

لو كان الأمر إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس. «1»

الحديث أن يكون هذا الشاهد الواحد واجداً لجميع ما يعتبر في قبول الشهادة، سوي أنّه لمّا كان واحداً قام يمين المدّعي مقام الشاهد الآخر. و أمّا إذا كان هو بنفسه

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 268، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 14، الحديث 12.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 703

و إن لم يتكاذبا فإن حلف مع كلّ واحد يثبت المدّعي (5). و قيل: يصحّ الحلف مع أحدهما في صورة التكاذب أيضاً (6)، و الأشبه ما ذكرنا.

[مسألة 3 لو شهد أحدهما بأنّه سرق نصاباً غدوة و الآخر بأنّه سرق نصاباً عشية]

مسألة 3 لو شهد أحدهما بأنّه سرق نصاباً غدوة و الآخر بأنّه سرق نصاباً عشية، لم يقطع و لم يحكم بردّ المال (7)،

______________________________

فاقداً لشرط القبول فليس تعمّه هذه الأدلّة، فإذا كان قد ابتلي بالمعارض الموجب لسقوطه بنفسه عن الاعتبار فلا تشمله هذه الأدلّة. و بهذا صحّ تفريع قوله: «فلا مجال لضمّ يمين المدّعي» علي سقوطه عن الحجّية بالتكاذب.

و منه تعرف: أنّ دعوي إطلاق هذه الأدلّة و أنّ موضوعها مطلق شهادة الرجل الواحد أو امرأتين الصادقة في مورد التكاذب أيضاً، فيلزم الاكتفاء بها مع ضمّ يمين المدّعي، ضعيفة.

(5) لشمول الأدلّة المذكورة لها من غير إشكال.

(6) كما يظهر ذلك من «الإرشاد» و «شرحه» للمحقّق الأردبيلي و «المسالك» و «الجواهر»، بل عاب في «الجواهر» علي «الدروس» أنّه نسب الاجتزاء

باليمين في صورة التكاذب إلي القيل؛ مشعراً بتمريضه، و قال: لكنّه في غير محلّه. و كيف كان: فدليل الاجتزاء بها إطلاق أدلّته، و قد عرفت ما فيه و أنّ الأشبه عدم الاجتزاء.

(7) فإنّ تغاير زماني السرقة مع تعلّقها بكلّي مقدار النصاب يجعلها فعلين متغايرين لم يقم علي واحد منهما بيّنة، فلا يثبت واحد منهما من

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 704

و كذا لو قال الآخر: سرق هذا النصاب بعينه عشية (8).

______________________________

طريق الشهادة، فلا يمكن الحكم من جهتها لا بالقطع و إجراء حدّ السرقة، و لا بردّ المال، و إن أمكن الحكم بردّه بضمّ اليمين لعدم التكاذب.

(8) كما صرّح به في «الشرائع» و «الإرشاد» و قرّره «المسالك» و «الجواهر» و «شارح الإرشاد» فيما رأيناه، و هو واضح فيما إذا احتمل ردّ العين المسروقة غدوة قبل العشية ثمّ سرقها عشية؛ فإنّ تغاير الزمان موجب لتغاير الفعل المشهود به، فلم يقم علي شي ء ممّا شهد به كلّ منهما بيّنة شرعية حتّي يقال بثبوته بها.

و أمّا إذا لم يحتمل ردّ العين المسروقة غدوة بل اتّفق الشاهدان مثلًا علي أنّهما كانا معاً و رأياه معاً يسرق تلك العين، و لم يكن اختلاف في زمان السرقة وقت وقوعها، و في مقام الحكاية و الشهادة عليها أيضاً هما متّفقان علي جميع هذه الأُمور، إلّا أنّ أحدهما يعتقد أنّ زمان تلك السرقة المعيّنة الشخصية المتّفق عليها كان وقت الغدوة و الآخر يري أنّه كان وقت العشاء، فكلّ منهما يخطّئ صاحبه في خصوص زمان وقوع السرقة لا في أصل وقوعها و لا في سائر خصوصياتها.

فهاهنا و إن اختلفا في الزمان و هو بنفسه يوجب تغاير الفعلين إلّا أنّه بعد فرض اتّحادهما من

جميع الجهات الأُخر فلا يبعد أن يقال: إنّ العقلاء يرون تجزئة المشهود به هاهنا، و أنّ كليهما قد شهدا علي سرقة هذه العين الشخصية من هذا السارق الخاصّ بلا اختلاف، و إنّما يختلفان في

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 705

[مسألة 4 لو اتّفق الشاهدان في فعل و اختلفا في زمانه أو مكانه أو وصفه]

مسألة 4 لو اتّفق الشاهدان في فعل و اختلفا في زمانه أو مكانه أو وصفه بما يوجب تغاير الفعلين لم تكمل شهادتهما (9)، كما لو قال أحدهما: سرق ثوباً في السوق، و الآخر: سرق ثوباً في البيت، أو قال أحدهما: سرق ديناراً عراقيا، و قال الآخر: سرق ديناراً كويتياً، أو قال أحدهما: سرق ديناراً غدوة و الآخر: عشية؛ فإنّه لم يقطع و لم يثبت الغرم إلّا إذا حلف المدّعي مع كلّ واحد، فإنّه يغرم الجميع.

______________________________

خصوصية زمان وقوعها، و هو لا يضرّ بما اتّفقا عليه، فيثبت أصل السرقة و يحكم بالقطع و ردّ المال، كما لو كانا لم يتعرّض واحد منهما لوقت وقوعها.

فالحاصل: أنّه بعد ما كان لم يرد في أمثال المورد نصّ خاصّ و يراد الحكم فيها بمقتضي القواعد، و المرجع في تشخيص توارد الشاهدين علي مورد واحد هو العقلاء، فلا يبعد دعوي أنّهم يرون تواردهما في مثل المفروض علي مورد واحد، و كان لازمه ثبوت المشهود به و ترتّب آثاره عليه.

و توهّم أنّه مخالف لقاعدة: «تدرأ الحدود بالشبهات» بالنسبة إلي الحكم بالحدّ، مدفوع بأنّ مصبّ القاعدة ما إذا كانت شبهة في أصل الوقوع لا في خصوصيات الواقعة الموجبة للحدّ علي أيّ حال، إلّا أن يسري الشكّ في الخصوصيات إلي الشكّ في أصلها، و السراية هنا كما عرفت منتفية.

(9) يعني من حيث نصاب العدد المعتبر؛ فإنّ اتّصاف الفعل الكلّي الواحد بالنوع بوقوعه في

زمانين أو مكانين مختلفين كاتّصافه بوصفين

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 706

فلو تعارض شهادتهما تسقط، و لا يثبت بهما شي ء و لو مع الحلف (10)، و كذا لو تعارضت البيّنتان سقطتا علي الأشبه (11)، كما لو شهدت إحداهما بأنّه سرق هذا الثوب أوّل زوال يوم الجمعة في النجف، و شهدت الأُخري: بأنّه سرق هذا الثوب بعينه أوّل زوال هذا اليوم بعينه في بغداد، و لا يثبت بشي ء منها القطع و لا الغرم.

[مسألة 5 لو شهد أحدهما: أنّه باع هذا الثوب أوّل الزوال في هذا اليوم بدينار]

مسألة 5 لو شهد أحدهما: أنّه باع هذا الثوب أوّل الزوال في هذا اليوم بدينار و شهد آخر: إنّه باعه أوّل الزوال بدينارين، لم يثبت و سقطتا (12).

______________________________

مختلفين يوجب تغاير المصاديق، فلم يرد الشاهدان حينئذٍ علي مورد واحد، فلا يثبت بشهادتهما شي ء فلا يترتّب أثره.

(10) بناءً علي ما عرفت من أنّ مورد ضمّ اليمين الشهادة الغير المتعارضة.

(11) سقوطهما فيما إذا قامتا علي نحو يكذّب كلّ منهما الأُخري واضح؛ فإنّ مقتضي القاعدة تساقط الطريقين بالتعارض، إلّا أنّ كون المورد المذكور في المتن من مصاديق التعارض و التكاذب مطلقاً مشكل، بل ممنوع كما عرفت، فتذكّر.

(12) فإنّ اختلاف الثمنين و تغايرهما يقتضي فعلين و معاملتين، و لم يقم علي شي ء منهما بيّنة شرعية حتّي يثبت، و وقوع المعاملة عليه بهذا الثمن لا يجتمع مع وقوعها بالثمن الآخر، فيتعارضان و يتساقطان.

و ما ذكرناه في نظيره يجري هنا أيضاً؛ فإنّهما لو اتّفقا علي أنّهما رأيا

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 707

و قيل: كان له المطالبة بأيّهما شاء مع اليمين، و فيه ضعف (13). و لو شهد له مع كلّ واحد شاهد آخر قيل: ثبت الديناران، و الأشبه سقوطهما (14)، و كذا لو شهد واحد

بالإقرار بألف و الآخر بألفين في زمان واحد سقطتا (15). و قيل: يثبت بهما الألف، و الآخر بانضمام اليمين إلي الثاني، و هو ضعيف.

______________________________

المالك قد باع ثوبه هذا من زيد و اختلفا في ثمن المعاملة فشهادتهما تعدّ عرفاً شهادة علي أمر شخصي واحد؛ هو هذا البيع الشخصي. و اختلافهما في الثمن يوجب أن لا يعلم هذه الخصوصية من هذه المعاملة الشخصية، فيثبت أصل النقل و الانتقال صحيحاً و لا يعلم بثمنه، فيعمل في الاختلاف فيه علي ما يقتضيه قواعد القضاء و الإفتاء.

(13) لما عرفت من عدم شمول أدلّة ضمّ اليمين لمثل هذه الموارد.

(14) و ذلك لضعف ما يتوهّم وجهاً للثبوت من أنّ البيّنتين متّفقتان علي الدينار الأوّل، و الدينار الثاني يكفي لثبوته بيّنة واحدة.

و وجه الضعف: أنّ البيّنتين متكاذبتان؛ إذ المفروض وقوع عقد واحد، و العقد الواحد له ثمن واحد؛ فالثمن إمّا دينار واحد و إمّا ديناران بنحو المنفصلة الحقيقية، فيعلم بكذب إحدي البيّنتين، فهما متعارضتان متكاذبتان، و نتيجة التعارض التساقط بمقتضي القواعد، و لا دليل خاصّ في المسألة.

(15) إذ الإقرار بالألف غير الإقرار بالألفين، فلم يرد الشهادتان علي أمر واحد حتّي تصيرا بيّنة شرعية، فيثبت بهما إقراره.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 708

فالضابط (16): أنّ كلّ مورد وقع التعارض سقط المتعارضان؛ بيّنة كانا أو شهادة واحدة، و مع عدم التعارض عمل بالبيّنة، و تثبت مع الواحد و يمين المدّعي الدعوي.

[مسألة 6 لو شهدا عند الحاكم و قبل أن يحكم بهما ماتا أو جنّا أو أُغمي عليهما]

مسألة 6 لو شهدا عند الحاكم و قبل أن يحكم بهما ماتا أو جنّا أو أُغمي عليهما حكم بشهادتهما (17)، و كذا لو شهدا ثمّ زكّيا بعد عروض تلك العوارض حكم بهما بعد التزكية (18)،

______________________________

(16) و قد عرفت دليله في كلّ من

شقّيه.

و هذا تمام الكلام في فروع التوارد علي شي ء واحد.

(17) هذه الشرائط الثلاثة اشتراطها في الشاهد ثابت بحكم العقل أو العقلاء؛ فإنّ الحياة شرط عقلي في حصول الشهادة و العقل و إفاقة الشاهد شرطان لقبول خبر كلّ مخبر، و الشاهد مخبر بأمر جزئي شخصي، و من الواضح أنّ الشرط منها إنّما هو تحقّقها حال أداء الشهادة، و لا يعتبر عند العقل أو العقلاء بقاؤها إلي حين حكم القاضي. و حيث لم يرد من الشرع فيها أمر جديد فلا محالة يكون الطريقة العقلائية ممضاة عنده. و فقدان بعض منها أو كلّها قبل حكم القاضي لا يضرّ باعتبارها؛ و لذلك لم يوجد خلاف بين العلماء في جواز الاعتماد عليها كما في «الجواهر».

(18) و ذلك أنّ الثقة أو العدالة و إن اشترطت في الشاهد إلّا أنّه لم يشترط أن يكون إحرازها حال الأداء، بل الشارع حكم بقبول شهادة العادل الواقعي. و ترتيب الأثر عليها و إن كان مشروطاً بالإحراز إلّا أنّه

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 709

و كذا لو شهدا ثمّ فسقا أو كفرا قبل الحكم حكم بهما (19).

______________________________

لا يشترط أن تكون العدالة محرزة في زمان أداء الشهادة، بل يكفي وجودها الواقعي حال الأداء و إن كان إحرازها بعده.

و عليه: فإذا أُحرزت بعد الموت مثلًا فلا قصور في شهادته، إلّا أن يكون الحياة شرطاً حال حكم القاضي، و قد عرفت عدمه.

(19) وفاقاً للشرائع و المحكي عن الشيخ في «الخلاف» و «المبسوط» و عن الحلّي في «السرائر» و للعلّامة في أحد قوليه، و خلافاً للمحكي عن العلّامة في قوله الآخر و الشهيد و جماعة.

و الدليل: أنّ الإيمان و العدالة و إن كانا شرطاً شرعياً إذ لا يعتبر

عند العقلاء أزيد من أن يكون الشاهد ثقة إلّا أنّ تناسب الحكم و الموضوع يقتضي ظهور أدلّة اشتراطهما في أنّ الشرط هو ما كان حاصلًا وقت أداء الشهادة و إن كان قبله أو بعده مفقوداً، و المفروض حصوله حينه.

فبناء العقلاء علي حجّية خبر الثقة لم يقيّد شرعاً إلّا بأن يكون المخبر الشاهد علاوة عن كونه ثقة مؤمناً عادلًا، و المفروض تحقّقه، فيكون بناؤهم علي حجّية خبر من فقد العدالة أو الإيمان وقت حكم القاضي بعد أن كان واجداً لهما وقت الأداء حجّة شرعاً، و ليس في الأدلّة الشرعية ما يكون ظاهراً في اعتبار استناد حكم القاضي إلي شهادة من كان عادلًا مؤمناً وقت الحكم، فيكفي حينئذٍ كونه كذلك في خصوص زمن الأداء بعد أن كان بناء العقلاء أيضاً علي الاكتفاء به.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 710

بل لا يبعد ذلك لو شهد الأصل و حمل الفرع، و كان الأصل عادلًا، ثمّ فسق ثمّ شهد الفرع (20). و لا فرق في حدود اللّٰه تعالي و حقوق الناس (21) في غير الفسق و الكفر، و أمّا فيهما فلا يثبت الحدّ في حقوق اللّٰه محضاً كحدّ الزنا و اللواط (22)،

______________________________

(20) و ذلك أيضاً لما مرّ من أنّ المفهوم عرفاً من أدلّة اعتبار العدالة في الشاهد ليس أزيد من اعتبار عدالته حين أداء الشهادة، و هي حاصلة في الفرض، و أدلّة قبول شهادة الفرع ناظرة إلي أن يشهد فرع مقبول الشهادة علي شهادة أصل مقبول الشهادة، و هو حاصل أيضاً في الفرض؛ فلا وجه وجيه لعدم الاعتبار بشهادة أيّ منهما. و منه تعرف: أنّ ما ذكره في «الجواهر» من أنّ جواز الحكم بها حينئذٍ معلوم الفساد، معلوم

الفساد، فراجع.

(21) فإنّ إطلاق أو عموم أدلّة الاعتبار يقتضي الحجّية في جميع الموارد، اللهمّ إلّا أن يقوم دليل موجب للتقييد أو التخصيص.

(22) قال في «المسالك»: و اتّفق القائلون علي أنّ المشهود به إذا كان حقّا للّٰه تعالي كحدّ الزنا و اللواط و شرب المسكر لم يحكم به؛ لوقوع الشبهة الدارئة للحدّ، انتهي.

و حيث عرفت: أنّ مقتضي القواعد و عموم أدلّة الاعتبار جواز الحكم بشهادة من كان مؤمناً عادلًا وقت أداء الشهادة و إن فسق أو كفر بعده بلا فرق من جهة القواعد بين حقوق اللّٰه و حقوق الناس، و قد أفتوا به

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 711

و في المشتركة بينه و بين العباد كالقذف و السرقة تردّد (23)، و الأشبه عدم الحدّ (24).

______________________________

و التزموا بمقتضاها في ما سوي حقوق اللّٰه، فوقوع الاتّفاق من الكلّ في حقوق اللّٰه علي عدم جواز الحكم بها علي خلاف القواعد كاشف عن قيام دليل معتبر عندهم يقتضي القول بعدم الحجّية و يوجب تقييد الأدلّة أو تخصيصها.

و لذلك قيل في الأُصول باعتبار الشهرة القائمة علي خلاف القواعد؛ لا سيّما إذا كانت هذه القواعد مسلّمة معروفة عند الكلّ؛ إذ معروفيتها تدفع احتمال غفلة المشهور عنها، و يكون ذهابهم إلي خلاف مقتضي القاعدة المعروفة دليل عثورهم علي مخصّص معتبر أوجب الخروج عنها، هذا.

و أمّا ما مرّ من «المسالك» من التمسّك بوقوع الشبهة الدارئة فضعيف؛ إذ شمول أدلّة الحجّية يوجب زوال الشبهة، كما في جميع الموارد التي قام فيها أمارة معتبرة.

(23) لاحتمال التحاقها بكلّ من حقوق اللّٰه و حقوق الناس.

(24) و ذلك أنّ الحقّ: أنّ قطع يد السارق و ضرب القاذف إنّما هو حدّ من حدود اللّٰه تعالي جعله اللّٰه تعالي

تأديباً لهما و إصلاحاً لجامعة الإسلام، كما في حدّ الزنا و شرب الخمر، و إلّا فلم يقطع السارق يد المسروق منه و لم يضرب القاذف المقذوف حتّي يكونا حقّين لهما يستوفيانهما. و إنّما يقال في مثلهما بكونهما من الحقوق المشتركة لمكان

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 712

و أمّا في القصاص فالظاهر ثبوته (25).

[مسألة 7 قالوا: لو شهدا لمن يرثانه فمات قبل الحكم]

مسألة 7 قالوا: لو شهدا لمن يرثانه فمات قبل الحكم فانتقل المشهود به إليهما، لم يحكم به لهما بشهادتهما (26)، و فيه تردّد و إشكال (27)،

______________________________

توقّف إجرائهما علي طلب المسروق منه و المقذوف.

و أنت خبير بأنّ مجرّد هذا التوقّف لا يقتضي كونهما من حقوق الناس، بل غاية الأمر أن يكونا من حقوق اللّٰه التي ليس طلبها أكيداً؛ و لذلك لم يجب بل لم يجز إجراؤهما إذا لم يطلبهما المقذوف و المسروق منه، فهما أيضاً من حقوق اللّٰه المحضة و معقد الاتّفاق المحكي علي عدم القبول يشملهما، فتأمّل.

(25) وفاقاً ل «الشرائع»؛ لعدم كونه داخلًا في معقد الاتّفاق المذكور؛ لعدّه في كلماتهم من حقوق الناس المحضة، و حينئذٍ فلا حجّة علي الخروج عن مقتضي عمومات الحجّية.

(26) و ذلك أنّه حيث لم يحكم القاضي فالدعوي بعد باقية، و لمّا كان الشاهدان هما الوارثان فمورد الدعوي لو كان حقّ مورّثهما قد انتقل إليهما، فقد صارا مدّعي هذه الدعوي، فلو حكم لهما القاضي بشهادتهما رجع الأمر إلي أن يقضي القاضي بمجرّد قول المدّعي و صرف دعواه، و هو من البطلان بمكان.

(27) لإمكان أن يقال: إنّ الدعوي لمّا أقامها المورّث فقوام الدعوي المقامة بذلك المورّث الميّت و خصمه، و لو حكم القاضي بشهادتهما كان

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 713

و أشكل منه ما قيل:

إنّه لم يثبت بشهادتهما لشريكهما في الإرث، و الوجه في ذلك ثبوت حصّة الشريك (28).

[مسألة 8 لو رجع الشاهدان أو أحدهما عن الشهادة قبل الحكم و بعد الإقامة]

مسألة 8 لو رجع الشاهدان أو أحدهما عن الشهادة قبل الحكم و بعد الإقامة، لم يحكم بها و لا غرم (29)،

______________________________

قضاؤه فصلًا للخصومة في هذه الدعوي. و المتيقّن أن لا يستند إلي قول المدّعي الذي أقام الدعوي، و أمّا إذا أقامه غيره و أقام عليها شاهداً و صار الشاهد وارثاً للمدّعي قبل فصل الخصومة فلا دليل علي ردّ هذه الشهادة، فتأمّل.

(28) و ذلك أنّ شهادتهما بالنسبة إلي حصّته شهادة غير المدّعي، فهو كما إذا ادّعي شريكهما حصّته و أقامهما شاهدين لإثبات دعواه. و مجرّد انضمام حصّة الشريك في مقام الشهادة إلي ما صار حصّة نفس الشاهدين لا يضرّ بقبول شهادتهما فيما لا مانع من قبولها فيه.

(29) في «الجواهر»: بلا خلاف أجده فيهما كما اعترف به غير واحد، بل في «كشف اللثام» الاتّفاق علي ذلك إلّا من أبي ثور، انتهي.

و الدليل عليه: أنّك قد عرفت غير مرّة أنّ اعتبار الشهادة عرفاً إنّما هو من باب حجّية خبر الواحد الذي زاد الشارع فيه شرائط مخصوصة، فهي حجّة من باب طريقية الخبر، و من المعلوم أنّ الثقة إذا أخبر بشي ء ثمّ رجع عنه فإخباره الأوّل يسقط عن الطريقية، فلا محالة لا طريقية للشهادة بعد الرجوع عنها. و حيث إنّ قوام حجّيتها بالطريقية كما عرفت فليست

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 714

فإن اعترفا بالتعمّد بالكذب فسقا، و إلّا فلا فسق (30). فلو رجعا عن الرجوع في الصورة الثانية فهل تقبل شهادتهما؟ فيه إشكال (31).

______________________________

بعد الرجوع بحجّة، فلو استند الحاكم إليها فقد استند و حكم بلا ثبوت للمحكوم به عنده.

و من الواضح جدّاً:

أنّ أدلّة القضاء بالبيّنة ناظرة إلي بيّنة كانت واجدة لقوام الحجّية، فلا تشمل مثل هذه الشهادة، فلا يجوز للحاكم أن يحكم و لا حجّة له في حكمه أصلًا. و إذا لم يحكم الحاكم بشي ء فلم يترتّب علي شهادتهما ضرر حتّي تصل النوبة إلي غرامته و تداركه فيقال بوجوب غرامته عليهما.

و يوافق ما ذكرناه و يؤكّده: ذيل مرسلة جميل عن أحدهما عليهما السلام قال في الشهود إذا رجعوا عن شهادتهم و قد قضي علي الرجل

ضمنوا ما شهدوا به و غرموا، و إن لم يكن قضي طرحت شهادتهم و لم يغرموا الشهود شيئاً «1».

(30) لاحتمال أن يكون شهادتهم السابقة مبنية علي الخطأ، و الاستصحاب يقضي ببقاء العدالة.

(31) قال في «الجواهر»: و إن قالوا غلطنا أو أخطأنا فلا فسق، لكن في «القواعد» و «المسالك» لا تقبل تلك الشهادة لو أعادوها. إلي

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 326، كتاب الشهادات، الباب 10، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 715

فلو كان المشهود به الزنا و اعترف الشهود بالتعمّد حدّوا للقذف (32)، و لو قالوا: أوهمنا، فلا حدّ (33) علي الأقوي.

______________________________

أن قال: و في «كشف اللثام» الأقوي القبول إذا كانا معروفين بالعدالة و الضبط، انتهي.

فوجه القبول دعوي: أنّ رجوعهما عن الرجوع الأوّل و الجزم علي الشهادة ثانية يوجب وجدان شهادتهما لقوام الحجّية أعني الطريقية و معه فلا قصور في حجّيتها عند العرف و العقلاء، فيشملها عموم أدلّة حجّية البيّنة.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ الرجوع بعد الرجوع يوجب ضعف اعتبارها عند العقلاء و انصراف العمومات عنها؛ لا سيّما و قد ورد في صحيحة محمّد بن قيس عدم قبول شهادة شاهدي السرقة بعد الحكم بقطع يد من شهدا بأنّه سرق ثمّ رجعا

و أظهرا أنّهما قد أخطأنا و أنّ السارق شخص آخر، فلم يقبل شهادتهما علي هذا الآخر، و سيأتي ذكر الصحيحة في شرح المسألة الثالثة عشر فانتظر، فمنها يستأنس لعدم القبول هاهنا أيضاً، فتأمّل.

(32) أخذاً لهم بما أقرّوا به علي أنفسهم.

(33) فإنّ حدّ القذف كسائر الحدود إنّما شرع تأديباً للعاصي المرتكب لمعصية كبيرة و جزاء علي عصيانه، و حيث إنّهم ادّعوا الغلط و الوهم و احتمل صدقهم في هذا الادّعاء و كان عددهم في وقت الشهادة بحدّ نصاب الإثبات فلم يثبت منهم معصية حتّي يجب عليهم حدّ القذف.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 716

[مسألة 9 لو رجعا بعد الحكم و الاستيفاء و تلف المشهود به]

مسألة 9 لو رجعا بعد الحكم و الاستيفاء و تلف المشهود به (34) لم ينقض الحكم (35)،

______________________________

لكن في «الجواهر» عن «المبسوط» و «جواهر» القاضي: أنّهم يحدّون. و لعلّه لمرسلة ابن محبوب عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في أربعة شهدوا علي رجل محصن بالزنا ثمّ رجع أحدهم بعد ما قتل الرجل، قال

إن قال الراجع (الرابع): أوهمت ضرب الحدّ و أُغرم الدية، و إن قال: تعمّدت قتل «1»

، لكنّها ضعيفة السند بالإرسال، و لم ينقل العمل بها من المشهور حتّي ينجبر ضعف سندها. مضافاً إلي خلوّ سائر الروايات عن ضرب الحدّ كما سيأتي إن شاء اللّٰه تعالي؛ و لذلك كان الأقوي أنّه لا حدّ.

(34) فرض تلف المشهود به قرينة علي أنّ مفروض هذه المسألة هو الحقوق المالية المشهود بها.

(35) قال في «الجواهر»: إجماعاً بقسميه. و ينبغي التنبّه لنكتة؛ و هي أنّ رجوع الشاهد غير عنوان انكشاف كون الشهادة زوراً، الذي سيأتي حكمه في المسألة الثانية عشر، فالمفروض في هذه الفروع المذكورة في غير المسألة الثانية عشر هو مجرّد

رجوع الشاهد بحيث يحتمل كون شهادته السابقة موافقة للواقع.

و كيف كان: فيدلّ علي عدم انتقاض الحكم بعد تلف المشهود به

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 328، كتاب الشهادات، الباب 12، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 717

______________________________

إطلاق أدلّة نفوذ قضاء القاضي، مثل قوله عليه السلام في مقبولة عمر بن حنظلة

فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّٰه.

إلي آخره «1»؛ فإنّه لا ينبغي الشكّ في أنّ المراد بالحكم بحكمهم هو أن يكون القضاء علي الميزان المقرّر عندهم، و المفروض هنا أنّه كذلك؛ إذ قد أُحرز عدالة الشاهدين و لم يثبت خلافه، و حيث إنّ بناء القضاء في الشريعة علي المضي و الحتمية و لذلك فقد ورد: «أنّه بعد ما أحلف المدّعي منكره فقد ذهب اليمين بحقّه و لا دعوي له، و إن أقام بعد ما استحلفه خمسين قسامة ما كان له» «2» فلا ينبغي الشبهة في إرادة الإطلاق من أدلّة النفوذ.

و يشهد له أيضاً صدر مرسلة جميل الماضية من قوله عليه السلام في الشهود إذا رجعوا عن شهادتهم و قد قضي علي الرجل

ضمنوا ما شهدوا به.

الحديث؛ فإنّ مجرّد ضمان الشاهد و إن لا يلزمه عدم النقض إلّا أنّ جعله مقابلًا لطرح الشهادة المذكور في الفقرة الأخيرة دليل علي عدم الطرح و العمل بالشهادة هنا. فدلالة المرسلة تامّة و ضعف سندها منجبر بعمل المشهور.

و أمّا استصحاب صحّة الحكم الثابتة قبل الرجوع، ففيه أنّ من المحتمل اشتراط الصحّة من أوّل الأمر بعدم الرجوع، و بعده لا يقين سابق

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

(2) راجع وسائل الشيعة 27: 244، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 9، الحديث 1.

مباني

تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 718

و عليهما الغرم (36)، و لو رجعا بعد الحكم قبل الاستيفاء، فإن كان من حدود اللّٰه تعالي نقض الحكم (37)،

______________________________

بالصحّة حتّي تستصحب، كما أنّ أصالة صحّة العمل إنّما يستند إليها فيما لم تكن خصوصياته معلومة.

(36) كما تشهد به المرسلة المذكورة و قد عمل بها المشهور، و إلّا لم يكن وجه صحيح لقولهم بالضمان في جميع صور الرجوع. نعم في خصوص ما إذا كان رجوعهم بالاعتراف بتعمّد الكذب أو الخطأ يمكن الاستدلال لضمانهم بما ورد في شاهد الزور من قوله عليه السلام

و إن لم يكن قائماً ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل «1»

، و ذلك أنّ القضاء و إن كان نافذاً غير منقوض إلّا أنّ الشاهد يقرّ بأنّ المال كان مالًا للرجل المحكوم عليه، فهو قد أتلفه عليه بشهادته؛ فأخذا له بإقراره يحكم عليه بالضمان.

و أمّا إذا كان رجوعه بإظهار أنّهم كانوا شاكّين في المشهود به في زمن أداء الشهادة فلا يمكن الاستدلال بهذه الأخبار؛ لعدم ثبوت أنّه أتلف مال الرجل؛ لا في الواقع و لا بحسب إقراره.

و كيف كان: فعمدة الوجه للضمان بقول مطلق هي مرسلة جميل.

(37) قد عرفت أنّ مقتضي إطلاق أدلّة النفوذ عدم النقض، إلّا أنّه قد وردت أخبار بالنسبة لما بعد الاستيفاء، يستفاد منها حكم ما نحن فيه؛

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 327، كتاب الشهادات، الباب 11، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 719

و كذا ما كان مشتركاً نحو حدّ القذف و حدّ السرقة (38). و الأشبه عدم النقض بالنسبة إلي سائر الآثار (39) غير الحدّ كحرمة أُمّ الموطوء و أُخته و بنته، و حرمة أكل لحم البهيمة الموطوءة، و قسمة مال

المحكوم بالردّة و اعتداد زوجته،

______________________________

و هي الأخبار الواردة فيمن شهدوا عليه بالزنا فرجم أو بالسرقة فقطعت يده، ثمّ رجع الشهود، فحكم عليه السلام بأنّ علي الشهود الدية أو القصاص.

و وجه الاستفادة منها لما نحن فيه: أنّ قتل الرجل أو قطع يده لو كان علي حسب حكم القاضي الثابت الغير المنقوض لَما كان مضموناً علي أحد؛ لأنّ حدّه الإلهي القتل أو القطع، فالحكم بثبوت الدية أو القصاص دليل علي أنّه ليس محكوماً عليه في الشريعة بوجوب القتل أو القطع، بل نفسه أو يده محترمة يضمنها من أتلفها بشهادته، و هو عبارة أُخري عن نقض الحكم، و معلوم أنّ هذا الاحترام إنّما كان بملاحظة رجوع الشهود.

فيعلم: أنّ الرجوع في حدود اللّٰه المحضة كالزنا أو المشتركة كالسرقة يوجب انتقاض الحكم و إن لم يستوف بعد. و أيّ أحد يحتمل بعد حكم الشارع بقصاص الشاهد أنّه لو رجع قبل الاستيفاء لوجب الاستيفاء و إجراء حدّ القتل و القطع؟! و سيأتي هذه الأخبار ذيل المسألة 11 و 13، فانتظر.

(38) لما عرفت من ورود الأخبار في الحدود المشتركة أيضاً.

(39) لما عرفت من أنّ مقتضي القاعدة عدم النقض، و الدليل قد ورد

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 720

و لا ينقض الحكم علي الأقوي في ما عدا ما تقدّم من الحقوق (40) و لو رجعا بعد الاستيفاء في حقوق الناس لم ينقض الحكم (41) و إن كانت العين باقية علي الأقوي.

______________________________

في نقضه في الحدود، فيبقي سائر الآثار علي ما يقتضيه القواعد.

(40) أي الإلهية، كما إذا شهدا بأنّ الحيوان الفلاني قد أكل النجاسة بمقدار يجب استبراؤه و حكم به القاضي، ثمّ رجعا. و الدليل عليه أيضاً اقتضاء القواعد.

(41) قال في «الجواهر»: وفاقاً

للمشهور، بل قيل عليه عامّة المتأخّرين، بل و القدماء، و إن حكي عن الشيخ في «النهاية» و عن «الوسيلة» و «الكافي» و القاضي أنّ الحكم ينتقض و العين تردّ إلي صاحبها الأوّل.

و الدليل علي عدم النقض: أنّه مقتضي القواعد كما عرفت.

و ممّا يدلّ عليه مرسلة جميل بن درّاج «1»؛ إذ المفروض أنّهم رجعوا عن شهادتهم و قد قضي علي الرجل و هو موضوع عدم النقض في المرسلة و زيد عليه: أنّه ردّ مورد القضاء إلي المحكوم له، فتعمّه المرسلة التي قد عرفت انجبار سندها بعمل المشهور و تدلّ علي عدم نقض حكم القاضي فيه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 326، كتاب الشهادات، الباب 10، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 721

[مسألة 10 إن كان المشهود به قتلًا أو جرحاً موجباً للقصاص و استوفي ثمّ رجعوا]

مسألة 10 إن كان المشهود به قتلًا أو جرحاً موجباً للقصاص و استوفي ثمّ رجعوا، فإن قالوا: تعمّدنا اقتصّ منهم، و إن قالوا: أخطأنا كان عليهم الدية في أموالهم، و إن قال بعضهم: تعمّدنا و بعضهم: أخطأنا فعلي المقرّ بالتعمّد القصاص و علي المقرّ بالخطإ الدية بمقدار نصيبه، و لولي الدم قتل المقرّين بالعمد أجمع و ردّ الفاضل عن دية صاحبه، و له قتل بعضهم و يردّ الباقون قدر جنايتهم (42).

______________________________

(42) ادّعي في «الجواهر»: أنّه لا خلاف في شي ء من الفروع المذكورة في هذه المسألة، بل لعلّ الإجماع بقسميه عليه. و مثله في «الرياض».

و كيف كان فتحقيق المقال هنا: أنّ جميع الصور المفروضة في المتن في هذه المسألة مشتركة في أنّ الراجع يقرّ بأنّ ما شهد به كان علي خلاف الواقع و إن اختلفت بالتعمّد في الكذب و الخطأ، فالشاهد مقرّ بأنّ قتل المشهود عليه أو جرحه كان ظلماً عليه.

و المستفاد من الأخبار

الواردة فيما رجع الشهود في الحدود التي استوفيت فرجم المشهود عليه أو قطعت يده، أنّه إذا قتل أو جرح ظلماً فهو علي عهدة الشهود بمقدار تأثير شهادة كلّ منهم في القتل أو الجرح.

و بعبارة اخري: أنّ هذه الأخبار و إن وردت في الحدود و لا يشمل موردها لما نحن فيه إلّا أنّ المفهوم منها عرفاً أنّ حكم الشارع هناك بقصاص الشاهد أو أدائه للدية إنّما هو لمكان أنّه قتل أو جرح ظلماً، و هذا الظلم لمّا كان من ناحية شهادة الشهود فعليهم القصاص أو الدية.

و ما نحن فيه و إن لم يكن داخلًا في مورد تلك الأخبار حتّي تدلّ

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 722

______________________________

نفس الأخبار بكون قتل المشهود عليه أو جرحه هنا أيضاً ظلماً إلّا أنّه لمّا كان الشهود مقرّين بأنّه مقتول أو مجروح ظلماً، و قد كان لازم القتل أو الجرح الواقع ظلماً أن يكون علي عهدة الشهود، فهم يؤخذون هنا بإقرارهم و يكون علي عهدتهم؛ فإنّ إقرار العقلاء علي أنفسهم جائز.

و أمّا الاستدلال بشمول عمومات القصاص لما نحن فيه، أو بما ورد في حكم المشتركين في القتل عمداً أو خطأ من أنّ للولي أن يرجع إلي كلّ منهم، أو بقاعدة قوّة السبب علي المباشر بدعوي أنّ الشاهد هنا سبب أقوي، كما في «الجواهر».

فمحلّ إشكال بل منع؛ و ذلك أنّ موضوع عمومات القصاص الواردة في مقام البيان هو القاتل، و صدقه علي الشاهد ممنوع.

كيف، و أمره ليس بأقوي من الآمر بقتل الغير، و ليس جزاؤه إلّا الحبس و إن أمر عبده الذي بمكان من الضعف بالنسبة إليه وَ هُوَ كَلٌّ عَليٰ مَوْلٰاهُ و قتل السيّد حينئذٍ و إن ورد في بعض

الأخبار «1» إلّا أنّ الأصحاب لم يعملوا به و أعرضوا عنه، فمعه فأين عموم يقتضي قتل الشاهد هنا؟! بل منه تعرف: أنّ مسألة أقوائية السبب مع عدم صدق القاتل لا أساس لها في باب القصاص، كما أنّ المشتركين في القتل يراد منهم جمع أورد كلّ واحد منهم جرحاً علي المقتول، و كان قتله بسبب فعل جميعهم، و أين هو ممّا نحن فيه؟!

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة 29: 47، كتاب القصاص، أبواب القصاص في النفس، الباب 14.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 723

[مسألة 11 لو كان المشهود به ما يوجب الحدّ برجم أو قتل]

مسألة 11 لو كان المشهود به ما يوجب الحدّ برجم أو قتل، فإن استوفي ثمّ قال أحد الشهود بعد الرجم مثلًا: كذبت متعمّداً، و صدّقه الباقون و قالوا: تعمّدنا، كان لوليّ الدم قتلهم (43) بعد ردّ ما فضل من دية المرجوم، و إن شاء قتل واحداً، و علي الباقين تكملة ديته بالحصص بعد وضع نصيب المقتول، و إن شاء قتل أكثر من واحد و ردّ الأولياء ما فضل من دية صاحبهم، و أكمل الباقون ما يعوز بعد وضع نصيب من قتل، و إن لم يصدّقه الباقون مضي إقراره علي نفسه فحسب، فللولي قتله بعد ردّ فاضل الدية عليه، و له أخذ الدية منه بحصّته.

______________________________

(43) و يدلّ عليه أخبار:

ففي معتبرة السكوني عن الصادق عن أبيه عن علي عليهم السلام

في رجلين شهدا علي رجل أنّه سرق فقطعت يده، ثمّ رجع أحدهما فقال: شبّه علينا، غرما دية اليد من أموالهما خاصّة. و قال في أربعة شهدوا علي رجل أنّهم رأوه مع امرأة يجامعها و هم ينظرون فرجم، ثمّ رجع واحد منهم قال: يغرم ربع الدية إذا قال: شبّه عليّ، و إذا رجع اثنان و قالا:

شبّه علينا غرما نصف الدية، و إن رجعوا كلّهم و قالوا: شبّه علينا غرموا الدية. فإن قالوا شهدنا بالزور قتلوا جميعاً «1».

و نحوها خبر مسمع الذي أخرجه في «الوسائل» في الباب 64 من

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 332، كتاب الشهادات، الباب 14، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 724

______________________________

قصاص النفس عن «الكافي» فراجع «2».

و في صحيحة إبراهيم بن نعيم أبي الصباح الأزدي قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن أربعة شهدوا علي رجل بالزنا، فلمّا قتل رجع أحدهم عن شهادته، قال: فقال

يقتل الرابع (الراجع) و يؤدّي الثلاثة إلي أهله ثلاثة أرباع الدية «3».

فملاحظة الروايتين و الدقّة في مفادهما تعطي أنّ الشارع جعل الشهود بمنزلة المشتركين في قتل من أدّي شهادتهم إلي قتله، و أنّهم إن شهدوا عليه بالكذب عمداً كان جزاء العامد القصاص، و إن أخطأوا في الشهادة عليه كان عليه أداء الدية بمقدار دخل الشهادة في إثبات المشهود عليه؛ و لذا كان علي كلّ منهم في الشهادة علي الزنا ربع دم المقتول.

و هذا الذي ذكرناه أمر استفادته من الخبرين و لا سيّما بعد ضمّ كلّ منهما إلي الآخر واضحة بلا تكلّف أصلًا. و معه فما يتراءيٰ في بادئ النظر من الإطلاق في صحيحة ابن نعيم يراد به أنّ الراجع اعترف بالتعمّد في الكذب عليه، و لا يعمّ ما إذا شهد عليه خطأ.

و قد ذكر: أنّ حكمهم حكم المشتركين في القتل بعبارة أوضح في خبر الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن عليه السلام في أربعة شهدوا علي رجل أنّه زني فرجم، ثمّ رجعوا و قالوا قد وهمنا

يلزمون الدية، و إن

______________________________

(2) وسائل الشيعة 29: 129، كتاب القصاص، أبواب القصاص في النفس، الباب

64، الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة 27: 329، كتاب الشهادات، الباب 12، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 725

______________________________

قالوا إنّما تعمّدنا قتل أيّ الأربعة شاء ولي المقتول و ردّ الثلاثة ثلاثة أرباع الدية إلي أولياء المقتول الثاني، و يجلد الثلاثة كلّ واحد منهم ثمانين جلدة، و إن شاء ولي المقتول أن يقتلهم ردّ ثلاث ديات علي أولياء الشهود الأربعة و يجلدون ثمانين كلّ واحد منهم ثمّ يقتلهم الإمام. «1»

الحديث.

و من التأمّل فيها تقدر علي إرجاع سائر الأخبار كمرسل ابن محبوب و خبر مسمع بنقل الصدوق إلي ما تضمّنته هذه الأخبار، فراجع «2».

فالمتحصّل من أخبار الباب: أنّ مجرّد الرجوع يكفي في أن يحكم بأنّ قتل المشهود عليه وقع ظلماً، و أن يؤخذ الراجع بمقتضي إقراره و يحكم عليه بحكم الشريك المباشر في القتل بمقدار ما اشترك فيه، و لا يبقي للناظر أيّ شبهة في أنّ الحكم بقتل الشاهد إنّما هو بعنوان القصاص منه، و هو لا يكون إلّا بعد أن يكون حكم القاضي بإجراء الحدّ منقوضاً بعد رجوعه، و إلّا فلو كان دم المحدود غير محترم شرعاً لما كان وجه للقصاص ممّن أوجب قتله بشهادته.

و كيف كان: فالمفهوم منها عرفاً أيضاً أنّ ما تضمّنته من الحكم لا يختصّ بخصوص حدّ الزنا، بل يجري في كلّ قتل بإلغاء الخصوصية عن الزنا عرفاً.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 29: 129، كتاب القصاص، أبواب القصاص في النفس، الباب 64، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة 27: 328، كتاب الشهادات، الباب 12، الحديث 1 و 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 726

[مسألة 12 لو ثبت أنّهم شهدوا بالزور نقض الحكم]

مسألة 12 لو ثبت أنّهم شهدوا بالزور نقض الحكم (44) و استعيد المال (45) إن أمكن، و إلّا يضمن

الشهود (46)

______________________________

ثمّ إنّ ما تضمّنته المسألة من شقوق اختيارات ولي المحدود المقتول هو مقتضي محكومية كلّ شاهد رجع عن شهادته بحكم الشريك في القتل بعد رعاية كونه عمداً أو خطأ، كما لا يخفي لمن تدبّر.

(44) لتبيّن كونهم فاسقين حال أداء الشهادة، فلم يكن القضاء المستند إلي شهادتهم واجداً لشرط الصحّة، فيتبيّن بطلانه من أوّل الأمر. مضافاً إلي أنّه يعلم بكون القضاء حكماً بغير ما أنزل اللّٰه، و مثله لا يصلح للنفوذ.

(45) لكونه باقياً علي ملك المحكوم عليه، فيجب أداؤه إليه إذا انكشف الأمر. مضافاً إلي ورود أخبار صحيحة بذلك؛ ففي صحيحة جميل بن درّاج عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في شاهد الزور قال

إن كان الشي ء قائماً بعينه ردّ علي صاحبه، و إن لم يكن قائماً ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل «1».

(46) لدلالة ذيل صحيحة جميل المذكورة عليه؛ فإنّه يستفاد منه أنّ درك مال المحكوم عليه و ضمانه بعهدته، فلو أدّي الأمر إلي أداء بدل الحيلولة كان علي الشهود أداؤه.

ثمّ إنّ كلّ واحد من شهود الزور يضمن بمقدار ما كانت شهادته

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 327، كتاب الشهادات، الباب 11، الحديث 2.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 727

و لو كان المشهود به قتلًا ثبت عليهم القصاص (47)، و كان حكمهم حكم الشهود إذا رجعوا و أقرّوا بالتعمّد،

______________________________

دخيلة في تلف المال؛ فإذا كان قضاء القاضي مستنداً إلي شاهدين ضمن كلّ منهما النصف.

و يدلّ عليه قوله عليه السلام في الصحيحة المتقدّمة

ضمن بقدر ما أتلف

فإنّه إذا أتلف ماله بشهادة اثنين فكلّ منهما أتلف بقدر النصف، و هكذا.

و يدلّ عليه أيضاً صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في شاهد الزور ما توبته؟

قال

يؤدّي من المال الذي شهد عليه بقدر ما ذهب من ماله إن كان النصف أو الثلث إن كان شهد هذا و آخر معه «1»

فإنّها كالصريحة فيما ذكرناه. و تصوير الشركة في الشهادة بالثلث بأن يشهد ثلاثة نفرات معاً أو قبل إنشاء الحكم عند القاضي بحيث كان قضاؤه مستنداً إلي ثلاث شهادات، فلا محالة يكون كلّ منهم مؤثّراً بالثلث.

(47) و ذلك أنّ الأخبار الخاصّة و إن وردت في الرجوع عن الشهادة و هو لا يلازم كون الشهادة زوراً فلا يثبت كونها زوراً إلّا أنّ الحكم بقصاص الشاهد في موردها لا شبهة في أنّه لمكان أنّ الشاهد أوجب بشهادته قتلًا هو ظلم واقعاً، و هذا المعني متحقّق في شهادة الزور أيضاً، فلا محالة يثبت القصاص علي شاهد الزور أيضاً.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 327، كتاب الشهادات، الباب 11، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 728

و لو باشر الوليّ القصاص و اعترف بالتزوير كان القصاص عليه (48) لا الشهود (49) و لو أقرّ الشهود أيضاً بالتزوير، و يحتمل في هذه الصورة كون القصاص عليهم جميعاً (50)،

______________________________

(48) فإنّه بعد فرض علمه بالواقع قاتل ظالم في قتله، فيشمله عمومات القصاص.

(49) وجهه دعوي انصراف أدلّة قصاص الشهود إلي خصوص ما إذا كان القتل و الحدّ مستنداً إلي خصوص شهادتهم لا يشركهم فيه غيرهم؛ لا سيّما و مورد هذه الأدلّة هو القتل بمثل الرجم من حقوق اللّٰه تعالي التي ليس فيها مدّعٍ خاصّ، و تكون شهادتهم تمام السبب في قتل المشهود عليه، و إنّما تعدّينا عن موردها إلي القتل الواقع قصاصاً بإلغاء الخصوصية؛ فيقتصر فيه علي اجتماع الشرائط و الخصوصيات المشابهة فيه أيضاً.

(50) عملًا بإطلاق أدلّة القصاص في المباشر، و

دفعاً لدعوي الانصراف المذكورة، و لو ببيان أنّ إطلاق مورد الأخبار الواردة في قصاص الشاهد يشمل ما إذا كان بينهم و بين مجري حكم القاضي تبان، فتدلّ هذه الأخبار علي توجّه القصاص إلي الشهود حتّي في هذه الصورة، فيجري في مثلها في الشهادة في حقوق الناس، و هو مفروض الكلام فيما نحن فيه.

غاية الأمر: أن يكون ظهور الأخبار في اختصاص القصاص بخصوص الشهود منصرفاً عن صورة التباني المذكور، و إلّا فأصل جواز قصاصهم مدلول عليه بالأخبار، فلولي دم المشهود عليه قتل المباشر بأدلّة

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 729

و الأوّل أشبه (51).

[مسألة 13 لو شهد اثنان علي رجل بسرقة فقطعت يده ثمّ ثبت تزويرهما]

مسألة 13 لو شهد اثنان علي رجل بسرقة فقطعت يده ثمّ ثبت تزويرهما فللوليّ القصاص منهما بعد ردّ نصف الدية إليهما، و من واحد منهما و يردّ الآخر ربع الدية إلي صاحبه (52)، و لو رجعا في الفرض فإن قالا: تعمّدنا فمثل التزوير (53)،

______________________________

القصاص أو قتل الشهود بهذه الأدلّة.

(51) فإنّ التفكيك في هذه الأدلّة و رفع اليد عن ظهور اختصاص القصاص بالشهود مع الأخذ بمفادها في أصل جواز الاقتصاص خلاف الظاهر جدّاً، و من المعلوم عدم احتمال أن لا يجوز قصاص المباشر للقتل ظلماً، فلا محالة يتوجّه عليه القصاص دونهم، فتدبّر.

(52) لما يأتي الآن في رجوعهما و الإقرار بالتعمّد بشهادة الزور؛ فإنّ المفهوم عرفاً من تلك الأدلّة أنّ الحكم بضمان اليد المقطوعة علي الشاهد الراجع إنّما هو لمكان أنّ قطعها كان ظلماً منشأه شهادته، و هذا المعني موجود بعينه في شهادة الزور، فشاهد الزور أيضاً محكوم بحكم الراجع المقرّ بتعمّد التزوير.

(53) في كونه محكوماً بالقصاص؛ و ذلك أنّ الأخبار و إن وردت في الرجوع و إظهار الوهم و الخطأ إلّا أنّ

الحكم عليهما بغرامة اليد المقطوعة و أداء ديتها يفهم منه عرفاً أنّه جناية وقعت بشهادتهما، فعليهما دركها.

غاية الأمر: أنّه لمّا كان المورد مورد الوهم و الخطأ لم يكن عليهما

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 730

و إن قالا: أوهمنا و كان السارق فلاناً غيره، أغرما دية اليد (54)،

______________________________

غير الدية، و إلّا فإن كانوا متعمّدين في شهادة الزور كان عليهم القصاص، بل لا يبعد استفادة ذلك من الأدلّة الواردة في الرجوع عن الشهادة علي أمر حدّه القتل أو الرجم، بدعوي إلغاء الخصوصية عنها إلي كلّ حدّ شرعي، و لو كان موجباً لنقص العضو كالقطع.

مضافاً إلي دلالة خبر فتح بن يزيد علي ذلك صريحاً؛ فقد روي عن أبي الحسن عليه السلام في رجلين شهدا علي رجل أنّه سرق فقطع، ثمّ رجع واحد منهما و قال: و همت في هذا و لكن كان غيره،

يلزم نصف دية اليد و لا تقبل شهادته في الآخر، فإن رجعا جميعاً و قالا: وهمنا بل كان السارق فلاناً أُلزما دية اليد و لا تقبل شهادتهما في الآخر، و إن قالا: إنّا تعمّدنا قطع يد أحدهما بيد المقطوع و يردّ الذي لم يقطع ربع دية الرجل علي أولياء المقطوع اليد، فإن قال المقطوع الأوّل: لا أرضي أو تقطع أيديهما معاً ردّ دية يد فتقسم بينهما و تقطع أيديهما «1».

(54) كما يشهد به مضافاً إلي إلغاء الخصوصية عن الأخبار الواردة في الرجوع عن الشهادة علي ما حدّه الرجم، و مضافاً إلي خبر فتح بن يزيد صحيحة محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال

قضي أمير المؤمنين عليه السلام في رجل شهد عليه رجلان بأنّه سرق فقطع يده، حتّي إذا

______________________________

(1) وسائل الشيعة 29: 181،

كتاب القصاص، أبواب قصاص الطرف، الباب 18، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 731

______________________________

كان بعد ذلك جاء الشاهدان برجل آخر فقالا: هذا السارق، و ليس الذي قطعت يده إنّما شبّهنا ذلك بهذا، فقضي عليهما أن غرمهما نصف الدية، و لم يجز شهادتهما علي الآخر «1».

و موثّقة السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السلام

في رجلين شهدا علي رجل أنّه سرق فقطعت يده، ثمّ رجع أحدهما فقال: شبّه علينا، غرما دية اليد من أموالهما خاصّة. «2»

الحديث.

و موثّقته الأُخري عن جعفر عن أبيه عليهما السلام

أنّ رجلين شهدا علي رجل عند علي عليه السلام أنّه سرق فقطع يده، ثمّ جاءا برجل آخر فقالا: أخطأنا هو هذا، فلم يقبل شهادتهما و غرمهما دية الأوّل «3».

فموضوع الأحاديث الثلاثة هو رجوع الشاهدين و إظهار أنّ شهادتهما السابقة مبنية علي الاشتباه و الخطأ، و هذا في الأُولي و الأخيرة واضح، و قول الراجع في الموثّقة الاولي: «شبّه علينا» دليل علي أنّ الرجوع و إظهار الخطأ لا يختصّ به، بل هو حاكٍ عن كليهما أنّ الأمر شبّه علينا، فهما قد رجعا عن شهادتهما و أظهرا الخطأ و إن حكاه أحدهما.

كما أنّ ظاهر قوله عليه السلام في الموثّقة الأخيرة

غرمهما دية الأوّل

أنّ عليهما دية الأصابع الأربع المقطوعة، و عليه يحمل قوله

دية اليد

في الموثّقة الاولي.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 332، كتاب الشهادات، الباب 14، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 27: 332، كتاب الشهادات، الباب 14، الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة 27: 332، كتاب الشهادات، الباب 14، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 732

و لم يقبل شهادتهما علي الآخر (55).

[مسألة 14 لو شهدا بالطلاق ثمّ رجعا بعد حكم الحاكم]

مسألة 14 لو شهدا بالطلاق ثمّ رجعا بعد حكم الحاكم لم ينقض حكمه

(56)،

______________________________

و أمّا قوله عليه السلام في الصحيحة

غرمهما نصف الدية

فظاهره غير منطبق علي القواعد؛ إذ دية الأصابع الأربع خمسا دية كاملة لا نصفها. اللهمّ إلّا أن يراد منه: أنّه عليه السلام غرم كلّ واحد منهما نصف الدية اللازمة الأداء؛ أعني نصف هذين الخمسين.

و هذا الإشكال جارٍ في قوله في رواية الفتح بن يزيد

ربع دية الرجل

فإنّه لا يتمّ إلّا إذا كان الواجب عليهما نصف دية تامّة حتّي يجب علي الذي لم يقطع يده ربعها، و إضافة الدية إلي الرجل مانعة عن مجي ء الاحتمال المذكور في الصحيحة فيها. لكن الذي يسهّل الخطب: أنّ الرواية ضعيفة السند، و إلّا ففيها إشكال آخر؛ و هو أنّه جعل الآخذ و قابض الدية أولياء الشاهد المقطوع اليد مع أنّه هو نفسه.

(55) و إن كان مقتضي عموم حجّية قول العادل قبولها؛ فإنّ خطأهما لا ينافي عدالتهما. و الدليل علي عدم القبول قوله عليه السلام في صحيحة محمّد بن قيس

و لم يجز شهادتهما علي الآخر

، و في موثّقة السكوني الأخيرة

فلم يقبل شهادتهما

فإنّهما كالصريح في عدم حجّية قولهما هنا.

(56) لما مرّ في المسألة التاسعة من أنّ مقتضي عمومات نفوذ القضاء عدم نقضه بمجرّد رجوع الشاهدين، و الرجوع ليس دليلًا قطعياً علي أنّ

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 733

فإن كان الرجوع بعد دخول الزوج لم يضمنا شيئاً (57)،

______________________________

شهادتهما شهادة الزور، و لا علي أنّها خلاف الواقع حتّي يكون الحكم علي غير ما أنزل اللّٰه. كما أنّ أدلّة جواز إقرار العقلاء علي أنفسهم إنّما تقتضي قبول رجوعهما فيما كان علي أنفسهما لا أن ينقض حكم القاضي من رأس، كما لا يخفي. فمقتضي القاعدة نفوذ القضاء، و لا دليل خاصّ علي الخلاف، فيجب الأخذ بها.

(57) فإنّ

المهر المسمّي أو مهر المثل يستقرّ علي الزوج بمجرّد الدخول، يجب عليه أداؤه إلي زوجته إذا طالبه و لو قبل الطلاق، و لا مع الطلاق. فانفصاله الخارجي عن زوجته لم يوجب عليه خسارة مالية حتّي يلزم الشاهد الراجع بأدائها.

فإن قلت: قد ورد في صحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في رجلين شهدا علي رجل غائب عن امرأته أنّه طلّقها فاعتدّت المرأة و تزوّجت، ثمّ إنّ الزوج الغائب قدم فزعم أنّه لم يطلّقها و أكذب نفسه أحد الشاهدين، فقال

لا سبيل للأخير عليها، و يؤخذ الصداق من الذي شهد و رجع، فيردّ علي الأخير و يفرّق بينهما و تعتدّ من الأخير، و لا يقربها الأوّل حتّي تنقضي عدّتها «1».

فمورد الصحيحة و إن كان غير ما نحن فيه إلّا أنّه قد حكم بأخذ

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 331، كتاب الشهادات، الباب 13، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 734

و إن كان قبله ضمنا نصف مهر المسمّي (58)، و في هذا تردّد (59).

______________________________

الصداق الذي أعطاه الزوج الأخير من الذي شهد و رجع، مع أنّه أيضاً قد استقرّ عليه الصداق بعد الدخول و لم يوجبه الانفصال و الفراق.

قلت: مورد الصحيحة بطلان نكاح الثاني من أوّل الأمر؛ إذ لم يعلم أنّ اعتداد المرأة كان بعد حكم القاضي، بل ظاهرها أنّ المرأة اعتدّت استناداً إلي شهادة الرجلين، فإذا جاء الزوج و أنكر الطلاق و أكذب نفسه أحد الشاهدين فلا وجه لصحّة النكاح الثاني؛ لما مرّ من أنّ حجّية خبر الثقة موكولة بعدم رجوعه.

و منه تعرف: أنّ التعبير ب «الصداق» الذي لعلّه ظاهر في المهر المسمّي تعبير مسامحي، و التعبير الدقيق أن يقال: «مهر المثل» فحكم الشارع بوجوب

ضمان مهر المثل في مفروض الصحيحة ليس فيه حجّة علي وجوب أداء المهر فيما نحن فيه.

(58) وجهه: أنّ هذا النصف ضرر تحمّله الزوج و لم يعد إليه عائدة من زوجته و لم يستفد فائدة الجماع و الدخول. و منشأ هذا الضرر الشاهد الذي يعترف بأنّه قد أخطأ في شهادته؛ فلا محالة هو الذي أتلف علي الرجل هذا النصف فهو له ضامن. و بعبارة اخري: المهر أو نصفه عوض البضع و قد أتلفه عليه فعليه تداركه.

(59) و ذلك أنّ حقيقة النكاح و الازدواج عند العقلاء هي زوجية

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 735

[مسألة 15 يجب أن يشهّر شهود الزور في بلدهم أو حيّهم]

مسألة 15 يجب أن يشهّر شهود الزور في بلدهم أو حيّهم، لتجتنب شهادتهم و يرتدع غيرهم، و يعزّرهم الحاكم بما يراه، و لا تقبل شهادتهم، إلّا أن يتوبوا و يصلحوا و تظهر العدالة منهم (60).

______________________________

كلّ من الرجل و المرأة للآخر، و بها يستمتع الزوج من الزوجة كما تستمتع الزوجة من الزوج، و ليس قوامها بالمهر و لا حقيقتها معاملة مالية، بل الصداق و المهر أمر مرسوم متعارف كأنّه مشروط علي الزوج في ضمن عقد الزواج، و ألزم الشارع نصفه إذا تفرّقا قبل الدخول.

فالشاهدان لم يتلفا علي الزوج مالًا حتّي يكون عليهما الضمان، و إنّما هو حكم شرعي تعبّد به الشارع بمجرّد العقد الصحيح.

اللهمّ إلّا أن يقال: لمّا كان تحصيل هذا البضع لم يتيسّر و لو بملاحظة حكم الشارع إلّا بأداء النصف، فتفويت البضع كأنّه إتلاف هذا النصف عليه، و من أتلف مال الغير فهو له ضامن.

(60) و الدليل علي جميع الفروع المذكورة من صدر المسألة إلي هنا موثّقة سماعة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال

شهود الزور يجلدون حدّا و ليس

له وقت، ذلك إلي الإمام، و يطاف بهم حتّي يعرفوا و لا يعودوا.

قال: قلت: فإن تابوا و أصلحوا تقبل شهادتهم بعد؟ قال

إذا تابوا تاب اللّٰه عليهم و قبلت شهادتهم بعد «1»

، فظاهرها كما تري وجوب تشهيرهم

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 333، كتاب الشهادات، الباب 15، الحديث 1.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 736

و لا يجري الحكم فيمن تبيّن غلطه أو ردّت شهادته لمعارضة بيّنة أُخري (61) أو ظهور فسق بغير الزور (62).

______________________________

علاوة علي تعزيرهم بما يراه الإمام أو الحاكم.

و في موثّقة غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عليهما السلام

إنّ علياً عليه السلام كان إذا أخذ شاهد زور فإن كان غريباً بعث به إلي حيّه، و إن كان سوقياً بعث به إلي سوقه فطيف به، ثمّ يحبسه أيّاماً ثمّ يخلّي سبيله «1».

فيفهم من الموثّقة: أنّ للحاكم أن يقتصر في تعزيره بالحبس، و الموثّقة من الأدلّة التي دلّت علي أنّ الحبس أيضاً تعزير؛ لا سيّما إذا انضمّت إلي موثّقة سماعة، فتأمّل.

(61) فإنّ تبيّن الغلط في الشهادة أو معارضتها ببيّنة أُخري ليس دليلًا علي أنّ الشاهد ارتكب معصية، و التعزير تأديب العاصي؛ سواء كان بالإطافة أو بالجلد أو بالحبس، فلا يجري عليه.

(62) فإنّ الأدلّة المذكورة قد أوجبت هذا التعزير في شاهد الزور، و يحتمل اختصاصه به؛ رعاية لعظم الشهادة و تقديساً للقضاء عن نفوذ شهادات كاذبة.

و أمّا سائر أنحاء فسق الشاهد فلا دليل علي وجوب إجراء الإطافة و الجلد أو الحبس في مورده، بل هو داخل في عموم موارد التعزير

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 334، كتاب الشهادات، الباب 15، الحديث 3.

مباني تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 737

______________________________

و التأديب، بناءً علي أنّ كلّ معصية فعليها التعزير،

و إلّا فلا يعزّر إلّا إذا كانت معصية كبيرة.

عصمنا اللّٰه تعالي من الزلل في القول و العمل بمنّه و فضله، إنّه ذو الفضل العظيم، و الحمد للّٰه ربّ العالمين و صلواته و سلامه علي أشرف أنبيائه محمّد و آله الطاهرين؛ و لا سيّما إمام العصر و ناموس الدهر، عجّل اللّٰه تعالي فرجه الشريف.

و كان ختام التحرير يوم الأحد الواحد و العشرين من صفر الخير من السنة 1404 الهجرية القمرية مطابق 6/ 9/ 1362 الشمسية، و أنا العبد «محمّد مؤمن».

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.